القدرة على الفعل قبله

طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج1 ، ص 311 ـ 314

 

(311)



ثمرات التحسين و التقبيح العقليين
(6)


القدرة على الفعل قبله


هل الاستطاعة والقدرة في الإِنسان متقدمان على الفعل ، أو مقارنان
له؟.
العدليّة على الأوّل ، والأشاعرة على الثاني . و الحق التفصيل ، و لعلّ
هذا مراد الجميع.
بيان ذلك : إِنَّ القدرة تطلق و يراد منها أحد الأمرين:
الأوّل: صحة الفعل و الترك ، و إن شئت قلت: كون الفاعل في ذاته
بحيث إن شاء فعل ، و إن لم يشأ لم يفعل . فلو أريد من القدرة هذا المعنى ،
فلا شكّ أنّها مقدمة على الفعل فطرة ووجداناً ؛ فإنَّ القاعد  قادر على القيام
حال القعود ، و الساكت قادر على التكلم في زمان سكوته ، لكن بالمعنى
المزبور.
الثاني:  ما يكون الفعل معه ضروري الوجود باجتماع جميع ما يتوقف
وجود الفعل عليه ، و تحقق العلة التامة التي لا ينفك المعلول عنها . فالقدرة
بهذا المعنى مقارنة للفعل ، ليست مقدمة عليه تقديماً زمانياً و إنْ كانت متقدمة
رتبة.
________________________________________


(312)


والحق إِنَّ المسألة بديهية للغاية ، و ما أثير حولها من الشبهات خصوصاً ما
ذكره الشيخ الأشعري في (اللمع) أشبه بالشبه السوفسطائية (1). و مثله ما
ذكره تلاميذ مدرسته ، كالتفتازاني في (شرح المقاصد) و نظام الدين
القوشجي في )شرح التجريد((2) . و ما ذكرناه من التفصيل هو الحاسم في
البحث ، و يظهر لبّه من فخر الدين الرازي الذى نقله السيّد الجرجاني في
(شرح المواقف) (3).
و بذلك يظهر أَنَّ ما أقامته المعتزلة من البراهين على تقدم القدرة على
الفعل تنبيهات على المسألة ، و لا يحتاج الأمر إلى هذا التفصيل المُسْهَب ،
ولكن الذي ينبغي البحث عنه هو تبيين الحافز الذي دعى الشيخ الأشعريّ
إلى اختيار ذلك المذهب (مقارنة القدرة للفعل) ، مع أَنَّ التقدم و المقارنة
بالنسبة إلى ما جاء في الكتاب و السنّة متساويان ، فإذاً يقع الكلام في تعيين
الداعي إلى اختيار القول بالتقارن بل التركيز عليه.
المحتمل قوياً أنْ يكون الداعي هو قوله بمسألة خلق أفعال العباد ،
و إنّها مخلوقة لله لا للعباد لا أصالة و لا تبعاً ، حتى أنَّ القدرة الحادثة في العبد
عند حدوث الفعل غير مؤثرة في إيجاده بل مقارنة له ، فإذاً المناسب لتلك
العقيدة نفي القدرة المتقدمة على الفعل ، والإكتفاء بالمقارن له ، و كأن
الشيخ تصوّر أنّ القدرة المتقدمة على الفعل تزاحم قدرة الله تعالى ؛ فلأجل
ذلك وجد في نفسه دافعاً روحياً إلى البرهنة على بطلان التقدم ، و إثبات
التقارن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لا حظ اللمع : ص 93 - 94.
(2) شرح المقاصد : ج 1، ص 240 و شرح القوشجي، ص 392.
(3) شرح المواقف : ج 6، ص 154.
و قد جاء الأستاذ دام حفظه بجميع ما تورته الأشاعرة من البراهين العقلية في كتابه «الملل
و النحل» فلاحظ ج 2، ص 172 - 193.
________________________________________


(313)


نعم ، القول بالتقارن و نفي التقدم لا يختص بالشيخ الأشعري
و تلامذته ، بل وافقهم عليه بعض المعتزلة ، كالنّجار، و محمّد بن عيسى ،
و ابن الراوندي ، و غيرهم (1).
و قد اتفقت كلمة الجميع على أنّ قدرة الله تعالى متقدمة على الفعل .
و ذلك أيضاً معلوم حسب أصولنا ؛ لأنّ القدرة في غيره سبحانه عين القوة
و الإِمكان ، و في الواجب تعالى عين الفعلية و الوجوب ، و أَنَّ وجوده بالذات ،
و كل صفة من صفاته ، بالفعل ليس فيها قوة و لا إمكان و لا استعداد.
و قد أسهب صدر المتألهين الكلام في هذا المقام في أسفاره ، و دفع
بعض الإِشكالات التي ترد على القول بقدم قدرته و فعليته (2).


الاستطاعة في أحاديث أئمة أهل البيت
لقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت على تقدم الاستطاعة على
الفعل . و إليك بعض ما روي عنهم في هذا الشأن:
1ـ روى الصدوق عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله ـ عليه السَّلام ـ
قال: « ما كَلَّف الله العبادَ كُلْفَةَ فِعل و لا نهاهم عن شيء حتى جَعَل لهم
الإِستطاعة ، ثمّ أَمَرَهُم و نهاهم ، فلا يكون العبد آخذاً و لا تاركاً إلاّ
بالإِستطاعة متقدمةً قبل الأمر و النَّهي ، و قَبْل الأخْذ و التَّرك ، و قبل القبض
و البَسْط » (3).
2ـ وروى أيضاً عن أبي بصير عن أبي عبدالله قال : سمعته يقول
- و عنده قوم يتناظرون في الأفاعيل و الحركات - فقال: « الإِستطاعة قبل الفعل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح المواقف : ج 6، ص 92.
(2) الأسفار الأربعة : ج 6، ص 312.
(3) التوحيد للصدوق : باب الإستطاعة ، الحديث 19، ص 352.
________________________________________


(314)


لم يأمر الله عزوجل بِقَبْض و لا بَسْط إِلاَّ والعبدُ لذلك مستطيع » (1).
3ـ و روى أيضاً عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبدالله
ـ عليه السَّلام ـ يقول: « لا يكونُ مِنَ العَبَدِ قَبضٌ وَ لاَ بَسْطٌ إِلاَّ باسْتِطَاعَة
متَقَدّمة للقبْضِ والبَسْطِ» (2).
4ـ وروى أيضاً عن محمّد بن أبي عمير عمن رواه من أصحابنا عن
أبي عبدالله ـ عليه السَّلام ـ قال سمعته يقول: « لا يكُون العَبْدُ فاعلا إِلاَّ و هو
مُسْتَطيعٌ ، وَ قَدْ يَكُون مُسْتطيعاً غير فاعل ، وَ لا يكونُ فاعلا أبداً حتَّى يكُونَ معه
الإِستطاعة» (3) . و هناك رواياتٌ كثيرةٌ أخرى مبثوثة في باب الإِستطاعة من
(التوحيد) فلاحظها.
و من لطيف ما استدلَّ به أئمة أهل البيت على تقدم الإِستطاعة على
الفعل قوله سبحانه: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً } (4) ، فقد « سأل هشام بن الحكم الإِمام الصادق عن معنى الآية
و قال: ما يعني بذلك؟ قال:  من كان صحيحاً في بدنه ، مُخلىً سِرْبُه ،
له زاد وراحلة » (5).
« و قال أبو بصير: سمعت أبا عبدالله ـ عليه السَّلام ـ يقول: « من
عُرِضَ عليه الحجُّ ولو على حِمار أَجْدَعَ مَقْطُوعِ الذَّنَبِ فَأَبى ، فهو مِمَّن
يَسْتطيع الحجّ » (6).


***


ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوحيد للصدوق : الحديث 21، ص 352.
(2) المصدر السابق : الحديث 20، ص 352.
(3) المصدر السابق : الحديث 13، ص 350.
(4) سورة آل عمران : الآية 97.
(5) التوحيد للصدوق : الحديث 14، ص350.
(6) المصدر السابق : الحديث 11، ص 350.