ماهية الإمامة عند أهل السّنّة

طباعة

ماهية الإمامة عند أهل السنّة

إنّ اتّفاق مشايخ المتكلّمين من أهل السنّة على كون الإمامة من الفروع الّتي يبحث عنها في الكتب الفقهيّة ، واتّفاق الشيعة الإماميّة على أنّها من الأصول ، ينشآن من أصل آخر ، وهو أنّ حقيقة الإمامة تختلف عند السنّة ، عمّا هي عند الشيعة ، فالسُّنة ينظرون إلى الإمام كرئيس دولة ، ينتخبه الشعب أو نوّاب الأُمّة ، أو يتسلّط عليها بانقلاب عسكري ، وما شابه ذلك ، فإنّ مثل هذا لا يشترط فيه سوى بعض المواصفات المعروفة ، ومن المعلوم أنّ الإعتقاد برئاسة رئيس جمهوريّة ، أو رئيس وُزَراء ، ليس من الأصول ، بحيث يُفَسَّق من لم يعتقد بإمامته ورئاسته وولايته. وهذه هي البلاد الإسلاميّة لمّا تزل يسيطر عليها رئيس بعد آخر ، رغبة أو رهبة ، ولم يَرَ أحَدٌ الإعتقادَ بإمامته من الأُصول ، ولم يَجْعَل فِسْقَه موجباً لخَلْعِه ، وإلّا لما استقرّ حجر على حجر.

وأمّا الشيعة الإماميّة ، فينظرون إلى الإمامة بأنّها استمرار لوظائف الرسالة « لا لنفس الرسالة ، فإنّ الرسالة والنبوّة مختومتان بالتحاق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى » ، ومن المعلوم أنّ ممارسة هذا المقام ، يتوقّف على توفّر صلاحيّات عالية ، لا ينالها الفرد ، إلّا إذا وقع تحت عناية إلهيّة ربّانية خاصّة ، فيخلُف النبيَّ في علمه بالأصول والفروع ، وفي عدالته وعصمته ، وقيادته الحكيمة ، وغير ذلك من الشؤون.

وممّا يعرب عن أنّ الإمامة عند أهل السنّة أشبه بسياسة وقتيّة زَمَنِيّة ، يشغلها فرد من الأُمّة بأحد الطرق ، ما اشترطوه من الشروط ، وذكروه من الأوصاف في حقّ الإمام ، وستوافيك فيما يأتي. ولأجل إيقاف الباحث على صحّة هذا التحليل نشير إلى بعض كلماتهم.

قال الباقلاني : « لا ينخلع الإمام بفسقه وظُلْمِهِ بغصب الأموال ، وضَرْب الأبشار ، وتناول النفوس المحرمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي الله » (1).

وقال الطحاوي : « ولا نرى الخروج على أئمّتنا ووُلاة أُمورنا ، وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزّوجلّ فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة » (2). وقال : « والحجّ والجهاد ماضيان مع أُولي الأمر من المسلمين ، بَرِّهِم وفاجِرِهِم ، إلى قيام الساعة ، ولا يبطلهما شيء ولا يَنْقُضهما » (3).

قال التفتازاني : « ولا يَنْعَزِلُ الإمام بالفسق ، أو بالخروج عن طاعة الله تعالى ، والجور « أيّ الظلم على عباد الله » ، لأنّه قد ظهر الفسق ، وانتشر الجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ، ويقيمون الجُمَع والأعياد بإذنهم ، ولا يرون الخروج عليهم ». ونَقَل عن كتب الشافعيّة أنّ القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الإمام ، والفرق أنّ في انعزاله ووجوب نصب غيره إثارة الفتنة ، لما له من الشوكة ، بخلاف القاضي (4).

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي ذكروها في وجوب إطاعة السلطان الجائر ، وحرمة الخروج عليه (5). فإنّ هذه الكلمات تبيّن لنا موقع منصب الإمامة عند أهل الحديث والأشاعرة ، وكلّها تعرب عن أنّهم ينظرون إلى الإمامة كسياسة وقتيّة زمنيّة ، وإلى الإمام كسائس عاديّ يقود أُمّته في حياتهم الدنيويّة. ولأجل ذلك لا يكون الفسق والجور ، وهتك الأستار ، قادحاً في إمامتهم ، كما أنّ التسلط على الرقاب بالقهر والإستيلاء ، والنار والحرب ، أحد الطُرق المسوغة للتربّع على منصّة الإمامة.

فإذا كانت هذه هي حقيقة الإمامة ، وكان هذا هو الإمام ، فلا غرابة حينئذ في جعلها من الأحكام الفرعيّة.

الهوامش

1. التمهيد ، للقاضي أبي بكر الباقلاني ، ص 181. توفي القاضي عام 403 هـ.

2. متن شرح العقيدة الطحاوية ، ص 379 ، ولاحظ ما ذكره في شرحه.

3. المصدر السابق ، ص 387.

4. شرح العقائد النسفيّة ، المتن لأبي حفص عمر بن محمد النَّسفي [ م 537 هـ ] ، والشرح لسعد الدين التفتازاني [ م 791 هـ ] ص 185 ـ 186 ، ط إسطنبول.

5. لاحظ مقالات الإسلاميين ، للأشعري ، ص 323 ، وأصول الدين، لمحمّد بن عبد الكريم البزدوي [ إمام الماتريدية ] ، ص 190.

مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسّنة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 13 ـ 15