مواقف القيامة وطول يومها

طباعة

مواقف القيامة وطول يومها

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ

دلّت الآيات الكريمة علىٰ طول يوم القيامة وانّ للإنسان فيه مواقف يُعبَّر عنها بالعقبات.

أمّا طول يومها فيدل ظاهر بعض الآيات على أنّ مقداره خمسون ألف سنة ، وفي الوقت نفسه يستظهر من بعض الآيات انّ طوله ألف سنة ، فكيف يمكن التوفيق بينهما ؟

أمّا ما يدل علىٰ أنّ طوله خمسون ألف سنة فقوله سبحانه : ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ). (1)

والمراد من يوم هو يوم القيامة بشهادة قوله سبحانه بعده : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ). (2)

وما يدل على أنّ طول يومها ألف سنة قوله سبحانه : ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ). (3)

وقوله سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّـهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ). (4)

فقوله : ( مِّمَّا تَعُدُّونَ ) شاهد صدق على أنّ المقياس لهذا العدد هو السنين الدنيوية ، وعليه يختلف مضمون الآيات بين ما يعد طوله 50 ألف سنة من السنين الدنيوية وألف سنة كذلك.

وقد اختلف المفسرون في التوفيق بين الآيتين ، وأحسن ما ذكر هو انّ للناس يوم القيامة « 50 » موقفاً يلبث الإنسان المحاسب في كلّ واحد ألف سنة ، فيكون مجموع لبثه فيها خمسين ألف سنة.

روى المفيد في أماليه ، قال : قال أبو عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام : « ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، فانّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدون » ثمّ تلا هذه الآية ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (5). (6)

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو : هل تعم تلك المدة جميع المحشورين ، أو انّها تختلف ؟

يظهر من بعض الروايات انّها تخفف عن المؤمن.

روى أبو سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول الله ما أطول هذا اليوم ؟ فقال : « والذي نفس محمد بيده انّه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا ». (7)

وعلىٰ ضوء هذا فليوم القيامة خمسون موقفاً يقف عندها الإنسان للسؤال والحساب فمن ثقلت موازينه فهو يجتازها بسرعة ، وأمّا من خفت موازينه فيلبث فيها مدة طويلة تدوم إلىٰ خمسين ألف سنة ، وقد مرَّ على أنّ المؤمن الفقير يحاسب بأسرع مما يحاسب به المؤمن الثري وهكذا ، وسيوافيك في فصل الصراط ما يدل على أنّ الصراط أحدّ من السيف وأدق من الشعرة إنّما هو بالنسبة إلى غير المؤمن ، وأمّا بالنسبة إلى المؤمن فهو عريض وغير حاد.

إلى هنا تبيّن طول يوم القيامة وقصرها إلى الكافر والمؤمن ، وإليك البحث في مواقفها.

مواقف يوم القيامة

دلّت الروايات الماضية علىٰ أنّ ليوم القيامة مواقف تقف فيها العصاة ويعبّر عنها بالقنطرة تارة ، والعقبة أُخرى ، والمواقف ثالثة.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه الحسن عليه السلام : « واعلم انّ أمامك عقبة كؤوداً ، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل ، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع ، وانّ مهبطك بها لا محالة إمّا على جنة أو على نار ». (8)

نعم اختلف العلماء في حقيقة تلك المواقف والعقبات ففسّرها الصدوق بظواهر ما ورد في الروايات وانّ لكلّ عقبة اسماً من الفرائض يقول : اعتقادنا في العقبات التي على طريق المحشر انّ كلّ عقبة منها اسمها اسم فرض وأمر ونهي ، فمتى انتهى الإنسان إلىٰ عقبة اسمها فرض وكان قد قصر في ذلك الفرض حبس عندها وطولب بحقّ الله فيها ، فإن خرج منها بعمل صالح قدّمه أو برحمة تداركه نجا منها إلى عقبة أُخرى ، فلا يزال يدفع من عقبة إلى عقبة ، ويحبس عند كلّ عقبة فيسأل عمّا قصر فيه من معنى اسمها ، فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء فيحيا حياة لا موت فيها أبداً ، وسعد سعادة لا شقاوة معها أبداً ، وسكن في جوار الله مع أنبيائه وحججه والصدّيقين والشهداء والصالحين من عباده ، وان حبس على عقبة فطولب بحقّ قصر فيه فلم ينجه عمل صالح قدّمه ولا أدركته من الله عزّ وجلّ رحمة زلت به قدمه عن العقبة فهوى في جهنم ـ نعوذ بالله منها ـ وهذه العقبات كلّها على الصراط ، اسم عقبة منها الولاية ، يوقف جميع الخلائق عندها فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده صلّى الله عليه وآله وسلّم فمن أتى بها نجا وجاز ، ومن لم يأت بها بقي فهوى ، وذلك قول الله عزّ وجلّ : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) وأهمّ عقبة منها المرصاد وهو قول الله عزّ وجلّ : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) ويقول عزّ وجلّ : وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم. واسم عقبة منها الرحم ، واسم عقبة منها الأمانة ، واسم عقبة منها الصلاة ، وباسم كلّ فرض أو أمر أو نهي عقبة يحبس عندها العبد فيسأل. (9)

وقد اكتفى الصدوق بظواهر الروايات ، فزعم انّ هناك عقبة واقعية لكلّ اسم من أسماء الفرائض وغيرها وانّ أهمّ العقبات عقبة المرصاد ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : « وإن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه وهو له بالمرصاد علىٰ مجاز طريقه ». (10)

ويدل على ما ذكره الصدوق لفيف من الروايات :

1. ما رواه الصدوق في ثواب الأعمال ، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) قال : « قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة ». (11)

2. روى ابن عباس في تفسير قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) ، قال : « انّ علىٰ جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أوّلها عن شهادة أن لا إله إلّا الله ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني ، فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث ، فيسأل عن الزكاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع ، فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحج ، فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس ، فيسأل عن العمرة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع ، فيسأل عن المظالم ، فإن خرج منها وإلّا يقال : انظروا ، فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله فإذا فرغ انطلق به إلى الجنّة ». (12)

وحصيلة هذه الروايات انّ هناك مواقف وقناطر على الصراط سمّي كلّ واحد بواحد من أسماء الفرائض يوقف فيها الإنسان ويُسأل عنها.

هذا تفسيرٌ وللشيخ المفيد تفسير أفضل من تفسير الصدوق ، وحاصل ما أفاده هو : انّ المراد من العقبات هي الفرائض ، فيسأل الإنسان عنها ، دون أن يكون في البين جبال وعقبات يعبرها الإنسان حتى يصل إلى الجنة أو النار ، وإنّما سمّيت الفرائض بالعقبات لأنّ إطاعتها لا تخلو عن صعوبة ومشقة ، يقول الشيخ المفيد :

العقبات عبارة عن الأعمال الواجبة والمساءلة عنها والمواقفة عليها ، وليس المراد به جبال في الأرض تقطع ، وإنّما هي الأعمال شبّهت بالعقبات ، وجعل الوصف لها يلحق الإنسان في تخلصه من تقصيره في طاعة الله تعالى ، كالعقبة التي تجهده صعودها وقطعها قال الله تعالى : ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ) فسمّى سبحانه الأعمال التي كلّفها العبد عقبات تشبيهاً بالعقبات والجبال ، لما يلحق الإنسان في أدائها من المشاق ، كما يلحقه في صعود العقبات وقطعها ، وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : « إنّ أمامكم عقبة كؤوداً ، ومنازل مهولة لابدّ من الممرّ بها ، والوقوف عليها ، فإمّا برحمة الله نجوتم ، وإمّا بهلكه ليس بعدها انجبار ». أراد عليه السلام بالعقبة تخلّص الإنسان من العقبات التي عليها ، وليس كما ظنه الحشوية من أنّ في الآخرة جبالاً وعقبات يحتاج الإنسان إلى قطعها ماشياً وراكباً ، وذلك لا معنى له فيما توجبه الحكمة من الجزاء ، ولا وجه لخلق عقبات تسمّى بالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من الفرائض يلزم الإنسان أن يصعدها ، فإن كان مقصراً في طاعة الله ، حال ذلك بينه وبين صعودها ، إذ كان الغرض في القيامة المواقفة على الأعمال والجزاء عليها بالثواب والعقاب ، وذلك غير مفتقر إلى تسمية عقبات ، وخلق جبال وتكليف قطع ذلك وتصعيبه أو تسهيله ، مع أنّه لم يرد خبر صحيح بذلك على التفصيل فيعتمد عليه وتخرج له الوجوه ، وإذا لم يثبت بذلك خبر كان الأمر فيه ما ذكرناه. (13)

ويدل على صحة ما ذكره المفيد هو انّه سبحانه أسمى بعض الفرائض بالعقبات ، فقد سمّى فك الرقبة أو الإطعام في يوم المسغبة عقبة ، فقال سبحانه : ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ). (14)

فقد شبّه القيام بالفرائض بمن يقطع العقبات في الصعوبة والمشقة من دون أن تكون هناك جبال ومنعرجات ، فمن استقبل الفرائض برحابة صدر فقد قطع العقبات بسرعة وأمّا من لم يستقبلها أبداً أو استقبل بعضها دون بعض فهو مثل من يقطع العقبات بشق الأنفس.

والذي يدل على ما ذكرنا قوله سبحانه بعد تلك الآية : ( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ). (15)

وحصيلة المعنى بعد جمع الآيات الواردة في سورة البلد هو انّ شقاء الإنسان وسعادته في الآخرة رهن عبور تلك العقبات وما هي إلّا فك الرقبة أو إطعام الأيتام والفقراء والمساكين والأمر بالصبر والرحمة إلىٰ غير ذلك من الفرائض ، فينتهي أمره إلىٰ أن يكون من أصحاب الميمنة كما انّ عكسه ينتهي إلى أن يكون من أصحاب المشئمة دون أن تكون هناك عقبات ومنعرجات صعبة العبور يؤمر أهل المحشر بطيّها وعبورها.

والذي يدلّك علىٰ صحّة ما ذكره الشيخ المفيد أنّ طي العقبات الدنيوية رهن الكفاءات الذاتية ، دون العقبات الأُخروية فانّها رهن الإيمان والعمل الصالح ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ العقبات كناية عن العمل بالفرائض التي يتوقف العمل بها على الصبر والإيمان الراسخ بالله والصبر على طاعته.

الهوامش

1. المعارج : 4.

2. المعارج : 6 ـ 9.

3. السجدة : 5.

4. الحج : 47.

5. المعارج : 4.

6. بحار الأنوار : 7 / 126 ، الباب 6 من أبواب كتاب العدل والمعاد ، حديث 3.

7. مجمع البيان : 5 / 353 ، تفسير سورة المعارج.

8. نهج البلاغة ، قسم الرسائل رقم 31.

9. بحار الأنوار : 7 / 128 ، الحديث 11.

10. نهج البلاغة : الخطبة 71.

11. بحار الأنوار : 8 / 66 ، الباب 22 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 6.

12. مجمع البيان : 9 ـ 10 / 739 ، تفسير سورة الفجر.

13. بحار الأنوار : 7 / 129.

14. البلد : ١١ ـ ١٦.

15. البلد : ١٧ ـ ٢٠.

مقتبس من كتاب : مفاهيم القرآن / المجلّد : 8 / الصفحة : 243 ـ 249