حوارات الإمام الرضا عليه السلام مع أهل الإسلام : مناظرته عليه السلام حول الإمامة

طباعة

حوارات الإمام الرضا عليه السلام مع أهل الإسلام

مناظرته عليه السلام حول الإمامة

تمثل الإمامة معلّماً أساسيّاً من معالم الإسلام ، التي بينها رسول الله صلّى الله‌ عليه وآله وسلّم للأمّة إكمالاً للدين وإتماما للنعمة. وهي تمثل ـ من جانب آخر ـ لبنة أساسيّة في بنية الفكر الإسلامي عامّة والشيعي على وجه الخصوص ، لا سيّما إذا ما عرفنا بانّ التشيّع هو تجسيد لمبدأ الإمامة.

وفي ظلّ التجميد المتعمد لاطروحة الإمامة ، حاول الأئمّة عليهم السلام الاحتفاظ بهذه الاطروحة حيّة في وعي الأمّة ولو على المستوى النظري ، لأن غيابها من ذاكرة الأمّة تأكيد لحالة المصادرة وإلغاء لهذا المفهوم الهام من منظومة الأفكار والمفاهيم المتحرّكة في واقع التصوّر الإسلامي.

وكنّا قد ذكرنا في الفصل الثالث موقف الإمام الرضا عليه السلام من الإمامة ، ويهمّنا هنا أن نستشهد بنماذج من مناظراته حول موضوع الإمامة كشاهد على ذلك.

وصف الرّيان بن الصلت مجلساً للمأمون بمرو ، وقد اجتمع فيه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان ، وتطرّق الحديث لعدّة محاور تتعلّق بإمامة أهل البيت عليهم السلام وفضائلهم ، هي :

1 ـ الفرق بين العترة والأمّة

دار الحوار حول تفسير بعض الآيات القرآنيّة التي تدلّ على أفضليّة ومكانة أهل البيت عليهم السلام وبالتالي أهليّتهم للإمامة ، ولكنّها فُسِّرت على غير معناها الحقيقي ، وضُرب حولها سور هائل من التعتيم ، فأزال إمامنا سوء الفهم الحاصل ، وحدّدَ المعنى المراد.

والملاحظ أنّه استعمل المنهج « النقلي » معتمّداً على القرآن والسنّة ، ومستعملاً في التفسير منهج « التفسير الموضوعي » وليس المنهج التجزيئي الذي ينظر للآية بمعزل عن الآيات الأخرى ، وقد مرّ نص هذا الحوار في الفصل الثالث ، وعرفنا كيف احتجّ الإمام عليه السلام بنصوص كثيرة من القرآن الكريم تلاها على مسامع المأمون ومن كان معه بكلّ بسالة ولم يأبه بالمأمون ولا بحاشيته أو مخالفيه في العقيدة.

2 ـ استعراض الآيات الدالّة على اصطفاء الأئمّة عليهم السلام

ثمّ طلب منه العلماء أن يستشهد بآيات تدلّ على اصطفاء الله تعالى لآل البيت عليهم السلام في الكتاب ، فذكر اثنتا عشرة آية تدلّ على ذلك : منها « آية الإنذار » و « آية التطهير » و « المباهلة » وعند آية « المودّة في القربى » قال : « وهذه خصوصيّة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى يوم القيامة وخصوصيّة للآل دون غيرهم ، وذلك ان الله عزّ وجلّ حكى في ذكر نوح في كتابه : ( وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ ... ) (1) وحكى عزّ وجلّ عن هود انّه قال : ( يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (2) وقال عزّ وجلّ لنبيّه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( قُلْ ) يا محمّد ( لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى? ) (3) ولم يفرض الله تعالى مودّتهم إلّا وقد علم انّهم لا يرتدون عن الدين أبداً ولا يرجعون إلى ضلال أبداً ... فأيّ فضيلة وأيّ شرف يتقدّم هذا أو يدانيه ؟ » (4).

والمفارقة العجيبة أنّه في الوقت الذي يقرع فيه الإمام عليه السلام أسماعهم بهذه الإستدلالات والشواهد القرآنيّة البديعة التي لا ينكرها إلّا أعمى أو معاند ، قالت العلماء : يا أبا الحسن ، هذا الشرح وهذا البيان لايوجد إلّا عندكم معاشر أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم !

فقال : « ومن ينكر لنا ذلك ورسول اللّه يقول : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ؟ ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلّا معاند لله عزّ وجلّ » (5).

3 ـ مكانة آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم عند ربّهم عزّ وجلّ

من اللفتات القرآنيّة البديعة التي تكشف عن عمق إمامنا المعرفي بالقرآن وكونه أحد تراجمته ، جوابه البديع للمأمون عندما طلب منه أن يستدلّ على مكانة الآل في القرآن حتّى يكون ألزم للخصم ممّا تقدّم ، فقال أبو الحسن عليه السلام : « نعم ، أخبروني عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى? صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (6) فمن عني بقوله يس ؟ ».

قالت العلماء : يس محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يشكّ فيه أحد.

قال أبو الحسن : « فإن اللّه عزّ وجلّ أعطى محمّداً وآل محمّد من ذلك فضلاً لا يبلغ أحد كنه وصفه إلّا مَن عقله ، وذلك أن اللّه عزّ وجلّ لم يُسلم على أحد إلّا على الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، فقال تبارك وتعالى : ( سَلَامٌ عَلَى? نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) (7) وقال : ( سَلَامٌ عَلَى? إِبْرَاهِيمَ ) (8) وقال : ( سَلَامٌ عَلَى? مُوسَى? وَهَارُونَ ) (9) ولم يقل : سلام على آل نوح ، ولم يقل : سلام على آل ابراهيم ، ولا قال : سلام على آل موسى وهارون ، وقال عزّ وجلّ : ( سَلَامٌ عَلَى? إِلْ يَاسِينَ ) (10) يعني آل محمّد صلوات اللّه عليهم ».

فقال المأمون : لقد علمت ان في معدن النبوّة شرح هذا وبيانه (11).

4 ـ الأئمّة عليهم السلام هم أهل الذكر :

ضمن سياق الحوار الذي دار في هذا المجلس كان حديث الإمام ينساب كنهر متدفق ، فتطرق معهم إلى مفهوم « أهل الذكر » ولفت نظرهم إلى هذا المفهوم إلهام الذي أريد له أن يغيب عن الأذهان ويمحى عن الذاكرة ويُسدل عليه ستار النسيان ، من خلال التفسير القاصر ، قال لهم : « فنحن أهل الذكر فاسألونا إن كنتم لا تعلمون ».

فقالت العلماء : إنّما عنى الله بذلك اليهود والنصارى.

فقال أبو الحسن عليه السلام : « سبحان الله ! وهل يجوز ذلك ؟ يدعونا إلى دينهم ، ويقولون : انّه أفضل من دين الإسلام ! ».

فقال المأمون : فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوه يا أبا الحسن ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام : « نعم ، الذكر رسول الله ، ونحن أهله ، وذلك بيّن في كتاب اللّه عزّ وجلّ حيث يقول في سورة الطلاق : ( فَاتَّقُوا اللَّـهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّـهِ مُبَيِّنَاتٍ ) (12) فالذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونحن أهله » (13).

وفي نهاية المطاف اعترف المأمون ومن معه من العلماء بمقدرة الإمام العلميّة وأنه بحر زاخر ، وأقرّوا بأفضليّة أهل البيت عليهم السلام ، وقالوا : « جزاكم الله أهل بيت نبيّكم عن هذه الأمّة خيراً ، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلّا عندكم » (14).

5 ـ في الواقع التاريخي للخلافة

من المعروف أن الإمامة كانت ـ وما زالت ـ موضوعاً ساخناً يثير الجدل وتختلف حوله الأقوال وتتباين فيه وجهات النظر ، وقد اعتبر البعض بأن ما حدث في السقيفة قد تجاوزه التاريخ وغدا حقيقة واقعة ليس من المناسب أن تمسّها يد المراجعة والتقييم ، ولكن الرؤية الموضوعيّة تقرّر بأن هناك أحداثاً تشكل انعطافة مهمّة على صعيد التاريخ الإنساني تبقى تداعياتها حيّة مهما طالت الفترة الزمنيّة ، وموضوع الإمامة واحد من هذه المواضيع الجسام التي ما زالت تبعات ما أحاط بها من أحداث تنعكس سلباً على كافة الأصعدة الإسلاميّة : الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة.

والمعالجة الجادّة ينبغي أن تنطلق من التشخيص الدقيق لأسباب المشكلة ، وهنا نجد أن إمامنا الرضا عليه السلام قد وضع إصبعه على موضع الداء ، فالإمامة شغلها بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من لم يكن لها أهلاً ، ثمّ لم يحدث أن تدارك المسلمون ذلك ، بل أمضوه حتّى تلاحقت فصوله الأخرى ، فتراكم الخطأ.

وصف محمّد بن يحيى الصولي مجلساً للمأمون بحضرة الإمام الرضا وثلّة من كبار أهل العلم الذين دعاهم المأمون لمناظرة الإمام عليه السلام ، فأداروا أمر الإمامة ، فتكلّم متكلّمهم يحيى بن الضحاك السمرقندي فقال : نتكلّم في الإمامة ، كيف ادعيت لمن لم يَؤم وتركت من أمّ ووقع الرضا به ؟

فقال له : « يا يحيى أخبرني عمن صدّق كاذباً على نفسه ، أو كذّب صادقاً على نفسه ، أيكون محقّاً مصيباً أو مبطلاً مخطئاً ؟ » فسكت يحيى ، فقال له المأمون : أجبه ، فقال : يعفيني أمير المؤمنين من جوابه ، فقال المأمون : يا أبا الحسن عرّفنا الغرض في هذه المسألة.

فقال عليه السلام : « لا بدّ ليحيى من أن يخبر عن أئمّته ؛ كذبوا على أنفسهم أو صدقوا ؟ فإن زعم أنّهم كذبوا ، فلا أمانة لكذّاب ، وإن زعم أنّهم صدقوا ، فقد قال أوّلهم : ولّيتكم ولست بخيركم ، وقال تاليه : كانت بيعته فلتة ، فمن عاد لمثلها فاقتلوه ، فوالله ما رضي لمن فعل مثل فعلهم إلّا بالقتل ، فمن لم يكن بخير الناس ، والخيريّة لا تقع إلّا بنعوت منها : العلم ، ومنها الجهاد ، ومنها سائر الفضائل وليست فيه ، ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها ، كيف يقبل عهده إلى غيره وهذه صورته ؟! ثمّ يقول على المنبر : إنّ لي شيطاناً يعتريني ، فإذا مال بي فقوموني ، وإذا أخطأت فارشدوني ، فليسوا أئمّة بقولهم ، إن صدقوا ، أو كذبوا ، فما عند يحيى في هذا جواب ».

فعجب المأمون من كلامه ، وقال : يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن هذا سواك (15).

والملفت للنظر أن إمامنا عليه السلام في هذا الحوار قد اتّبع منهجاً فريداً ، فلم يستعمل في مناظرته الآيات القرآنيّة أو الأحاديث النبويّة الكثيرة التي يمكن الاستدلال بها على إمامة أهل البيت عليهم السلام ، فلعلّه يعلم بأن الغوص في هذا قد يؤدي إلى تجريدات فكريّة لا يلتزم القوم بمدلولاتها ، لذلك درس مسألة الإمامة في إطارها التاريخي محاولاً إلقاء الضوء على الحقائق كما هي من خلال أقوال أقطاب السقيفة بدون تأويل أو تفسير ، فكثيراً ما يتأثّر الناس بالتفسير الذي يأتيهم لحدث أكثر ما يتأثرون بالحدث نفسه ، وهنا وضعهم الإمام عليه السلام وجهاً لوجه أمام الحدث ، عارضاً بأمانة تصريحات القوم التي أدلوا بها في قلب الحدث ودلالاتها ؛ وحينئذ يكتشف كل منصف الحقيقة بنفسه.

الهوامش

1. سورة هود : 11 / 29.

2. سورة هود : 11 / 51.

3. سورة الشورى : 42 / 23.

4. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 217 ، ح 1 ، باب 23.

5. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 217 ، ح 1 ، باب 23.

6. سورة يس : 36 / 1 ـ 4.

7. سورة الصافات : 37 / 79.

8. سورة الصافات : 37 / 109.

9. سورة الصافات : 37 / 120.

10. سورة الصافات : 37 / 130.

11. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 214 ، ح 1 ، باب 23.

12. سورة الطلاق : 65 / 10 ـ 11.

13. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 216 ، ح 1 ، باب 23.

14. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 207 ـ 217 ، ح 1 ، باب 23 ، وأمالي الشيخ الصّدوق : 615 ، المجلس 79.

15. عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 255 ، ح 1 ، باب 57.

مقتبس من كتاب : [ الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ ] / الصفحة : 107 ـ 113