الشهادة الثالثة في الأذان

طباعة

الشهادة الثالثة في الأذان

قال الشيخ في « مطلب زيادتهم في الأذان » :

ومنها : زيادتهم في هذه الأزمنة في الأذان والاقامة وفي التشهّد بعد الشهادتين أن عليّاً وليّ الله ، وهذه بدعة مخالفة للدين لم يرد بها كتاب ولا سنّة ولم يكن عليها إجماع ولا فيها قياس صحيح ومخالفة لأهل مذهبهم ، فردّها لا يحتاج إليه (1).

أقول : ينبغي أوّلاً معرفة مشروعيّة الزيادة أو النقصان في الأذان أو عدمه ، ومن ثمّ التحقّق من آراء الفريقين لمعرفة أيّهما الذي قد زاد في الأذان ومدىٰ مشروعيّة هذه الزيادة.

بدءاً نقول : إنّ الشيعة تعتبر ألفاظ الأذان مسألة توقيفيّة من الله سبحانه وتعالىٰ ، وأن جبريل عليه السلام هو الذي علّم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الأذان والاقامة ، وأنّ أيّ زيادة أو نقصان فيهما غير جائزة.

أمّا أهل السنّة ، فيدّعون أنّ الأذان ليس توقيفيّاً ، وأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أراد أن يتّخذ البوق أو النار أو الناقوس ، ثمّ أخبره أحد الصحابة برؤياه في الأذان فأقرّه النبي :

أخرج جمع من المحدّثين من أهل السنّة ، واللفظ لأبي داود قال : حدّثني أبو عبدالله بن زيد ، قال : لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة ، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده ، فقلت : يا عبدالله ، أتبيع الناقوس ؟ قال : وما تصنع به ؟ فقلت : ندعو به إلىٰ الصلاة ، قال : أفلا أدلك علىٰ ما هو خير من ذلك ؟ فقلت له : بلىٰ ، قال : تقول : الله أكبر ، الله اكبر ... فلمّا أصبحت أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بما رأيت ، فقال : « إنّها لرؤيا حقّ إن شاء الله ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذّن به فانّه أندىٰ صوتاً منك » ، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذّن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجرّ رداءه ويقول : والذي بعثك بالحقّ يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأىٰ ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « فلله الحمد » ... (2).

وأخرج أبو داود ، عن أبي عمير بن أنس ، عن عمومة له من الأنصار ، قال : اهتمّ النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها ، فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة فاذا رأوها آذن بعضهم بعضاً ، فلم يعجبه ذلك ، قال : فذكر له القنع ـ يعني الشبور ـ وقال زياد : شبور اليهود ، فلم يعجبه ذلك ، وقال : « هو من أمر اليهود » ، قال : فذكر له الناقوس ، فقال : « هو من أمر النصارىٰ » ، فانصرف عبدالله بن زيد وهو مهتمّ لهم رسول الله ، فأُري الأذان في منامه ، قال : فغدا علىٰ رسول الله فأخبره ، فقال له : يا رسول الله ، إنّي لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان ، قال : وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً ، قال : ثمّ أخبر النبي فقال له : « ما منعك أن تخبرني » ؟ فقال : سبقني عبدالله بن زيد فاستحييت ... (3).

وأخرج عن عبدالله بن عمر أنّه قال : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون ، فيتحينون الصلاة ، وليس ينادي به أحد ، فتكلّموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارىٰ ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة ؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « يا بلال ، قم فناد بالصلاة » (4).

كما أخرج البخاري عن أنس بن مالك قال : لما كثر الناس قال ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه ، فذكروا أن يوروا ناراً أو يضربوا ناقوساً ، فأمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الاقامة (5).

هذه أهمّ روايات بدء الأذان وصفته عند أهل السنّة ، وفي المصادر الاُخرىٰ ما يشبهها أيضاً (6).

قال العلّامة الحلّي قدّس سرّه : ـ بعد إيراد رواية محمّد بن عبدالله بن زيد عن بدء الأذان ـ : وهذا الحديث مدفوع من وجوه :

أ ـ اختلاف الرواية فيه ، فان بعضهم روىٰ أنّ عبدالله بن زيد لما أمره النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بتعليم بلال قال : إئذن لي حتّىٰ أؤذن مرة فأكون أوّل مؤذّن في الاسلام ، فاذن له فأذن.

ب ـ شهادة المرء لنفسه غير مسموعة ، وهذا منصب جليل فلا يسمع قوله عن نفسه فيه.

ج ـ كيف يصحّ أن يأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالناقوس مع أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم نسخ شريعة عيسىٰ.

د ـ كيف أمر بالناقوس ثمّ رجع عنه ؟! إن كان الأمر به مصلحة استحال نسخه قبل فعله ، وإلّا استحال أمره به.

هـ ـ إن كان أمره بالناقوس بالوحي لم يكن له تغييره إلّا بوحي مثله ، فان كان الأذان بوحي فهو المطلوب وإلّا لزم الخطأ ، وإن لم يكن الأمر بالناقوس بالوحي كان منافياً لقوله تعالىٰ : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ) (7).

و ـ كيف يصحّ استناد هذه العبادة الشريفة العامة البلوىٰ المؤبدة الموضوعة علامة علىٰ أشرف العبادات وأهمّها إلىٰ منام من يجوز عليه الغلط ! والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يلق عليه ، ولا علىٰ أجلاء الصحابة ؟

ز ـ أهل البيت عليهم السلام أعرف بمواقع الوحي والتنزيل ، وقد نصوا علىٰ أنّه بوحي.

قال الباقر عليه السلام : « لما أُسري برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة فأذّن جبريل عليه السلام وأقام ، فتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فصف الملائكة والنبيّون خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ».

ومثل هذا الذي تعبّد به الملائكة وغيرهم يستحيل إستناده إلىٰ الاجتهاد الذي تجوّزونه علىٰ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (8).

وإنطلاقاً من هاتين النظرتين المختلفتين ، فان أهل السنّة يجيزون التصرّف في الأذان ـ وقد حدث ذلك فعلاً ـ أمّا الشيعة فينفون إمكانيّة التصرّف في الأذان بالزيادة والنقصان ، لأنّه توقيفي كما قلنا.

وتبعاً لذلك فقد خضع الأذان عند أهل السنّة للاجتهاد والرأي ، فزادوا فيه التثويب وهو قول المؤذن : « الصلاة خير من النوم » في أذان صلاة الفجر ، وأسقطوا منه : « حيّ علىٰ خير العمل » ، كما تعترف بذلك رواياتهم ، حتّىٰ أنّهم يعترفون بأن بعض الصحابة والتابعين كانوا يقولون عند الأذان « حيّ علىٰ خير العمل » بعد الحيعلتين ، وكانوا يخرجون من المسجد إذا سمعوا التثويب ويعتبرونه بدعة :

روىٰ الترمذي عن مجاهد قال : دخلت مع عبدالله بن عمر مسجداً وقد أذَّن فيه ، ونحن نريد أن نصلّي فيه ، فثوّب المؤذّن ، فخرج عبدالله بن عمر من المسجد وقال : أخرج بنا من عند هذا المبتدع ، ولم يصل فيه ، قال : وإنّما كره عبدالله التثويب الذي أحدثه الناس بعد.

وقد حاول البعض إلصاق بدعة التثويب بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لتبرير هذه البدعة ، كما هي العادة عندهم دائماً :

روىٰ الترمذي قال : حدّثنا أحمد بن منيع ، حدّثنا أبو أحمد الزبيري ، حدّثنا أبو إسرائيل ، عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلىٰ ، عن بلال قال : قال لي رسول الله : « لا تثوبن في شيء من الصلوات إلّا في صلاة الفجر » ، قال : وفي الباب عن أبي محذورة ، قال أبو عيسىٰ « الترمذي » : حديث بلال لا نعرفه إلّا من حديث أبي إسرائيل الملائي ، وأبو إسرائيل لم يسمع هذا الحديث من الحكم بن عتيبة ، قال : إنما رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة ، وأبو إسرائيل إسمه إسماعيل ابن أبي إسحاق ، وليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث (9).

وقال أبو بكر بن العربي : وهو حديث معلول ، وقد شاهدتُ فنّاً من التثويب بمدينة السلام ، وهو أن يأتي المؤذّن إلىٰ دار الخليفة فيقول : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، حيّ علىٰ الصلاة « مرّتين » حيّ علىٰ الفلاح « مرّتين » ، ورأيت الناس في مساجدهم في بلاد ، إذا قامت الصلاة يخرج إلىٰ باب المسجد من ينادي : الصلاة رحمكم الله ، وهذا كلّه تثويب مبتدع (10).

أمّا فيما يتعلق بحذف أجزاء من الأذان ، فان الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب قد أمر بحذف : « حي علىٰ خير العمل » بعد الحيعلتين ، وقد اعترف القوشجي بذلك ، ولكنّه اعتبره اجتهاداً من الخليفة ، فقال : ومنها أنّه منع المتعتين ، فانّه صعد المنبر وقال : أيّها الناس ثلاث كن علىٰ عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا أنهىٰ عنهنّ وأحرمهنّ وأعاقب عليهنّ ، وهي : متعة النساء ومتعة الحج وحيّ علىٰ خير العمل ... قال القوشجي تعليقاً علىٰ ذلك : إن ذلك ليس ممّا يوجب قدحاً فيه ، فان مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهاديّة ليس ببدع ... (11).

فالقوشجي يعتبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مجتهداً كسائر المجتهدين ، هذا هو للأسف مذهب أهل السنّة الذي يجوّز علىٰ النبي الخطأ والنسيان والاجتهاد وحتّىٰ ارتكاب الذنوب ، وبالتالي فان مخالفة أيّ مجتهد له ليس ببدعة ، بل هو إجتهاد في مقابل إجتهاد النبي ليس إلّا.

لكن الشيعة الذين يقولون بعصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم المطلقة لا يجوّزون ذلك عليه ، ولا يجوّزون مخالفته بأيّ حال من الأحوال ، فعصمة النبي المطلقة قد نطق الكتاب بها في قوله تعالىٰ : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (12) ، ولا يجوّزون مخالفته ، لقوله تعالىٰ : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (13).

وقد أحسّ أهل السنّة بفداحة الأمر ، فحاولوا أن يخرجوا من هذه الورطة بنسبة هذا التصرّف في الأذان ـ كما في غيره ـ إلىٰ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لصرف التهمة عن عمر بن الخطاب :

أخرج البيهقي قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمّد بن الحارث الفقيه ، ثنا أبو محمّد بن حيان أبو الشيخ الاصفهاني ، ثنا محمّد بن عبدالله بن رسته ، ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب ، ثنا عبد الرحمن بن سعد المؤذّن ، عن عبدالله بن محمّد بن عمّار ، وعمّار وعمر ابني حفص بن عمر بن سعد ، عن آبائهم ، عن أجدادهم ، عن بلال : أنه كان ينادي بالصبح فيقول : حي علىٰ خير العمل ، فأمره النبي أن يجعل في مكانها : الصلاة خير من النوم وترك حي علىٰ خير العمل.

قال الشيخ : وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي فيما علّم بلالاً وأبا محذورة ، ونحن نكره الزيادة فيه وبالله التوفيق (14).

أمّا بعض الصحابة والتابعين فقد استمرّوا علىٰ الحيعلة الثالثة ، فقد أخرج البيهقي أن ابن عمر كان يكبر في النداء ثلاثاً وشهد ثلاثاً وكان أحياناً إذا قال : حي علىٰ الفلاح ، قال علىٰ أثرها : حي علىٰ خير العمل (15).

وأخرج عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه : أن علي بن الحسين كان يقول في أذانه إذا قال حي علىٰ الفلاح ، قال : حي علىٰ خير العمل ، ويقول : هو الأذان الأوّل (16).

وقال السهيلي : ونقل عن ابن عمر وعن علي بن الحسين رضي الله عنهم أنهما كانا يقولان في أذانيهما بعد حي علىٰ الفلاح : حي علىٰ خير العمل (17).

هذا هو ما أحدثه أهل السنّة في الأذان ، وجعلوه جزءاً منه ، أما الشيعة فيعتبرون الأذان توقيفيّاً ـ كما قلنا ـ والنداء الثالث ليس عندهم من أجزاء الأذان ، بل أن إعتباره جزءاً من الأذان يبطله عندهم.

وإنّما يأتون به من باب الاستحباب ، وذلك لورود الروايات الكثيرة في مصادر الفريقين من المقارنة بين اسم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واسم الامام علي عليه السلام ، ويكون كاستحباب الصلاة علىٰ النبي بعد الشهادة بالرسالة.

فلماذا يعاب علىٰ الشيعة ذلك ويتسامح مع غيرهم في ما هو أكبر ؟!

الهوامش

1. رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : 32 ـ 33.

2. سنن أبي داود 1 / 135 باب كيف الأذان.

3. المصدر السابق : باب بدء الأذان.

4. صحيح البخاري 1 / 157 باب بدء الأذان ، صحيح مسلم 1 / 285 باب بدء الأذان.

5. صحيح البخاري 1 / 157 ـ 158.

6. انظر سنن ابن ماجه 1 / 232 كتاب الأذان باب بدء الأذان ، سنن الترمذي 1 / 358 ، سنن النسائي 2 / 20 ، وغيرها.

7. سورة النجم : 3.

8. تذكرة الفقهاء 3 / 38 ـ 39.

9. سنن الترمذي 1 / 381 ، وأخرجه ابن ماجة 1 / 237 ، والبيهقي 1 / 424 ، قال البيهقي : وهذا أيضاً مرسل ، فان عبد الرحمن بن أبي ليلىٰ لم يلق بلالاً. فالحديث ضعيف.

10. عارضة الأحوذي 1 / 312 ـ 314.

11. شرح تجريد الاعتقاد : 374.

12. سورة النجم : 3 ـ 4.

13. سورة الحشر : 7.

14. السنن الكبرىٰ 1 / 425.

15. السنن الكبرىٰ 1 / 224.

16. المصدر السابق.

17. السيرة الحلبية 2 / 98.

مقتبس من كتاب : [ لا تخونوا الله والرسول ] / الصفحة : 209 ـ 218