ما هو الدّين؟

طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج1 ، ص 6 ـ 10

 

 

 

(6)

 

2ـ ما هو الدّين؟ و ما هي جذوره في الفطرة الإِنسانية؟


لا يحاول الدّين إِرجاع البشر إلى الجهل و التخلف ، بل هو ثورة فكرية
تقود الإِنسان إلى الكمال ، و الترقّي في جميع المجالات .  و ما هذه المجالات
إلا إلى أَبعاده الأَربعة:
أ ـ تقويم الأَفكار و العقائد و تهذيبها عن الأَوهام و الخرافات.
ب ـ تنمية الأصول الأخلاقية.
ج ـ تحسين العلاقات الإِجتماعية.
د ـ إلغاء الفوارق العنصرَّية و القوميَّة.
و يصل الإِنسان إلى هذه المآرب الأَربعة في ظل الإِيمان بالله الذي لا
ينفك عن الإِحساس بالمْسؤُوليَّة ، و إليك توضيحها:
أمّا في المجال الأَوّل ، أعني إصلاح الأَفكار و العقيدة فنقول: لا
يتمكن الإِنسان المفكر من العيش بلا عقيدة ، حتى أولئك الذين يضفون
على منهجهم طابع الإِلحاد ، و يرفعون عقيرتهم بشعار اللاَّدينية ، لا يتمكنون
من العيش بلا عقيدة في تفسير الكون و الحياة . و إليك نظرية الدّين لواقع
الكون و الحياة.
إِنَّ الدين يفسر واقع الكون ، و جميع الأَنظمة المادية بأَنّها إِبداع موجود
عال قام بخلق المادة و تصويرها و تحديدها بقوانين و حدود ، و قد أخضعه
لنظام دقيق ، فالجاعل غير المجعول ، و المعطي غير الآخذ.
كما أَنَّه يفسر الحياة الإِنسانية بأَنّها لم تظهر على صفحة الكون عبثاً ، و لم
________________________________________


(7)


يُخلق الإِنسان سدى ، بل لتكوّنه في هذا الكوكب غاية عليا يصل إليها في
ظل تعاليم الأَنبياء و الهداة المبعوثين من جانب الخالق إلى هداية مخلوقَه.
هذا هو تفسير الدين لواقع الكون سر الحياة ، غير أَنَّ المادّي يحاول
تفسير الكون بشكل مغاير ، و هو يقول:
إِنَّ المادة الأُولى قديمة بالذات ، و هي التي قامت فأَعطت لنفسها نظماً ،
و أَنَّه لا غاية لها ، و لا للإِنسان القاطن فيها.
و بعبارة أُخرى : إِنَّ للكون في نظرية الإِنسان الإِلهي بداية و نهاية ؛ فإِنَّ
نشوءه من الله سبحانه ، كما أَنَّ نهايته - باسم المعاد - إلى الله تعالى.
غير أَنَّ الكون في نظرية الإِنسان المادي فاقد للبداية و النهاية ، بمعنى
أَنَّه لا يتمكن من ترسيم بداية ، و أَنَّه كيف تحقق و تكوّن و وُجد؟ بل كلّما
سأَلته يجيبك : بـ « لا أدري » . كما أَنَّه لا يتمكن من تفسير نهايته و غايته ،
ولو سألته عن ذلك لأجابك بـ « لا أَعلم » .  فهذا العالم عند الفيلسوف
المادي أشبه بكتاب مخطوط مخروم قد سقطت من أوله و آخره أَوراق ممّا
أَدخله في إِطار الإِبهام ، فلا يقف الإِنسان على بدئه ، ولا على ختامه ،
فالفيلسوف الماديّ جاهل ببدء العالم و ختامه ، و ليس له هنا جواب سوى « لا
أَدري » .
و بعبارة ثالثة: لم تزل الأَسئلة الثلاثة التالية عالقة بذهن الإِنسان منذ
أَنْ عرف يمينه من يساره ، و هي:
1ـ إِنَّه من أَين؟
2ـ و إلى أَين؟
3ـ و لماذا خُلِق؟.
و هذه الأسئلة الثلاثة يجيب عنها الفيلسوف الإِلهي بأجوبة رصينة تتضح
من خلال هذه الرسالة ، و إجمالها أنَّ البداية من الله ، و أنَّ نهاية المطاف هي
________________________________________


(8)


الله سبحانه { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }(1) ، و أَنَّ الغاية هي التخلّق بالقيم
و المثل الأخلاقية ، و الإِتصاف بأسمائه و صفاته سبحانه ، غير أنَّ المادي يَكِلُّ
عندالإِجابة عن هذه الأسئلة ، و لا يأتي بشيء مقنع.
و على هذا الأساس قلنا إنَّ للدّين دوراً في تصحيح الأفكار و العقائد.
و من خلال المقارنة بين الفكر الإلهي والمنهج المادي في الإِجابة على
الأسئلة الثلاثة يعلم الإِنسان أنَّ التكامل الفكري إنّما يتحقق في ظل الدين ؛
لأنّه يكشف آفاقاً وسيعة أمام عقليته و تفكيره ، في حين أنَّ المادي يملأ الذهن
بالجهل والاءِبهام ، بل يقوده إلى الخرافات . إذ كيف يمكن للمادة أن تمنح
نفسها نُظُماً؟ و هل يمكن أن تّتحد العلّة والمعلول ، و الفاعل و المفعول ،
والجاعل والمجعول؟.
هذا ما يتعلق بدور الدين في مجال إِصلاح الفكر والعقيدة.
وأمَّا في المجال الثاني ، و هو ما يتعلق بتنمية الدَّين للأصول السامية
للأَخلاق فنقول : إِنَّ العقائد الدينية تعد رصيداً للأصول الأَخلاقية إِذ التقيد
بالقيم ورعايتها لا ينفك عن مصاعب وآلام يصعب على الإِنسان تحملها إلاّ
بعامل روحي يسهّلها ويزيل صعوبتها له ، وهذا كالتضحية في سبيل الحق ،
والعدل ورعاية الأَمانة ، و مساعدة المستضعفين . فهذه بعض الأصول الأَخلاقية
التي لا تنكر صحّتها ، غير أَنَّ تجسيدها في المجتمع يستتبع آلاماً
و صعوبات ، كما يستتبع الحرمان من بعض اللذائذ ، فما هو ضمان تحقق
هذه الأصول؟.
إِنَّ الإِعتقاد بالله سبحانه ، وإنَّ في إِجراء كل أصل من الأصول الأخلاقية
أَجراً كبيراً يصل إليه الإِنسان في الحياة الأخروية ، خير عامل لتحبيذ الإِنسان
وتشويقه على إِجرائها ، والتلّبس بها في حياته الدنيويَّة ، و لولا ذاك الإِعتقاد
لأَ صحبت الأَخلاق نصائح وعظات جافة لا ضمان لإِجرائها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة : الآية 156.
________________________________________


(9)


و في هذا الصدد يقول ويل ديوارانت المؤرخ المعاصر:  « لولا الدّين
لتجلت الاخلاق و كأَنّها أَشبه بالمبادلات الإِقتصادية ، و لصارت الغاية منها
الفوز بالنجاح الدنيوي بحيث لو كان النجاح و الفوز مضاداً للقيم لتمايل
عنها ، لكون الغاية في جانب اللاقيم ، و إِنّما هي العقيدة الدينية التي تترك
الإِحساس بالمسؤولية في روح الإِنسان » (1).
و أَمّا في المجال الثالث ، و هو ما يتعلق بتوطيده العلاقات الإِجتماعية ،
فنذكر فيه ما ذكرنا في دعمه الأَخلاق السامية ، فإِنَّ العقيدة الدّينية تساند
الأصول الاجتماعية ؛ لأنّها تصبح عند الإِنسان المتديّن تكاليف لازمة ، و يكون
الإِنسان بنفسه مقوداً إلى العمل و الإِجراء.
غير أنَّ تلك الأصول بين غير المتديّنين لا تراعى إِلاّ بالقوى المادَّية
القاهرة .  و عندئذٍ لا تتمتع الأصول الإِجتماعية بأي ضمان تنفيذي ، و هذا
مشهود لمن لاحظ حياة الأمم المادّية غير الملتزمة بمبدأ أو معاد.
و أمّا المجال الرابع ، أعني إلغاءه الفوارق العنصرية و القومية المفروضة
على عاتق المستضعفين بالقوة و السلطة ، و الإِغراء و الجهل ، و تشويه الحقائق .
فنقول : إِنّ الدّين يعتبر البشر كلهم مخلوقين لمبدأ واحد ، فالكل
بالنسبة إليه حسب الذات و الجوهر كأسنان المشط ، و لا يرى أي معنى للتمييز
و التفريق ، و ترفيع بعض ، و تخفيض بعض آخر ، كما لا يرى معنى لوجود أناس
اتخمهم الشبع ، و آخرين أهلكهم الجوع  و الحرمان.
فهذه هي المجالات الأربعة التي للدين فيها دور و تأثير واضح ، أَفيصح
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لذائذ الفلسفة : ص 478.
________________________________________


(10)


بعد الوقوف على هذه التأثيرات المعجبة أنْ نهمل البحث عنه ، و نجعله في
زاوية النسيان؟
غير أنّ هنا نكتة نلفت نظر القارئ إليها ، و هي أنَّه ليست كل عقيدة
تتسم باسم الدين قادرة على خلق هذه الآثار و إبداعها ، و إنّما تقدر عليها كل
عقيدة دينية تقوم على أساس العقل ، و تكون واصلة إلينا عن طريق الأنبياء
الصادقين ، ففي مثل تلك العقيدة نجد الحركة و الحياة ، و في غير هذه
الصورة يصبح الدين عقائد خرافية تتجلى بصورة الرهبانية و الميول السلبية
إلى غير ذلك من الآثار السيئة التي نلمسها في العقائد الدينية التي لا تمت
إلى الوحي و رجال الدين الحقيقي بصلة.
فالمفكر الغربي إذ يتهم الدّين بأَنَّه عامل التخلف و الإنحطاط ، و مضاد
للتقدم و الرقي ، فهو يهدف إلى أَمثال هذه العقائد الدينية.
و هناك نكتة أخرى و هي : إِنَّ الدين الحقيقي يلغي الفوارق السلبية
التي لا تمت إلى أَساس منطقي بصلة ، و أَمّا المميزات الإِيجابية التي لا
تنفكّ عن أَفراد البشر فهي غير ملغاة أَبداً ، فكما أنَّ أَصابع اليد الواحدة
تختلف كل واحدة منها عن الأخرى ، كذلك أَفراد البشر يتفاوتون من حيث
العقل و الفكر ، و الحركة و النشاط.
فالفوارق التي تنشأ من نفس طبيعة الإنسان غير قابلة للحذف و التغيير ،
و ما يرفضه الدين و يحذفه عن مجال الحياة هو الإِمتيازات النابعة من القوة
و السلطة.
إلى هنا تعرفنا على الجوانب الحقيقية للدين ، و حان الآن وقت التعرف
على جذوره في فطرة الإنسان.