تحرّكاتهم العسكرية بعد صدور رأي الحكمين

طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5 ، ص 111 ـ  126
________________________________________
(111)
الفصل السادس
تحرّكاتهم العسكرية بعد صدور رأي الحكمين
________________________________________
(112)
________________________________________
(113)
ولمّا بلغ الإمام ما حكم به الحكمان من الحكم الجائر، قام خطيباً وقال ألا أنّ هذين الرجلين الذين اخترتموهما حكمين، قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما وأحييا ما أمات القرآن، واتّبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجّة بيّنة، ولا سنّة ماضية، و اختلفا في حكمهما، و كلاهما لم يرشدا، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. استعدّوا وتأهّبوا للمسير إلى الشام، واصبحوا في معسكركم إن شاء الله، ثم نزل وكتب إلى الخوارج بالنهر: «بسم الله الرحمن الرحيم. من عبدالله علي أميرالمؤمنين إلى زيد بن حصين(1) وعبدالله بن وهب و من معهما من الناس. أمّا بعد فإنّ هذين الرجلين الذين ارتضينا حكمهما، قد خالفا كتاب الله، واتّبعا أهواءهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنّة، ولم ينّفذا للقرآن حكماً، فبرىء الله ورسوله
________________________________________
وهذا الرجل من الذين فرضوا التحكيم على الإمام و جاء هو مع مسعر بن فدكي بزهاء عشرين ألفاً مقّنعين في الحديد، شاكّي السلاح، سيوفهم على عواتقهم وقد اسودّت جباههم من السجود... نادوا الامام باسمه لابإمرة المؤمنين: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيت إليه... لاحظ: وقعة صفّين 560 وقد مرّ النصُّ أيضاً.
________________________________________
(114)
منهما والمؤمنون. فإذا بلغكم كتابي هذا فاقبلوا، فإنّا صائرون إلى عدوّنا وعدوّكم، ونحن على الأمر الذي كنّا عليه، والسلام»(1).
كان المترقّب من الخوارج إجابة علي ـ عليه السَّلام ـ والخروج معه إلى قتال معاوية لأّنهم هم الذين كانوا يقولون لعلي ـ عليه السَّلام ـ :«تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك، واخرِج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا»(2) .
ولكنّهم ـ يا للأسف ـ لم يستجيبوا إلى دعوة علي ـ عليه السَّلام ـ و كتبوا إليه: «أمّا بعد فإنّك لم تغضب لربّك، إنّما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا بيننا و بينك وإلاّ فقد نابذناك على سواء. إنّ الله لايحبّ الخائنين». فلمّا قرأكتابهم آيس منهم فرأى أن يدعهم و يمضي بالناس إلى أهل الشام حتّى يلقاهم فيناجزهم، فنزل بالنخيلة، وقام فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد فإنّه من ترك الجهاد في الله، وادهن في أمره كان على شفا هلكة، إلاّ أن يتداركه الله بنعمة، فاتّقوا الله وقاتلوا من حادّ الله وحاول أن يطفىء نور الله. قاتلوا الخاطئين، الضالّين، القاسطين، المجرمين، الذين ليسوا بقرّاء للقرآن، ولا فقهاء في الدين، ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام، والله لو ولّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل. تيسّروا وتهّيؤا للمسير إلى عدوّكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى اخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله (3) .
ثمّ إنّه لّبى دعوته من البصرة وحوالي الكوفة جمع كبير وقد اجتمع تحت
________________________________________
الطبري: التاريخ 4/57 .
2. المصدر نفسه 52 .
3. المصدر نفسه 58 .

________________________________________
(115)
رايته ثماني وستّين ألفاً ومائتي رجل، واستعدّ للمسير إلى الشام.
إستعدّ الإمام لمواجهة العدّو بالشام، لكنّه فوجىء بما بلغ إليه من الناس أنّهم يقولون: لو سار الإمام بنا إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم. فقام في الناس وحمدالله وأثنى عليه، فأجاب دعوتهم خصوصاً بعد ما بلغ إليه أنّهم ذبحوا عبدالله بن خباب على ضفة النهر، وبقروا بطن اُمّ ولده، وهم على اُهْبَة الخروج، وإليك تفصيله:
إنّ الخوارج اجتمعوا في منزل عبدالله بن وهب الراسبي، فقال في خطبة له: أمّا بعد فوالله ماينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، و ينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون هذه الدنيا التي الرضا بها و الركون إليها والايثار إيّاها عناءً وتباراً(1) آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول بالحق و... فاخرجوا بنا اخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضرّة. ثمّ خطب بعده، حرقوص بن زهير و قال بمثل ماقال: وقال حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم: إنّ الرأي ما رأيتم، فولّوا أمركم رجلا منكم، فإنّه لابدّ لكم من عماد و سناد، وراية تحفّون بها، وترجعون إليها، فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعلى حمزة بن سنان و شريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها على عبدالله بن وهب فقال: هاتوها، أما والله لاآخذها رغبة في الدنيا، ولاادعها فرقاً من الموت، فبايعوه لعشر خلون من شوّال و كان يقال له ذوالثفنات.
ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله فإنّكم أهل الحق. قال شريح: نخرج
________________________________________
التبار: الهلاك.
________________________________________
(116)
إلى المدائن فننزلها ونأخذ بأبوابها ونخرج منها سكّانها ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة، فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين: إنّكم إن خرجتم مجتمعين اُتْبِعْتُم ولكن اخرجوا وحداناً مستخفّين، فأمّا المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا جسر النهروان وتكاتبوا اخوانكم من أهل البصرة، قالوا: هذا هو الرأي.
وكتب عبدالله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمهم مااجتمعوا عليه، ويحثّهم على اللحاق بهم وأرسل الكتاب إليهم، فأجابوه أنّهم على اللحاق به.
فلمّا عزموا على المسير(1)، تعبّدوا ليلتهم وكان ليلة الجمعة، ويوم الجمعة، وساروا يوم السبت فخرج شريح بن أوفى العبسي، وهو يتلو قول الله: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبْ قالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقآءَ مَدْيَنَ قالَ عَسَى رَبِّي أن يَهْدِيَنِي سَوآءَ السَبِيلِ)(2) .
ثمّ إنّ الخوارج تقاطرت من البصرة والكوفة حتى نزلوا جسر نهروان، فصاروا جيشاً عظيم العدد والعُدَّة، وكانت الأخبار عن أفعالهم الشنيعة تصل إلى الناس ففشى الرعب فيهم، ولأجل ذلك ألحّ الواعون من ضباط علي على مناجزة هؤلاء ثم المسير إلى الشام، فأجابهم الإمام، وإليك بيان ما ارتكبوا من الجرائم.
روى الطبري عن أبي مخنف عن حميد بن هلال: انّ الخارجة التي أقبلت من البصرة جاءت حتى دنت من اخوانها بالنهر فخرجت عصابة منهم، فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار، فعبروا إليه فدعوه فتهدّدوه وافزعوه وقالوا له من أنت؟ قال: أنا عبدالله بن خباب صاحب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ
________________________________________
المقصود الخوارج المتواجدون في الكوفة وأطرافها أعني الحرورية.
2. القصص: 21ـ22. الطبري: التاريخ 4/54ـ55 .

________________________________________
(117)
ثمّ أهوى إلى ثوبه يتناوله من الأرض وكان سقط عنه لمّا افزعوه، فقالوا له: افزعناك؟ قال: نعم. قالوا له: لاروع عليك، فحدثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ لعلّ الله ينفعنا به. قال: حدثني أبي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : إنّ فتنة تكون، يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي فيها مؤمناً ويصبح فيها كافراً، ويُصْبح كافراً، ويمسي فيها مؤمناً. فقالوا: لهذا الحديث سألناك.
فما تقول في أبي بكر و عمر؟ فأثنى عليهما خيراً. قالوا: ما تقول في عثمان في أوّل خلافته وفي آخرها؟ قال: إنّه كان محقّاً في أوّلها وفي آخرها. قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنّه أعلم بالله منكم، وأشدّ توقّياً على دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا: إِنّك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لاعلى أفعالها. والله لنقتلنّك قتلة ما قتلناها أحداً، فأخذوه فكتّفوه ثمّ أقبلوا به وبامرأته وهي حُبلى متمٌّ، حتى نزلوا تحت نخلة مواقر، فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه، فقال أحدهم: بغير حلّها وبغير ثمن؟ فلفضها وألقاها من فمه، ثمّ أخذ سيفه فأخذ يمينه، فمرّ به خنزير لأهل الذمّة فضربه بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فأتى صاحب الخزير فأرضاه من خنزيره.
فلمّا رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، فما عَلَيَّ منكم بأس إنّي لمسلم ما أحدثت في الاسلام حدثاً ولقد آمنتموني. قلتم: لاروع عليك. فجاءوا به فأضجعوه فذبحوه، وسال دمه في الماء وأقبلوا إلى المرأة، فقالت: إنّما أنا أمراة ألاتتّقون الله؟ فبقروا بطنها.
وقتلوا ثلاث نسوة من طىّ وقتلوا اُمّ سنان الصيداوية، فبلغ ذلك عليّاً و من معه من المسلمين من قتلهم عبدالله بن خباب واعتراضهم الناس، فبعث
________________________________________
(118)
إليهم الحارث بن مرّة العبدي ليأتيهم فينظر فيما بلغ عنهم ويكتب به إليه على وجهه ولايكتمه، فخرج حتى انتهى إلى النهر ليسألهم، فخرج القوم إليه فقتلوه، وأتى الخبر أمير المؤمنين والناس، فقام إليه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين عَلامَ تدع هؤلاء يخلفوننا في أموالنا وعيالنا؟ سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا ممّا بيننا و بينهم صرنا إلى عدوّنا من أهل الشام، فقبل علي فنادى بالرحيل، ولمّا أراد علي المسير إلى أهل النهر من الأنبار، قدم قيس بن سعد بن عبادة وأمره أن يأتي المدائن فينزلها حتى يأمره بأمره، ثمّ جاء مقبلا إليهم ووافاه قيس وسعد بن مسعود الثقفي بالنهر وبعث إلى أهل النهر: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم، ثمّ أنا تارككم وكاف عنكم حتى نلقى أهل الشام، فلعلّ الله يقلب قلوبكم، ويردّكم إلى خير ممّا أنتم عليه من أمركم، فبعثوا إليه وقالوا: كلّنا قتلناهم وكلّنا نستحلّ دماءهم ودماءكم. ولمّا وصل على جانب النهر وقف عليهم فقال:
أيّتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة، وصدّها عن الحقّ الهوى...إنّي نذيركم ان تصبحوا تلفيكم الاُمّة غداً صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط بغير بيّنة من ربّكم ولابرهان بيّن، ألم تعلموا أنّي نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أنّ طلب القوم إيّاها منكم دهن ومكيدة لكم، ونبّأتكم أنّ القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وانّي أعرف بهم منكم، عرفتهم أطفالا ورجالا، فهم أهل المكر والغدر، وانّكم إن فارقتم رأيي، جانبتم الحزم، فعصيتموني حتى إذا أقررت بأن حكمت، فلمّا فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن و أن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنّة، فنبذنا أمرهما ونحن على أمرنا الأوّل فما الذي بكم؟ ومن أين أتيتم؟ قالوا: إنّا حكمنا فلمّا حكمنا أثمنا وكنّا بذلك
________________________________________
(119)
كافرين، وقد تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك وإن أبيت فاعتزلنا، فانّا منابذوك على سواء، إنّ الله لايحب الخائنين، فقال عليّ: أصابكم حاصب، ولابقي منكم وابر. اَبَعْد إيماني برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ثمّ انصرف عنهم(1) .
ولم يكتف الإمام بهذا الأمر، بل كلّمهم في معسكرهم بما يلي:«أكلّكم شهد معنا صفّين؟ فقالوا: منّا من شهد ومنّا من لم يشهد. قال: فامتازوا فرقتين، فليكن من شهد صفّين فرقة، ومن لم يشهدها فرقة، حتى اُكَلِّم كّلا منكم بكلامه، ونادى الناس، فقال:
امسكوا عن الكلام، انصتوا لقولي، واقبلوا بأفئدتكم إلىّ، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها.
ثمّ كلّمهم ـ عليه السَّلام ـ بكلام طويل، من جملته: ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلةً وغيلةً ومكراً وخديعةً: اخواننا وأهل دعوتنا، استقالونا واستراموا إلى كتاب الله سبحانه، فالرأي القبول منهم، والتنفيس عنهم؟ فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان، وباطنه عدوان، وأوّله رحمة، وآخره ندامة. فأقيموا على شأنكم، وألزموا طريقتكم وعضّوا على الجهاد، بنواجذكم، ولاتلتفتوا إلى ناعق نعق، إن اُجيب أضلّ وإن ترك ذلّ(2).
ولمّا أتمّ الإمام الحجة عليهم، ورأى أنّ آخر الدواء الكي، فعبّأ الناس فجعل على ميمنته حجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي، أو
________________________________________
الطبري: التاريخ 4/60 ـ 63. المسعودي: مروج الذهب: 3/156. الرضي: نهج البلاغة، لخطبة 36.
2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 121 .

________________________________________
(120)
معقل بن قياس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيّوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل، قيس بن سعد بن عبادة.
وعبّأت الخوراج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، و على خيلهم حمزة بن سنان الأسدي وعلى الرجّالة حرقوص بن زهير السعدي.
الحرص على صيانة نفوسهم:
ثمّ إنّ الإمام توخّياً لحفظ الدماء وصيانة الأنفس، بعث الأسود بن يزيد في ألفي فارس حتى أتى حمزة بن سنان وهو في ثلاثمائة فارس من خيلهم ورفع عليّ راية أمان، مع ابي أيوب فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه الراية منكم ممّن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن و خرج من هذه الجماعة فهو آمن ـ انّه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة اخواننا منكم في سفك دمائكم.
لقد كان هذا التخطيط و السياسة الحكيمة مؤثّراً في تفرّق القوم وصيانة دمائهم فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي (1) في خمسائة فارس، وخرجت طائفة اُخرى متفرّقين، فنزلت الكوفة، وخرج إلى علي ـ عليه السَّلام ـ منهم نحو من مائة، وكانوا أربعة آلاف وكان الذين بقوا مع عبدالله بن وهب منهم ألفين وثمانمائة، وزحفوا إلى علي ـ عليه السَّلام ـ .
وقدم على الخيل دون الرجال وصفّ الناس وراء الخيل صفّين، وصفّ
________________________________________
سيأتي خروجه على معاوية في الفصل الثامن فانتظر.
________________________________________
(121)
المرامية أمام الصفّ الأوّل، وقال لأصحابه: كفّوا عنهم حتى يبدأوكم(1) .
قال المبرّد: لمّا وافقهم عليّ ـ عليه السَّلام ـ بالنهروان، قال: لاتبدوهم بقتال حتى يبدأوكم. فحمل منهم رجل على صف عليّ ـ عليه السَّلام ـ فقتل منهم ثلاثة، فخرج إليه عليّ ـ عليه السَّلام ـ فضربه فقتله...ومال ألف منهم إلى جهة أبي أيوب الأنصاري، وكان على ميمنة عليّ، فقال عليّ ـ عليه السَّلام ـ لأصحابه: احملوا عليهم، فوالله لايقتل منكم عشرة، ولايسلم منهم عشرة. فحمل عليهم فطحنهم طحناً قتل من أصحابه ـ عليه السَّلام ـ تسعة، وأفلت من الخوارج ثمانية(2).
قال ابن الأثير: لمّا قال عليّ لأصحابه «كفّوا عنهم حتى يبدأوكم» نادت الخوارج: الرواح إلى الجنة، وحملوا على الناس، وافترقت خيل(3) علي فرقتين، فرقة نحو الميمنة وفرقة نحو الميسرة واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل. من الميمنة و الميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فمالبثوا أن أناموهم.(4)
ثمّ إنّ علياً يحدّث أصحابه قبل ظهور الخوارج انّ قوماً يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، علامتهم رجل مُخدج اليد، سمعوا ذلك منه مراراً، فلمّا فرغ من قتالهم، أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج، فوجدوه في حفرة على شاطئ النهر في خمسين قتيلا، فلمّا استخرجوه نظروا إلى عضده
________________________________________
الطبري: التاريخ 4/64 .
2. المبرّد: الكامل 2/139 ـ 140. الطبري: التاريخ 4/63 ـ 64 والمسعودي: مروج الذهب 3/157 وقال: وكان من جملة من قتل من أصحاب عليّ، سبعة، ولم يفلت من الخوارج إلا عشرة وأتى على القوم وهم أربعة آلاف، ولعل لفظة «إلاّ» زائدة.
3. هكذا في الأصل وقد سقط لفظ «علىّ» .
4. كلّ مشوه الخلق في أحد أعضائه فهو مخدج .

________________________________________
(122)
فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة، وحلمة عليها شعرات سود... فلمّا رآه قال: الله أكبر لاكَذِبْتُ ولاكذّبت.
وقال حينما مرّ بهم وهم صرعى: بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم، قالوا: يا أميرالمؤمنين: من غرّهم، قال: الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، غرّتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، نبّأتهم أنّهم ظاهرون (1) قال علي: خذوا ما في عسكرهم من شيء، قال: فأمّا السلاح والدواب و ما شهدوا به عليه الحرب فقسمة بين المسلمين، وأمّا المتاع والعبيد والاماء فإنّه حين قدم، ردّه على أهله، ونقل الطبري أيضاً: انّ علياً أمر بطلب من به رمق منهم، فكانوا أربعمائة، فأمر بهم عليّ، ودفعوا إلى عشائرهم، وقال: احملوهم معكم فداووهم، فاذا برأوا، فوافوا بهم الكوفة(2).
فَقْاُ عينِ الفتنة:
كانت الخوارج من أهل القبلة وأهل الصلاة والعبادة، و كان الناس يستصغرون عبادتهم عند صلواتهم، فلم يكن قتالهم واستئصالهم أمراً هيّناً، ولم يكن يجترئ عليه غير عليّ ـ عليه السَّلام ـ ولأجل ذلك قام بعد قتالهم، فقال: أمّا بعد حمدا لله والثناء عليه، أيّها الناس فإنّي فَقَأتُ عين الفتنة، ولم يكن ليجترىءَ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها واشتدّ كلَبُهُا(3).(4)
قال ابن أبي الحديد: إنّ الناس كلّهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة،
________________________________________
المسعودي: مروج الذهب 3/158. ابن الأثير: الكامل 3/175 ـ 176 .
2. الطبري: التاريخ 4/66 .
3. الغيهب: الظليمة والمراد بعد ما عمّ ظلالها فشمل فكّنى عن الشمول بالتموّج، لأن الظلمة إذا تموّجت شملت أماكن كثيرة، كما أنّ المراد من قوله واشتّد كلبها، أي شرّها وأذاها.
4. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 93.

________________________________________
(123)
ولايعلمون كيف يقاتلونهم، هل يتبعون مولِّيهم أم لا؟ وهل يجهّزون على جريحهم أم لا؟ وهل يقسمون فيئهم أم لا؟ وكانوا يستعظمون قتال من يؤذّن كأذاننا، ويصلّي كصلاتنا، واستعظموا أيضاً حرب عائشة وحرب طلحة و الزبير لمكانتهم في الاسلام، وتوقّف جماعة منهم عن الدخول في تلك الحرب، كالأحنف بن قيس وغيره، فلو لا أنّ عليّاً اجترأ على سلّ السيف فيها ما أقدم أحد عليها(1).
تنّبؤ للإمام بعد استئصال الخوارج:
لمّا قتل الخوارج وأفلت منهم من أفلت، قال بعض أصحاب الإمام: يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم، فقال:
«كلاّ والله انّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء، كلّما نجم منهم قرن قطع، حتّى يكون آخرهم لصوصاً سلّابين» (2) .
ذكر المؤرّخون قضايا وحوادث تعرب عن أنّ القوم صاروا بعد ذلك لصوصاً سلاّبين، فإن دعوة الخوارج اضمحلّت، ورجالها فنيت حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطّاع طرق متظاهرين بالفسوق والفساد في الأرض، وإليك نماذج:
خرج في أيام المتوكّل، ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة، فقطع الطريق وأخاف السبيل، فحاربه أبو سعيد الصامتي فقتل كثيراً من أصحابه، وأسر كثيراًمنهم، فمدحه أبو عبادة البحتري وقال:
كنّا نكفر عن اُمية عصبةً * طلبوا الخلافة فجرةً وفسوقاً
________________________________________
ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 7/46 .
2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 59 .

________________________________________
(124)
ونلوم طلحة والزبير كليهما * ونعنّف الصديق والفاروقا
ونقول تيم أقربت وعديّها * أمراً بعيداً حيث كان صعيقا
وهم قريش الأبطحون إذا انتموا * طابوا اُصولا في العلا وعروقا
حتّى غدت جشم بن بكر تبتغي * ارث النبي وتدعيه حقوقا
جاءوا براعيهم ليتّخذوا به * عمداً إلى قطع الطريق طريقا(1)
ثمّ ذكر أنّه خرج بأعمال كرمان وجماعة اُخرى من أهل عمان لانباهة لهم، وقد ذكرهم أبوإسحاق الصابي في الكتاب «التاجي» وكلّهم بمعزل عن طرائق سلفهم وانّما وكدهم، وقصدهم، إخافة السبيل والفساد في الأرض، واكتساب الأموال من غير حلّها.
ثمّ أتى يذكر المشهورين بنظر الخوارج الذين تمّ بهم صدق قول أميرالمؤمنين ـ عليه السَّلام ـ : «إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء» وأشهرهم:
1 ـ عكرمة مولى ابن عباس.
2 ـ مالك بن أنس الأصبحي.
3 ـ المنذر بن الجارود العبدي.
4 ـ يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج .
5 ـ صالح بن عبدالرحمن صاحب ديوان العراق.
6 ـ جابر بن زيد(2).
7 ـ عمرو بن دينار.
________________________________________
ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5/74 - لاحظ بقيّة الأبيات.
2. كونه منهم موضع تأمّل وإن كانت الاباضية ترى أنّه الأصل لهم في الحديث والفقه، تولّد بين عامي 18 ـ 22 وتوفّي في العقد الأخير من القرن الأوّل أو أوائل الثاني، تقرأ ترجمته في فصل خاص.

________________________________________
(125)
8 ـ مجاهد.
9 ـ أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي .
10 ـ اليمان بن رباب.
11 ـ عبدالله بن يزيد.
12 ـ محمّد بن حرب .
13 ـ يحيى بن كامل.
وهؤلاء الثلاثة الأخيرة كانوا من الأباضية، كما أنّ اليمان كان من البيهسيّة، وأبو عبيدة من الصفريّة، وسيوافيك أسماء مشاهيرهم (1) في فصل خاص.
كلمة أخيرة للإمام في حقّ الخوارج:
وللإمام عليّ كلمة في حق الخوارج ألقاها بعد القضاء عليهم وقال :
«لاتقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه» (2).
هذه الكلمة تعرب عن أنّ انحراف الخوارج عن الحق لم يكن شيئاً مدبّراً من ذي قبل، وإنّما سذاجة القوم وقرب قعرهم، جرّهم إلى تلك الساحة، وكانوا جاحدين للحق عن جهل ممزوج بالعناد، فكانوا يطلبون الحق من أوّل الأمر، لكن أخطأوا في طلبه ودخلوا في حبائل الشيطان والنفس الأمّارة، وهذا بخلاف معاوية وجيشه، فإنّهم كانوا يطلبون الباطل ويركبون الغيّ عن تقصير وعلم، وقد عرفت أنّه لم يكن لمعاوية مرمى من أوّل الأمر سوى إزاحة عليّ عن منصبه وغصب الخلافة، و انّ دم عثمان وقميصه وكونه قتل مظلوماًفي
________________________________________
ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5/74 ـ 76 .
2. الرضي: نهج البلاغة، الخطبة 60 .

________________________________________
(126)
عقرداره كانت واجهة استخدمها لجلب العواطف، يطلب بها إغواء رعاع الناس، ولأجل ذلك لمّا قتل عليّ وصالحه الحسن وأخذ بزمام الأمر، لم يبحث عن قتلة عثمان.
قال ابن أبي الحديد في شرحه:
«مراده أنّ الخوارج ضلّوا بشبهة دخلت عليهم، و كانوا يطلبون الحق، ولهم في الجملة تمسّك بالدين، ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها، وإن اخطأوا فيها، وأمّا معاوية فلم يكن يطلب الحق، وإنّما كان ذا باطل لايحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة، وأحواله كانت تدلّ على ذلك، فإنّه لم يكن من أرباب الدين، ولاظهر عنه نسك، ولاصلاح حال، وكان مترفاً يذهب مال الفئ فى مآربه، وتمهيد ملكه، ويصانع به عن سلطانه، وكانت أحواله كلّها موذنة بانسلاخه عن العدالة، وإصراره على الباطل، و إذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه، وتحارب الخوارج عليه، وإن كانوا أهل ضلال، لأنّهم أحسن حالا منه، فإنّهم كانوا ينهون عن المنكر ويرون الخروج على أئمّة الجور واجباً(1).
***
________________________________________
ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 5/78 .