آية الواديين

طباعة

آية الواديين !

إن التأمل في هذه الجمل التي ألصقوها بالقرآن يوقفك علی إعجاز القرآن وإتقان صنعه ولطيف سبكه ، فالقرآن ببديع نظمه ينفي هذه الجمل الباردة عن آياته ، ولا تستطيع الصمود أمام ذلك الاعجاز ، والضمائر الحرة من أهل الاختصاص هي الحكم في قبول دعوی قرآنية هذه الجمل : ( لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغی وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، ويتوب الله علی من تاب ) .

أو ( لو كان لابن آدم واد من ذهب أحب أن له وادياً آخر ، ولن يملأ فاه إلّا التراب ، والله يتوب علی من تاب ) فهل هذه آية من القرآن الحكيم ، أهذا هو الاعجاز القرآني والسحر البياني ؟ لا والله ! ، فنحن لا نناقشهم في علة فقدها من مصحف المسلمين وإنما في أصل كونها قرآنا ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ) !

لفتة للوهابي !

وأحب أن أذكر هنا بما نقلنا سابقاً عن الوهابي ( ناصر . ق ) الذي شنع علی كلمات التنزيل المروي في الكافي الشريف وغيره من كتب الشيعة وحكم بأنها ليست من القرآن لضعفها البلاغي ، حيث قال في أُصول مذهب الشيعة :

وهذه الإضافات التي تزعم الشيعة نقصها من كتاب الله (!!) ألا يلاحظ القارئ العربي أن السياق لا يتقبلها ، وأنها مقحمة إقحاماً بلا أدنی مناسبة ولذلك يكاد النص يلفظها (1) ، وأنها من وضع أعجمي لا صلة له بلغة العرب ، ولا معرفة له بأساليب العربية ، ولا ذوق له في اختيار الألفاظ وإدراك المعاني (2) .

أقول : فأين هو مما يعتقده ويدين به أهل السنة من قرآنية هذه الجمل التي لا تكاد تقرأ حتی تنقبض النفس من نسبتها للقرآن الكريم لما فيها من العوار والضعف ؟!

التهافت في النقل :

الآية المزعومة حصل في نقلها اختلاف وتضارب ، وهذه نبذة من تلك الروايات :

جاء في صحيح مسلم عن أبي الأسود ظالم بن عمرو قال : بَعثَ أبو موسی الأشعري إلی قرّاء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمئة رجلٍ قد قرأوا القرآن . فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم . فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد ، فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنّا كنّا نقرأ سورةً كنّا نشبِّهها في الطّول والشّدة ببراءة ، فأنْسيتُها ، غير أنّي قد حفظت منها : ( لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغی وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ) (3) .

عن أنس بن مالك عن رسول الله صلّی الله عليه [ وآله ] وسلم أنه قال : ( لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحب أن له وادياً آخر ، ولن يملأ فاه إلّا التراب ، والله يتوب علی من تاب ) (4) .

وفي مجمع الزوائد : عن زيد بن أرقم قال : لقد كنا نقرأ علی عهد رسول الله صلّی الله عليه [ وآله ] وسلم : ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغی إليها آخر ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله علی من تاب ) (5) .

وعن جابر قال : سمعت رسول الله صلّی الله عليه [ وآله ] وسلم يقول : ( لو كان لابن آدم وادي نخل تمنی مثله ثم تمنی مثله حتی يتمنی أودية ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ) (6) .

وأخرج الحاكم في المستدرك : عن أُبيّ بن كعب قال : قال لي رسول الله صلّی الله عليه [ وآله ] وسلم إنّ الله قد أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقرأ : ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ) ومن بقيّتها : ( لو أن ابن آدم سأل وادياً من مالٍ فأعطيته سأل ثانياً ، وإن سأل ثانياً فأعطيته سأل ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، ويتوب الله علی من تاب ، وإن الدين عند الله الحنيفية غير اليهوديّة ولا النصرانية ، ومن يعمل خيراً فلن يكفره ) (7) .

وليست هذه زيادتهم الوحيدة لسورة البيّنة ، وإنما تطرق لها التعديل والتغيير أكثر من مرة وسيأتي بإذنه تعالی عرض أشكال متنوعة لها !

وأخرج الترمذي في سننه : عن زرّ بن حبيش عن أُبيّ بن كعب : أن رسول الله قال له : إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك ـ إلی قوله ـ وقرأ عليه ( ولو أنّ لابن آدم وادياً من مالٍ لابتغی إليه ثانياً ، ولو كان له ثانياً لابتغی إليه ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، ويتوب الله علی من تاب (8) .

وفي مسند أحمد عن زيد بن أرقم قال : لقد كنا نقرأ علی عهد رسول الله صلّی الله عليه [ وآله ] وسلم : ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغی إليهما آخر ، ولا يملأ بطن ابن آدم إلّا التراب ، ويتوب الله علی من تاب ) (9) .

وفي الدر المنثور : وأخرج ابن الضريس : ليؤيدن الله هذا الدين برجال مالهم في الآخرة من خلاق ( لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنی وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب إلّا من تاب ، فيتوب الله عليه والله غفور رحيم ) (10) .

ولنقتصر علی هذا القدر في بيان تضاربهم في نقل المزعومة ، فمرة تذكر الروايات لفظ مالاً ، وأخری ذهباً ، وثالثة ذهباً وفضة ، ورابعة نخلاً ، ومرّة وادياً ، وأخری واديين ، ومرّة سأل وأخری يملك ، ومرّة تذكر بطناً ومرة فاهاً وأخری جوفاً ، ومرة ثانياً وأُخری تزيد إلی ثالثاً ، ومرة تصرح الرواية أن الآية كانت في سورة أنسيت ، ومرّة أُخری أن الآية كانت في ضمن سورة البيّنة ، إلی غيره من التضارب الذي يتضح بقليل من التأمل وزيادة الخير والبركة بمراجعة المصادر الأُخری (11) .

الآية المزعومة كتبت في المصحف في زمن عمر وفقدت اليوم !

عن مسند أحمد بن حنبل : حدثنا أبو معاوية عن أبي إسحاق الشيباني عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس قال : جاء رجلٌ إلی عمر يسأله ، فجعل ينظر إلی رأسه مرّة وإلی رجليه أُخری ، هل يری عليه من البؤس شيئاً ، ثم قال له عمر : كم مالك ؟ قال : أربعون من الإبل ، قال ابن عباس فقلت : صدق الله ورسوله ( لو كان لإبن آدم واديان من ذهب لابتغی الثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله علی من تاب ) قال عمر : ما هذا ؟ فقلت : هكذا أقرأنيها أُبيّ . قال : فمُر بنا إليه ، قال : فجاء إلی أُبيّ ، فقال : ما يقول هذا ؟ قال أُبيّ : هكذا أقرأنيها رسول الله صلّی الله عليه [وآله] وسلم قال : فأثبتها ؟ فأثْبَتها (12) .

أقول : مرّ في مبحث جمع القرآن أنّ إلحاق الآيات بالمصحف كان بشهادة رجلين بزعمهم ، وهنا شهد كل من حبر الأُمة ابن عباس وسيد القرّاء أُبيّ بن كعب عند عمر بن الخطاب بأنّ هذه الجملة المزعومة آية من القرآن ، فقبل عمر شهادتهما وأثبتها في المصحف ، كلّه علی طبق الموازين ! ، فلماذا لا نجد هذه الجملة في مصحفنا اليوم ؟ أليس هذا تحريفاً وسقوطاً لآيات دونت في المصحف زمن عمر ؟ فأين ذهبت إذاً ؟! ومن الذي حرف المصحف ؟

الهوامش

1. وهذا صحيح لأنها تفسير للقرآن وليست منه ، لذلك هي للإقحام أقرب له من الإنسجام التام .

2. أُصول مذهب الشيعة 1 : 243 .

3. صحيح مسلم 3 : 100 كتاب الزكاة ، باب كراهية الحرص علی الدنيا ، وبشرح النووي 7 : 139 .

4. صحيح مسلم 3 : 99 ، كتاب الزكاة ، باب الحرص علی الدنيا .

5. مجمع الزوائد 10 : 243 ( باب لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ) ، وعلق ابن حجر عليه ( رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجالهم ثقات ) .

6. نفس المصدر : 245 وعلق ابن حجر عليه ( رواه أحمد وأبو يعلی والبزار ، ورجال أبي يعلی والبزار رجال الصحيح ) .

7. المستدرك علی الصحيحين 2 : 224 علق عليه الحاكم بـ ( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ) ووافقه الذهبي ، ملاحظة : المقطع الأخير لفظ آية أخری كما سيتضح بإذنه تعالی .

8. سنن الترمذي 3793 ، ح 3898 وعلق عليه الترمذي بـ ( حسن صحيح ) ، ومسند أحمد 5 : 131 الطبعة الميمنية ، وعبد الله ابن أحمد 5 : 132 .

9. مسند أحمد 4 : 368 .

10. الدر المنثور 1 : 105 ، ط . دار المعرفة بالأوفست .

ملاحظة المقطع الأول آية مزعومة أُخری .

11. نحو مشكل الآثار للطحاوي 2 : 419 ، المصنف للصنعاني 10 : 436 ، مناهل العرفان للزرقاني 2 : 25 ، تفسير الطبري 1 : 381 ، البرهان في علوم القرآن 2 : 36 وغيرها .

12. المسند لأحمد بن حنبل 5 : 117 ، ط . الميمنية ، وعنه مجمع الزوائد للهيثمي 7 : 141 ( سورة لم

مقتبس من كتاب : [ إعلام الخلف ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 404 ـ 410