المرجئة

طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 73 ـ  77
________________________________________
(73)
2

المرجئة
المرجئة على وزن المرجعة بصيغة الفاعل من أرجأ الأمر: أخّره. وترك الهمزة لغة. قال في اللِّسان: أرجأت الأمر وأرجيته: إذا أخّرته. وقرئ أرجه، وأرجئه قال تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) (الأحزاب /51) و«الإرجاء» التأخير، والمرجئة صنف من المسلمين والنّسبة إليه مرجئيّ مثال مرجعي(1).
وقال ابن الأثير في (النِّهاية): المرجئة تهمز، ولاتهمز وكلاهما بمعنى التّأخير، يقال: أرجأته وأرجيته: إذا أخّرته فنقول من الهمز رجل مرجئي، وهم المرجئة وفي النسب: مرجئي مثال مرجع ومرجعة ومرجعيّ، وإذا لم تهمز قلت: رجل مرج ومرجية ومرجيّ مثل معط ومعطية ومعطيّ(2).
وظاهر كلامهما أنّها مأخوذة من الإرجاء بمعنى التّأخير، ويحتمل أن يكون مأخوذاً من الرجاء أي الأمل. والمشهور هو الأوّل. وسرّ تسميتهم بالمرجئة بمعنى المؤخِّرة أحد الوجهين:
1ـ طال التشاجر في معنى الإيمان في العصر الأوّل، وحدثت آراء وأقوال حول حقيقته بين الخوارج والمعتزلة، فذهبت المرجئة إلى أنّه عبارة عن مجرّد الإقرار بالقول
________________________________________
1. لسان العرب مادة «رجأ». 2. النهاية ج 2 ص 206 نفس المادة.
________________________________________
(74)
والّلسان وإن لم يكن مصاحباً للعمل، فأخذوا من الإيمان جانب القول، وطردوا جانب العمل، فكأنّهم قدّموا الأوّل وأخّروا الثاني واشتهروا بمقولتهم: «لاتضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة».
وعلى هذا، فهم والخوارج في هذه المسألة على جانبي نقيض، فالمرجئة لا تشترط العمل في حقيقة الايمان، وترى العاصي ومرتكب الذُّنوب، صغيرها وكبيرها، مؤمناً حتّى تارك الصلاة والصوم، وشارب الخمر، ومقترف الفحشاء.. والخوارج يضيّقون الأمر فيرون مرتكب الكبيرة كافراً، ولأجل ذلك قاموا بتكفير عثمان للأحداث الّتي انجرّت إلى قتله وتكفير علي ـ عليه السلام ـ لقبوله التحكيم وإن كان عن اضطرار.
ويقابلهما المعتزلة أيضاً القائلون بأنّ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا فاسق بل في منزلة بين الأمرين فزعمت أنّها أخذت بالقول الوسط بين المرجئة والخوارج.
والقول المشهور بين السنّة والشيعة أنّه مؤمن فاسق، وسيوافيك القول في حقيقة الإيمان عند البحث عن عقائد المعتزلة والخوارج.
ولعلّه إلى ذلك الوجه أيضاً يرجع ما ذكره ابن الاثير في نهايته بأنّهم سمّوا مرجئة لاعتقادهم بأنّ الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي، أي أخّر عنهم.
يلاحظ على هذا الوجه: أنّ القوم وإن أخّروا العمل وأخرجوه عن كونه مقوّماً للايمان أو بعضه، ولم يعتبروه جزءاً و شرطاً، ولكن لم يتّفقوا على تفسيره بالقول المجرّد، والاقرار باللّسان، بل لهم آراء في ذلك.
فاليونسيّة منهم (أتباع يونس بن عون) زعمت أنّ الإيمان في القلب واللسان. وإنّه هو المعرفة بالله، والمحبّة، والخضوع له بالقلب، والإقرار باللّسان، أنّه واحد ليس كمثله شيء(1).
والغسّانية (أتباع غسّان المرجئ) زعمت أنّ الإيمان هو الاقرار أو المحبّة لله تعالى،
________________________________________
1. الفرق بين الفرق ص 202 ط مصر.
________________________________________
(75)
فاكتفت بأحد الأمرين من الإقرار أو المحبّة لله(1). إلى غير ذلك من الأقوال والآراء لهم في حقيقة الإيمان(2).
وعلى ضوء هذا لا يصحّ أن يقال إنّ المرجئة هم الّذين قدّموا القول وأخّروا العمل. بل أخّروا العمل جميعاً و أمّا غيره فقد اكتفوا في تحقّق الايمان تارة بالاذعان القلبي، وأُخرى بالاقرار باللسان، هذه ملاحظة بسيطة حول هذه النظرية. وهناك ملاحظة أُخرى ربّما تبطل أصلها وهي:
أنّ التّاريخ يدلّ على أنّ أوّل من قال بالإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة، لا بمعنى تقديم القول أو الاذعان القلبي وتأخير العمل، بل المراد تقديم القول في الشيخين وتصديقهما، وتأخير القول في حقّ عثمان وعليّ وطلحة والزبير وإرجاء أمرهم إلى الله سبحانه، والتوقّف فيهم. وإليك النّصوص التاريخيّة الّتي تدلّنا على أنّ أساس الإرجاء هوالتوقّف في حق الخليفتين الأخيرين والمقاتلين لهما.
قال ابن سعد: «كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة أوّل من تكلّم بالإرجاء وعن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد بن عليّ، فلاماه على الكتاب الّذي وضعه على الإرجاء. فقال لزاذان: «يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه» وتوفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز» ! (3).
وقال ابن كثير في ترجمة الحسن: «وكان عالماً فقيهاً عارفاً بالاختلاف والفقه. وقال أيّوب السختياني وغيره: كان أوّل من تكلّم في الإرجاء، وكتب في ذلك رسالة، ثمّ ندم عليها. وقال غيرهم: كان يتوقّف في عثمان وطلحة والزّبير، فلا يتولاّهم، ولا يذمّهم. فلمّا بلغ ذلك أباه محمّد بن الحنفيّة ضربه فشجّه وقال: ويحك ألاّ تتولّى أباك عليّاً. وقـال أبوعبــيد: توفّي ســنة خمس وتسعـين. وقال خليـفة: توفّي أيّام عـمر بن عبـد العـزيـز
________________________________________
1. الفرق بين الفرق ص 202 ط مصر. 2. فصل الأشعري في المقالات اختلافهم في الايمان، وجعلهم اثنتا عشرة فرقة لاحظ ص 135 ـ 136. 3. الطبقات الكبرى ج 5 ص 328.
________________________________________
(76)
والله أعلم»(1).
وقال ابن عساكر في تاريخه: «قال عثمان بن إبراهيم بن حاطب: أوّل من تكلّم في الإرجاء هو الحسن بن محمّد. كنت حاضراً يوم تكلّم، وكنت مع عمّي في حلقته، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه. فتكلّموا في عليّ وعثمان وطلحة والزبير، فأكثروا، والحسن ساكت، ثمّ تكلّم فقال: قد سمعت مقالكم. أرى أن يرجأ عليّ وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولايتبرّأ منهم. ثمّ قال: فقمنا، فقال لي عمر: يا بنيّ ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً. فبلغ أباه محمّد بن الحنفيّة ما قال، فضربه بعصا فشجّه وقال: ألاّ تتولّى أباك عليّاً. ودخل ميسرة عليه فلامه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء، فقال: لوددت أنّي كنت مِتّ ولم أكتبه»(2).
وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة الحسن ما هذا خلاصته:
«قال ابن حبان: كان الحسن من علماء الناس بالاختلاف وقال سلام بن أبي مطيع عن أيّوب: أنّا أتبرّأ من الإرجاء. إنّ أوّل من تكلّم فيه رجل من أهل المدينة يقال له الحسن بن محمّد. وقال عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة أنّهما دخلا على الحسن بن محمّد فلاماه على الكتاب الّذي وضعه في الإرجاء، فقال لزاذان: يا أبا عمرو لوددت أنّي كنت مِتُّ ولم أكتبه.
قلت (ابن حجر): المراد بالإرجاء الّذي تكلّم الحسن بن محمّد فيه، غير الارجاء الّذي يعيبه أهل السنّة المتعلّق بالايمان، وذلك أنّي وقفت على كتاب الحسن بن محمّد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب الايمان له في آخره قال: حدّثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أعين قال: كان الحسن بن محمّد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على النّاس: أما بعد، فإنا نوصيكم بتقوى الله. فذكر كلاماً في الموعظة والوصيّة لكتاب الله واتّباع ما فيه وذكر اعتقاده ـ ثمّ قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر ـرضي الله عنهما ـ ونجاهد فيهما، لأنّهما لم تقاتل عليهما الأمّة ولم نشكّ في أمرهما، ونرجئ من
________________________________________
1. البداية والنهاية ج 9 ص 140. 2. تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 246 طبع دمشق 1332 هـ.
________________________________________
(77)
بعدهما ممّن دخل الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله ـ إلى آخر الكلام. فمعنى الّذي تكلّم فيه الحسن أنّه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئاً أو مصيباً وكان يرى أنّه يرجئ الأمر فيهما، وأمّا الإرجاء الّذي يتعلّق بالايمان فلم يعرج عليه فلا يلحقه بذلك عاب»(1).
________________________________________
1. تهذيب التهذيب: ج 2، ص 320 ـ 321.