بعض الصحابة أحدثوا في الدين ما ليس منه

طباعة

بعض الصحابة أحدثوا في الدين ما ليس منه

لقد دلَّت الروايات الكثيرة على أن وقوع التحريف في أحكام الدين قد وقع من بعض صحابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاته.

منها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، والترمذي في سننه وصحَّحه ، والنسائي في سننه ، وأحمد في المسند عن ابن عبّاس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حديث ـ قال : ألا وإنّه يجاء برجال من أمّتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (1).

ومنها : ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة أنّه كان يحدِّث أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : يرِد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، فيُحَلَّون (2) عن الحوض ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى (3).

وعنه صلّى الله عليه وآله أنّه قال : يرِد عليَّ الحوض رجال من أصحابي ، فيحلّؤون عنه ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى (4).

ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه ، وأحمد بن حنبل في المسند وغيرهما عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أنا فرَطكم (5) على الحوض ، ولأُنازَعَنَّ أقواماً ثم لأُغلَبَنَّ عليهم (6) ، فأقول : يا ربّ ، أصحابي أصحابي. فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك (7).

ومنها : ما أخرجه البخاري ـ واللفظ له ـ ومسلم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله : إنّي فرَطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، لَيَرِدن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم.

قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت : نعم. فقال : أَشهدُ على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : فأقول : إنّهم منّي. فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سُحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي (8).

ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأحمد في المسند وغيرهم ، عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : لَيَرِدَنَّ عليَّ ناس من أصحابي الحوض ، حتّى إذا عرفتهم اختُلِجوا دوني ، فأقول : أصحابي. فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك (9).

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي رواها حفَّاظ الحديث من أهل السنّة بطرق كثيرة جدّاً وبألفاظ متقاربة ، وفيما ذكرناه كفاية (10).

تأملات في هذه الأحاديث :
قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أقوام » يدل على كثرة من بدَّل وأحدث بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنه يستفاد كثرة ما حُرِّف في الدين وبُدِّل ، لأنه إذا كان الذين بدّلوا أقواماٌ فلا ريب في أن الذي بُدّل يكون كثيراً ، لأن ما بدَّله بعضهم لا يصح نسبته إلى غيره.
وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أصحابي » ظاهر في أن أولئك المبدِّلين في الدين والمحدِثين فيه هم ممن صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخالطه.
وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارتدوا على أدبارهم القهقرى :
الارتداد : هو الرجوع ، أعم من أن يكون من الدين أو من غيره ، و إن غلب إطلاقه على الرجوع عن الدين ، وهو محتمل في هذه الأحاديث ، إلا أن قوله : « أحدثوا » ظاهر في أنهم كانوا باقين على الإسلام ، لأن المرتد عن
__________________
(١) صحيح البخاري ٨ / ١٤٩. صحيح مسلم ٤ / ١٨٠٠. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٢٨١ ، ٥ / ٤٨ ، ٥٠.
(٢) راجع إن شئت صحيح البخاري ٨ / ١٤٨ ـ ١٥٠ ، وصحيح مسلم ١ / ٢١٧ ، ٤ / ١٧٩٤ ـ ١٧٩٦ ، سنن الترمذي ٤ / ٦١٥ ـ ٦١٦. سنن ابن ماجة ٢ / ١٠١٦. مسند أحمد ١ / ٢٥٤ ، ٤٠٢ ، ٤٣٩ ، ٤٥٥ ، ٣ / ٢٨ ، ١٠٢ ، ٥ / ٣٨٨ ، ٣٩٣ ، ٤٠٠ ، ٤١٢. صحيح ابن خزيمة ١ / ٧. مجمع الزوائد ١٠ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥. صحيح سنن ابن ماجة ٢ / ١٨٢. الموطأ ، ص ٢٣. مختصر إتحاف السادة المهرة ١٠ / ٥٩٤. مسند ابن أبي شيبة ١ / ٨٦ ، ٩٤.
١٦٠
الدين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكنه أن يُحدِث في الإسلام شيئاً ، اللهم إلا إذا كان يبطن خلاف ما يُظهِر ، ولعل المراد بالارتداد هو الرجوع عن بعض الواجبات الدينية المهمة ، والتنصّل منها بعد توكيدها ، كبيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام بالخلافة كما سيتّضح في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا يكون المراد في هذه الأحاديث : أنهم أحدثوا في الدين ما أحدثوا ، وبدَّلوا في أحكام الله ما بدَّلوا.
وبما أن هذا المعنى يثير سؤالاً ، وهو : أنهم إذا كانوا قد اتّبعوا الخليفة الحق المنصوص عليه من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف تأتّى لهم أن يُحدِثوا في الدين ما شاءوا؟ أجاب بقوله : « إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى » أي رجعوا عن ما وقع منهم أو أُمِروا به من البيعة لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

الهوامش

1. صحيح البخاري ٦ / ٦٩ كتاب التفسير ، باب سورة المائدة ، ٦ / ١٢٢ سورة الأنبياء ، ٨ / ١٣٦ كتاب الرقاق ، باب ٤٥. صحيح مسلم ٤ / ٢١٩٥ كتاب الجنة .. باب ١٤ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. سنن النسائي ٤ / ١١٧ وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي ٢ / ٤٤٩. مسند أحمد ١ / ٢٣٥ ، ٢٥٣.

2. أيّ يطردون ويبعدون.

3. صحيح البخاري ٨ / ١٥٠ كتاب الرقاق ، باب في الحوض.

4. المصدر السابق ٨ / ١٥٠.

5. أيّ سابقكم ومتقدّمكم.

6. أيّ سأجادل عن أقوام رغبة في خلاصهم فلا ينفعهم ذلك.

7. صحيح مسلم ٤ / ١٧٩٦ كتاب الفضائل ، باب رقم ٩. مسند أحمد بن حنبل ١ / ٣٨٤ ، ٤٠٦ ، ٤٠٧ ، ٤٢٥ ، ٤٥٣.

8. صحيح البخاري ٨ / ١٥٠. صحيح مسلم ٤ / ١٧٩٣.

9. صحيح البخاري ٨ / ١٤٩. صحيح مسلم ٤ / ١٨٠٠. مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٢٨١ ، ٥ / ٤٨ ، ٥٠.

10. راجع إن شئت صحيح البخاري ٨ / ١٤٨ ـ ١٥٠ ، وصحيح مسلم ١ / ٢١٧ ، ٤ / ١٧٩٤ ـ ١٧٩٦ ، سنن الترمذي ٤ / ٦١٥ ـ ٦١٦. سنن ابن ماجة ٢ / ١٠١٦. مسند أحمد ١ / ٢٥٤ ، ٤٠٢ ، ٤٣٩ ، ٤٥٥ ، ٣ / ٢٨ ، ١٠٢ ، ٥ / ٣٨٨ ، ٣٩٣ ، ٤٠٠ ، ٤١٢. صحيح ابن خزيمة ١ / ٧. مجمع الزوائد ١٠ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥. صحيح سنن ابن ماجة ٢ / ١٨٢. الموطأ ، ص ٢٣. مختصر إتحاف السادة المهرة ١٠ / ٥٩٤. مسند ابن أبي شيبة ١ / ٨٦ ، ٩٤.

مقتبس من كتاب : [ مسائل خلافيّة حار فيها أهل السنّة ] / الصفحة : 158 ـ 161