أدلة التقيّة وأصولها التشريعيّة ـ الدليل العقلي

طباعة

أدلة التقيّة وأصولها التشريعيّة

أدلّة التقيّة من الدليل العقلي

وأمّا عن الدليل العقلي ، فالواقع إنّه لم يكن للعقل البشري صلاحيّة الإستقلال بالحكم عند جميع المسلمين بما في ذلك المعتزلة ؛ إذ لم يثبت عنهم اعتبار العقل حاكماً في المقام وتقديمه على حكم الشرع (1) ، والصحيح من الأقوال : إنّه الطريق الموصل إلى العلم القطعي ، والسبيل إلى معرفة حجّية القرآن ودلائل الأخبار (2).

فالعقول وإن كان لها قابليّة الإدراك ، إلّا أن إدراكها يتناول الكليّات ولا يتعدّى إلى الجزيّئات والفروع التي تحتاج إلى نصّ خاصّ بها ، وهذا لا يمنع من أن يدرك العقل السليم خصائص كثيرة في تفسير النصوص بشرط أن لا يكون خاضعاً لتأثيرات اُخرى تصده عن الوصول إلى الواقع ، كما لو ناقش في الأوليّات والبديهيّات ولم يفرق بين قبح الظلم وحسن العدل مثلاً.

كما لا يمنع أيضاً من أن يستقلّ ببعض الأحكام ، إذ لو عُزل العقل عن الحكم لهدم أساس الشريعة ، غير أنّه لا يتعرض للتفاصيل والأشياء الخارجيّة ولا يتّخذ منها موضوعات لأحكامه ، وإنّما يحكم بأمور كلية عامّة كما مرّ.

فهو مثلاً لا يحكم بوجوب الصوم والصلاة ، وإنّما يحكم بإطاعة الشارع المقدّس وإمتثال أوامره التي منها الأمر بالصوم والصلاة.

وهو لا يتعرّض للبيع والإجارة والزواج والطلاق ، بل يقرّ كلّ ما يصلح الجميع ويحفظ النظام العام.

وهو لا يحلّل هذا أو يحرم ذاك ، وإنّما يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، وبوجوب دفع الضرر عن النفس ، وبحرمة إدخاله على الغير.

فالعقل له القدرة في أن يحكم بهذه الكليّات العامّة وما إليها حكماً مستقلّاً ، حتّى وإن لم يرد فيها نصّ شرعي ، ونحن نكتشفها ونطبقها على مواردها دون أيّة واسطة. وأمّا ما جاء في لسان الشارع من الأحكام في الموارد التي استقل العقل بها فمحمول على الإرشاد والتأكيد لحكم العقل ، لا على التأسيس والتجديد ، ومن هذه الموارد :

١ ـ حكم العقل بالإحتياط : كما لو كان لديك إناءان : أحدهما طاهر ، والآخر نجس ، ولم تستطع التمييز بينهما ، أو تيقّنت أنّه قد فاتك فرض العشاء أو المغرب ولم تميز أحدهما.

ففي مثل هذا الحال يحكم العقل بوجوب الإحتياط باجتناب الإنائين في المثال الأوّل ، وبأداء الصلاتين في المثال الثاني. ولهذا اشتهر عن الفقهاء قولهم : « العلم باشتغال الذمّة يستدعي العلم بفراغها ».

٢ ـ حكم العقل بالبراءة : كما لو كانت هناك قضيّة لدى الفقيه لا يعرف حكمها هل هو الفعل أو الترك ؟ بعد أن استفرغ ما في وسعه للبحث عنها في جميع أدلّة الأحكام ، ومع هذا لم يجد شيئاً في خصوص تلك القضيّة.

فهنا يلجأ الفقيه إلى العقل الذي يحكم في مثل هذه الحالة التي لم يصل بها بيان من الشارع بقبح العقاب بلا بيان ، وبناء على هذه القاعدة العقليّة يحكم الفقيه بجواز الأمرين : الفعل والترك.

ومن هنا يتّضح أنّ الفرق بين الإحتياط والبراءة العقليين ، هو أن مورد الإحتياط هو الشكّ في المكلّف به بعد العلم بوجود التكليف ، ومورد البراءة هو الشكّ في أصل وجود التكليف.

٣ ـ حكم العقل بدفع الضرر : قسّم الفقهاء الضرر على قسمين ، وهما : الضرر الدنيوي كالمتعلّق بالنفس والعرض والمال ، والضرر الاُخروي كالعقاب على مخالفة الشارع.

والواقع ، إنّ وجوب دفع الضرر لا ينكره إلّا الجاهل الغبي ، لأنّه من أحكام الفطرة التي فُطرت عليها النفوس ، ومن ينكر ذلك فهو أقلّ رتبة من الحيوانات التي تعرف ذلك بفطرتها ، ألا ترى أنّها تنفر من الضرر وتسعى إلى النفع بفطرتها دون توسّط حكم العقل بالحسن والقبح ؟

إنّ هذه القاعدة قاعدة التحسين والتقبيح العقليين اعتنى بها المتكلّمون كثيراً ، وأمّا علماء الاُصول فهم وان لم يخصّصوا لها باباً مستقلاً ، إلّا أنّهم تكلّموا عنها استطراداً في مباحث الظنّ والإحتياط والبراءة ، وتتلخّص أقوالهم بأن الضرر إمّا أن يكون دنيويّاً ، أو أخرويّاً ، وكلّ منهما إمّا أن يكون معلوم الوقوع أو مظنوناً أو محتملاً.

أمّا الضرر المعلوم ، فان العقل يحكم بوجوب دفعه مهما كان نوعه.

وأمّا المظنون والمحتمل ، فإنّ كان اُخروياً ، وكان ناشئاً عن العلم بوجود التكليف والشكّ في المكلَّف به ، فهو واجب الدفع ؛ لأنّه يعود إلى وجوب الإطاعة فيدخل في باب الإحتياط.

وان كان الخوف من الضرر الاُخروي ناشئاً من الشكّ في أصل وجود التكليف ، فالعقل لا يحكم بوجوب الدفع ؛ لوجود المؤمِّن العقلي وهو قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » أيّ : إنّ عدم البيان أمان من العقاب ، كما في قوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ) (3) زيادة على حديث الرفع المشهور كما تقدّم ، وحديث السّعة في الكافي عن أميرالمؤمنين عليه السلام ، أنّه قال : « .. هم في سعة حتّى يعلموا » (4) وقول الإمام الصادق عليه السلام :

« كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (5) وقوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ » (6) وهذا يعني دخوله في باب البراءة.

أمّا الضرر الدنيوي المظنون والمحتمل ، فإنّ العقل يحكم بوجوب دفعه ولا فرق بينه وبين الضرر المعلوم من هذه الجهة ؛ لأنّ الإقدام على ما لا يؤمَّن معه الضرر قبيح عقلاً.

فأيّ منّا مثلاً إذا تردّد عنده سائل موجود في إناء بين كونه سماً أو ماءً ولا يحكم عقله بوجوب إجتناب ذلك السائل ؟ والخلاصة : إنّ الضرر الدنيوي يحكم العقل بوجوب الإبتعاد عنه معلوماً كان أو مظنوناً أو محتملاً (7).

وواضح أنّ الإستدلال بالعقل على مشروعيّة التقيّة ، إنّما هو من جهة حرص العاقل على حفظ نفسه من التلف ، بل ومن كلّ ما يهدّد كيانه بالخطر ، أو يعرّض شرفه إلى الانتهاك ، أو أمواله إلى الضياع.

والتقيّة ما هي إلّا وسيلةٌ وقائيةٌ لحفظ هذه الأمور وصيانتها عندما يستوجب الأمر ذلك على أن لا يؤدّي إستخدامها إلى فسادٍ في الدين أو المجتمع كما لو أبيحت في الدماء مثلاً.

الهوامش

1. راجع مباحث الحكم عند الاُصوليين / محمّد سلام مدكور ١ : ١٦٢. فقد نقل عن كتاب مسلّم الثبوت قوله : « في كتب بعض المشايخ : إنّ المعتزلة يرون انّ الحاكم هو العقل » ثمّ نقل في ردّه عن محيط الزركشي قوله : « إنّ المعتزلة لا ينكرون ان الله هو الشارع للأحكام والموجب لها ، والعقل عندهم طريق إلى العلم بالحكم الشرعي ».

2. التذكرة باُصول الفقه / الشيخ المفيد : ٢٨ ، مطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد في المجلّد التاسع ، ط ٢ ، دار المفيد ، بيروت / ١٤١٤ هـ. وقد نقله عنه الكراجكي في كنز الفوائد ٢ : ١٥ ، دار الأضواء ، بيروت / ١٤٠٥ هـ ، إذ أورد فيه مختصر التذكرة باُصول الفقه للشيخ المفيد.

3. سورة الإسراء : ١٧ / ١٥.

4. فروع الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ باب ٤٨ من كتاب الأطعمة.

5. من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧ باب ٤٥.

6. عوالي اللآلي ٢ : ٤٤ / ١١١.

7. راجع في ذلك مقالات الشيخ محمّد جواد مغنية : ٢٥٠ ـ ٢٥٣ ، ط ٢ ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت / ١٩٩٣ م.

مقتبس من كتاب : [ التقيّة في الفكر الإسلامي ] / الصفحة : 94 ـ 98