الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر

طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 426 ـ 432
________________________________________
(426)
الأصل الخامس
الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر
هذا هو الأصل الخامس من الأُصول الخمسة. والأُصول المتقدّمة تتعلّق بالنّظر والاعتقاد بخلافه، فهو بالعمل ألصق و على هذا الأصل بعث واصل بن عطاء و غيره دعاته إلى الأقطار المختلفة كما عرفته في ترجمته. ويبحث فيه عن المسائل التّالية.
1 ـ هل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب أو لا؟
2 ـ هل وجوبهما سمعيّ أو عقلي؟
3 ـ ما هي شرائط وجوبهما؟
4 ـ هل وجوبهما عيني أو كفائي؟
5 ـ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
أمّا الأُولى، فقد ذكر القاضي أنّه لاخلاف بين الأُمّة في وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلاّ ما يحكى عن شرذمة من الإماميّة لا يقع بهم و بكلامهم اعتداد(1).
يلاحظ عليه: أنّه ماذا يريد من قوله «من الإماميّة»؟ هل كلمة من تبعيضيّة أو بيانيّة؟ فإن كان الأوّل كما هو الظّاهر، فلا نعرف تلك الشّرذمة من الإماميّة، فإنّهم عن بكرة أبيهم مقتفون للكتاب والسنّة، وصريح الكتاب و أحاديث العترة الطّاهرة على
________________________________________
1. شرح الاصول الخمسة: ص 741.
________________________________________
(427)
وجوبهما. فمن أراد فليرجع إلى جوامعهم الحديثيّة(1).
ونكتفي برواية واحدة من عشرات الرّوايات. روى جابربن عبدالله الأنصاري عن أبي جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ أنّه قال: «إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، و تعمّر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر»(2).
وإن كان الثّاني، فهو غير صحيح. وهذه كتب الإماميّة في الكلام والتّفسير والفقه مشحونة بالبحث عن فروع المسألة بعد تسليم و جوبهما.
قال الشّيخ المفيد (م413هـ): «إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باللّسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه، لقيام الحجّة على من لا علم لديه إلاّ بذكره أو حصول العلم بالمصلحة به أو غلبة الظّنّ بذلك»(3).
وهذا المحقّق الطّوسي نصير الدّين (م672هـ) يقول في «تجريد الاعتقاد»: «والأمر بالمعروف واجب، وكذا النّهي عن المنكر. وبالمندوب مندوب»(4).
نعم، بعض مراتب الأمر بالمعروف كالجهاد الابتدائي مع العدوّ الكافر مشروط بوجود الإمام العادل. قال الإمام عليّ بن موسى الرّضا ـ عليه السلام ـ في كتابه إلى المأمون: «والجهاد واجب مع إمام عادل، ومن قاتل فقتل دون ماله ورحله و نفسه فهو شهيد»(5).
وقد استظهر بعض الفقهاء من هذا الحديث و غيره أنّ المراد هو الإمام المعصوم المنصوص على ولايته من جانب الله سبحانه بواسطة النّبي. غير أنّ في دلالة الرّوايات على هذا الشرط نوع خفاء، بل عموم ولاية الفقيه في زمان الغيبة كاف في تسويغ ذلك
________________________________________
1. لاحظ: وسائل الشيعة، ج 11، الباب الأول من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 393. 2. المصدر السابق، الحديث السابع. 3. أوائل المقالات: ص 98. 4. كشف المراد: ص 271، ط صيدا. 5. الوسائل: ج 11، الباب الثاني عشر من أبواب جهاد العدو، الحديث 10.
________________________________________
(428)
للفقيه الجامع للشّرائط(1).
وأمّا سائر مراتب الأمر بالمعروف من الإنكار بالقلب و التّذكير باللّفظ والعمل باليد فسيأتي البحث عنه في المسألة الخامسة.
نعم، كان على القاضي أن يذكر خلاف الحنابلة و الأشاعرة في مجابهة الظّالمومكافحته. قال إمام الحنابلة: «السّمع والطّاعة للأئمّة و أمير المؤمنين البرّ و الفاجر».
وقال الشيخ أبو جعفر الطّحاوي الحنفي: «ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولاة أمرنا، وإن جاروا، ولا ندعو على أحد منهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعات الله فريضة علينا ما لم يأمروا بمعصية»(2).
وهؤلاء يرون إطاعة السّلطان الجائر، مع أنّ النّبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «ومن أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»(3).
وروى أبوبكر أنّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول: «إنّ النَاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه»(4).
ومع ذلك كلّه فقد نسي القاضي أن ينسب عدم وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلى هذه الجماهير، ونسبه إلى الإماميّة وقد عرفت كيفيّة النسبة.
والمسألة من الوضوح بمكان لا تحتاج معه إلى تكثير المصادر.
وامّا الثانية، فقد ذهب أبو عليّ الجبّائي إلى أنّ ذلك يعلم عقلاً. وقال ابنه أبو هاشم: «بل لا يعلم عقلا إلاّ في موضع واحد، وهو أن يرى أحدنا غيره يظلم أحداً فيلحقه بذلك غمّ، فإنّه يجب عليه النّهي و دفعه، دفعاً لذلك الضرر الّذي لحقه من
________________________________________
1. جواهر الكلام: ج 21، ص 13 ـ 14. 2. قد ذكرنا عبارات القوم في وجوب طاعة السلطان الظالم في الجزء الأول من كتابنا هذا. 3. صحيح الترمذي، ج 4، كتاب الفتن، الباب 14، ص 471، رقم الحديث 2174. 4. المصدر السابق، الباب 8، رقم الحديث 2168.
________________________________________
(429)
الغمّ عن نفسه. فإمّا فيما عدا هذا الموضع فلا يجب إلاّ شرعاً» وقال القاضي: «وهو الصّحيح من المذهب»(1).
يلاحظ عليه: أنّ أبا هاشم يصوّر حياة الفرد منقطعة عن سائر النّاس، فلأجل ذلك أخذ يستثني صورة واحدة. ولو وقف على كيفيّة حياة الفرد في المجتمع لحكم على الكلّ بحكم واحد، وذلك أنّ أعضاء المجتمع الواحد الّذين يعيشون في بيئة واحدة مشتركون في المصير، فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ يشمل الجميع أيضاً و لم يختصّ بمرتكبه، ومن هنا يجب أن تحدّد تصرّفات الأفراد في المجتمع و تحدّد حرّياتهم بمصالح الأُمّة ولا تتخطّاها. ولأجل ذلك يشبّه النّبىُّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وحدة المجتمع بركّاب سفينة في عرض البحر إذا تهدّدها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد.
ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه، بحجّة أنّه مكان يختصّ به ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّة.
روى البخاري عن النّعمان بن بشير أنّه قال: سمعت عن النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهمّوا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها و بعضهم أسفلها. فكان الّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً و إن أخذوا على أيديهم نجوا و نجوا جميعاً»(2).
وروى الترمذي نظيره في سننه كتاب الفتن:
روى جعفر بن محمّد عن آبائه، عن رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : «إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلاّ عاملها فإذا عمل علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة» قال جعفر
________________________________________
1. شرح الاصول الخمسة: ص 742. 2. صحيح البخاري: ج 3، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، ص 139. المطبوع على النسخة الاميرية، ورواه الجاحظ في البيان والتبيين ج 2 ص 49.
________________________________________
(430)
بن محمّد ـ عليهما السلام ـ : وذلك أنّه يذلُّ بعمله دين الله و يقتدي به أهل عداوة الله(1) و بهذا يعرف قيمة كلام أبي هاشم حيث إنّه نظر إلى حقيقة المجتمع بنظرة فرديّة، ولأجل ذلك لم يقل بوجوب الأمر بالمعروف عقلاً إلاّ في مورد واحد وهو ما إذا عرضه الغمّ من ظلم أحد أحداً، مع أنّه لو كان هذا هو الملاك لوجب في كثير من الموارد بنفس الملاك، غاية الأمر ربّما يكون الضّرر مشهوداً و ربّما يكون مستوراً.
ثمّ إنّ البحث عن وجوبه سمعيّاً أو عقليّاً بحث كلامي لا صلة له بكتاب تاريخ العقائد، غير أنّا إكمالاً للفائدة نأتي بنكتة وهي: أنّ الظاهر من القول بوجوب اللّطف هو أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عقليّ، وذلك لأنّ اللُّطف ليس إلاّ تقريب العباد إلى الطّاعة و ابعادهم عن المعصية، ومن أوضح ما يحقّق تلك الغاية هو الأمر بالمعروف بعامّة مراتبه.
غير أنّ المحقّق الطّوسي استشكل على وجوبهما عقلاً وقال: «لو كانا واجبين عقلاً، لزم ما هو خلاف الواقع أو الاخلال بحكمته».
وأوضحه شارح كلامه العلاّمة الحلّي وقال: «إنّهما لو وجبا عقلاً لوجبا على الله تعالى. فإنّ كلّ واجب عقليّ يجب على كلّ من حصل في حقّه وجه الوجوب، ولو وجبا عليه تعالى لكان إمّا فاعلاً لهما، فكان يلزم وقوع المعروف قطعاً، لأنّه تعالى يحمل المكلّفين عليه، وانتفاء المنكر قطعاً، لأنّه تعالى يمنع المكلّفين منه، وهذا خلاف ما هو الواقع في الخارج. و إمّا غير فاعل لهما فيكون مخلاّ ً بالواجب وذلك محال لما ثبت من حكمته تعالى»(2).
يلاحظ عليه: أنّ وجوبهما عقلاً لا يلازم وجوبهما على الله سبحانه بعامّة مراتبه،لأنّه لو وجب عليه بعامّة مراتبه يلزم إخلال الغرض و إبطال التّكليف. وهذا يصدّ العقل عن إيجابهما على الله سبحانه فيما لو استلزم الإلجاء و الإخلال بالغرض،
________________________________________
1. الوسائل: ج 11، كتاب الجهاد، الباب 4 من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 1. 2. كشف المراد: ص 271، ط صيدا.
________________________________________
(431)
فيكتفي فيه بالتّبليغ و الانذار و غيرهما ممّا لا ينافي حريّة المكلّف في مجال التّكليف. وإلى ذلك يشير شيخنا الشّهيد الثاني بقوله: «لاستلزام القيام به على هذا الوجه (من وجوبه قولاً و فعلاً) الالجاء الممتنع في التّكليف، ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه، خصوصاً مع ظهور المانع، فيكون الواجب في حقّه تعالى الانذار والتّخويف بالمخالفة لئلاّ يبطل التّكليف، والمفروض أنّه قد فعل»(1).
وأمّا الثّالثة، وهي شرائط وجوبهما، فقد فصِّل فيه الكلام المتكلّمون والفقهاء فقالوا: شرائط الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ثلاثة:
الأوّل: علم فاعلهما بالمعروف والمنكر.
الثّاني: تجويز التّأثير، فلو عرف أنّ أمره و نهيه لا يؤثّران لم يجبا.
الثّالث: انتفاء المفسدة، فلو عرف أو غلب على ظنّه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره و نهيه سقط وجوبهما دفعاً للضرر(2).
وهناك شروط أُخر لم يذكرها العلاّمة في كلامه. منها:
الرابع : تنجّز التّكليف في حقّ المأمور والمنهيّ، فلو كان مضطرّاً إلى أكل الميتة لا تكون الحرمة في حقّه منجّزة، فلا يكون فعله حراماً ولا منكراً، وإن كان في حقّ الآمر والنّاهي منجّزاً.
وعلى كلّ تقدير فالشّرط الثّالث ـ أي عدم المفسدة ـ شرط في موارد خاصّة لا مطلقاً. فربّما يجب على الآمر و النّاهي تحمّل المضرّة و عدم ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كما إذا كان تركه لهما لغاية دفع المفسدة موجباً لخروج النّاس عن الدّين وتزلزلهم و غير ذلك ممّا أوضحنا حاله فى أبحاثنا الفقهيّة(3).
وأمّا الرّابعة، وهي كون وجوبهما عينيّاً أو كفائياً، فالأكثر على أنّه كفائيّ، لأنّ
________________________________________
1. الروضة البهية: ج 1، كتاب الجهاد، الفصل الخامس، ص 262، الطبعة الحجرية. 2. كشف المراد: ص 271، ط صيدا. 3. لاحظ: رسالتنا الفقهية في التقية. فقد قلنا إنّ التقية ربّما تحرم إذا كان الفساد في تركها أوسع.
________________________________________
(432)
الغرض شرعاً وقوع المعروف وارتفاع المنكر، من غير اعتبار مباشر معيّن، فإذا حصلا ارتفع الوجوب وهو معنى الكفائي. والاستدلال على كونه عينيّاً بالعمومات غير كاف كما حقّق في محلّه.
وأمّا الخامسة، أعني مراتبهما، فتبتدئ من القلب، ثمّ اللّسان، ثمّ اليد و تنتهي باجراء الحدود و التّعزيرات. قال الباقر ـ عليه السلام ـ : «فانكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم»(1).
وعلى هذا يصبح الأمر بالمعروف على قسمين: قسم لا يحتاج إلى جهاز و قدرة، وهذا ما يرجع إلى عامّة الناس. وقسم يحتاج إلى الجهاز والقوّة و يتوقّف على صدور الحكم، وهذا يرجع إلى السّلطة التنفيذيّة القائمة بالدّولة الإسلاميّة بأركانها الثّلاثة.
وقد بسط الفقهاء الكلام في بيان مراتبهما. فمن لاحظ الروايات وكلمات الفقهاء يقف على أنّ بعض المراتب واجب على الكلّ والبعض الآخر يجب على أصحاب القوّة والسّلطة.
إلى هنا تمّ البحث عن الأُصول الخمسة للمعتزلة، وبقي هنا بحوث نجعلها
خاتمة المطاف.
________________________________________
1. الوسائل: ج 11، كتاب الجهاد، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 1.