الإشهاد يوم القيامة

طباعة

الإشهاد يوم القيامة

إنّ القضاء في المحاكم العرفية يبتني أحياناً علىٰ شهادة شهود لصالح شخص أو ضدّه ، فإذا كانت الشهادة حائزة للشرائط يُصدر القاضي رأيه علىٰ وفقها ، والقرآن الكريم يحكي عن وجود شهود يوم القيامة فيقومون ويشهدون ، يقول سبحانه : ( وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) (1) ، ويقول في آية أُخرىٰ : ( يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَـٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ). (2)

غير أنّ الشهود يوم القيامة على صنفين :

1. الشهود ، 2. شهود الأعضاء.

ولنتناول الصنف الأوّل بالبحث.

إنّ القرآن الكريم يخبر عن وجود شهود ، يشهدون على عمل الإنسان خيره وشرَّه ، ويذكرهم بالنحو التالي :

1. الله سبحانه

انّه سبحانه أكبر وأصدق شاهد على عمل الإنسان لإحاطته به منذ نشوئه إلى موته ، يقول سبحانه : ( لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ ) (3) ويقول أيضاً : ( إِنَّ اللَّـهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (4) ، وفي آية ثالثة : ( فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّـهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ ). (5)

ولا غرو في ذلك فهو سبحانه محيط بالإنسان وهو معه أينما كان يراه ليلاً ونهاراً ، ويقف علىٰ ظواهر أعماله سرائرها وما يكمن في ضميره.

2. أنبياء الله

الشاهد الثاني من الشهود هم أنبياء الله تبارك وتعالى ، يقول سبحانه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا ). (6)

والآية تتضمن أمرين :

الأوّل : انّ لكلّ أُمّة شهيداً ، وأمّا من هو ؟ فالآية ساكتة عنه ، ويمكن استظهار انّ المراد من الشهيد هو نبي كلّ أُمّة ، بشهادة انّه سبحانه صرّح بانّ المسيح عليه‌السلام يكون شهيداً على أُمّته ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ). (7)

الثاني : انّ النبي الخاتم بحكم الآية الأُولى شهيد علىٰ هؤلاء ، إنّما الكلام في تعيين المشار إليه ، فهل المراد انّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شاهد على الأنبياء الذين هم شهود ؟ أو شاهد على أُممهم ؟ هناك احتمالان :

وثمة نكتة جديرة بالإشارة وهي أنّ شهادة النبي والأنبياء عليهم وعلى أُممهم رهن علم وسيع بأحوال الأُمّة ، فانّ أداء الشهادة فرع تحمّلها ، وتحمُّلها فرع حضور الشاهد الواقعة حضوراً يرى الواقع على نحو يصح له أن يشهد. ومن الواضح بمكان أنّ العلوم التي ينالها الإنسان لا تغني عن هذا النوع من الشهادة وذلك لبعد الشاهد زماناً ومكاناً عن المشهود له أو المشهود عليه ، وهذا يدل على أنّ لهم إحاطة علمية بما يجري على أُممهم من الأعمال والأفعال.

ولا غرو في ذلك فانّه تبارك وتعالى إذا أراد أن يتخذ منهم شهوداً يمدّهم بالعلم الكافي في عالم الشهادة حتى يقفوا علىٰ ما يجري في أذهانهم ونفوسهم من الأفكار والآراء الصحيحة والباطلة ، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على سعة علمهم.

3. النبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم

يظهر من غير واحد من الروايات أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الخاتم شاهد على أعمال أُمّته ، وقد ورد في ذلك غير واحد من الآيات ، يقول سبحانه : ( مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ). (8)

وفي آية أُخرىٰ : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ). (9)

وقد وصفت بعض الآيات نبي الإسلام بأنّه شاهد ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ). (10)

وفي آية أُخرى ( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ) (11).

والمراد شهادته على أعمال أُمّته من خير وشر وصلاح وفساد ، وأداء الشهادة فرع تحمّلها ولا يتحمله إنسان إلّا بعد العلم بظواهر أعمالهم وبواطنها ، وخير نياتهم وشرّها ، وهذا يدل على سعة علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالظواهر والبواطن ، والحقائق والرقائق.

4. المثاليّون من الأُمة الإسلامية

قال سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ). (12)

فيقع الكلام في تعيين ما هو المقصود من المخاطبين ، فهل المراد الأُمّة الإسلامية قاطبة ؟ وعلى هذا يكون المشهود عليهم هم الأُمم السالفة ، أو المراد شهادة بعض الأُمّة على بعض ؟

والظاهر انّ الثاني هو المتعيّن ، إذ لو كانت الأُمّة الإسلامية أُمة صالحة برُمَّتها لصحت شهادتهم ، وأمّا إذا كانت غالبية الأُمة غير شاكرين ، كما يقول سبحانه : ( وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (13) فكيف تكون تلك الأُمة بعامتهم شهداء ؟!

فلا محيص عن كون المراد بعض الأُمّة لا جميعهم ، وليس هذا البعض إلّا من اختارهم الله سبحانه أئمّة على الأُمّة وحكّاماً على البلاد.

يقول الإمام الصادق عليه السلام : فإن ظننت انّ الله عنىٰ بهذه الآية جميعَ أهل القبلة من الموحدين ، أفترىٰ أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا علىٰ صاع من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟! كلا لم يعن الله مثل هذا في خلقه. (14)

ويبقى ثمة سؤال ، وهو انّه إذا كان المراد بعض الأُمّة الذين شملتهم العناية الإلهية وجعلتهم صفوة عباده ، فلماذا ينسب الحكم إلى الجميع ؟

والجواب : انّ ذلك ليس بغريب ، فقد ورد نظير ذلك في الذكر الحكيم حيث وصف جميع بني إسرائيل بجعلهم ملوكاً مع أنّ البعض القليل منهم قد تصدّوا لمنصة الحكم كداود وسليمان وغيرهما ، يقول سبحانه : ( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) (15) وهذا يدل على أنّه تصحّ نسبة الحكم إلى الجميع وإن كان الحكم خاصّاً ببعضهم. والقدر المتيقن من شهداء الأُمة الذي يخبر عنه قوله سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (16) هم الأئمّة المعصومون قرناء الكتاب وأعداله بنصِّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي ».

وقال سبحانه : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ). (17)

دلت الآية علىٰ أنّه سبحانه أورث علم الكتاب المصطفين من عباده لا جميع عباده ، وثمة سؤال انّه لماذا لم يورث علم الكتاب جميع عباده ؟ وتجيب الآية بأنّهم علىٰ ثلاثة أصناف ، فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، وهاتان الطائفتان لا تستحقان وراثة علم الكتاب ، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ، فهؤلاء هم الذين اصطفاهم الله من عباده ورزقهم فضلاً كبيراً ، كما يقول في ذيل الآية ( ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ، فهذه الفضيلة الكبيرة إنّما هي للمصطفين من عباده سبحانه لا لجميعهم. فعلى المفسّر الخبير ، أن يتعرف على هؤلاء الذين اصطفاهم الله من عباده ، ويُنيخ مطيّته على عتبة أبوابهم.

5. الملائكة

دلّت غير واحدة من الآيات علىٰ أنّ الملائكة من شهداء الأعمال ، وهم الذين يستنسخون ما يقوم به الإنسان من أعمال ثمّ يشهدون عليه يوم القيامة ، وربّما يسوقون المشهود عليه إلى المحشر ، يقول سبحانه : ( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ). (18)

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « وانتفعوا بالذكر والمواعظ ، فكأن قد علقتكم مخالب المنية ، وانقطعت منكم علائق الأُمنية ، ودهمتكم مفظعات الأُمور ، والسِّياقة إلى الورد المورود فـ : ( كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ) سائق يسوقها إلى محشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها ». (19)

وقد ذكرنا أنّ الملائكة الشهود هم الذين يكتبون أعمال الإنسان ويسجّلونها ، ويدل عليه قوله سبحانه : ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (20) ، وقال عزّ من قائل : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (21) وطبيعة الحال تقتضي أن يكون كتّاب الأعمال هم الشهود عنده في المحشر ولعلهم هم الساقة أيضاً إلى النار أو الجنة.

6. الأرض

أخبر سبحانه بأنّ الأرض تحدّث أخبارها عند قيام القيامة ، يقول سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) (22) وليس في الآية ما يدل على تعيين ما يخبر عنه غير أنّ مناسبة المقام تقتضي علىٰ أنّ المراد التحدّث بالأعمال التي اقترفها الإنسان سواء أكانت خيراً أم شراً ، ولأجل ذلك أردفه بجزاء الإنسان بأعماله ، قال سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ). (23)

وقد روي في السنّة انّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قال : « أتدرون ما أخبارها ؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وانّه بما عمل علىٰ ظهرها تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا ، وهذا أخبارها ». (24)

وأمّا البحث في أنّ الأرض كيف تتحمل تلك الشهادة وتؤدّيها يوم القيامة فهو خارج عن موضوع بحثنا ، وقد قلنا في محله : إنّ كلّ موجود ـ وإن بلغ من الضعف بمكان ـ له نصيب من العلم والإدراك ، وانّ الوجود في جميع المراتب يساوق العلم والقدرة ، غاية الأمر علماً وقدرة يناسبان مقام الوجود المفروض له ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ). (25)

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « أما إنّ الله عزّ وجلّ كما أمركم أن تحتاطوا لأنفسكم وأديانكم وأموالكم باستشهاد الشهود العدول عليكم ، فكذلك قد احتاط على عباده ولكم في استشهاد الشهود عليهم ، فلله عزّ وجلّ على كلّ عبد رقباء من كلّ خلقه ومعقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ويحفظون عليه ما يكون منه من أعماله وأقواله وألفاظه وألحاظه والبقاع التي تشتمل عليه شهود ربّه له أو عليه ، والليالي والأيام والشهور شهوده عليه أو له ، وسائر عباد الله المؤمنين شهوده عليه أو له ، وحفظته الكاتبون أعمالَه ، شهود له أو عليه ». (26)

سأل أبو كهمس أبا عبد الله عليه السلام فقال : يصلّي الرجل نوافله في موضع أو يفرّقها ؟ قال : « لا ، بل هاهنا وهاهنا فانّها تشهد له يوم القيامة ». (27)

7. الزمان

إذا كانت الأرض تحدّث أخبارها يوم القيامة ، فهكذا الزمان يشهد على ما عمل به الإنسان ، روى الكليني في الكافي باسناده انّ أبا عبد الله عليه السلام ، قال : « إنّ النهار إذا جاء قال يابن آدم اعمل في يومك هذا خيراً أشهد لك به عند ربّك يوم القيامة ، فانّي لم آتك فيما مضى ولا آتك فيما بقي ، وإذا جاء الليل قال مثل ذلك ». (28)

كما روي عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عليه السلام ، قال : « الليل إذا أقبل نادى مناد بصوت يسمعه الخلائق إلّا الثقلين : يابن آدم إنّي علىٰ ما فيّ شهيد فخذ منّي ، فانّي لو طلعت الشمس لم تزدد فيّ حسنة ولم تستعتب فيَّ من سيئة ، وكذلك يقول النهار إذا أدبر اللّيل ». (29)

8. القرآن

تدلّ بعض الآيات على أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يشتكي من أُمّته لهجرهم القرآن ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ). (30)

والآية بما انّها مصدرة بالفعل الماضي أعني : « قال » يمكن أن يقال إنّ الرسول يشتكي في هذه النشأة كما يحتمل أن ترجع شكايته إلى النشأة الأُخرى وانّ استعمال الفعل الماضي فيما لم يتحقق لأجل كونه محقّق الوقوع.

وعلىٰ كلّ حال فالروايات تدل على أنّ نفس القرآن يشتكي يوم القيامة.

روى سعد الخفّاف ، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : « ... انّه سبحانه يخاطب القرآن الكريم ، ويقول : يا حجتي في الأرض ... كيف رأيت عبادي ؟ فيقول : منهم من صانني وحافظ عليَّ ولم يضيع شيئاً ، ومنهم من ضيّعني واستخف بحقّي وكذب وأنا حجتك على جميع خلقك ، فيقول الله تبارك وتعالى : وعزَّتي وجلالي وارتفاع مكاني لأُثيبنَّ عليك اليوم أحسن الثواب ولأُعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب ». (31)

9. صحيفة الأعمال

إنّ من الشهود الصحف التي تكتبها الملائكة الموكّلون على أعمال الإنسان ليلاً ونهاراً فلا يفترون عن كتابة كلّ صغير وكبير ، وقد دلت الآيات على ذلك وإليك بعض ما ورد.

( قُلِ اللَّـهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ). (32)

( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ). (33)

والآيتان صريحتان في أنّ الملائكة الموكّلين يكتبون الأعمال ظاهرها وخفيّها ، ولكن ليس فيها تصريح بالاحتجاج بهما يوم القيامة ، وبما انّ كتابة الأعمال يجب أن تكون مقترنة بالغرض ليخرج عن كونه عبثاً ، فلا محيص من القول بأنّ الكتابة مقدمة للاحتجاج بها على العباد ، وهذا ( أي الاحتجاج بصحائف الأعمال ) هو الظاهر من الآيات التالية :

قال سبحانه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ). (34)

وليس إشفاقهم إلّا لأجل انّهم يجدون فيه جليل أعمالهم ودقيقها ، كما يقول سبحانه حاكياً عن لسان المشركين : ( مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ). (35)

ويقول سبحانه : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ... * هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ) (36).

ويستفاد من بعض الآيات أنّ صحيفة الأعمال تُعلَّق على عنق الإنسان ، يقول سبحانه : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ). (37)

وثمة سؤال ، وهو انّ ما جاء في تلك الصحف لا يتجاوز عن كونها صحفاً نسب فيها إلى الإنسان عدّة جرائم ، فكيف يمكن أن يحتج بها على الإنسان ؟

والجواب : انّ واقع هذه الصحف غير معلوم لنا ، ونحن نتصوّر أنّها صحف كصحف الدين وانّ صحيفة عمل كلّ إنسان كاضبارة المحاكم ، فعندئذٍ يطرح السؤال التالي : كيف يمكن ، أن يحتج بالصحيفة المجردة عن الاعتراف بالذنب ؟

والجواب : يمكن أن تكون واقع الصحف على نحو لا يمكن للإنسان إنكار ما سجِّل فيها ؛ ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ). (38)

وقد تقدّم في آية أُخرى أنّ المجرم حينما يرىٰ صحيفة أعماله يعترف بأنّه ما غادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.

وهذا السؤال ونظائره ناجم من قياس حال هذه النشأة بالنشأة الأُخرى ، مع أنّ النشأتين متشابهتان لا متماثلتان ، ولا يمكن إجراء حكم هذه النشأة في الآخرة.

وتشير بعض الروايات إلىٰ محاولة الشغب التي يثيرها بعض المجرمين بغية إنكار ما سجِّل في صحيفة أعمالهم ، وربَّما يحلفون بأنّهم لم يفعلوا ذلك فعندئذٍ تشهد عليهم أعضاؤهم وجوارحهم على ما اقترفوه فيُفحمون.

روى القمي في تفسير قوله سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). (39)

قال : « إذا جمع الله الخلق يوم القيامة دفع إلى كلّ إنسان كتابه فينظرون فيه فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئاً ، فيشهد عليهم الملائكة فيقولون : يا ربّ ملائكتك يشهدون لك ، ثمّ يحلفون انّهم لم يعملوا من ذلك شيئاً وهو قوله : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) (40) فإذا فعلوا ذلك ختم على ألسنتهم وينطق جوارحهم بما كانوا يكسبون ». (41)

وروى أيضاً : ( حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّـهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ). (42)

فانّها نزلت في قوم يعرض عليهم أعمالهم فينكرونها ، فيقولون : ما عملنا منها شيئاً ، فيشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم.

فقال الصادق عليه السلام : « فيقولون لله : يا ربّ هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ، ثمّ يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئاً ، وهو قول الله : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) (43) وهم الذين غصبوا أمير المؤمنين ، فعند ذلك يختم الله على ألسنتهم وينطق جوارحهم ، فيشهد السمع بما سمع ممّا حرّم الله ، ويشهد البصر بما نظر به إلى ما حرّم الله ، وتشهد اليدان بما أخذتا ، وتشهد الرجلان بما سعتا ممّا حرم الله ، وتشهد الفرج بما ارتكب ممّا حرّم الله ، ثمّ أنطق الله ألسنتهم فيقولون هم لجلودهم : ( لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ) فيقولون : ( أَنطَقَنَا اللَّـهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ ) (44) أي من الله ( أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ ) والجلود الفروج ( وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّـهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ). (45)

10 ـ 11. شهادة الأعضاء والجلود

يذكر القرآن الكريم أنّ الجوارح والجلود تشهد علىٰ ما اقترفه المذنبون ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (46) ، فالآية صريحة في شهادة اللسان علىٰ ما فعله ولعلّه في موقف خاص من مواقف القيامة بشهادة انّ القرآن يذكر انّه يختم على أفواههم فلا تتكلّم ألسنتهم وإنّما تتكلّم أيديهم وأرجلهم ، كما قال سبحانه : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). (47)

وأمّا شهادة الجلود فيدل عليه قوله سبحانه : ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّـهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّـهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ). (48)

فالآية صريحة علىٰ شهادة الجلود بما اقترفه ، وربّما يقال من أنّ المراد من الجلود هو خصوص الفروج ، وإنّما كني بها صيانة لحسن التعبير ، ولكنّه غير ظاهر لوروده في القرآن الكريم ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ). (49)

بقي هنا سؤال وهو أنّ المذنبين يعترضون على خصوص شهادة الجلود ولا يعترضون علىٰ شهادة سائر الأعضاء والجوارح ، فما هو وجهه ؟

والجواب : انّ الجلود تشهد علىٰ ما يصدر عنها بالمباشرة ، بخلاف السمع والبصر فانّها كسائر الشهود تشهد بما ارتكبه غيرها. (50)

والمقصود أنّ الأعضاء والجوارح كسائر الشهود الذين يشهدون على ما صدر عن غيرهم فلا يعترض عليهم بشيء ، وهذا بخلاف الجلود فانّها تشهد على ما صدر عنهم مباشرة فتستحق أن يعترض علىٰ شهادتها ، لأنّ الفعل قد صدر عنها.

إلى هنا تمّ ما نرمي إليه من البحث في الشهود يوم القيامة ، ولو أُضيف إليه تجسّم الأعمال الذي هو شاهد صدق علىٰ صلاح الأعمال وطلاحها لبلغ عدد الشهود إلى اثني عشر شاهداً ، وسنعقد فصلاً خاصاً للبحث في تجسم الأعمال إن شاء الله.

الهوامش

1. غافر : 51.

2. هود : 18.

3. آل عمران : 98.

4. الحج : 17.

5. يونس : 46.

6. النساء : 41.

7. النساء : 159.

8. الحج : 78.

9. البقرة : 143.

10. الأحزاب : 45 والفتح : 8.

11. المزمل : 15.

12. البقرة : 143.

13. الأعراف : 17.

14. تفسير البرهان : 1 / 160.

15. المائدة : 20.

16. البقرة : 143.

17. فاطر : 32.

18. ق : 21 ـ 23.

19. نهج البلاغة : الخطبة 85.

20. ق : 18.

21. الانفطار : 10 ـ 12.

22. الزلزلة : 4 ـ 5.

23. الزلزلة : 6 ـ 8.

24. مجمع البيان : 9 ـ 10 / 798 ، تفسير سورة الزلزلة.

25. الإسراء : 44.

26. بحار الأنوار : 7 / 315 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 11.

27. بحار الأنوار : 7 / 318 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 15.

28 و 29. بحار الأنوار : 7 / 325 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 22 و 21.

30. الفرقان : 30.

31. بحار الأنوار : 7 / 319 ـ 320 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 16.

32. يونس : 20.

33. الزخرف : 80.

34. الكهف : 49.

35. الكهف : 49.

36. الجاثية : 27 ـ 29.

37. الإسراء : 13.

38. الإسراء : 14.

39. يس : 65.

40. المجادلة : 18.

41. بحار الأنوار : 7 / 312 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 3.

42. فصلت : 20 ـ 21.

43. المجادلة : 18.

44. فصلت : 21 ـ 22.

45. بحار الأنوار : 7 / 312 ، الباب 16 من كتاب العدل والمعاد ، حديث 4.

46. النور : 24.

47. يس : 65.

48. فصلت : 19 ـ 21.

49. المؤمنون : 5.

50. الميزان : 17 / 379.

مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 8 / الصفحة : 260 ـ 273