يده سبحانه

طباعة

يده سبحانه

قال الإمام الأشعري : « إنّ لله سبحانه يدين بلا كيف ، كما قال ( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (1). وهو يريد حمل اليد على معناها الحرفي والظهور الإفرادي ، ولكن فراراً عن التشبيه يردفه بقوله « بلا كيف ».

لا شك أنّ اليد أو اليدين إذا أطلقتا مفردتين ، يتبادر منهما العضو الخاص. ولكن هذا ظهوره الإفرادي ، ولا يُتّبع إلّا إذا كان موافقاً لظهوره التصديقيّ. وأمّا إذا كانا متخالفين فالمتبع هو الثاني ، فربّما يكون ظاهراً في غير هذا ، وإليك البيان :

١ ـ ربّما يكون ظاهراً في القوّة : قال سبحانه : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (2). ولا شكّ أنّه ليس المراد منه العضو الخاصّ ، بل المراد هو القوّة ، كما يقال : « لفلان يَدٌ على كذا » ، أو يقال « مالي بكذا يد » قال الشاعر :

     

فَاعْمَد لِما تَعْلُو فَمَالَكَ بالذي

 

لا تَسْتَطيعُ مِنَ الأُمورِ يَدانِ

وبهذا الإعتبار شبه الدهر والريح فجعل لهما اليد ، ويقال : « يَدُ الدَّهر » وقال الشاعر « بيد الشمال زمامها » ، لما لهما من القوّة.

٢ ـ وربّما يكون ظاهراً في النعمة : يقال « لفلان عندي أيادي كثيرة » أيّ فواضل وإحسان ، « وله عندي يد بيضاء » أيّ نعمة. قال الشاعر : « فإنّ له عندي يَدَيّا وأنْعُماً ». فهل يصحّ أنْ نحمل اليد في هذين الموضعين على العضو الخاص ، ونتهم من فسّرها بالقوّة في الموضع الأوّل ، والنعمة في الموضع الثاني ، بالتأويل وتحريف الآيات ؟ كلّا ، لا.

وبذلك يظهر صحّة ما قلناه من أنّ المتبع ليس هو الظهور الأفرادي بل الظهور التصديقي. ألا ترى أنّه سبحانه ينسب الخدعة والمكر والنسيان إلى نفسه سبحانه في آيات كثيرة منها قوله : ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) (3).

والظهور الإفرادي والمعنى الحرفي لهذه اللفظة « المكر » هو الخدعة ، ومن المعلوم أنّ الخدعة ، وسيلة العاجز ، تعالى عنه سبحانه. بينما الظهور التصديقي يمنع من حمله على المعنى الإفرادي ، لأنّ الآية وما يضاهيها وردت من باب المشاكلة ، وهو متوفّر في كلام العرب وغيرهم. فليس لنا الحمل على المعنى الحرفي بحجّة أنّه يجب حمل كلام الله على ظاهره ، وليس لنا تأويله وتحريفه. ونحن نقول أيضاً ، يجب علينا حَمْل كلام الله على ظاهره. لكن ما يدعونه من الظاهر ليس ظاهراً للآية وإنّما هو ظاهر كلمة من الآية ، والمتبع هو ظهورها التصديقي والجمَلي ، وهو القوّة في الموضع الأوّل والنعمة في الموضع الثاني.

إذا وقفت على ما ذكرنا ، فيجب إمعان النظر في قوله سبحانه : ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) فإنّ للمفسّرين فيه آراء.

أ ـ اليد بمعنى القدرة.

ب ـ اليد بمعنى النعمة.

وأورد عليهما أنّ قدرة الله واحدة فما وجه التثنية في قوله « بِيَدَيَّ » ؟ كما أنّ نِعَمَهُ سبحانه لا تُحصى ، فلماذا ثنّاها ؟.

ج ـ اليدان بمعنى القدرة والنعمة ، وبه يرتفع الإشكال المتقدّم.

أقول : لو دلّت القرائن على أنّ الآية ظاهرة فيما ذكر لوجب الأخذ به ، لما عرفت من أنّ المتبع هو الظهور التصديقي لا الإفرادي ، ولكن لم تتحقّق القرائن عندنا.

د ـ الحمل على المعنى اللّغوي لكنه كناية عن كونه سبحانه متولياً لخلقه لا غيره ، فإنّ أكثر الأعمال التي يقوم بها ذو اليدين ، فإنّما يباشرها بيديه ، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما. حتّى قيل في عمل القلب « هو ممّا عملت يداك ». ولو سبّ إنسان إنساناً آخر وجُزي بعمله ، يقال له : « هذا ما قدّمت يداك ». حتّى قيل لفاقد اليدين : « يداك أوْكَتا وَفُوك نَفَخ ». ولأجل ذلك ليس فرق بين قولك : « هذا ممّا عَمِلْتَه » و « هذا ما عملته يداك ». ومنه قوله سبحانه : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) (4).

والكلّ ظاهر في كونه سبحانه هو المتولّي للخلقة ، والمبدع لا غيره.

إذا عرفت ذلك ، يتبيّن مرمى الآية وهو أنَّه سبحانه بصدد التنديد بالشيطان قائلاً : بأنك لماذا تركت السجود لآدم مع انّي توليت خلقه وإِيجاده ، وأنا أعلم بحاله ، والمصالح التي دعت إلى أمرك وأمر الملائكة بالسجود له. فهل استكبرت عليّ ، أم كنت من العالين.

والدليل على أنّ الخلق باليدين كناية عن توليه سبحانه لخلقه بذاته وشخصه لا عن توليه وتصديه لخلقه بالعضوين ، هو أنّ ملاك التنديد إعراض إبليس عن السجود لمصنوعه سبحانه من غير مدخليّة لخلقه بالعضو الخاص « اليد » بحيث لو خلقه بغيرها ـ ومع ذلك أعرض ابليس عن سجوده ـ لما توجه إليه لوم.

فالملاك هو الإعراض عن السجود لما قام به سبحانه من الخلق من دون دخالة لأداة الخلقة.

فإن قيل : إذا كان هو المُبدع والمتولي لخلق سائر الأناسي ، فلماذا خص خلقه آدم بنفسه ؟

قلنا : إنّ الإضافة والتخصيص لبيان كرامته وفضيلته وشنيع فعل إبليس. ومثله قوله سبحانه : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (5) فتخصيص الإضافة لبيان تشريفه سبحانه ، كما يقول : ( أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (6).

ومثل ما تقدّم ، الكلام في قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) (7) فهل عندما نزلت الآية فهم منها السلف الصالح ما ينسبه إليهم ابن تيميّة من أنّ المراد هو المعنى اللغوي لكن ليست يده كيد المخلوقات وهي فوق أيدي الصحابة ، أو أنّهم فهموا أنّ المراد سلطان الله وقدرته ، بدليل ما فيها من تهديد لمن ينكث ، بأنّ مغبّة النكث تعود عليه.

فلو تكاثفت الجهود على تشخيص الظواهر ، سواء أكانت معان حقيقيّة أم مجازيّة ، لارتفعت جميع التوالي فلا يلزم تمثيل ولا تشبيه ، ولا تعطيل ولا تجهيل ، ولا تأويل وخروج عن الظواهر ، بل كان أخذاً بالظواهر بالمعنى المتبادر عند أهل اللغة أجمعين.

ونحو ذلك لو تدبّروا في قوله سبحانه : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (8) ، لأذعنوا بأنّ المراد من إثبات بسط اليد لله سبحانه ليس هو البسط الحسّي ، بل المراد بيان سعة جوده وبذله. كما يذعنون به عند الوقوف على قوله سبحانه : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ) (9).

فعندئذ نتساءل : أيّ فرق بين الآيتين بحيث أن المثبتين للصفات يحملون الآية الأولى على المعنى المتبادر من اليد عند الإفراد ، ثمّ لأجل الفرار من التجسيم يعقبونه بقولهم « بلا كيف ». وفي الوقت نفسه لا يشكّ هؤلاء أنفسهم في أنّ المراد من الآية الثانية هو البذل والجود أو التقتير والبخل ؟!!

إلى هنا ظهر أنّ ما تمسّكت به الحنابلة والأشاعرة في إثبات الصفات الخبريّة لله سبحانه ، يبتني على التمسّك بالظهورات الحرفيّة والمعاني الإفراديّة ، غافلين عن أنّ المتبع في المحاورات هو الظهور التصديقي برعاية القرائن المتّصلة بالكلام والمفهومة عند العرب سواء أوافقت المعاني الإفراديّة أم لا. ولو مشوا على تلك الضابطة لوقفوا على تنزيهه سبحانه عن إثبات هذه الأعضاء والمعاني له. وقد اكتفينا في هذا المقام بتبيين الألفاظ الثلاثة : العرش واستواؤه عليه ، الوجه ، اليد. وعلى ضوء ما بيناه من الضابطة تقدر على تبيين سائر الألفاظ الواردة في الذكر الحكيم والسنّة الصحيحة.

الهوامش

1. سورة ص : الآية ٧٥.

2. سورة ص : الآية ١٧.

3. سورة الأنفال : الآية ٣٠.

4. سورة يس : الآية ٧١.

5. سورة الحجر : الآية ٢٩.

6. سورة البقرة : الآية ١٢٥.

7. سورة الفتح : الآية ١٠.

8. سورة المائدة الآية ٦٤.

9. سورة الإِسراء : الآية ٢٩.

مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / الجزء : 1 / الصفحة : 343 ـ 347