في أنّ أفعال العباد، ليست مخلوقة للّه سبحانه

طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 348 ـ365
________________________________________
(348)
المسألة الثانية:
في أنّ أفعال العباد، ليست مخلوقة للّه سبحانه
من فروع القول بالعدل كون فعل الإنسان فعله، لا فعل خالقه.
توضيحه: أنّ أهل الحديث و الأشاعرة يعتقدون بكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه، وعندئذ يلزم على أصول الاعتزال كونه سبحانه موصوفاً بفعل القبيح، وذلك لأنّ أفعال العباد بين حسن وقبيح، فلو كان هو الفاعل يلزم أن يكون فاعل القبيح. ثمّ الجزاء على القبيح قبيح مع كون الفاعل هو الله سبحانه.
ويفصّل القاضي الأقوال في المسألة على النّحو التالي:
1- العباد هم المحدثون لأفعالهم، ويقابلهم الجبريّة كالجهميّة القائلون بأنّ أفعالهم مخلوقة للّه ولا تعلّق لها بالعباد.
2- من ذهب إلى كونها مخلوقة للّه ولكن لها تعلّق بهم من جهة الكسب.
3- من سوّى في هذه القضيّة بين المباشر و المتولّد، وقال: كلاهما مخلوق للّه سبحانه ومتعلّق بنا من جهة الكسب، وينسب هذا إلى ضرار بن عمرو.
4- ومنهم من فصل بين المباشر والمتولّد، فقال: إنّ المباشر خلق الله تعالى فينا متعلّق بنا من حيث الكسب، وأمّا المتولّد كالاحراق بعد الالقاء فالله تعالى متفرّد بخلقه.
وبما أنّا استوفينا الكلام في عقيدة الأشاعرة و مفهوم الكسب في الجزء الثاني،
________________________________________
(349)
نركّز البحث هنا على عقيدة المعتزلة. فالمنقول عنهم تفويض، أفعال العباد إلى أنفسهم وأنّهلا شأن للّه سبحانه في أفعال عباده، فذواتهم مخلوقة للّه و أفعالهم مفوّضة إلى أنفسهم.
وبعبارة ثانية: العباد في ذواتهم محتاجون إلى الواجب لا في أفعالهم و حركاتهم وسكناتهم. فالمعتزلة في كتب الأشاعرة والشّيعة الإماميّة، مرميّة بهذه العقيدة، وإليك نقل ما يعرب عن مذهبهم:
1- قال الأشعري: «زعمت المعتزلة أنّ الله تعالى لم يخلق الكفر والمعاصي ولا شيئاً من أفعال غيره. وأنّ الله خلق الكافر لا كافراً، ثمّ إنّه كفر وكذلك المؤمن، واختلفت في الإنسان يخلق فعله أم لا، على ثلاث مقالات:
فزعم بعضهم أنّ معنى فاعل و خالق واحد، وأنّا لا نطلق ذلك في الإنسان لأنّا مُنعنا منه.
وقال بعضهم: هو الفعل لا بآلة ولا بجارحة، وهذا يستحيل منه.
وقال بعضهم: معنى خالق: أنّه وقع منه الفعل مقدّراً، فكلّ من وقع فعله مقدّراً فهو خالق، قديماً كان أم محدثاً
»(1).
وحاصله أنّهم لم يقولوا بكون أفعال العباد مخلوقة للِّه، وأمّا كونها مخلوقة لأنفسهم فمن فسّر الخلق بالايجاد لا بآلة ولا بجارحة، فمنع عن الاطلاق. وأمّا من فسّر الخلق بالتّقدير فقد جوّزه، وسيوافيك التصريح من أبي بكر الأنباري و غيره أنّ الخلق ربّما يستعمل في التّقدير.
2- وقال البغدادي: «وقالت المعتزلة: إنّ الله تعالى غير خالق لأكساب الناس، ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وقد زعموا أنّ الناس هم الّذين يقدرون على أكسابهم و أنّه ليس للّه عزّوجلّ في أكسابهم ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع و تقدير»(2).
________________________________________
1. مقالات الاسلاميين: ص 295 ط 2. 2. الفرق بين الفرق: ص 114 ـ 115.
________________________________________
(350)
3- وقال القاضي عبدالجبّار: «ذكر شيخنا أبو عليّ ـ رحمه اللِّه ـ: اتّفق كلّ أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم و قيامهم و قعودهم، حادثة من جهتهم، وأنّ الله عزّوجلّ أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها ومحدثها، فقد عظم خطاؤه، وأحالوا حدوث فعل من فاعلين»(1).
4- وقال أيضاً: «نحن نبيّن أنّ العبد إنّما يقدر على إحداث و إيجاد، وأنّ القدرة لا تتعلّق بالشّيء إلاّ على طريق الحدوث، وأنّه يستحيل أن يفعل الشيء من وجهين، ويستحيل تعلّق الفعل بفاعلين محدثين، أو قديم ومحدث.... و نبيِّن من بعد إبطال قول من أضاف أفعال العباد إلى الله تعالى. ونذكر ما يلزمهم على قوده من الفساد، والخروج عن الدّين، والتزام جحد الضروريات»(2).
5- قال صدر المتألّهين: «ذهبت جماعة إلى أنّ الله أوجد العباد و أقدرهم على بعض الأفعال، وفوّض إليهم الاختيار، فهم مستقلّون بايجادها على وفق مشيئتهم و طبق إرادتهم»(3).
وهذه النصوص الخمسة من أكابر الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة، تحاول أن ترميهم بالتّفويض و إن لم تكن في الصّراحة بمكان يجزم الإنسان معها بصحّة النّسبة. ولأجل ذلك يلزم المزيد من التتبّع في كتبهم الّتي قصرت أيدينا عنها. ولأجل التّوضيح نبحث عن اُمور:
1- لا شكّ في وجود القول بالتّفويض في عصر الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ كيف وقد طلب عبدالملك بن مروان (ت86هـ)، من عامله في المدينة، أن يوجّه محمّد بن علي الباقر إلى الشام حتّى يناظر قدريّاً أعيى الشاميين جميعاً. فبعث الإمام ولده جعفراً الصادق ـ عليه السلام ـ . فلمّا ورد الشام واجتمع مع القدري، فقال للإمام: سل عمّا شئت. فقال: إقرأ سورة الحمد. قال: فقرأها... حتّى بلغ قول الله تبارك و تعالى: (إيّاك نَعْبُدُ وَ)
________________________________________
1. المغني: ج 6، الارادة ص 41 و ج 8، ص 1. 2. المغني: ج 6، الارادة ص 41 و ج 8، ص 1. 3. رسالة خلق الأعمال.
________________________________________
(351)
إِيَّاكَ نَسْتَعِين)) فقال له جعفر ـ عليه السلام ـ: قف. من تستعين؟ ما حاجتك إلى المعونة؟ إنّ الأمر إليك. فبهت القدري(1).
2- تضافر عنهم ـ عليهم السلام ـ التّنديد بالجبر والتّفويض بمضامين مختلفة، نأتي بواحد منها حتّى تقف على ما يشابهه:
سأل محمّد بن عجلان الصّادق ـ عليه السلام ـ أنّه هل فوّض الله الأمر إلى العباد؟ قال: «الله أكرم من أن يفوّض إليهم. قال: فأجبرهم على أفعالهم؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه»(2).
3- تضافر عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ قولهم: «لا جبر ولا تفويض» وذلك يدفعنا إلى القول بوجود المفوِّضة في زمن صدور هذه الروايات بين الأُمة الإسلاميّة، ويرجع صدورها إلى أواخر القرن الأوّل، وأواسط القرن الثاني.
4- إنّما الكلام في أنّ المعتزلة هل هم المعنيّون في هذه الأخبار، أو هم غيرهم، وهذا هو الّذي يحتاج إلى دراسة عميقة بالغور في الآثار الباقية من المعتزلة.
أمّا ما نقلناه من «المغني» فهو محتمل الوجهين، فيمكن أن يكون إشارة إلى استقلال العباد في أفعالهم و أعمالهم كما نسب إليهم صدر المتألّهين. كما أنّه يمكن أن يكون قوله: «لا فاعل لأفعال العباد ولا محدث لها سواهم»، هو نفي كونها مخلوقة للّه سبحانه مباشرة وبلا واسطة. والشاهد عليه قوله فيما بعد: «وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها و محدثها، فقد عظم خطاؤه و أحالوا حدوث فعل من فاعلين».
فالعبارة بصدد نفي كون فعل العباد مخلوقاً للّه مباشرة على النّحو الّذي يذهب إليه أهل الحديث و الأشاعرة. وهذا غير القول باستقلال العباد في أفعالهم و غناهم عن الواجب في أعمالهم.
________________________________________
1. بحار الأنوار: ج 5، ص 55 ـ 56. 2. المصدر نفسه: ص 51.
________________________________________
(352)
وبعبارة ثانية: كان المذهب في أفعال العباد أحد أمرين: كون أفعالهم مخلوقة للّه مباشرة و بلا واسطة، أو كون أفعالهم مخلوقة للعبد كذلك. فأهل الحديث والأشاعرة على الأوّل، والمعتزلة على الثاني. لكنّ القول بالثاني ليس بمعنى انقطاع عمل العباد عن الله سبحانه، وعدم انتهاء سلسلة العلل إلى الحقّ عزّ اسمه.
نعم، لم يكن الأمر بين الأمرين شيئاً مفهوماً لديهم حتّى يعتقدوا به، لأنّه من الكنوز العلميّة الّتي ظهرت من معادن العلم و أهل بيت النبوّة. ولكن عدم الوقوف على هذا المذهب غير الاعتقاد على التّفويض و الاذعان بالمعنى الباطل الّذي لا يفارق الشّرك.
5- إنّ ما استدلّ به القاضي على مذهبه لا يثبت سوى نفي الجبر و كون أفعال العباد غير مخلوقة للّه سبحانه. وأمّا التّفويض الّذي اتّهم به، فلا تثبته أدلّته، وإليك بعض ما استدلّ به على ردّ الخصم على وجه الاجمال:
الأوّل : قال: «والّذي يدلّ على ذلك أن نفصل بين المحسن والمسيء، وبين حسن الوجه وقبيحه. فنحمد المحسن على إحسانه و نذمّ المسيء على إساءته. ولا تجوز هذه الطّريقة في حسن الوجه وقبيحه. فلولا أنّ أحدهما متعلّق بنا بخلاف الآخر، لما وجب هذا الفصل»(1).
الثاني : قال: «لو صحّ الجبر لزمهم التّسوية بين الرسول و إبليس، لأنّ الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراد الله تعالى منهم، كما أنّ إبليس يدعوهم إلى ذلك، بل يلزمهم أن يكون حال الرسول أسوأ من حال إبليس»(2).
الثالث : قال: «يلزم قبح مجاهدة الكفّار، لأنّ للكفرة أن يقولوا لماذا تجاهدونا؟ فإن كان جهادكم إيّانا على ما لا يريده الله تعالى منّا ولا يحبّه، فالجهاد لكم أولى و أوجب، وإن كان الجهاد لنا على ما خلق فينا...فذلك جهاد لا معنى له»(3).
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 333 و 335 و 336. 2. شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 333 و 335 و 336. 3. شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 336.
________________________________________
(353)
إلى غير ذلك من الأدلّة الّتي أقامها القاضي على نفي الجبر، فلا يجد الإنسان في كتابه ما يثبت به التّفويض ولو بصورة الدّليل.
6- إنّ فكرة التّفويض فكرة ثنويّة لا يعرج عليها مسلم واع، عارف بالكتاب والسنّة وبدايات الفلسفة الإلهيّة، ولا ينطق بها من وقف على موقف الممكن من الواجب، وواقعيّة العلل و المعاليل الامكانيّة بالنّسبة إلى الواجب المكوِّن لها بأسرها، فإنّ صفحة الوجود الامكاني صفحة فقيرة متدلّية بالذات قائمة بالغير، ذاتاً كان أم فعلاً. ونسبة الوجود الامكاني إلى الوجود الواجبي، كنسبة الوجود الحرفي إلى الاسمي. وعندئذ كيف يعقل لموجود امكاني الاستقلال في التّأثير والفعل من دون أن يستند إلى الواجب و يعتمد عليه.
وبعبارة ثانية: كما أنّه ليس للمعنى الحرفي الخروج عن إطار المعنى الاسمي في المراحل الثلاث: التصور، والدلالة، والتحقّق في الخارج، فهكذا المعلول الامكاني بهويّته و أفعاله، فليس له الخروج عن إطار العلّة الواجبة في حال من الحالات.
هذا، وقد أوضحنا بطلان التّفويض كتاباً و عقلاً في أبحاثنا الكلاميّة(1).
7- هنا مسألتان:
الاُولى: هل أفعال العباد مفوّضة إليهم أنفسهم أو لا؟
الثانية: هل الذّوات الامكانيّة محتاجة إلى الواجب في حدوثهم فقط، أو في حدوثهم و بقائهم؟ فمن قال بالأوّل وجب له القول بالتّفويض في الأفعال بوجه أولى، لأنّ الذات إذا كانت غنيّة عن الواجب في بقائه، فأولى أن يكون كذلك في أفعالها.
قال الشيخ الرئيس في إشاراته: «وقد يقولون إنّه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل، حتّى إنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء و قوام البناء، وحتّى إنّ كثيراً منهم لا يتحاشى أن يقول: لو جاز على الباري تعالى
________________________________________
1. لاحظ «الالهيات في الكتاب والعقل والسنة» الجزء الثاني 321ـ 331.
________________________________________
(354)
العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم، لأنّ العالم عندهم إنّما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده أي أخرجه من العدم إلى الوجود، حتّى كان بذلك فاعلاً. فإذا قد فعل و حصل له الوجود عن العدم، فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود عن العدم حتّى يحتاج إلى الفاعل»(1).
أقول: ما نقله الشيخ عنهم مبنيّ على أنّ مناط حاجة الممكن إلى العلّة هل هو إمكانه أو حدوثه، فمن قال بالثاني، صوّر الممكن غنياً في بقائه ـ فضلاً عن فعله ـ عن الواجب. ومن قال بالأوّل، أظهر الممكن محتاجاً في كلِّ حال من الأحوال إلى الواجب حدوثاً و بقاءً و ذاتاً و فعلاً. وبما أنّ التّحقيق كون مناط الحاجة هو الامكان، فإذاً يصبح التّفويض أمراً باطلاً لا يحتاج إلى التّدليل أكثر من ذلك.
ولأجل ذلك نأتي ببعض الدّلائل المتقنة على أنّ مناط الحاجة هو الامكان، و هو لا يزول عن الممكن أبداً. فذاته تتعلّق به دائماً، فكيف بأفعاله، فانتظر.
8- الظّاهر من الشيخ المفيد موافقة المعتزلة للإماميّة في مسألة أفعال العباد. قال: «إنّ الله عدل كريم ـ إلى أن قال: ـ جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال، و تعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال. لا يعذّب أحداً إلاّ على ذنب فعله، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة، فإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً.
وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامة، وبه تواترت الآثار عن آل محمّد ـ عليهم السلام ـ وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلاّ ضراراً منها و أتباعه. وهو قول كثير من المرجئة، وجماعة من الزيديّة والمحكّمة، و نفر من أصحاب الحديث، وخالف فيه جمهور العامّة و بقايا ممّن عددناه
»(2).
وماذكره الشيخ المفيد يعرب عن أنّ المعتزلة في ذلك العصر لم تكن معتقدة بالتّفويض، وإلاّ لم يعدّها الشيخ متّحدة مع الإماميّة القائلة بنفي الجبر و التفويض
________________________________________
1. الاشارات، للشيخ الرئيس: ج 3، ص 68. 2. أوائل المقالات: ص 24 ـ 25.
________________________________________
(355)
معاً.
9- يظهر من المفيد أنّ المراد من التّفويض الوارد في الروايات غير ما هو المصطلح بيننا حيث قال: «الجبر هو الحمل على الفعل و الاضطرار إليه بالقهر و الغلبة. وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون له قدرة على دفعه، والامتناع من وجوده فيه.... والتّفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال، والاباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال. وهذا قول الزّنادقة و أصحاب الاباحات. والواسطة بين هذين القولين أنّ الله أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك... إلى آخر ما أفاده»(1).
10- هل يصحّ إطلاق «الخلق» في مورد فعل الإنسان، أو يختصّ «الخلق» بفعل الله سبحانه؟
لا شكّ أنّ الله سبحانه هو الخالق، وأنّه خلق السّموات و الأرض بجواهرها وأعراضها. إنّما الكلام في أنّه هل يصحُّ استعمال كلمة الخلق في مورد فعل الإنسان، فإذا قام أو قعد يصحّ لنا أن نقول: «خلق القيام والقعود» أو إذا أكل و شرب هل يصحّ لنا أن نقول: «خلق الأكل و الشرب» أو لا يجوز ذلك إلاّ في مورد يكون هناك عناية في استعمال هذه اللّفظة.
والرائج في مصطلح القرآن هو التّعبير بالكسب والفعل. قال سبحانه: (لها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة/286).
وقال تعالى: (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (النمل/33).
وقال سبحانه: (لمَ تَقُولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ) (الصف/2).
فالتّعبير الرائج عن أفعال الإنسان بصورة عامّة هو الكسب و الفعل، وبصورة خاصّة هو الأفعال المخصوصة من الأكل و الشرب.
________________________________________
1. شرح عقائد الصدوق، ص 14 ـ 15.
________________________________________
(356)
وأمّا استعمال كلمة الخلق في مورد الفعل بأن يقال: «خلق الفعل و العمل» فليس بمعهود، وإنّما هو اصطلاح تسرّب إلى كلمات المحدِّثين والمتكلِّمين في نهاية القرن الأوّل وأوائل الثاني، حتّى قام البخاري بتأليف أسماه «خلق الأعمال».
قال الشيخ المفيد: «إنّ الخلق يفعلون، و يحدثون، ويخترعون، ويصنعون، ويكتسبون، ولا أطلق القول عليهم بأنّهم يخلقون ولا لهم خالقون، ولا أتعدّى ذكر ذلك فيما ذكر الله تعالى، ولا أتجاوز به مواضعه من القرآن، وعلى هذا القول إجماع الإماميّة، والزيديّة، والبغداديّين من المعتزلة، وأكثر المرجئة، وأصحاب الحديث، وخالف فيه البصريّون من المعتزلة، و أطلقوا على العباد أنّهم خالقون، فخرجوا بذلك من إجماع المسلمين»(1).
أمّا القرآن فلم يصف فعل الإنسان بما هو فعله من دون أن يحدث هيئة أو تركيباً بالخلق إلاّ في مورد واحد، قال سبحانه: (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً و تَخْلُقُونَ إِفْكاً)(العنكبوت/17) مع أنّه يحتمل أن يكون الخلق فيه بمعنى الكذب.
قال في اللّسان: «الخلق: الكذب. وخلق الكذب والإفك: افتراه، ابتدعه. ومنه قوله سبحانه: (وتخلقون إفكا) و منه أيضاً قوله سبحانه: (إنْ هَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلين) أي كذب الأوّلين(2).
نعم، وصف القرآن عمل المسيح بالخلق، لكن في مورد خاصّ وهو إحداث صورة وهيئة وتركيب في الخارج. فعندما جعل من الطّين كهيئة الطّير، خاطبه سبحانه بقوله: (وإذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتكونُ طَيراً بِإِذْنِي) (المائدة/110) وعليه يحمل قوله سبحانه: (فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ خَالِقِينَ)(المؤمنون/14).
وأمّا في غير هذه الصورة، كالفعل المجرّد عن إحداث شيء مثل المشي و القعود،
________________________________________
1. اوائل المقالات: ص 25. 2. لسان العرب: مادة خلق.
________________________________________
(357)
فلم يعهد توصيفه بالخلق، وإنّما حدث هذا الاصطلاح (أي خلق الأفعال و الأعمال) في أواخر القرن الأوّل و أوائل الثاني. ولأجل ذلك تنصرف الاطلاقات الواردة في القرآن الكريم من أنّه خالق كلّ شيء إلى غير أفعاله.
هذا من حيث القرآن. وأما اللّغة، فالظاهر من «اللّسان» التفريق بين الخلق بمعنى الانشاء على مثال أبدعه، والخلق بمعنى التّقدير، والأوّل يختصّ بالله سبحانه، والثاني يعمّه و غيره، وعليه حملوا قوله سبحانه: (أحسن الخالقين) (أي المقدّرين).
قال في اللّسان: «الخلق بمعنى التقدير، وخلق الأديم يخلقه خلقاً: قدّره لما يريد قبل القطع، وقاسه ليقطع منه»(1).
ولأجل ذلك، فالأولى في عنوان البحث مكان خلق الأعمال أن يقال: هل أفعال العباد مستندة إلى الله سبحانه فقط، أو إلى العباد فقط، أو إليهما معاً، أو ما يشبه ذلك؟
11- إنّ الأبحاث العقليّة لا تدور مدار صحّة التّسمية. فسواء أصحّ توصيف أفعال العباد بالخلق أم لا، ففعل الإنسان بما أنّه من الموجودات الامكانيّة، لا يخرج من كتم العدم إلى حيِّز الوجود إلاّ بعلّة واجبة أو ممكنة منتهية إلى الواجب. فعلى الأوّل يكون فعلاً مباشرياً له، وعلى الثاني يكون فعلاً تسبّبياً له.
وبذلك يظهر بطلان كلا المذهبين، أمّا الجبر ـ وهو تصوير أنّ العلّة التامّة للفعل هو الواجب ـ فيلزم من كون الفعل الصادر من العبد فعلاً مباشريّاً للواجب، وكيف يمكن أن يكون الأكل، والشرب، والمشي، والقعود أفعالاً له مع انّ ماهيات هذه الأفعال واقعة بأعمال الجوارح من الإنسان.
وأمّا التفويض ـ وهو تصوير استقلال العبد في مقام الفعل والعمل ـ فلازمه كون الإنسان فاعلاً واجباً في مقام الفعل غير محتاج إلى الواجب في عمله، ومرجعه إلى الثّنويّة في الاعتقاد، والشرك في الفاعليّة.
________________________________________
1. لسان العرب: مادة خلق.
________________________________________
(358)
فلا مناص من رفض القولين واختيار مذهب بين المذهبين الّذي يدعمه العقل، والكتاب، وأحاديث العترة الطاهرة. ومن أراد الوقوف على حقيقته فعليه بالمؤلفات الكلامية لأصحابنا الإماميّة.
12- إنّ الجنوح إلى التّفويض لأحد أمرين أو كليهما :
ألف - كون الحادث في حدوثه محتاجاً إلى الواجب لا في بقائه. فإذا كان هذا حال الذات فيكون الفعل الصادر عنها غير مستند إليه بوجه أولى؟!
ب - لو كان الفعل مستنداً إلى خالق العبد ونفسه يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد. ولأجل إيضاح حال كلا الدّليلين نبحث عن كلّ منهما مستقلاّ ً.
مناط الحاجة إلى العلّة هو الامكان لا الحدوث
إنّ هذا الأصل (كون مناط الحاجة إلى العلّة هو الحدوث لا الامكان) الّذي بنت عليها المفوِّضة نظريّتهم في أفعال العباد، بل و آثار كلِّ الكائنات، باطل من وجوه:
الوجه الأوّل: إنّ مناط حاجة المعلول إلى العلّة هو الامكان أي عدم كون وجوده نابعاً من ذاته، أو كون الوجود والعدم بالنّسبة إلى ذاته متساويين،وهذا الملاك موجود في حالتي البدء والبقاء. وأمّا الحدوث فليس ملاكاً للحاجة فإنّه عبارة عن تحقّق الشّيء بعد عدمه و مثل هذا، أمر انتزاعيّ ينتزع بعد اتّصاف الماهيّة بالوجود، وملاك الحاجة يجب أن يكون قبل الوجود لا بعده.
إنّ الحدوث أمر منتزع من الشّيء بعد تحقّقه، و يقع في الدرجة الخامسة من محلّ حاجة الممكن إلى العلّة، وذلك لأنّ الشيء يحتاج أوّلاً، ثمّ تقترنه العلّة ثانياً، فتوجده ثالثاً، فيتحقّق الوجود رابعاً، فينتزع منه وصف الحدوث خامساً. فكيف يكون الحدوث مناط الحاجة الّذي يجب أن يكون في المرتبة الاُولى، وقد اشتهر قولهم : الشيء قرّر (تصوّر)، فاحتاج، فأُوجد، فوجد، فحدث.
________________________________________
(359)
وبعبارة ثانية : ذهب الحكماء إلى أنّ مناط الحاجة هو كون الشّيء (الماهيّة) متساوي النّسبة إلى الوجود والعدم، وأنّه بذاته لا يقتضي شيئاً واحداً من الطّرفين، ولا يخرج عن حدِّ الاستواء إلاّ بعلّة قاهرة تجرّه إلى أحد الطّرفين و تخرجه عن حالة اللاّاقتضاء إلى حالة الاقتضاء.
فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك (إنّ الشيء بالنّظر إلى ذاته لا يقتضي شيئاً) فهو موجود في حالتي الحدوث و البقاء، والقول باستغناء الكون في بقائه عن العلّة، دون حدوثه، تخصيص للقاعدة العقليّة الّتي تقول: إنّ كلّ ممكن ما دام ممكناً، بمعنى ما دام كون الوجود غير نابع من ذاته، يحتاج إلى علّة، وتخصيص القاعدة العقليّة مرفوض جدّاً.
ويشير الحكيم المتألّه الشيخ محمد حسين الاصفهاني(1296 ـ 1361) في منظومته إلى هذا الوجه بقوله :
والافتقار لازم الامكان * من دون حاجة إلى البرهان
لا فرق ما بين الحدوث والبقا * في لازم الذّات ولن يفترقا
الوجه الثاني : إنّ القول بأنّ العالم المادّي بحاجة إلى العلّة في الحدوث دون البقاء، يشبه القول بأنّ بعض أبعاد الجسم بحاجة إلى العلّة دون الأبعاد الاُخرى. فإنّ لكلِّ جسم بعدين، بعداً مكانياً و بعداً زمانياً، فامتداد الجسم في أبعاده الثّلاثة، يشكّل بعده المكاني. كما أنّ بقاءه في عمود الزّمان يشكّل بعده الزماني. فالجسم باعتبار أبعاضه ذو أبعاد مكانيّة وباعتبار استمرار وجوده مدى الساعات والأيّام ذو أبعاد زمانيّة، فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختصّ ببعض أجزائه و أبعاضه، بل الجسم في كلِّ بعد من الأبعاد المكانيّة محتاج إلى العلّة، فكذا هو محتاج إليها في جميع أبعاده الزّمانيّة، حدوثاً وبقاء من غير فرق بين آن الحدوث و آن البقاء و الآنات المتتالية، فالتّفريق بين الحدوث و البقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة. فالبعد الزّماني والمكاني وجهان لعملة واحدة، وبعدان لشيء واحد فلا يمكن التّفكيك بينهما.
وتظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا على أنّ العالم في ظلّ الحركة الجوهريّة، في تبدّل
________________________________________
(360)
مستمرّ و تغيّر دائم، نافذين في جوهر الأشياء و طبيعة العالم المادّي، فذوات الأشياء في تجدّد دائم وانتثار متواصل والعالم حسب هذه النظريّة أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر، فالنّاظر الساذج يتصوّر أنّ هناك صورة منعكسة على الماء وهي باقية ثابتة والنّاظر الدقيق يقضي على أنّ الصّور تتبدّل حسب جريان الماء و سيلانه، فهناك صور مستمرّة.
وعلى ضوء هذه النظرية، العالم المادّي أشبه بعين نابعة من دون توقّف حتّى لحظة واحدة، فإذا كان هذا حال العالم المادّي، فكيف يصحّ لعاقل أن يقول إنّ العالم، ومنه الإنسان، إنّما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون بقائه، مع أنّه ليس هنا أيّ بقاء و ثبات، بل العالم في حدوث بعد حدوث و زوال بعد زوال، على وجه الاتصال و الاستمرار بحيث يحسبه الساذج بقاء وهو في حال الزّوال و التبدّل والسيلان (وتَرى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)(النمل/88)(1).
الوجه الثالث : إنّ القول بحاجة الممكن إلى العلّة في حدوثه دون بقائه غفلة عن واقعيّة المعلول و نسبته إلى علّته، فإنّ وزانه إليها وزان المعنى الحرفي بالنّسبة إلى المعنى الاسمي، فكما أنّه ليس للأوّل الخروج عن إطار الثاني في المراحل الثلاث: التصوّر، والدّلالة، والتّحقق، فهكذا المعلول ليس له الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث والبقاء.
فإذا كان هذا حال المقيس عليه فاستوضح منه حال المقيس. فإنّ المفاض منه سبحانه هو الوجود، وهو لا يخلو عن إحدى حالتين: إمّا وجود واجب، أو ممكن، والأوّل خلف لأنّ المفروض كونه معلولاً، فثبت الثاني، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه (أي الامكان). فكما هو ممكن حدوثاً ممكن بقاء، ومثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من الحالات. لأنّ الاستغناء آية انقلابه عن الامكان إلى الوجوب وعن الفقر إلى الغنى.
________________________________________
1. البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل. لاحظ كتاب (الله خالق الكون: ص 514 ـ 560) تجد فيه بغيتك.
________________________________________
(361)
نعم، ما ذكرنا من النّسبة إنّما يجري في العلل والمعاليل الإلهيّة لا الفواعل الطّبيعيّة، فالمعلول الإلهي بالنّسبة إلى علّته هو ما ذكرنا، والمراد من العلّة الإلهيّة مفيض الوجود ومعطيه، كالنّفس بالنسبة إلى الصّور الّتي تخلقها في ضميرها، والارادة الّتي توجدها في موطنها، ففي مثل هذه المعاليل تكون نسبة المعلول إلى العلّة كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي.
وأمّا الفاعل الطّبيعي، كالنّار بالنّسبة إلى الاحراق، فخارج عن إطار بحثنا، إذ ليس هناك علّيّة حقيقيّة، بل حديث العلّيّة هناك لا يتجاوز عن تبديل أجزاء النّار إلى الحرارة، وذلك كما هو الحال في العلل الفيزيائيّة و الكيميائيّة، فالعلّيّة هناك تبدّل عنصر إلى عنصر في ظلّ شرائط و خصوصيات توجب التبدّل، و ليس هناك حديث عن الايجاد و الاعطاء.
وعلى ذلك فالتّفويض-أي استقلال الفاعل في الفعل-يستلزم انقلاب الممكن وصيرورته واجباً في جهتين:
الاُولى: الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.
الثانية: الاستغناء في جانب نفس الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذّات.
الوجه الرابع: إنّ القول بالتّفويض يستلزم الشّرك، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلّين أحدهما العلّة العليا الّتي أحدثت الموجودات والكائنات والإنسان، والاُخرى الإنسان بل كلّ الكائنات، فإنّها تستقلّ بعد الخلقة والحدوث في بقائها أوّلاً، وتأثيراتها ثانياً.
فلو قالت المعتزلة بالتّفصيل بين الكائنات والإنسان و نسبت آثار الكائنات إلى الواجب، فهو لأجل أنّها لا تزاحم العدل دون الإنسان، وعلى ما ذكرنا يكون التفصيل بلا دليل.
ثمّ إنّ القوم استدلّوا على المسألة العقليّة (غناء الممكن في بقائه عن العلّة)، بالأمثلة المحسوسة، منها: بقاء البناء والمصنوعات بعد موت البنّاء والصانع، ولكنّ
________________________________________
(362)
التّمثيل في غير محلّه، لأنّ البنّاء والصانع فاعلان للحركة أي ضمّ بعض الأجزاء إلى بعض والحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلاً عن موتهما. وأمّا بقاء البناء والمصنوعات فهو مرهون للنّظم السائد فيهما، فإنّ البناء يبقى بفضل القوى الطبيعيّة الكامنة فيه، الّتي أودعها الله سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء والصانع فيها صنع، وأمّا الهيئة والشّكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة، فتحصّل من المجموع هيئة خاصّة وليس لهما فيها أيضاً صنع.
تمثيلان لإيضاح الحقيقة
الحقّ إنّ قياس المعقول بالمحسوس الّذي ارتكبته المعتزلة ـ لو صحّت النسبة ـ قياس غير تامّ، ولو أراد المحقّق القياس والتّمثيل فعليه أن يتمسّك بالمثالين التّاليين:
الأوّل: إنّ مثل الموجودات الإمكانيّة بالنسبة إلى الواجب، كمثل المصباح الكهربائي المضيء، فالحسّ الخاطئ يزعم أنّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضّوء الأوّل، ويتصوّر أنّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولِّد الكهربائي في حدوث الضّوء دون استمراره. والحال إنّ المصباح فاقد للاضاءة في مقام الذّات، محتاج في حصولها إلى ذلك المولِّد في كلِّ لحظة، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو استضاءة بعد استضاءة واستنارة بعد استنارة، من المولّد الكهربائي، أفلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتّصال بينه وبين المولّد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً، فهو لكونه فاقداً للوجود الذّاتي يحتاج إلى العلّة في حدوثه وبقائه، لأنّه يأخذ الوجود آناً بعد آن، وزماناً بعد زمان.
الثاني: نفترض منطقة حارّة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعّتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائماً بتقطير الماء عليها، وإفاضته بما يشبه الرذاذ(1)، فإنّ هذا الأمر يتوقّف على استمرار تقاطر الماء عليها، ولو انقطع لحظة ساد
________________________________________
1. المطر الضعيف
________________________________________
(363)
عليها الجفاف، وصارت يابسة.
فمثل الممكن يتّصف بالوجود باستمرار، مثل هذه الأرض المتّصفة بالرطوبة دائماً، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آناً بعد آن، فهكذا الأوّل لا يتحقّق إلاّ باستمرار إفاضة الوجود عليه آناً بعد آن، ولو انقطع الفيض والصِّلة بينه وبين المفيض لانعدم ولم يبق منه أثر.
تعلّق مقدور واحد بقادرين أو قدرتين
قد سبق أن القاضي اعتمد على هذا الوجه (1) في نفي صلة فعل العبد بالله سبحانه، وزعم أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقه للّه سبحانه يستلزم تعلّق المقدور الواحد بقادرين أو بقدرتين، وهذا أمر محال سواء أكانا حادثين أم قديمين، أم كان أحدهما حادثاً والآخر قديماً.
وقد خصّص القاضي الجزء الثّامن من أجزاء موسوعته «المغني» بالجبر والاختيار، وأسماه «المخلوق» ويشتمل على عشرين فصلاً، عرض فيها آراء المعتزلة المتنوِّعة في خلق الأفعال وناقش خصومهم، وردّ على شبهاتهم.
وقد عقد فصلاً خاصّا(2) لهذا الأمر، واستدلّ على الامتناع بأدلّة عشر أو أزيد، وهو أبسط الفصول وأوسعها من بينها، وقد فات على القاضي تحرير محلِّ النّزاع، وأنّ المراد من القدرتين ما هو. فهل المراد القدرتان العرضيّتان أو الطوّليتان؟
فإن كان المراد هو الاُولى فاستحالة اجتماع قدرتين تامّتين عرضيّتين على مقدور واحد لا يحتاج إلى الاطناب الّذي ارتكبه القاضي، لأنّه ينتهي إلى خلف الفرض، وتخرج العلّة التامّة عن كونها علّة تامّة، وتصير علّة ناقصة.
لأنّ المقدور بعد التحقّق إمّا أن ينسب إلى كلتا القدرتين، بحيث يكون لكلِّ منهما تأثير و دخالة، فتعود العلّة التامّة إلى العلّة الناقصة، والقادر التامّ إلى القادر غير
________________________________________
1. لاحظ ص350 من هذا الجزء. 2. المغني: الجزء 8، ص 109 ـ 161.
________________________________________
(364)
التامّ وهو خلف الفرض، وهذا كما إذا اشترك رجلان في رفع الصّخرة، مع قدرة كلِّ منهما على الرّفع وحده. فعند ذاك لا يعدّ كل منهما علّة تامّة في مقام الرفع.
وإمّا أن ينسب إلى واحدة منهما دون الاُخرى، وهذا هو المطلوب.
وإمّا أن لا ينسب إلى واحدة منهما، فكيف خرج عن كتم العدم، مع أنّ حاجة الحادث إلى العلّة أمر واضح.
وأمّا اجتماع قدرتين عرضيّتين لكن ناقصتين على مقدور واحد، فلا يترتّب عليه محذور أبداً.
واللائق بالبحث غير هاتين الصورتين، فإنّ قدرة الله سبحانه و قدرة العبد ليستا في عرض واحد، بل الثانية في طول الاُخرى، فهو الّذي خلق العبد، وحباه القدرة، وأقدره على الايجاد وهو في كلِّ آن و حين يستمدُّ من مواهب ربّه. فالعبد وكلّ ما في الكون من علل وأسباب، جنوده و قواه، بين فاعل بالاختيار، ومؤثّر بالاضطرار. فللفعل صلة بقدرة العبد، كما أنّ له صلة بالله سبحانه و قدرته. وبوجه بعيد كالرؤية والسّماع، فهما فعلان للأجهزة الظاهريّة من العين والسمع، وفي الوقت نفسه فعلان للنفس القاهرة على قواه الباطنيّة والظاهريّة. فاجتماع قدرتين مثل هاتين لا يستلزم شيئاً من الاشكالات.
إنّ المعتزلة لم تجد في حلِّ مشكلة فعل الإنسان إلاّ سلوك أحد الطّريقين و زعمت أنّه لا طريق غيرهما ينتهي أحدهما إلى الجبر، والآخرى إلى التفويض.
1- صلة الفعل بالله سبحانه و انقطاعه عن العبد، فعند ذاك يقال: فعلام يحاسَب العبد ويعاقب؟
2- نسبة الفعل إلى العبد و انقطاعه عن بارئه، فيسأل: هل هناك أفعال تجاوز قدرة الله وهل يصدر في ملكه ما لا يريد؟
فالأشاعرة استسهلوا الاشكال الأوّل ونسبوا الفعل إلى الله سبحانه و صوّروا العبد محلاً لارادته و قدرته سبحانه، من دون أن يقميوا لإرادة العبد و قدرته و زناً وقيمة.
________________________________________
(365)
والمعتزلة اختارت الثاني واستسهلت وقوع ظاهرة خارجة عن سلطانه سبحانه.
ولو أنّ القوم وقفوا على الطّريق الثالث الّذي يتنزّه عن فساد المسلكين و يجمع مزيّتهما، لأعرضوا عنهما والتجأوا إلى الحقّ اللاّحب وهو القول بالأمر بين الأمرين، فللفعل صلة لخالق العبد، كما أنّ له صلة لفاعل الفعل، ولكنّ المسؤولية متوجّهة على العبد، إذ هو الّذي يصرف القدرة الموهوبة عن اختيار فيما يختاره من الأفعال و يعمل من الأعمال. وسوف تقف على حقيقة الحال عند بيان عقائد الإماميّة فانتظر.