مسالك الدين

طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5 ، ص 287 ـ  290
________________________________________
(287)
خاتمة المطاف
قد تعرّفت في ماسبق على عقائد الاباضية وخصائصهم وقد اخترنا منها أموراً ثمانية بقي هنا أمرٌ يطيب لنا أن نلفت نظر القارىء إليه:
أ ـ إنّ الاباضية لتجويزهم التقيّة جعلوا مسالك الدين أربعة تنتهي في المرحلة الرابعة إلى الكتمان المساوق للتقيّة، فقالوا: مسالك الدين أربعة:
1 ـ الظهور 2 - الدفاع 3 ـ الشراء 4 ـ الكتمان.
إنّ للاباضية لجنة تقوم بالاشراف الكامل على شؤون المجتمع الاباضي تسمّى بـ «العزّابة» ولأجل ايقاف القارىء على خصوصيّات وصلاحيّات هذه اللجنة وشؤونها نأتي بنصّ كتابهم، فإليك البيان:
مسالك الدين عند الباضية:
إنّ المجتمع الإسلامي إمّا أن يكون ظاهراً على أعدائه، حرّاً في أراضيه، مستقّلا بأحكامه، عاملا بكتاب الله وسنّة رسوله، منفّذاً لأحكام الدين، لايخضع
________________________________________
(288)
لأجنبيّ بوجه من الوجوه، ولايستبدّ به حاكم، ولا يطغى عليه ذو سلطان، فهذه الحالة هي حالة الظهور، وهي أكمل الحالات للمجتمع المسلم، و عليها يجب أن تكون الاُمّة، لأنّها المنزلة التي ارتضاها الله للمؤمنين (وَ لِلَّهِ العِزَّة وَ لِرَسولِهِ وِ للمؤمِنينَ).) فإذا انحدر المسلمون عن هذا المقام، وتضاءلوا عن هذا الشرف، ونزلوا عن هذه المرتبة التي رفعهم إليها الإيمان بالله، والثقة فيه، فيجب أن لايهادنوا الظلم، وأن لايستكينوا للطغيان، وأن لايسمحوا للأيدي العابثة، أن تعبث بمقدّرات الاُمّة، فتنتهك حرماتهم، وتحول دون اُمور دينهم، وتتحكّم في أعمالهم وعباداتهم، وتتصرّف في أموالهم بغير التشريع الذي وضعه عالم الغيب والشهادة، والهدى الذي تركه محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ لأبناء الإسلام .
إذا انحدرت الاُمّة إلى هذه الوهدة، فيسيطر عليها عدوّ أجنبي، أو تخلّى ـ من أولته الاُمّة ثقتها، وأسلمته مقاليدها، ووضعت بين يديه رعايتها ـ عن الأمانة، وحاد بها عن الطريق، وخان الله ورسوله والمسلمين فيما وضع بين يديه، وجب حينئذ أن يقف المسلمون في طريق تلك الدولة الباغية، يأمرونها بالمعروف، وينهونها عن المنكر، ويلزمونها أن تسلك بهم طريق الصواب، فإذا اعتزّت بالإثم، واستمرأن طعم الظلم، واستكبرت أن تخضع لأمرالله، وأن ترجع إلى سبيل الله، فحينئذ يأتي القسم الثاني من التنظيم الإسلامي وهو الدفاع، والدفاع في مسالك الدين يرادف ما يعبّر عنه في العصر الحاضر بالثورة...الثورة على الاستعمار الأجنبي، أو الثورة على الاستعمار الداخلي: كالثورة على الظلم، والثورة على الاقطاع، والثورة على الفساد، والثورة على الانحراف عن دين الله في كلّ مظاهره وأشكاله. والزعيم الذي يقود هذه الثورة يسمّى «إمام الدفاع» وله على الاُمّة الثائرة حق الطاعة والامتثال، مادامت
________________________________________
(289)
الثورة قائمة، فاذا استقرّت الاُمور، ورجعت إلى الهدوء والاستقرار، أصبح واحداً من أفراد الاُمّة، له حقوقهم، وعليه واجباتهم، ورجوع الاُمور إلى نصابها يكون بأحد أمرين: إمّا نجاح الثورة، وإمّا فشلها، ونجاحها يكون بأحد أمرين: إمّا استجابة الدولة لمطالب الاُمّة، ورجوعها إلى أحكام الله، وفي هذه الحالة ينتهي عمل الثورة إلى هذا الحد. وإمّا الإطاحة بالنظام الفاسد، وقلب الحكم الظالم، وتغييره إلى نظام إسلامي، يتمشّى مع التشريع الذي جاء به كتاب الله الكريم، وعندئذ أيضاً لايكون لزعيم الثورة أو أمير الدفاع، أيّ حق في الحكم، إلاّ إذا اختارته الاُمّة، لشروط توفّرت فيه بعد الهدوء والاجتماع و التفكير والمفاضلة، حسب الشروط المتبعة في اختيار أمير للمؤمنين.
فإذا ضعف المسلمون حتى عن هذا الموقف، وأصبحوا لايستجيبون لداعي الثورة، ويفضّلون طريق السلامة، ويركنون إلى الدعة والاستراحة، جاء المسلك الثالث من مسالك الدين، وهو الشراء: فحق لقلّة منهم إذا بلغوا أربعين شخصاً أن يعلنوا الثورة على الفساد، وبما أنّ هذه الثورة التي يقوم بها عدد قليل، لايتوقّع لها النجاح في كفاحها ضدّ دولة ظالمة مسلّحة، واُمّة مسالمة راضية بالذل، فإن هذا التنظيم يشبه أن يكون شغباً على دولة ظالمة حتى لاتطمئنّ إلى تنفيذ خططها الجائرة، وقد لاتكون لها نتائج غير هذا القلق الذي يخيّم على الظالمين، والتوجّس والخوف الذي يسود أعمالهم وحركاتهم، ولذلك فقد اشترط لهذا التنظيم، شروط قاسية لايقبلها إلاّ الفدائيّون، الذين وهبوا حياتهم لحياة الاُمّة، وذلك أنّه لايحلّ لهم بعد أن ينخرطوا في هذه المؤسّسة، أن يعودوا إلى بلادهم، أو يستقرّوا في أمكنتهم، أو يتخلّوا عن رسالتهم، حتى ينتهي بهم الأمر إلى النجاح أو القتل، والقتل أقرب الأمرين إليهم، وعندما تضطرّ الظروف أحدهم إلى منزله لشأن من شؤون تمديد الثورة،
________________________________________
(290)
كالتزوّد، فإنّه يعتبر في منزله غريباً مسافراً يقصر الصلاة. ولكنّه عندما يكون في شعف الجبال، أو بطون الأدوية، يقطع المواصلات على الطغاة، أو يهدم الجسور التي تمرّبها القطر الظالمة، أو يقتلع اُسس القلاع التي تجمع ذخيرة الجبابرة، حينئذ يعتبر في منزله وبين أهله، وهم في كلّ ذلك لايحلّ لهم أن يروّعوا الآمنين، أو أن يسيئوا إلى المسالمين. إنّه تنظيم رائع للفدائية في الإسلام عندما يتحكّم الظلم، ويستعلي عبيد الشيطان، وتعطّل أحكام الله بأحكام الإنسان، يقول أبو إسحاق: «الشراء من أخص أوصاف الاباضية».
فإذا رضيت الاُمّة بالذل، واستسلمت للظلم، وجرى عليها حكم الطغاة، ولم يقم فيها من يثور لكرامة الإسلام المهدرة، ولالشرف الرسالة التي أعزّت الإنسانية، وتغلّب حبّ الدعة على كلّ فرد، وركن الجميع إلى الراحة، فلم تتكوّن حتى الفدائية التي تقضّ مضاجع الظالمين، وتذكّرهم أنّ حكمهم لن يقر، وأنّ كراسيهم لن تستقر، وأنّ المقاومة لاتزال هي أمل المؤمنين، وانّهم سوف يحاسبون أمام الله، والاُمّة حساباً عسيراً.
إذا ضعفت الاُمّة حتى عن هذه المرتبة، أصبحت تحت التنظيم الأخير، تنظيم الكتمان. وعندئذ يجب أن يبتعد المؤمنون عن مساعدة الظالمين بتولّي الوظائف الظالمة ، وأن تتولّى شؤونهم جمعيات تبثّ فيهم هداية الله، وتملأ قلوبهم بالإيمان بالله، وتنشر فيهم المعرفة والثقافة الاسلامية التي تبصّرهم بدين الله، فلاتكون علاقتهم بالظالمين إلاّ في أيسر طريق، وأضيق مجال، فيما يتعلّق بجباية الأموال المفروضة عليهم للحاكمين، وهي الجمعيّات، أو ما يسمّى في التنظيم الاباضي «بحلقة العزّابة»(1).
________________________________________
1. علي يحيى معمّر: الاباضية في موكب التاريخ، الحلقة الاُولى 93 ـ 96 .