متى اعترف « أهل السنّة » بخلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ؟

طباعة

متى اعترف « أهل السنّة » بخلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ؟

لا شكّ أنّه ليس كلّ من صوّب خلافة أبي بكر وعمر وعثمان قد أسلم دينه لمعاوية ، يُثبت منه ما يشاء كيف يشاء ويمحو ما يشاء ! بل كثير منهم لعنوه ، وكثير منهم قد تبرّأوا منه ، وما أكثر من خطّأه وأدرك حجم الفساد الذي أدخله على هذا الدين وألقاه على كاهل هذه الاُمّة.

واستمرّ هذا الوعي فيهم في جميع الأعصار ، ولعلّه في عصرنا الحاضر أشدّ تألّقاً وأكثر أنصاراً ... لكنّ المشكلة تكمن في أنّ أعصار الصراع الطائفي تغذّي العصبية ، فتذهب بكلّ قولٍ أو موقفٍ تبدو عليه بصمات الاعتدال والموضوعيّة ، ليظهر فقط ما يغذّي العصبية وهي في أوج حاجتها إليه ، فتبرز المواقف الشاذّة ، وغير المسؤولة ، وحتّى الجبانة والذليلة ، ليشتدّ التمسّك بها ، ويُتّخذ أصحابها « سَلفاً » أولى أن يُقتدى به دون غيره ... وفي مزدحم العصبيات تغلّب على « أهل السنّة والجماعة » الرأي الشاذّ الذي لا يعترف بخلافة الإمام عليّ عليه السلام ، ودان به حتّى أهل العلم والفقه والحديث منهم ، حتّى ثبّتها أحمد بن حنبل ، لكن بقيت في زمنه محلّ نزاع إلى أن استقرّت كما ثبّتها ، وفق الترتيب التاريخي ، الذي جعله مقياساً للتفاضل بينهم أيضاً !

ـ قيل لسفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله : إنّ هؤلاء يزعمون أنّ علياً عليه السلام لم يكن بخليفة ! قال : كذبتْ أستاه بني الزرقاء ! يعني بني مروان (1).

ـ وأوّل من حذف اسم علي من الخلفاء هو معاوية حين كان يخطب فيذكر أبا بكر وعمر وعثمان ثمّ يتحدّث عن نفسه وسياسته ولا يذكر عليّاً عليه السلام ، بل يذكره في آخر خطبته بالشتم والسبّ واللعن !

ومضى بنو اُميّة على ذلك في جميع أحوالهم ، في السرّ والعلن ، حتّى رُوي عن سليمان بن عبد الملك أنّه نظر في المرآة أيّام خلافته فأعجبه شبابه ، فقال : « كان محمّد صلّى الله عليه وآله نبيّاً ، وكان أبو بكر صدّيقاً ، وكان عمر فاروقاً وكان عثمان حييّاً ، وكان معاوية حليماً وكان يزيد صبوراً » فيقفز من عثمان إلى معاوية فيزيد حتّى يبلغ ذكر نفسه فيقول : وأنا الملك الشابّ (2). فحتّى في مثل هذه الأحاديث لا يذكرون عليّاً عليه السلام بالخلافة !

ـ ودخلت رؤيتهم هذه في الأحاديث المنسوبة إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله !! كحديث رؤيا الميزان الذي يزن فيه النبي صلّى الله عليه وآله وأبو بكر فيرجح النبي صلّى الله عليه وآله ، ويزن أبو بكر وعمر فيرجح أبوبكر ، ويزن عمر وعثمان ، ثمّ يرتفع الميزان !!

وعزّز ذلك كلّه الحديث الموقوف على ابن عمر في التفضيل الذي يقول إنّهم كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله يفاضلون فيقولون : أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ يسكتون فلا يذكرون أحداً بعدهم !! والعلّة كلّها أنّ الذي جاء بعد عثمان في الخلافة عليّ ، ولو كان الزبير أو سعداً أو طلحة لما سكت ابن عمر ولا سكتوا.

فترسّخت تلك الرؤية ، حتّى أصبحت من الثوابت التي تُميّز « الجماعة » ثمّ « أهل السنّة » حتّى جاء أحمد بن حنبل ، فأظهر التربيع في الخلافة ! وكتب ذلك في جوابه إلى مسدّد بن مسرهد يصف له السنّة ، فذكر الأربعة بحسب الترتيب الواقع في الخلافة ، فقال : « هم والله الخلفاء الراشدون المهديّون » (3).

فأثار كلامه جدلاً ونزاعاً بين « أهل السنّة » :

ـ قال وريزة الحمصي : دخلتُ على أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعليّ عليه السلام ، فقلت له : يا أبا عبد الله ، إنّ هذا طعنُ على طلحة والزبير !

قال : بئسما قلت ! وما نحن وحرب القوم وذكرها ؟

فقلتُ : أصلحك الله ، إنّما ذكرناها حين ربّعتَ بعليّ وأوجبتَ له الخلافة وما يجب للأئمّة قبله ! فقال لي : وما يمنعني من ذلك ؟! قلتُ : حديث ابن عمر ... فقال لي : عمر خير من ابنه ، وقد رضي عليّاً للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى ، وعلي بن أبي طالب قد سمّى نفسه أمير المؤمنين ، أفأقول أنا : ليس للمؤمنين بأمير ؟! قال : فانصرفتُ عنه (4) !

ـ ولقد حاول أحمد بن حنبل أن يذكّر بأشياء من حقّ عليّ عليه السلام الذي غيّبته مدارس ثقافيّة كافحت في هذا السبيل نحو قرنين من الزمن ...

قال أحمد بن حنبل : ما لأحدٍ من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعليّ رضي الله عنه (5).

وقال : عليُّ من أهل بيتٍ لا يقاسُ بهم أحد ! (6)

وسُئل يوماً : ما تقول في هذا الحديث الذي يروي ، أنّ عليّاً قال : « أنا قسيم النار » ؟ فقال : وما تُنكرون من ذا ؟ أليس روينا أن النبيّ صلّى الله عليه وآله قال لعليّ : « لا يحبّك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق » ؟ .. قالوا : بلى ... قال : فأين المؤمن ؟ ...

قالوا : في الجنّة ... قال : فأين الكافر ؟ ... قالوا : في النار ... قال : فعليٌّ قسيم النار (7).

ـ ويصحّح انحرافاً منهجياً وقع فيه أحد « أئمّة » الجرح والتعديل ، يحيى بن معين ، إذ نسب الشافعي إلى « بدعة » التشيّع ، ودليله في ذلك أنّه نظر في كتاب للشافعي في قتال أهل البغي ، فوجده قد احتجّ فيه من أوّله إلى آخره بعليّ بن أبي طالب !!

فقال له أحمد : عجباً لك ! فبمن كان يحتجّ الشافعي في هذا ، وأوّل من ابتلي به علي بن أبي طالب ؟ وهو الذي سنّ قتالهم وأحكامهم ، وليس عن النبي ولا عن الخلفاء غيره فيه سنّة ، فبمن كان يستنّ ؟! فخجل يحيى ! (8)

فانظر إلى حجم الانحراف الفكري الذي أصاب الكبار ، وحتّى أئمّة الجرح والتعديل ! علماً أنّ يحيى بن معين يعدُّ معتدلاً جدّاً قياساً بالجوزجاني ـ وهو أيضاً من أئمّة الجرح والتعديل ـ الذي لم يكن يُخفِ بغضه لعليّ وأهل البيت عليهم السلام !

لكن يبقى العجب من أحمد بن حنبل كيف مع هذا كلّه بقي يعتمد أحاديث النواصب ويوثّقهم ولا يعدّهم في المبتدعين ، وهو يعلم انّهم منافقون بحكم الحديث الصحيح الذي احتجّ به آنفاً « لا يبغضك إلّا منافق » !!

الهوامش

1. سنن أبي داود ح / 4646.

2. اُنظر الحديث في مسند أحمد 5 : 44 , 50 ـ عالم الفكر ـ بيروت.

3. طبقات الحنابلة / القاضي ابن أبي يعلى 1 : 344 ترجمة مسدّد بن مسرهد بن مسربل البصري ـ دار المعرفة ـ بيروت.

4. طبقات الحنابلة 1 : 393 ترجمة وريزة بن محمّد الحمصي.

5. مناقب الإمام أحمد بن حنبل : 220.

6. مناقب الإمام أحمد بن حنبل : 219.

7. طبقات الحنابلة 1 : 320 ت / 448 ترجمة محمّد بن منصور.

8. مناقب الشافعي / البيهقي 1 : 451 ـ مكتبة دار التراث ـ القاهرة.

مقتبس من كتاب : [ المذاهب والفرق في الإسلام النشأة والمعالم ] / الصفحة : 48 ـ 52