التقية قولاً و عملاً

طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5 ، ص 431 ـ  436
________________________________________
(431)
4 ـ التقية قولاً و عملاً
ذهبت الأزارقة إلى حرمة التقيّة في القول و العمل، بينما ذهبت النجدية إلى جوازها(1) وربّما تنسب حرمة التقيّة إلى جميع الخوارج وإن اُكره المؤمن و خاف القتل(2).
يلاحظ عليه: أنّ التقيّة تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى خمسة، فمنها واجب، و منها حرام، فإنّها تجب لحفظ النفوس، و الأعراض، و الأموال الطائلة، كما إنّها تحرم إذا ترتّبت عليها مفسدة أعظم كهدم الدين و خفاء الحقيقة على الأجيال الآتية.
قال الشيخ المفيد: التقيّة جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقد يجوز في حال دون حال للخوف على المال، و لضروب من الاستصلاح.
________________________________________
1. لاحظ فصل عقائد الخوارج و آرائهم.
2. الامام عبده: المنار 3 / 280، بقلم تلميذه السيد محمّد رشيد رضا، و ما ذكره إنّما هو مذهب الأزارقة لا النجدية و ستعرف أنّ التقيّة من تعاليم الاباضية وكانت هي السبب في بقائهم.

________________________________________
(432)
وأقول: إنّها قد تجب أحياناً و يكون فرضاً، و تجوز أحياناً من غير وجوب، و تكون في وقت أفضل من تركها، و يكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذوراً و معفوّاً عنه، متفضّلاً عليه بترك اللوم عليها.
وأقول: إنّها جائزة في الأقوال كلّها عند الضرورة، و ربّما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح و ليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين ولا فيما يُعْلَم أو يُغْلَب انّه استفساد في الدين، و هذا مذهب يخرج عن اُصول أهل العدل و أهل الامامة خاصّة دون المعتزلة و الزيدية و الخوارج و العامة المتسمّية بأصحاب الحديث(1).
و يكفي في جواز ذلك:
1 ـ قوله سبحانه: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَ لِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءْ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)(2).
فقوله: ( إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ) استثناء من أهم الأحوال، أي أنّ ترك موالاة الكافرين حتم على المؤمنين في كلّ حال، إلاّ في حال الخوف من شيء يتّقونه منهم، فللمؤمنين حينئذ أن يوالوهم بقدر ما يتّقى به ذلك الشيء لأنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.
والاستثناء منقطع، فإنّ التقرّب من الغير خوفاً، بإظهار آثار التولّي، ظاهراً من غير عقد القلب على الحبّ والولاية، ليس من التولّي في شيء، لأنّ الخوف
________________________________________
1. الشيخ المفيد: أوئل المقالات 96 ـ 97. قوله «و العامة المتسمّية بأصحاب الحديث» يعرب عن أنّ غير المعتزلة من أهل السنّة كانوا معروفين في عصر الشيخ (326 ـ 413) بأصحاب الحديث، وأمّا تسمية طائفة منهم بالأشاعرة فإنّما حدث بعد ذلك العصر.
2. آل عمران: 28.

________________________________________
(433)
والحب أمران قلبيّان و متنافيان أثراً في القلب، فكيف يمكن اجتماعهما، فاستثناء الاّتقاء استثناء منقطع.
2 ـ قوله سبحانه: ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَـنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالاِْيمَـنِ * وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(1) فترى انّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً و مجاراة الكافرين خوفاً منهم، بشرط أن يكون القلب مطمئنّاً بالايمان. فلو كانت مداراة الكافرين في بعض الظروف حراماً، فلماذا رخّصه الإسلام و أباحه، وقد اتّفق المفسّرون على أنّ الآية نزلت في جماعة اُكرهوا على الكفر، و هم عمّار و أبوه «ياسر» واُمّه «سميّة»، و قتل أبو عمّار و اُمّه، و أعطاهم عمّار بلسانه، ما أرادوا منه. ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله، فقال قوم: كفر عمّار، فقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : «كّلا، إنّ عمّاراً مُلِئ ايماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه». وجاء عمّار إلى رسول الله و هو يبكي، فقال: «ماوراءك»؟ فقال: «شرّ يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، و ذكرت آلهتم بخير». فجعل رسول الله يمسح عينيه و يقول: «إن عادوا فعدلهم بما قلت» فنزلت الآية(2).
وبذلك يظهر، أنّ تحريم التقيّة على وجه الاطلاق اجتهاد في مقابل النصّ، فإنّ الآية تصرّح بأنّ من نطق بكلمة الكفر مُكْرَهاً و قاية لنفسه من الهلاك، لاشارحاً بالكفر صدراً، ولا مستحسناً للحياة الدنيا على الآخرة، لا يكون كافراً، بل يعذر.
3 ـ (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَـتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَـذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً)
________________________________________
1. النحل: 106.
2. الطبرسي: مجمع البيان 3 / 388 و نقله غير واحد من المفسرين.

________________________________________
(434)
يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ))(1) ويقول أيضاً: (وَجَآءَ )رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَـمُوسَى  إِنَّ الْمَلاََ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّـصِحِينَ )(2).
نعم لوجوب التقيّة أو جوازها شروط و أحكام ذكرها العلماء في كتبهم الفقهية و لأجل ذلك حرّموا التقيّة في موارد، كقتل المؤمن تقيّة، أو ارتكاب محرّم يوجب الفساد الكثير، ولأجل ذلك نرى أنّ كثيراً من عظماء الشيعة و أكابرهم رفضوا التقيّة في بعض الأحايين و تهيّأ وللشنق على حبال الجور، والصلب على أخشاب الظلم. وكلّ من استعمل التقيّة أو رفضها، له الحسنى، وكلّ عمل بوظيفته الّتي عيّنتها ظروفه.
إنّ التاريخ يحكي لنا عن الكثير من رجالات الشيعة الذين تركوا التقيّة و قدَّموا نفوسهم المقدَّسة قرابين للحقّ، و منهم شهداء «مرج العذراء» و قائدهم الصحابّي العظيم الّذي أنهكته العبادة و الورع، حجر بن عدي الكندي، الّذي كان من قادة الجيوش الاسلامية الفاتحة للشام.
و منهم ميثم التمّار، و رشيد الهجري، و عبد الله بن يقطر الذين شَنَقهم ابن زياد في كناسة الكوفة، هؤلاء والمئات من أمثالهم هانت عليهم نفوسهم العزيزة في سبيل الحقّ، ونطحوا صخرة الباطل، بل وجدوا العمل بالتقيّة حراماً، ولو سكتوا وعملوا بها وأصبح دين الإسلام دينَ معاوية و يزيد و زياد و ابن زياد، دينَ المكر، ودينَ الغدر، ودينَ النفاق، ودينَ الخداع، دين كل رذيلة، و أين هو من دين الإسلام الحقّ، الّذي هو دين كل فضيلة، اُولئك هم أضاحي الإسلام و قرابين الحق.
________________________________________
1. غافر: 28.
2. القصص: 20.

________________________________________
(435)
و فوق اُولئك، امام الشيعة، أبو الشهداء الحسين و أصحابه الذين هم سادة الشهداء و قادة أهل الإباء.
وبذلك ظهر أنّ ايجاب التقيّة على الاطلاق و تحريمها كذلك، بين الافراط والتفريط. والقول الفصل هو تقسيم التقيّة إلى الواجب والحرام، أو إلى الجائز ـ بالمعنى الأعم ـ والحرام.
و بما أنّ الشيعة اشتهرت بالتقيّة بين سائر الفرق، و ربّما تُزرى بها و تُتَّهم بالنفاق فقد أشبعنا الكلام فيها، و بيّنا، الفرق بين التقيّة و النفاق في أبحاثنا الكلامية(1).
و هناك كلمة للعلاّمة المحقّق السيد الشهرستاني نأتي بها هنا:
قال: المراد من التقيّة إخفاء امر ديني لخوف الضرر من إظهاره، و التقيّة بهذا المعنى، شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية، إلاّ أنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقيّة أكثر من غيرها، لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أيّ اُمّة اُخرى، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأمويّة كلِّه، و في عهد العباسيين على طوله و في أكثر أيام الدولة العثمانية ولأجله استشعروا شعار التقيّة أكثر من أيّ قوم، ولمّا كانت الشيعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في اُصول الدين، و في كثير من المسائل الفقهية، و تستجلب المخالفة (بالطبع) رقابة و حزازة في النفوس، و قد يجرّ إلى اضطهاد أقوى الحزبين لأضعفه، أو اخراج الأعزّ منهما الأذلّ كما يتلوه علينا التاريخ و تصدّقه التجارب، لذلك أضحت شيعة الأئمّة من آل البيت تضطرّ في أكثر الأحيان إلى الكتمان لصيانة النفس و النفيس، والمحافظة على الوداد و الاُخوّة مع سائر اخوانهم المسلمين،
________________________________________
1. لاحظ الإلهيّات 2 / 925 ـ 933 بقلم حسن محمد مكي العاملي .
________________________________________
(436)
لئلاّ تنشق عصا الطاعة، و لكيلا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في الجامعة الاسلامية فيوسّعوا الخلاف بين الاُمّة المحمّدية(1).
* * *
________________________________________
1. محمّد علي الشهرستاني (ت 1386): تعاليق أوائل المقالات 96 نقلاً عن مجلّة المرشد 252 ـ 256.