موقف الإمام من رأي الحكمين

طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5 ، ص 93 ـ  109
________________________________________
(93)
الفصل الخامس
موقف الإمام من رأي الحكمين

________________________________________
(94)
________________________________________
(95)
لقد صالح الامام معاوية و أوكل الأمر الى الحكمين في ثلاثة عشر خلت من شهر صفر عام 37 من الهجرة، و اتّفقا على أنّ الحكمين يجتمعان بدومة الجندل ليرفعا ما رفع القرآن، و يُخَفِضّا ما خفّض القرآن، وقد اجتمعا هناك في شعبان ذلك العام، و كانت النتيجة أن خلع أبو موسى الإمام عن الخلافة، و نصب عمروبن العاص معاوية بن أبي سفيان إماماً للمسلمين، كل ذلك بخداع معروف في التاريخ، حيث اتّفقا سرّاً على أن يخلعا علياً و معاوية عن الحكم حتى يوليّ المسلمون لأنفسهم والياً، ولمّا أرادا الإدلاء برأيهما خدع عمروبن العاص أباموسى الأشعري فقال له: تقدَّم وأدل برأيك، فقال: يا أيّها الناس إنّا قد نظرنا في أمر هذه الاُمّة فلم نرأصلح لأمرها، و لا ألمّ لشعثها من أمر قد جمع رأيي ورأي عمروعليه، و هو أن نخلع علياً ومعاوية و تستقبل هذه الاُمة الأمر فيولّوا منهم من أحبّوا عليهم، وانّي قد خلعت علياً و معاوية فاستقبلوا أمركم وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا، ثم تنحّى و أقبل عمروبن العاص فقام مقامه فحمدالله و أثنى عليه و قال: إنّ هذا قد قال ما سمتعم و خلع صاحبه و أنا أخلع صاحبه كما خلعه و اُثبِتُ صاحبي معاوية فإنّه ولي عثمان بن عفان(رضي الله عنه)
________________________________________
(96)
والطالب بدمه و أحقّ الناس بمقامه، فقال أبو موسى: مالك لا وفّقك الله غدرتَ و فجرت(1)إنّما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً، و حمل شريح بن هاني على عمرو فقنعه بالسوط و حمل على شريح ابن لعمرو فضربه بالسوط، و قام الناس فحجزوا بينهم، وكان شريح بعد ذلك يقول: ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهر ماأتى، و التمس أهل الشام أباموسى فركب راحلته و لحق بمكّة، قال ابن عباس: قبّح الله رأي أبي موسى حذّرته و أمرته بالرأي فما عقل، فكان أبوموسى يقول: حذِّرني ابن عباس غدرة الفاسق ولكنّي إطمأننت اليه و ظننت أنّه لن يؤثِرَ شيئاً على نصيحة الاُمّة، ثم انصرف عمرو وأهل الشام الى معاوية وسلّموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس و شريح بن هاني الى علي ـ عليه السَّلام ـ و كان إذا صلّى الغداة يَقْنُتُ فيقول: الّلهمّ إلعن معاوية و عمراً و أباالأعور السلمي و حبيباً و عبدالرحمن بن خالد و الضحاكَ بن قيس و الوليد، فبلغ ذلك معاوية فكان اذا قنتَ لعن علياً و ابن عباس و الأشتر و حسناً و حسيناً.
وزعم الواقدي انّ اجتماع الحكمين كان في شعبان سنة 38 من الهجرة(2). لمّا بلغ علياً ماجرى بين الحكمين من الحكم على خلاف كتاب الله و سنّة رسوله و غدر عمروبن العاص و انخداع أبي موسى قام خطيباً، رافضاً ما حكم به الحكمان الجائران، وقال:
________________________________________
هذا من الصحابة العدول عند القوم، فاقض ما أنت قاض فهذا الصحابي يصف زميله بالفجور و الغدر، و الجمهور يصفون الجميع بالتقى و العدل .
2. الطبري: 4/51-52. و ما نقله عن الواقدي غير صحيح لما عرفت سابقاً: انّه كان اللازم على الحكمين الإدلاء برأيهما قبل انقضاء موسم الحج و قد اتفق الطرفان في صفر عام 37. فكيف يكون الاجتماع عام 38؟.
________________________________________
(97)
«الحمدلله و إن أتى الدهر بالخطب الفادح، و الحدث الجليل، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، ليس معه إله غيره، و أنّ محمّداً عبده و رسوله، صلّى الله عليه».
أمّا بعد: فإنّ معصية الناصح، الشفيق العالم، المجرَّب، تورث الحسرةَ، وتَعْقِبْ الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، و نخلت لكم مخزون رأيي، لوكان يطاعُ لقصير أمر، فأبيتم عليّ اباء المخالفين الجفاة، و المنابذين العصاة، حتّى ارتاب الناصُح بِنُصحه، و ضنَّ الزنْدُ بقَدْحِه، فكنت أنا و إياكم كما قال أخو هوازن:
أمرتكم أمري بمنعَرَج اللّوى * فلم تستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد(1)
صدق الإمام، انّ من الخطب الفادح، و الحدث الجليل، خلع صدّيق الاُمّة و أوّل من آمن برسالة النبي الأكرم و صدّق به و بات في فراشه، دفعاً لريب المنون، وجاهد في سبيل الله بنفسه و نفيسه و شهد المعارك كلها إلاّ تبوك، (و كان ذلك بأمر النبي)، الى غير ذلك من فضائل و مناقب و مآثر جمّة اعترف بها الصديق و العدّو و القريب و النائي .
إنّه من المصائب العظام نصب معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطليق، ابن آكلة الأكباد، للخلافة و الزعامة الإسلامية، و أنّى هو من الإسلام، و هو ثمرة الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن، أو ليس هذا من أدهى الدواهي؟ ولإجل ذلك نرى انّ الإمام يصف تلك الحادثة المريرة، بالخطب الفادح و الحديث الجليل.
هذا ما يرجع الى نفس الخلع و النصب وأمّا ما كان يرجع الى الحكمين فكان عليهما قبل ادلاء الرأي في حقّ عليّ و معاوية، دراسة الأسباب التي أدّت
________________________________________
الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 35.
________________________________________
(98)
الى إشعال نار الفتنة و اراقة الدماء الطاهرة حيث أسفرت حرب صفين عن مقتل خمسة وأربعين ألف نفر من جيش معاوية، و شهادة خمسة و عشرين ألف نفر من جيش الإمام علي بن أبي طالب(1) كلّ ذلك لأجل الأخذ بثأر شخص واحد، أفيصح في ميزان العدل و النصفة أن تزهق هذه النفوس كلّها مقابل ذلك؟ فهل كان الأساس لشنّ الحروب على عليّ ـ عليه السَّلام ـ هو حكم القرآن الكريم و السنّة النبويّة؟ وهل هما يسوّغان لأخذ ثأر انسان واحد، ارتكاب تلك الجنايات الهائلة؟ أو أنه كان أخذ الثأر واجهة لما يطمح إليه معاوية من دفع الإمام عن مقامه و ركوبه منصّة الخلافة، أو إلجاء عليّ إلى ابقاء ابن الطلقاء في المقام الذي كان يُشْغِلُه طيلة خلافة الخليفتين كما طلبه من الإمام قبل الحرب و خلالها؟
كان على الحكمين دراسة المواضيع التالية حتى يتبين من له الحق عمّن عليه و هي:
1 ـ دراسة الأسباب التي أدّت الى قتل الخليفة عثمان، وهل كان هناك مبّرر لقتله أو لا؟
2 ـ إنّ قيادة الإمام بعد قتل عثمان هل كانت قيادة قانونية و شرعية، حيث بايعه المهاجرون و الأنصار و تمت البيعة له في مسجد النبي الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ بمرأى و مسمع من الناس من دون أيّ جبر و إكراه؟! و لم تكن هناك بيعة أصلا، أو كانت البيعة عن إكراه لاعن اختيار؟
3ـ اذا خرج الباحث من دراسة الأمر الثاني بأنّ قيادة الإمام كانت قيادة شرعية هل كان هناك مبّرر لمعاوية لرفض بيعة المهاجرين و الأنصار، و تأخير بيعته الى أن يقوم بأخذ الثأر، ويدفع الإمام إليه قتلة الخليفة و كأنّه هو الخليفة
________________________________________
نصربن مزاحم: وقعة صفّين 643 .
________________________________________
(99)
ـ معاوية ـ؟ و هل يكون معاوية بعمله و رفضه و خروجه باغياً على الإمام المفترض طاعته و قد جاء حكم الباغي في الذكر الحكيم(1).
أو كان على معاوية أن يدخل في جماعة المسلمين و لايشُق عصاهم بالتقاعس عنه، ثم يرفع الخصومة الى صاحب البيعة فيرى رأيه.
4 ـ اذا ثبت أنّ عثمان قتل مظلوماً في عقر داره و انّه يجب أخذ ثاره من قتلته، فعندئذ يقع الكلام في أنّ أخذ الثار هل هو وظيفة الخليفة أو وظيفة معاوية أو لا هذا ولا ذاك، و إنّما هو راجع الى ولد عثمان؟
5 ـ نفترض أنّ أخذ الثار وظيفة الإمام، فهل كان ـ صلوات الله عليه - قادراً على تنفيذ حكم القصاص أو كانت الظروف السائدة لا تسمح بذلك؟
6 ـ اذا كان طلحة و الزبير في نكث البيعة، و في اخراج زوجة الرسول من بيتها ـ وقد امرت بالمكث فيه ـ وفي اخراج عامل الإمام من البصرة و قتل حرسه الى غير ذلك من الاُمور التي أدّت الى حرب الجمل، اذا كانا في هذه الاُمور معذورين، مجتهدين، و ان كانا مخطئين، فهل يصحّ تبرير عمل قتلة عثمان بالخطأ في الاجتهاد أولا؟
7 ـ و على فرض لزوم الاقتصاص و رفض اجتهادهم فهل لخليفة العصر، العفو عن القصاص و ابداله بالديّة كما فعله عثمان في حقّ عبيدالله بن عمر حين قتل هرمزان، و جفينة بنت أبي لؤلؤ بلا ذنب؟(2).
هذه هي المواضع الهامّة التي كانت دراستها أمراً مفروضاً على الحكمين حتّى يخرجا مرفوعي الرأس محيين ما أحياه القرآن و مميتين ما أمات، غير أنّ الحكمين ـ ياللأسف - لم يَنْبَسا فيها ببنت شفة ومرّا عليها مرور اللئام و لكن
________________________________________
الحجرات: 9 .
2. الطبري: التاريخ 3/305 .
________________________________________
(100)
لا محيص للباحث المحقق عن قيمة رأي الحكمين من دراستها، ولأجل ذلك نبحث عنها بإيجاز، حتّى يقف القارىء على أنّ رأي الحكمين كما وصف أمير المؤمنين كان خطباً فادحاً و اليك دراستها:
إنّ دراستها على وجه التحقيق تحوجنا الى تأليف مفرد لايناسب وضع الكتاب، غير انّا نشير إليها إشارة عابرة، و نلمع إليها إلماعاً بسيطاً.
أوّلا: قد تعرّفت على بعض الأسباب التي أدّت الى قتل الخليفة و الفتك به، و انّ الاستبداد بالرأي، و تسليط بني أميّة على رقاب الناس، و تخصيص كميّة هائلة من بيت المال لأصحاب الترف و البذخ من أبناء بيته، و تسيير صلحاء الاُمّة من الصحابة و التابعين عن المدينة المنوّرة إلى منافيهم، و أخيراً تعدّي عمّاله و ولاته في العراق و مصر على الطبقات الوسطى، و الفقيرة من المجتمع و.... كل هذه أدّت إلى انتشار السخط و الغضب على الخليفة و عُمّاله إلى أن جنى ثمرة عمله فقتل في عقر داره وبين أبنائه و نسائه بمرأى و مسمع من المهاجرين و الأنصار، و هم بين مجهز عليه، و مؤلّب وراض و محايد. و القضاء في مثل هذه المسألة من صلاحية لجنة عارفة بالكتاب و السنّة، واقفة على حياة الخليفة و ما قام به من الأعمال، و ما نقم عليه من الأفعال حتى تصدر ـ بعد سماع حجج الثائرين ـ عن مصدر قويم و مثل هذه المشكلة لا تحل عقدتها في ساحة الحرب، بل في جوّ هادئ، يكون القاضي فيه مستقّلا في الرأي، و حرّاً في التفكير و التعبير، و نحن لاندخل في هذه المعركة الخطيرة، نترك القضاء فيها إلى تلك اللجنة الخبيرة و نعطف عنان البحث إلى الموضوع الثاني.
ثانياً: إنّ من سبر التاريخ يقف على أنّ بيعة الإمام كانت بيعة شعبية جماهيرية، ولم يكن لها مثيل في تاريخ الخلافة الإسلامية، فاذا قلت:
لم يكن لها مثيل في تاريخ الخلافة فإنّما اقولها عن بيّنة و دليل فإنّ الخليفة
________________________________________
(101)
الأوّل قد خرج عن السقيفة ببيعة لفيف من المهاجرين من الأنصار و تخلّف عن بيعته بنو هاشم و الخزرجيون عامة.
كما انّ عمر بن الخطاب تسنّم منصة الخلافة بإيصاء من الخليفة و لم يكن هناك للناس أيّ رأي ولااختيار.
و قد كانت خلافة عثمان بانتخاب الشورى التي عَيَّنَ أعضاءها الخليفة الثاني ولم يكن للمهاجرين و الأنصار أيّ نظر في تعيين تلك الشورى .
فإذا كان كلّ ذلك معطياً للخلافة، الصبغة القانونية، فبيعة المهاجرين و الأنصار عليّاً هاتفين بأنّهم لايختارون غيره و فيهم الرعيل الأول من صحابة الرسول و التابعين لهم بإحسان، أولى بأن تكون شرعية و قانونية. و اتّفق الباحثون عن كيفية انعقاد الامامة لرجل، على انّ بيعة أهل الحل و العقد من أهل المدينة حجّة على عامّة المسلمين.
يروي الطبري عن محمّد بن الحنيفة قال: كنت مع أبي حين قتل عثمان (رضي الله عنه) فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل، ولابدّ للناس من إمام، ولانجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، ولاأقدمَ سابقة ولاأقرب من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ فقال: لا تفعلوا، فإنّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك، قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفيّة، ولا تكون إلاّ عن رضى المسلمين، قال: سالم بن أبي الجعد: فقال عبدالله بن عبّاس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، فأبى هو الاّ المسجد، فلمّا دخل، دخل عليه المهاجرون و الأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس(1).
وقد حفظ التاريخ أسماء المتخلّفين عن بيعة علي وهم نفر يسير لا يتجاوز
________________________________________
الطبري: التاريخ 3/450 .
________________________________________
(102)
العشرة و هذا يدل على أنّ جوّ البيعة كان هادئاً حراً، ولم يكن هناك أيّ ضغط و إجبار، فبايعت الجماهير، و تخلّفت عدة قليلة كانت عثمانية الهوى كحسان بن ثابت، و كعب بن مالك، و مسلمة بن مخلد، وزيد بن ثابت، و النعمان بن البشير، و محمّد بن مسلمة، و رافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، و كعب بن عجرة.
يقول الطبري: أمّا حسّان فقد كان شاعراً لا يبالي ما يصنع، وأمّا زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان و بيت المال فلمّا حصر عثمان قال: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار الله مرتين، فقال أبو أيّوب: ما تنصره إلا انّه أكثر لك من العضدات، فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة المدينة و ترك ماأخذ منهم له(1)
ولاأظن انّه يوجد على أديم الأرض انتخاب جماهيري لقائد، لايوجد فيه مخالف شاذ يأبى عن البيعة لدوافع شخصيّة.
وقد تعرفت فيما سبق على كلمات الإمام و نزيد في المقام قوله مخاطباً طلحتة و الزبير: والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنّكم دعوتموني إليها و حمّلتموني عليها(2).
ثالثاً: إذا خرجنا بهذه النتيجة: إنَّ بيعة الإمام كانت بيعة شرعية قانونية أطبق عليها المهاجرون و الأنصار، فلأيّ مبّرر يرفض معاوية عليّ و يؤخّر البيعة و يرفع قميص عثمان مطالباً بالثار؟ ولأجل ذلك نرى الإمام يُنَدِّده و يبيّن موقفه من بيعته ويكتب اليه قائلا: إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولاللغائب أن يرد، انّما الشورى للمهاجرين و الأنصار، فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماماً كان ذلك لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة رَدّوه إلى ما خرج منه،
________________________________________
الطبري: التاريخ 3/452 .
2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 200.
________________________________________
(103)
فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولّى(1).
رابعاً: لو خرج الباحث بهذه النتيجة و هو أنّ عثمان قتل مظلوماً في عقر داره، وأنّه يجب أخذ ثأره من قَتَلِته، فلاشك انّ ذلك حقّ ولىّ الدم، قال سبحانه: (وَ منْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَليِّه سُلطَاناً فَلا يُسْرِف فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً)(2) فهل كان معاوية وليّ الدم، أو أنّ وليّ الدم أولاد المقتول و إن نزلوا. إِنَّ معاوية حسب المقاييس الشرعية لم يكن وليّ الدم و إنّما أولياؤه ولده فلهم حق القصاص، ولكن لا ينالون حقّهم إلاّ برفع الأمر الى المحكمة الصالحة لتنظر في أمرهم. ولو عجزت المحكمة، فلهم الاستنجاد بغيرهم، لا في بدء الأمر، ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يُندّد بقيامه بأخذ الثأر ولايراه صالحاً لهذا الأمر ويكتب الى معاوية: «زعمت أنّك انّما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان»: ولعمري ما كنت إلاّ رجلا من المهاجرين أوْرَدْتُ كما أوردوا، وأصدرتُ كما أصدروا، و ما كان الله ليجمعهم على ضلال، ولا ليضربهم بالعمى و بَعْد فما أنت و عثمان، إنّما أنت رجل من بني أميّة، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه، فإن زعمت أنّك أقوى على ذلك فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إليّ(3) .
وفي لفظ ابن قتيبة: أمّا قولك ادفع إليَّ قتلة عثمان، فما أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان، و هم أولى بذلك منك، فإن زعمت أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع الى البيعة التي لزمتك و حاكم القوم إليَّ(4) .
خامساً: إذا خرجنا بهذه النتيجة، أنّ أخذ الثأر و إن كان حقّاً ثابتاً لأولياء
________________________________________
الرضي: نهج البلاغة قسم الكتب برقم 6 وفي ذيل الكتاب إشارة الى قوله سبحانه(و من يشاقق الرسول...)النساء: 115 .
2. الاسراء: 33.
3. المبرّد: الكامل 1/194 مكتبة المعارف بيروت .
4. ابن قتيبة: الامامة و السياسة 1/88 .
________________________________________
(104)
الدم، لكنّهم لايقومون بأخذ حقّهم مباشرة، بل اللازم عليهم رفع الشكوى الى المحاكم الصالحة التي أقامها وليّ المسلمين أعني الخليفة المفترض طاعته، وإلا فلو قام وليّ الدم بالقصاص و أخذ الحق مباشرة، لزم الفوضى في المجتمع، كما هو واضح لكلّ من له إلمام بالمسائل الاجتماعية، فإذا كان هذا حقّاً ثابتاً للإمام، فهل كان الإمام قادراً على تنفيذ حكم القصاص في حق اولئك الثائرين، أو كانت الظروف لاتساعد إجراء الحكم، ولا تعلم حقيقة الحال إلاّ بدراسة الموضوع تاريخياً، فإنّه يشهد على أنّ الثائرين لم يكونوا أشخاصاً معيّنين، بل كانت هناك انتفاضة شعبية مختلطة من الكوفيين والبصريين والمصريين، والمدنيين، وقد حاصروا بيت الخليفة قرابة أربعين يوماً، ولم يكن في وسع أصحاب النبي رفع هذا الحصار أو تقويضه إلى أن حدثت حوادث مريرة أدّت إلى الهجوم العنيف على داره، وقد بلغ المهاجمون من الكثرة مالايحصيه أحد، ويعلم صحّة ذلك من الأمر التالي:
إنّ أبا مسلم الخولاني قام إلى معاوية في اُناس من قرّاء أهل الشام قبل مسير أمير المؤمنين إلى صفين فقالوا له: يا معاوية علامَ تقاتل عليّاً وليس لك مثل صحبته ولاهجرته ولاقرابته ولاسابقته؟ قال معاوية لهم: مااُقاتل علياً وأنا أدعّي أنّ لي في الإسلام مثل صحبته ولاهجرته ولاقرابته ولاسابقته ولكن خبّروني عنكم: ألستم تعلمون أنّ عثمان قتل مظلوماً؟ قالوا: بلى. قال: فلْيَدَعْ إلينا قتلته، فنقتلهم به، ولا قتال بيننا و بينه. قالوا: فاكتب إليه كتاباً يأتيه به بعضنا، فكتب إلى عليّ هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني فقدم به على عليّ ثم قام أبومسلم خطيباً فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد فإنّك قد قمت بأمر وتولّيته، والله ما أحبُ أنّه لغيرك، أن أعطيت الحق من نفسك، إنّ عثمان قتل مسلماً، محرماً، مظلوماً، فادفع إلينا قتلته، و أنت أميرنا، فإن خالفك أحد من
________________________________________
(105)
الناس كانت أيدينا لك ناصراً، وألسنتنا لك شاهداً، و كنت ذا عذر وحجة.
فقال له علي: اغدُ عَليّ غداً، فخذ جواب كتابك، فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه، فلبست الشيعةُ أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد و أخذوا ينادون: كلنّا قتل ابن عفان، وأكثروا من النداء بذلك، واُذن لأبي مسلم فدخل على عليّ أميرالمؤمنين فدفع إليه جواب كتاب معاوية، فقال له أبومسلم: قد رأيت قوماً مالك معهم أمر. قال: وما ذاك؟ قال: بلغ القوم انّك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان، فضجّوا و اجتمعوا و لبسوا السلاح و زعموا أنّهم كلّهم قتلة عثمان، فقال علي: والله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين، لقد ضربت هذا الأمر أنفه و عينيه، مارأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولاإلى غيرك.(1)
نحن نفترض انّ بعض من لبس السلاح في هذه الواقعة لم يكونوا من المهاجمين، أوالمؤلّبين، أوالمجهزين، لكن تواجد هذه الكميّة الهائلة من المتبنّين لهذه الفكرة في الكوفة، فضلا عن أبناء جلدتهم في البصرة و المدينة، المؤيّدين المتفرقين في بلادهم، يدلّ على أنّ المسألة صارت أزمة اجتماعيةً معقّدةً، ولم يكن الإمام متمكّناً من دفع من قام بالقتل إلى وليّ الدم.
ويعرب عن ذلك كلام الإمام للناكثين، فقد دخل طلحة و الزبير في عدة من الصحابة، فقال: يا عليّ إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود، و إنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم، فقال لهم: يا اخوتاه، إنّي لست أجهل ما تعلمون، ولكّني كيف أصنع بقوم يملكونا، ولا نملكهم، هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم، يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء ممّا تريدون؟ قالوا: لا. قال: فلا،
________________________________________
نصربن مزاحم: وقعة صفّين 95-97 .
________________________________________
(106)
والله لا أرى إلاّ رأياً ترونه إن شاء الله(1) .
فعلى هذا فلم تكن للامام يوم بويع ولابعده ولا بعد شهور، أيّة مقدرة على القاء القبض على القاتلين، وإلاّ لثارت تلك الجماهير على عليّ وخلافته الفتَّية، وكانت المصيبة أعظم.
سادساً: لاشكّ انّ طلحة و الزبير نكثا البيعة و أخرجا زوجة رسول الله من بيتها، وقد دخلوا البصرة بعنف وقتلوا حرس القصر، إلى غير ذلك من الاُمور التي لايشكّ فيها أيّ ملمّ بالتاريخ، ولكن القوم يذكرون الرجلين بخير و صلاح و يسترحمون عليهما و يرونهما من العشرة المبشّرة بالجنّة ولا يرون أعمالهم الإجرامية مخالفة لطهارتهما، ويبّررون أعمالهم بالاجتهاد كما يبرّرون به عمل معاوية و غيرهم من المجرمين الطغاة حتى عمل مسلم بن عقبة ذلك الطاغي الذي أباح أعراض نساء المدينة لجيشه ثلاثة أيّام.
فلو صحّ ذلك التبرير فلماذا لايصحّ في حقّ هؤلاء الذين هاجموا بيت الخليفة و أجهزوا عليه؟ فكانوا مجتهدين في الرأي، مخطئين في النتيجة، فلهم اُجر واحد، كما أنّ للمصيب أجرين؟. ولكن لانرى أيّة كلمة حول هؤلاء يبرّر بها عملهم، فما هذا التفريق بين المتماثلين؟ ولماذا تُقيَّمُ الاُمور بمكيالين.
سابعاً: نقل المؤرّخون انّه لمّا قتل عمر، وثب عبيدالله بن عمر فقتل الهرمزان و ابنة أبي لؤلؤ، فلمّا بلغ الخبر عمر، قال: إذا أنا متّ فاسألوا عبيدالله البيّنة على الهرمزان، هل هو قتلني؟ فإن أقام البيّنة فدمه بدمي، و إن لم يقم البيّنة فأقيدوا عبيدالله من الهرمزان، فلمّا ولي عثمان(رضي الله عنه) قيل له: ألا تمضي وصيّة عمر(رضي الله عنه) في عبيدالله؟ قال: و من وليّ الهرمزان؟ قالوا:
________________________________________
الطبري: التاريخ 3/458
________________________________________
(107)
أنت يا أميرالمؤمنين قال: قد عفوت عن عبيدالله بن عمر(1) .
إنّي لا اُريد أن أحوم حول هذه القصّة، كيف وقد نقم به على الخليفة حيث عطّل القصاص إذ قتل عبيدالله رجلا يصلّي وصبية صغيرة، ومع ذلك عفى عنه الخليفة لسبب عاطفي أو غيره، فَلِمَ لا يجوز ذلك للامام علي ـ عليه السَّلام ـ وقد رأى انّ في القَوَد مفسدةً عظمى على الاسلام و المسلمين؟ وانّ جبر دم الخليفة بالدية أصلح من القصاص و القود.
هذه هي المواضيع الهامّة التي كانت من المفترض دراستها و القضاء فيها، ثم الخروج بنتيجة صحيحة عن الحكومة، غير انّ الحَكَمين جعلاها وراء ظهورهما، ولم ينبسا فيها ببنت شفة، بل كان هوى أبي موسى الأشعري مع عبدالله بن عمر، و كان هوى عمرو بن العاص مع معاوية، فلنتعرف على عبدالله بن عمر، ثم عمروبن العاص:
أمّا عبدالله بن عمر فكفى في ضعف نفسه انّه لمّا ولّي الحجاج الحجاز من قبل عبدالملك بن مروان جاءه ليلا ليبايعه، فقال له الحجّاج ما أعجلك؟ فقال: سمعت رسول الله يقول: من مات بغير امام مات ميتة جاهلية (2) فقال له: إنّ يدي مشغولة عنك، و كان يكتب، فدونك رجلي، فمسح على رجله و خرج، فقال الحجاج: يا أحمق. تترك بيعة علي بن أبي طالب و تأتيني مبايعاً في ليلة؟ و ما هذا إلاّ انّ الخوف من السيف جاءك إلى هنا(3) .
وأمّا عمرو، و ما أدراك ما عمرو؟ ذلك الانسان الذي عرّفه الامام بقوله:
________________________________________
البيهقي: السنن الكبرى8/61. ولاحظ الطبري: التاريخ 3/303 .
2. الهيثمي: مجمع الزوائد 5/218. الطيالسي: المسند 259 وللحديث صور اُخرى .
3. أبو جعفر الاسكافي: المعيار و الموازنة 24. و ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 13/242. عبدالله المامقاني: تنقيح المقال برقم 6989 .
________________________________________
(108)
متى لم تكن للكافرين وليّاً وللمسلمين عدوّاً(1)، فكان هواه مع معاوية لموعدة وعدها إيّهاه وهي ولاية مصر و قد تحدّث عنها المؤرّخون في قصّة طويلة حيث قال معاوية له: وهلّم فبايعني، فقال عمرو: لا والله لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك. قال معاوية: سل، تعط، قال: مصر طعمة(2).
وروى ابن مزاحم قال: قال معاوية لعمرو: إنّي أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربّه، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرّق الجماعة وقطع الرحم.
قال عمرو: إلى من؟ قال: إلى جهاد عليّ، قال: فقال عمرو: والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير، مالك هجرته ولاسابقته، ولاطول جهاده، ولا فقهه، ولا علمه، والله إنّ له ذلك حدّاً وجدّاً و حظّاً و حُظوةً، وبلاءاً من الله حسناً، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه، وأنت تعلم ما فيه من الغرر و الخطر؟ قال: حكمك. قال: مصر طعمة، قال: فتلكّأ عليه معاوية.
قال نصر: وفي حديث آخر، قال: قال له معاوية: يا أباعبدالله، إنّي أكره أن يتحدّث العرب عنك انّك إنّما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال: دعني عنك. قال معاوية: إنّي لو شئت أن اُمنّيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو: لا لعَمرالله، ما مثلي يخْدَع، لأنا أكيس من ذلك. قال له معاوية: اُدن منِّي برأسك اُسارّك. قال: فدنامنه عمرو يسارُّه. فعضَّ معاوية اُذنه و قال: هذه خدعة، هل ترى في بيتك أحداً غيري وغيرك؟(3) .
قال ابن أبي الحديد بعد هذا: «قلت: قال شيخنا أبو القاسم البلخي(رحمهم الله): قال عمرو: «دعنا عنك» كناية عن الإلحاد بل تصريح
________________________________________
نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 583 .
2. ابن قتيبة: الامامة و السياسة 1/91. مضى النص فلاحظ تعليقتنا عليه.
3. نصربن مزاحم: وقعة صفّين 43.
________________________________________
(109)
به، أي دع هذا الكلام الذي لا أصل له فإنّ الاعتقاد بالآخرة وأنّها لاتباع بعرض من الدنيا، من الخرافات. قال (رحمهم الله): و ما زال عمرو بن العاص ملحداً ما تردّد قط في الإلحاد و الزندقة، و كان معاوية مثله و يكفي في تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي(1) وانّ معاوية عضَّ اُذن عمرو، أين هذا من أخلاق علي ـ عليه السَّلام ـ و شدّته في ذات الله، و هما مع ذلك يعيبانه بالدعابة(2).
خلاصة البحث:
ما كانت دراسة جميع هذه المواضيع أمراً صعباً على الحكمين، بل في دراسة الموضوع الأوّل من المواضيع السبعة كفاية للإدلاء بالحق، وذلك إنّه إذا كانت خلافة الإمام خلافة قانونية شرعية، فالخارج عليها باغ على الإمام يجري عليه حكم البغاة أوّلا و تابع لغير سبيل المؤمنين، وخارق للإجماع ثانياً، وقد قال سبحانه في حقّ هؤلاء:
(وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى وَ يَتَّبِعَ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤمِنينَ نوله ما تولى ونصله جهنم و ساءت مصيرا)(3)
( و ان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت احديهما على الاخرى فقاتلوا التى تبغي حتى تفىء الى امر الله)(4)
ولا عجب بعد ذلك أنا نرى أنّ الإمام يصف حكم الحكمين بقوله: «فقد خالفا كتاب الله و اتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله فلم يعملا بالسنّة ولم ينفّذا للقرآن حكماً».(5)
***
________________________________________
المراد ما سبق في كلام ابن مزاحم.
2. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/64-65 .
3. النساء: 115
4. الحجرات: 9 .
5. الطبري: التاريخ 4/57 .