هل البيعة أساس الحكم ؟

طباعة

هل البيعة أساس الحكم ؟

البيعة مصدر بايع ، لأنّ المبايع يجعل حياته وأمواله. بالبيعة ، تحت اختيار من يبايعه ، ويتعهّد المبايع « بالفتح » ـ في المقابل ـ على أن يسعى في إصلاح حال المبايع « بالكسر » وتدبير شؤونه بصورة صحيحة ، وكأنّهما يقومان بعمليّة تجاريّة ، إذ يتعهّد كلّ واحد منهما تجاه الآخر بعمل شيء للآخر ، قال ابن خلدون : « إنّ البيعة هي العهد على الطاعة ، كأنّ البايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أموره وأمور المسلمين ، ويطيعه فيما يكلّفه ، وكانوا إذا بايعوا الأمير ، جعلوا أيديهم في يده تأكيداً ، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري.

البيعة قبل الإسلام وبعده

كانت البيعة من تقاليد العرب قبل الإسلام وسنّتهم ، وليس من مبتكراته ، بل أمضاها وجعلها من العقود اللازمة التي يجب العمل بها ، ويحرم نقضها. فقد بايع أهل المدينة النبي الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في السنة الحادية عشر ، والثانية عشر من البعثة ، في العقبة ، بمنى (1) ، بايعوه على عادتهم قبل الإسلام ، حيث كانوا يبايعون زعماءهم.

وأمّا بعد الهجرة ، فمرّة بايعه في غزوة الحديبيّة ، وسميت بَيْعة الرضوان ، لقوله سبحانه : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (2).

وأخرى بايعته الصحابيات في مكّة المكرّمة بعد فتحها ، وعنه يحكي قوله سبحانه : ( إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّـهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ ) (3).

إذا عرفت ذلك فلنعطف نظر الباحث إلى نكات :

الأولى ـ إنّ بيعة المسلمين للنبي الأكرم ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، لم تعن الإعتراف بزعامة الرسول ورئاسته ، فضلاً عن نصبه وتعيينه ، بل إنّ المبايعين ، بعد أن آمنوا بنبوة النبي واعترفوا بقيادته وزعامته ، وأرادوا أن يصبّوا ما يلازم ذلك الإيمان ، من الإلتزام النفسي بأوامر النبي ، بعد الإقرار بنبوّته ، وزعامته. فكأنّ النبي الأكرم يقول : « فإن آمنتم بي فبايعوني على أن تطيعوني ، وتصلّوا وتزكّوا ، وأن تدفعوا عني العدوّ حتّى الموت ، ولا تفروا من الحرب ».

والهدف عندئذ من البيعة لم يكن هو الإعتراف بمنصب المبايع ، وانتخابه وتعيينه لمقام الحكومة والولاية ، بل كانت لأجل التأكيد العملي على الالتزام بلوازم الإيمان السابق عليه ، وهذا بارز في البيعة الثانية للأنصار في منى ، وبيعة الصحابة في غزوة الحديبيّة.

الثانية ـ إنّ البيعة ميثاق بين شخصين ، تندرج تحت قوله سبحانه : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ) (4).

و عقد بين المبايعين ، فتندرج تحت قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (5).

يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ـ عليه السَّلام ـ ، من الحث على البيعة : « وأمّا حقّي عليكم ، فالوفاء بالبيعة ، والنصيحة في المشهد ، والمغيب ، الإجابة حين أدعوكم ، والطاعة حين آمركم » (6).

الثالثة ـ إنّه ليس هناك دليل شرعي على أنّ مجرّد البيعة ، بغضّ النظر عن المواصفات والضوابط الآتية ، طريق إلى تعيين الخليفة والإمام ، وإنّما يتعيّن بها ، إذا كان المبايع ، واجداً للصفات اللازمة في الإمام.

الرابعة ـ الظاهر أنّ البيعة ليست طريقاً لتعيين الحاكم وانتخاب القائد ، وإنّما يتعيّن الحاكم بالمقاولة وتصويت الجماعة الحاضرين ، ثمّ يُصبّ ذلك الإنتخاب في قالب الحسّ بالبيعة والصفق ، وكأنّ البيعة تأكيد لما التزموا ، وتجسيد لما أضمروه أو تقاولوه. وعلى فرض كونها طريقاً لتعيين الحاكم ، فهي إحدى الطرق لا الطريق الوحيد ، فلو علم رضا الأمّة بحكومة فرد وزعامة شخص عن غير طريق البيعة ، وأبرزت رضاها بطريق من الطرق ، لكفى ذلك في كونه قائداً لازم الطاعة ، لأنّه أشبه بالعقد والعهد.

الخامسة ـ إنّ التصويت الشعبي أو بيعة الجماعة الحاضرين إنّما يعدّ طريقاً لتعيين الحاكم إذا لم يكن هناك نصّ من الرسول على تنصيب شخص للزعامة ، وإلّا تكون البيعة رفضاً للنّص ، واجتهاداً في مقابله.

السادسة ـ إنّ البَيْعة الكاملة من الصحابة الحاضرين في المدينة ، لم تتحقّق في واحد من الخلفاء الأربعة ، إلّا في علي ، فقد بايعه المهاجرون الأنصار ، إلّا نفر قليل لا يتجاوز خمسة أشخاص ، هم سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وحسّان بن ثابت ، وأسامة بن زيد ومحمّد بن مسلمة ، والباقون أصفقوا على يده بالبيعة والطاعة ، وإن نكث من نكث ، ونقض من نقض ، فيما بعد ، وشقّ عصا الأمّة.

هذا وإنّ البيعة تحتاج إلى دراسة مبسوطة ، موضوعاً وحكماً في ضوء الكتاب والسنّة ، ومنهج الكتاب لا يقتضي التوسّع أزيد ممّا ذكرنا (7).

الهوامش

1. لاحظ سيرة ابن هشام ، ج 1 ص 431 و 438.

2. سورة الفتح : الآية 18.

3. سورة الممتحنة : الآية 12.

4. سورة الإسراء ، الآية 34.

5. سورة المائدة : الآية الأولى.

6. نهج البلاغة ، الخطبة 34.

7. لاحظ للتبسط : بحار الأنوار ، ج 2 ، كتاب العلم ، الباب 33. وأيضاً : ج 27 ، كتاب الإمامة ، الباب 3.

مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 62 ـ 65