الصفات الثبوتيّة الذاتيّة : الحياة

طباعة

الصفات الثبوتيّة الذاتيّة

الحياة

اتّفق الإلهيّون على أنّ الحياة من صفاته ، وأنّ « الحي » من أسمائه سبحانه. ولكن إجراء هذا الإسم عليه سبحانه يتوقّف على فهم معنى الحياة حسب الإمكان ، وكيفيّة إجرائها على واجب الوجود.

نقول : لا شكّ أنّ كلّ إنسان يميّز بين الموجود الحيّ والموجود غير الحيّ ، و يُدرك بأنّ الحياة ضد الموت ، إلّا أَنّه رغم تلك المعرفة العامّة ، لا يستطيع أحد إدراك حقيقة الحياة في الموجودات الحيّة.

فالحياة أشدّ الحالات ظهوراً ولكنّها أعسرها على الفهم ، وأشدّها استعصاءً على التحديد.

ولأجل ذلك اختلفت كلمة العلماء في تبيين حقيقتها وذهبوا مذاهب شتى. ولكنّها في نظر علماء الطبيعة تلازم الآثار التالية في الموصوف بها :

1. الجذب والدفع.

2. النموّ والرشد.

3. التوالد والتكاثر.

4. الحركة وردّة الفعل.

وهذا التعريف للحياة إنما يشير إلى آثار الحياة لا إلى بيان حقيقتها ، وهي آثار مشتركة بين أفراد الحيّ ومع ذلك كلّه نرى البُعد الشاسع بين الحياة النباتيّة والحياة البشريّة. فالنبات الحيّ يشتمل على الخصائص الأربع المذكورة ، ولكن الحياة في الحيوان تزيد عليها بالحس والشعور وهذا الكمال الزائد المتمثل في الحسّ والشعور لا يجعل الحيوان مصدقاً مغايراً للحياة ، بل يجعله مصداقاً أكمل لها. كما أنّ هناك حياةً أعلى وأشرف وهي أن يمتلك الكائن الحي مضافاً إلى الخصائص الخمس ، خصيصة الإدراك العلمي والعقلي والمنطقي (1) ، وعلى ذلك فالخصائص الأربع قدر مشترك بين جميع المراتب الطبيعيّة وإن كانت لكلّ مرتبة من المراتب خصيصة تمتاز بها عمّا دونها.

وليعلم أن علماء الطبيعة ذكروا هذا التعريف واكتفوا به لأنّه لم يكن لهم هدف إلّا الإشارة إلى الحياة الواقعة في مجال بحوثهم. وأمّا الحياة الموجودة خارج عالم الطبيعة فلم تكن مطروحة لديهم عند اشتغالهم بالبحث عن الطبيعة.

تعريف الحياة بنحو آخر

لا شكّ أنّ الحياة النباتيّة غير الحياة الحيوانيّة في الكيفيّة ، وهكذا سائر المراتب العليا للحياة. ولكن ذلك لا يجعل الكلمة مشتركاً لفظيّاً ذا معان متعدّدة. بل هي مشترك معنوي يطلق بمعنى واحد على جميع المراتب لكن بعمليّة تطوير وتكامل.

توضيحه : إن الحياة الماديّة في النبات والحيوان والإنسان ـ بما أنّه حيوان ـ تقوم بأمرين ، هما :

1. وهذا الإدراك العلمي والمنطقي والعقلي تطوير للحسّ الموجود في الحياة الحيوانيّة.

الأوّل : الفعل والإنفعال ، والتأثير والتأثّر. وإلى ذلك تهدف الخصائص الأربع التي ذكرها علماء الطبيعة كما أوضحنا. و يمكن أن نرمز إلى هذه الخصيصة بـ « الفعّالية ».

الثاني : الحسّ والدرك بالمعنى البسيط. فلا شك أنّه متحقّق في أنواع الحياة الطبيعيّة حتّى النبات. فقد كشف علماء الطبيعيّة عن وجود الحسّ في عموم النباتات وإن كان الإِنسان البدائي عالماً بوجوده في بعضها كالنخل وغيره. وإلى هذا الأمر نرمز بـ « الدرّاكيّة ».

فتصبح النتيجة أنّ مُقوّم الحياة في الحياة الطبيعيّة بمراتبها هو الفعّالية والدّرّاكيّة ، بدرجاتهما المتفاوتة ومراتبهما المتكاملة ، وأنّه لا يصح أن تُطلق الحياة على النبات والحيوان إلّا بالتطوير لوجود البَوْن الشاسع بين الحياتين ، فالذي يصحح الإطلاق والاستعمال بمعنى واحد هو عمليّة التطوير بحذف النواقص والشوائب الملازمة لما يناسب كلا من النبات والحيوان.

وعلى هذا الأساس يصحّ إطلاق الحياة على الحياة الإنسانيّة ، بما هو إنسان لا بما هو حيوان ، والمصحح للإطلاق هو عمليّة التطوير التي وقفت عليها ، و إِلّا فكيف يمكن أن تقاس الحياة الإنسانيّة ، بما هو إنسان لا بما هو حيوان ، والمصحّح للإطلاق هو عمليّة التطوير التي وقفت عليها ، وإلّا فكيف يمكن أن تقاس الحياة الإنسانيّة بما دونها من الحياة ، فأين الفعل المترقب من الحياة العقليّة في الإنسان من فعل الخلايا النباتيّة والحيوانيّة ! وأين درك الإنسان للمسائل الكليّة والقوانين الرياضيّة من حسّ النبات وشعور الحيوان ! ومع هذا البون الشاسع بين الحياتين ، تجد أنّا نصف الكلّ بالحياة ، ونطلق « الحيّ » بمعنى واحد عليها. وليس ذاك المعنى الواحد إلّا كون الموجود « فعّالاً » و « درّاكاً » ولكن فعلاً ودركاً متناسباً مع كلّ مرتبة من مراتب الحياة.

وباختصار ، إن ملاك الحياة الطبيعيّة هو الفعل والدرك ، وهو محفوظ في جميع المراتب ، ولكن بتطوير وتكامل. فإذا صحّ إطلاق الحياة بمعنى واحد على تلك الدرجات المتفاوتة فليصحّ على الموجودات الحيّة العلوية لكن بنحو متكامل. فالله سبحانه حيّ بالمعنى الذي تفيده تلك الكلمة ، لكن حياة مناسبة لمقامه الأسمى ، بحذف الزوائد والنواقص والأخذ بالنخبة والزبدة واللب والمعنى ، فهو سبحانه حيّ أيّ « فاعل » و « مُدْرِكٌ ». و إن شئت قلت : « فعّال » و « درّاك » ، لا كفعّالية الممكنات ودرّاكيّتها.

تمثيل لتصوير التطوير في الإِطلاق

ما ذكرناه في حقيقة الحياة ، وأنّ العقل بعد ملاحظة مراتبها ينتزع مفهوماً وسيعاً ينطبق على جميعها ، أمر رائج. مثلاً : إنّ لفظ « المصباح » كان يطلق في البداية على الغصن المشتعل ، غير أنّه تطوّر حسب تطوّر الحضارة والتمدّن ، فأصبح يطلق على كلّ مشتعل بالزيت والنفط والغاز والكهرباء ، بمفهوم واحد ، وما ذاك إلّا لأن الحقيقة المقوّمة لصحّة الإطلاق : كون الشيء ظاهراً بنفسه، مُظهراً لغيره ومُنيراً ما حوله. وهذه الحقيقة ـ مع اختلاف مراتبها ـ موجودة في جميع المصاديق ، وفي المصباح الكهربائي على نحو أتمّ.

إنّ من الوهم تفسير حياة الباري من خلال ما نلمسه من الحياة الموجودة في النبات والحيوان والإنسان. كما أنّ من الوهم أن يُتصوّر أنّ حياته رهن فعل وانفعال كيميائي أو فيزيائي ، إذّ كل ذلك ليس دخيلاً في حقيقة الحياة وإن كان دخيلاً في تحقّقها في بعض مراتبها ، إذ لولا هذه الأفعال الكيميائيّة أو الفيزيائيّة ، لامتنعت الحياة في الموجودات الطبيعيّة.

لكن دخالته في مرتبة خاصّة لا يعدّ دليلاً على كونه دخيلاً في حقيقتها مطلقاً. كما أنّ اشتعال المصباح بالفتيلة في كثير من أقسامه لا يعدّ دليلاً لكونها مقوّمة لحقيقة المصباح وإن كانت كذلك لبعض أقسامه. وعندئذ نخرج بالنتيجة التالية وهي أنّ المقوّم للحياة كون الموجود عالماً وعاملاً ، مدركاً وفاعلاً ، فعّالاً ودرّاكاً ، أو ما شئت فعبّر.

دليل حياته سبحانه

لا أظنّ أنّك تحتاج في توصيفه سبحانه بالحياة إلى برهان بعد الوقوف على أمرين :

الأوّل ـ قد ثبت بالبرهان أنّه سبحانه عالم و قادر. وقد تقدم البحث فيه.

الثاني ـ إنّ حقيقة الحياة في الدرجات العلوية ، لا تخرج عن كون المتّصف بها درّاكاً وفعّالاً ، وعالماً وفاعلاً.

فإذا تقرر هذان الأمران تكون النتيجة القطعية أنّه سبحانه ، بما أنّه عالم وقادر ، درّاك وفعّال ، لملازمة العلم للدرْك ، والقدرة للفعل وهما نفس الحياة عند تطويرها بحذف الزوائد. ولأجل ذلك نرى أنّ الحكماء يستدلون على حياته بقولهم : « إنّه تعالى حيّ لامتناع كون من يمكن أن يوصف بأنّه قادر عالم ، غير حيّ » (1).

وفي الحقيقة حياته سبحانه عبارة عن اتّصافه بالقدرة والعلم. وسيوافيك أنّ جميع صفاته سبحانه وإن كانت مختلفة مفهوماً ، لكنها متّحدة واقعيّة ومصداقاً.

أضف إلى ذلك أنّه سبحانه خلق موجودات حيّة ، مُدركة وفاعلة ، فمن المستحيل أن يكون معطي الكمال فاقداً له.

حياته سبحانه في الكتاب والسنَّة

إنّ الله تعالى يصف نفسه في الذكر الحكيم بالحياة التي لا موت فيها إذ يقول : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) (2). وقد جاء لفظ « الحيّ » فيه إسماً له سبحانه خمس مرّات. يقول جلّ وعلا : ( اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ) (3).

وقال الإمام محمّد بن علي الباقر ـ عليهما السلام ـ : « إِنَّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيرُه ، نوراً لا ظلامَ فيه ، وصادقاً لا كذب فيه ، وعالماً لا جَهْل فيه ، وحيَّاً لاَ مَوْتَ فيه ، وكذلك هو اليوم وكذلك لا يزال أبداً » (4).

وقال الإمام موسى بن جعفر ـ عليهما السلام ـ : « إِنَّ الله لا إله إلّا هو : كان حيّاً بلا كَيْف ... كان عزّ وجلّ إِلهاً حيّاً بلا حياة حادِثة ، بل هو حيّ لنفسه » (5).

فحياته سبحانه كسائر صفاته الكماليّة ، صفة واجبة لا يتطرّق إليها العدم ، ولا يعرض لها النفاد والانقطاع ، لأنّ تطرق ذلك يضاد وجوبها وضرورتها ، ويناسب إمكانها ، والمفروض خلافه.

الهوامش

1. كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد للعلّامة الحلّي ، ص 46.

2. سورة الفرقان : الآية 58.

3. السورة البقرة : الآية 255.

4. توحيد الصدوق ، ص 141.

5. توحيد الصدوق ، ص 141.

مقتبس من كتاب : [ الإلهيات على هدى الكتاب والسُّنة والعقل ] / المجلد : 1 / الصفحة : 153 ـ 158