مفهوم البدعة وشروطها

طباعة

مفهوم البدعة وشروطها

تقدّم أنَّ البدعة هي : « إدخال ما ليس من الدين في الدين » وبهذا يكون مفهوم البدعة متقوّماً بأمرين هما :

١ ـ الإختصاص بالاَُمور الشرعيّة.

٢ ـ عدم وجود دليل شرعي على الأمر الحادث من الدين.

أوّلاً : الإختصاص بالأُمور الشرعيّة

يختصّ مفهوم « البدعة » ، بالأُمور الشرعيّة زيادة أو نقصاناً ، ولا يتعدّى ذلك إلى الأُمور والعادات المتغيّرة ، والمباحات ، والأعراف المتباينة لدى الناس ، ما دامت لا تُعد جزءً من الشريعة ، وعلى سبيل المثال فإنّ استعمال الإنسان الآن للأجهزة المتطوّرة في الكتابة كجهاز الحاسوب أو غيره من أجهزة الكتابة بعد أن كان يستخدم الدواة والقلم لا يُعدّ « بدعة » بمفهومها الشرعي ، وكذلك الأمر الآن في ركوب السيّارات والطائرات بعد ركوب الدوابّ ، وغير ذلك.

وقد اختلفت طريقة تعامل الإنسان مع الأشياء بناءً على التطوّر الحاصل في جميع مرافق الحياة ، كتدوين الحديث ، وتصنيفه ، وتبويبه.

والإستماع إلى القرآن ، وتشييد الأماكن المقدّسة ، وإقامة التجمّعات الدينيّة ، وإنشاء المدارس والمؤسّسات الإسلاميّة وغير ذلك ممّا يلبي حاجة الإنسان في زماننا المعاصر.

وهذه الأُمور كلّها لا علاقة لها بالإبتداع ، وإنْ كانت أُموراً حادثةً وغير موجودة في عصر التشريع الأوّل ؛ لأنّها ممّا ترك لإختيار الإنسان وذوقه في إنتخاب ما يناسب اُسلوبه في الحياة ومرتبطة بطريقته في التعامل مع الأشياء وبقدرته على تسخير الطاقات الكامنة في هذا الوجود وتطويعها لخدمته.

وقد حاول البعض توسيع معنى « البدعة » إلى مدى أوسع ليشمل كلَّ أمرٍ حادث لم يكن قد وقع في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى وإن كان بنحوٍ من الأنحاء يهدف إلى خدمة الدين وأهدافه المقدّسة.

فقد دفع التحجّر بعض هؤلاء ممّن قصروا عن فهم الدين والسُنّة النبويّة الشريفة إلى الإعتقاد بأنّ كلّ أمرٍ لا بدَّ أن يأتي فيه النصّ الخاصّ الذي يشير إليه بشكل صريح ، وأنّ كلّ ما لم يرد بشأنه دليل شرعي خاصّ فإنّه يندرج في قائمة الإبتداع ، وكأنّ الشريعة الإسلاميّة عقيمة جامدة لا تمتلك الضوابط العامّة والقوانين الكليّة التي يمكن تطبيقها على الموضوعات والحوادث المستجدة والمتنوّعة.

جاء في دائرة المعارف الإسلاميّة : وتطوّر مدلول كلمة « البدعة » ، وانقسم الناس حياله إلى فريقين : الأوّل محافظ ، والآخر : مجدّد ، وكان أتباع الفريق المحافظ أوّل الأمر الحنابلة بنوعٍ خاصّ ، ويمثلهم الآن الوهابيّون ، وهذا الفريق آخذ في الزوال ، ويذهب هذا الفريق إلى أنّه يجب على المؤمن أن يأخذ بالاتّباع « إتّباع السُنّة » ، وأن يرفض الإبتداع ، وفريق آخر يسلّم بتغيّر البيئة والأحوال (1).

فهناك إذاً توجه متطرّف في فهم « البدعة » وإعطائه معنىً شاملاً وواسعاً ، مناقضاً للمعنى الوارد في القرآن والسُنّة النبويّة الشريفة ، ومناقضاً أيضاً لمنطق العقل وسُنّة الخلق ، فهذا الإتّجاه كما قلنا يطبّق مفهوم البدعة على كلّ أمر حادث في حياة المسلمين ويوسع دلالتها إلى مختلف شؤون الحياة بدعاوى الحرص على الدين والتقيّد والاتّباع للسُنّة النبويّة المطهّرة.

وهذا اللون من الفهم المغلوط والتفكير السقيم لا يعني سوى الإنغلاق الكامل عن الحياة ، والإنزواء المطبق الذي يعزل الشريعة عن التفاعل مع حياة الناس ، بل وقيادتهم في خضم الصراعات الكبرى التي تواجهها الإنسانيّة.

ولكي يقف القارئ الكريم على الفهم المغلوط لمفهوم البدعة ، نورد له في هذا الباب جملة من الحوادث والروايات لرجال وأشخاص فهموا البدعة على أنّها كلّ أمر حادث لم يكن في عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

١ ـ جاء في « الاعتصام » أنَّ أبا نعيم الحافظ روى عن محمّد بن أسلم أنّه وُلد له ولد ، قال ـ محمّد بن القاسم الطوسي ـ فقال : اشترِ لي كبشين عظيمين ، ودفع لي دراهم فاشتريت له ، وأعطاني عشرة أُخرى ، وقال لي : اشتر بها دقيقاً ولا تنخله ، واخبزه !

قال : فنخلت الدقيق وخبزته ، ثمّ جئت به ، فقال : نخلت هذا ؟! وأعطاني عشرة أُخرى ، وقال اشترِ به دقيقاً ولا تنخله ، واخبزه ! فخبزته وحملته إليه ، فقال لي : يا أبا عبد الله ، العقيقة سُنّة ، ونخل الدقيق بدعة ! ولا ينبغي أن يكون في السُنّة بدعة ، ولم أُحبّ أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة (2).

٢ ـ وروي أن رجلاً قال لأبي بكر بن عياش : كيف أصبحت ؟ فما أجابه ، وقال دعونا من هذه البدعة (3).

٣ ـ وروي عن أبي مصعب صاحب مالك أنّه قال : قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلّى ووضَعَ رداءه بينَ يدي الصف ، فلمّا سلَّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكاً ، وكان قد صلّى خلف الإمام ، فلّما سلَّم قال : من هاهنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان ، فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ! فحُبس ، فقيل له : إنّه ابن مهدي ، فوجّه إليه وقال له : أما خفتَ الله واتّقيته أن وضعت ثوبكَ بين يديك في الصف وشغلت المصلّين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه ، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : « من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » ؟ فبكى ابن مهدي ، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً في مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا في غيره (4).

٤ ـ ويقول ابن الحاج : وقد منع علماؤنا رحمة الله عليهم المراوح ، إذ إنَّ اتّخاذها في المساجد بدعة (5) !!

٥ ـ ويقول أيضاً : إنّ المصافحة بعد الصلاة بدعة ، وينبغي له ـ يقصد إمام الجماعة ـ أن يمنع ما أحدثوه من المصافحة بعد صلاة الصبح ، وبعد صلاة العصر ، وبعد صلاة الجمعة ، بل زاد بعضهم في هذا الوقت فعل ذلك بعد الصلوات الخمسة ، وذلك كلّه بدعة (6) !!

وممّا تقدّم من الشواهد والأمثلة تتوضح معالم الفهم الخاطئ لمعنى البدعة ، وأنّه ناشئ من الإعتقاد بأن كلّ أمر حادث لم يكن موجوداً في عصر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يرد بخصوصه نصٌّ معين يخصّه بالذكر ، فهو داخل في دائرة الإبتداع.

ومن هنا صار نخلُ الدقيق وتنقيته من الشوائب من البدع في الدين ، وكذلك وضع الرداء بين يدي الصف في الصلاة من البدع التي تاب عن فعلها صاحبها !! ويلحق بذلك عند هؤلاء التحيّة بعبارة « كيف أصبحت » والمصافحة بعد الصلاة ، واستخدام المراوح في المساجد أيضاً ، فهذه وأمثالها عندهم كلّها بدع.

أصل هذا الفهم :

إنّ هذا الفهم الخاطئ « للبدعة » لم يتأت من فراغ ، بل جاء من الإعتقاد بنظريّة غريبة ، وهي أنّ البدعة هي ما لم يكن موجوداً في القرون الثلاثة بعد رحيل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

يقول صاحب الهديّة السنيّة : « وممّا نحن عليه ، أنّ البدعة ـ وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة ـ مذمومة مطلقاً خلافاً لمن قال : حسنة وقبيحة ، ولمن قسّمها خمسة أقسام ، إلّا إن أمكن الجمع بأن يقال : الحسنة ما عليها السلف الصالح شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة ، وتكون تسميتها بدعة مجازاً ، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرمة والمكروهة ، فلا بأس بهذا الجمع .. » (7).

إنّ هذه النظريّة الشاذّة الغريبة اعتمدت حسب ما يبدو على روايات وردت في فضل أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقد روى البخاري عن عمران بن الحصين ، يقول : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : خير أُمّتي قرني ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً ، ثمّ إنّ بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السِّمَنُ (8).

وروى أيضاً عن عبد الله إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : « خير الناس قرني ، ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته ، قال : قال إبراهيم : وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار » (9).

إنّ الإحتجاج بهذه الروايات على أنّها الميزان في تمييز البدعة عن السُنّة باطل من عدّة وجوه :

الأوّل : إنّ القرن في اللغة هو النسل (10) ، وقد استُعمل هذا المعنى في القرآن الكريم ، قال سبحانه وتعالى : ( فَأهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأنشأنَا مِنْ بَعدِهِم قَرناً آخَرِينَ ) (11).

والمتعارف أنّ معدل عمر كلّ نسلٍ أو جيل هو الستّون أو السبعون من السنين ، فيكون المراد من تلك الروايات ، مجموع تلك السنين وهو يتراوح بين ١٨٠ و ٢١٠ سنة فأين ذلك من تفسير الحديث المارّ بثلاثمائة سنة.

الثاني : إنّ شرّاح الحديث اختلفوا في تفسير الرواية ، ومع ذلك فإنّ كلّ التفاسير لا يستفاد منها ما تبنّاه الكاتب من أن القرون الثلاثة هي ثلاثمائة سنة ، فهناك من يقول إنّ المراد في قوله : « قرني » هو أصحابه ومن « الذين يلونهم » أبناءهم ومن « الثالث » أبناء أبنائهم .. وغيره يقول بأنّ قرنه ما بقيت عين رأته ، ومن الثاني ما بقيت عين رأت من رآه ، ثمّ كذلك.

ويقول ثالث : إنّ قرنه هم الصحابة ، والثاني التابعون ، والثالث تابعوهم (12).

وعلى كلِّ التفاسير المارّة فإنّ المدّة المفترضة هي أقلّ من ثلاثمائة سنة ، فإذا أخذنا بالقول الأخير وهو أعمّ الأقوال وأكثرها سعة من ناحية الإمتداد الزمني ، فإنَّ آخر من مات من الصحابة هو أبو الطفيل وقد اختلفوا في تاريخ وفاته ، فقد قيل أنّه توفّي في سنة ١٢٠ هـ أو قبلها أو بعدها بقليل ، وأمّا قرن التابعين فآخر من توفّي منهم كان عام ١٧٠ هـ أو ١٨٠ هـ وآخر من عاش من أتباع التابعين ممّن يُقبل قوله قد توفّي حدود سنة ٢٢٠ هـ ، فيقل تاريخ وفاته بثمانين سنة عن الثلاثمائة سنة وهو زمن كثير. وهذا ما اعتمده ابن حجر العسقلاني ، فقال : وفي هذا الوقت « ٢٢٠ هـ » ظهرت البدع فاشياً ، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ، ورفعت الفلاسفة رؤوسها ، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن ، وتغيّرت الأحوال تغيّراً شديداً ولم يزل الأمر في نقصٍ إلى الآن (13).

ويزيد الأمر وضوحاً أنّ الحديث المروي قد اعتمد في تمييز القرن عن القرن الآخر الأشخاص حسب طبقاتهم ، حيثُ قال : « خير أُمّتي قرني » ولم يقل القرن الأوّل ، ثمّ قال : « ثمّ الذين يلونهم » ولم يقل القرن الثاني ، وأخيراً قال : « ثمّ الذين يلونهم » ولم يقل القرن الثالث ، والأمر هنا واضح الدلالة بما لا مزيد عليه من أنّ المحور في تعيين القرن هم الأشخاص.

الثالث : ماذا يُراد من خير القرون وشرّها ، وما هو المقياس في الوصف بالخير والشر ؟

إنّ هناك ثلاثة مقاييس يمكن استخدامها في وصف أمرٍ بالخير أو بالشرّ هي : ـ

١ ـ إنّ أهل القرن الأوّل كانوا خير القرون لأنّهم لم يختلفوا في الاُصول والعقائد.

٢ ـ إنّهم خير القرون لأنّهم كانوا جميعاً يعيشون تحت ظلّ الأمن والسلم والطمأنينة.

٣ ـ إنّهم خير القرون لأنّهم تمسكوا بأهداف الدين وحقّقوا أهدافه على الصعيد العملي والتطبيقي.

إنّ كلّ واحد من هذه الإفتراضات بكذبه القرآن الكريم والسُنّة النبويّة الشريفة ووقائع التاريخ.

فإذا كان المقياس هو العقائد الصحيحة ، وأنَّ المسلمين كانوا كلّهم متمسّكين بمعتقد واحد صحيح طيلة القرون الثلاثة الاُولى ، وأنّ العقائد الباطلة والفاسدة ظهرت بعد تلك القرون ، فإنّ تاريخ ظهور الملل والنحل في المجتمع الإسلامي يكذّب ذلك الإدّعاء والتفسير ، فقد ظهر الخوارج في أواخر الثلاثينات الهجريّة وكانت لهم عقائد سخيفة خضّبوا بسببها وجه الأرض بالدم وقتلوا الأبرياء ، ولم تكتمل المائة الاُولى حتّى ظهرت المرجئة الذين دعوا المسلمين إلى التحلّل من الضوابط والإلتزامات الشرعيّة ، رافعين عقيرتهم بالنداء بأنّه لا تضرّ مع الإيمان معصية !

ولم يمضِ وقت طويل على ظهورهم حتّى ظهر المعتزلة عام ١٠٥ هـ قبل وفاة الحسن البصري بقليل ، فتوسّع الشقاق بين المسلمين.

لقد شهدت المائة الهجرية الثانية توسّع الأبحاث الكلاميّة وانبعاث المذاهب المتعدّدة ، وأصبحت حواضر العالم الإسلامي ميداناً واسعاً لتضارب الآراء وصراع الأفكار.

فمن متزمتٍ يقتصر في وصفه سبحانه وتعالى على الألفاظ الواردة في القرآن الكريم ويفسّرها بمعانيها الحرفيّة ، من دون إمعان أو تدبّر فلا يخجل من الإدّعاء بأنّ لله يداً ووجهاً ورجلاً وأنّه مستقرّ على عرشه كما يستقرّ أيّ موجود مادّي.

إلى مرجئي يكتفي بالإيمان بالقول بل ويقدّمه ، ويؤخّر العمل ويسوق الاُمّة إلى التحلّل الخلقي وترك الفرائض والواجبات ، إلى محكِّم يُكفّر كلّ الطوائف الإسلاميّة غير أهل نحلته ، إلى معتزلي يؤوّل الكتاب والسُنّة إلى ما يوافق معتقده وعقليّته ، إلى غير ذلك من العقائد الفاسدة التي طعنت وحدة الاُمّة الإسلاميّة بالصميم.

وأمّا إذا كان المقياس هو سيادة الأمن والإستقرار والسلم والطمأنينة على المجتمع الإسلامي ، فإنَّ وقائع التاريخ تكذّب ذلك أيّما تكذيب ، فقد كان القرن الأوّل صفحة تلطّخت بالدم الذي سال من المسلمين ، ففي هذا القرن وقعت حرب الجمل ، وفيه خرج معاوية على إمام زمانه أمير المؤمنين عليه السلام فوقعت معركة صفين ، وفيه قُتل في محرابه أمير المؤمنين علي عليه السلام.

وفيه ظهر الخوارج وارتكبوا ما ارتكبوا من أبشع الجرائم.

وفيه أيضاً قُتل الإمام الحسين عليه السلام سبط الرسول الأعظم وسيّد شباب أهل الجنّة.

وفيه استبيحت المدينة بأمر يزيد بن معاوية فقتل من الصحابة والتابعين عدد كبير ونهبت الأموال وحرّقت الدور وبقرت بطون الحوامل وهتكت الأعراض.

وفيه حوصرت مكّة وضربت الكعبة بالمنجنيق.

لقد وقع كلّ ذلك قبل أن تتمّ المائة الاُولى سنينها ، فكيف يمكن أن يكون ذلك القرن خير القرون وأفضلها ، صحيح إنَّ في وجود الرسول الأكرم والطاهرين من أهل بيته والصالحين من أصحابه الخير كلّ الخير ، لكن الحديث المذكور يشير إلى الأشخاص « الأصحاب » الذين كانوا هم أنفسهم وراء الكثير من الأحداث الدمويّة.

وإذا كان المقياس هو التمسّك بالدين والإلتزام بالتعاليم التي جاء بها الرسول الأكرم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فلا ندري هل نصدّق الحديثين السابقين اللذين رواهما الشيخان ، أم نصدّق بما أخرجاه معاً في مكان آخر ، قالا : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فَيُحَلَّؤون عن الحوض ، فأقول : يا ربّي أصحابي ، فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقري » (14).

أم نؤمن بالحديث الذي تقدّم في فصول الكتاب من أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لجملة من أصحابه يوم القيامة : « فسحقاً » يكرّرها ثلاث مرّات ؟

وكيف نؤمن بذلك والقرآن الذي نزل تعرّض إلى جملة ممّن عاصروا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فوصفهم بالمنافقين (15) ، والمختفين به (16) ، ومرضى القلوب (17) ، والسماعين ، كالريشة في مهب الريح (18) ، والمشرفين على الإرتداد (19) ، والمسلمين غير المؤمنين (20) ، والمؤلّفة قلوبهم (21) ، والمولّين أدبارهم أمام الكفار (22) ، والفاسقين (23).

وكيف يا ترى مع وجود كلّ هذه النعوت والأوصاف التي أطلقها القرآن الكريم على أشخاص أو مجموعات من الناس كانت تعيش في أوساط المسلمين وتجتمع باجتماعهم ، يصف الرسول تلك القرون بأنّها خير القرون ؟!

إنّ الذي يبدو واضحاً أنّ الحديث موضوع من أجل هدف خطير ، وهو تصحيح كلّ أفعال السلف وجعلهم معياراً فاصلاً بين الحقّ والباطل ، فما فعلوه فهو الحقّ وما تركوه هو الباطل !!

ونحن نعتقد أنّ عمل السلف ليس مصدراً من مصادر التشريع كما صوّره البعض وبنوا عليه كثيراً من الأحكام الشرعيّة التفصيليّة ، مع أنّه ليس هناك أي دليل يشير إلى اعتبار فعل السلف وحجيّته في مجال الأحكام الشرعيّة.

إنّ قبول ذلك المعيار يعني استسلام الشريعة المقدّسة إلى البدع والمحدثات ، واختلاط الحرام بالحلال ، والوقوع في تناقضات أفعال السلف التي طفحت بها كتب الرواية والحديث والوقائع التاريخيّة.

والأمر الوحيد الذي نمتلكه بهذا الصدد ، هو أنّ فعل المتشرعة الذين يمثلون الطبقة الطليعية في المجتمع الإسلامي ، والذين يحكي تصرّفهم وسلوكهم عن واقع الأحكام الشرعيّة ، باعتبار حرصهم على تطبيق تعاليمها ، والجري على منهجها ، إنّما هو حجّة من ناحية كونه كاشفاً عن تلقّي الأمر عن مصدر التشريع.

ومن الواضح إنَّ هذه الدائرة لا يمكن أن تشمل في إطارها جميع أفعال السلف ، بل انّها تقتصر في حجيّتها على حدود خاصّة منهم.

إنَّ افتراض الحجيّة لجميع أفعال السلف كلّهم ، يتناقض مع كونهم لم يقدّموا للاُمّة أمراً أجمعوا رأيهم عليه بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ومن يتصفّح كتب التاريخ الإسلامي والوقائع والأحداث ونشوء المدارس وتنوّع الإجتهادات وتضاربها لا يخالطه في ذلك ريب.

فكيف يكون المختلفون كلّهم حجّة على من أعقبهم من الاُمّة ، مع أنّ الإختلاف بينهم كان بعضه بمقدار ما بين الجنّة والنار من مسافة واختلاف ؟!

ثانياً : عدم وجود دليل شرعي على الأمر الحادث من الدين

وهذا القيد يعتبر من أوضح القيود التي تشخّص البدعة وتحدّدها ، إذ إنّ من الشروط الأساسيّة التي تُدخل « الأمر الحادث » ضمن دائرة الإبتداع هو أن لا يكون لهذا العمل أصل في الدين لا على نحو الخصوص ولا على وجه العموم ..

قال تعالى : ( وَمَنْ أظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إنَّهُ لا يُفلِحُ الظَّالِمُون ) (24).

ويقول عزَّ من قائل : ( قُل ءَاللهُ أذِنَ لَكُم أم عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (25).

وواضحة دلالة الآيتين الشريفتين على أن هناك من يحاول إدخال ما ليس من الدين أو الشرع أو أوامر الله سبحانه وتعالى في الدين.

إنّ « الأمر الحادث » هو الأمر الذي يقع في زمن غياب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بحيث لا نملك اتّجاهه سُنّة نبويّة معروفة ، وإلّا لكان من السُنّة وخرج عن كونه أمراً حادثاً ، ولذا فإن وجدنا دليلاً خاصّاً ينطبق عليه ويحدّد الموقف منه فإنَّ هذا الدليل يُخرج هذا الأمر عن دائرة الإبتداع ، ويدخله ضمن دائرة السُنّة والتشريع.

وكذلك الأمر لو وجدنا دليلاً عامّاً يمكن تطبيقه على هذا الأمر الحادث ، فإنّه سيخرجه عن حدِّ الإبتداع أيضاً.

وكلّ ذلك منوط بصحّة الأدلّة الخاصّة والعامّة وصحّة صدورها من الشارع المقدّس ، لكي يتحقّق ارتباط الأمر الحادث بالدين على نحو القطع واليقين.

ولتوضيح فكرة الدليل الخاصّ والدليل العام على الأمر الحادث سنورد المثال التالي :

إستثناء ما ورد فيه دليل خاصّ :

إنّ ورود دليل شرعي خاصّ بخصوص أمرٍ معيّن ، وإن لم يقع في حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فإنَّ هذا الأمر يأخذ موقعه في كونه جزءاً من التشريع بالعنوان الذي يذكره الدليل الخاصّ ، ويخرج بذلك عن دائرة الإبتداع ، إذ المقياس ليس وقوعه أو عدم وقوعه في عصر التشريع ، بل المقياس هو إنطباق الدليل الخاصّ عليه أم عدمه.

وسنوضح هذه الفكرة من خلال عدّة نماذج :

١ ـ تعتبر صلاة الآيات بالأدلّة الشرعيّة واجبة عند حدوث الظواهر الطبيعيّة المخوّفة كالزلزال وغيره ، فإذا افترضنا أنّ زلزالاً لم يقع طيلة حياة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أو طيلة عصر التشريع ، وأنّ هذا الزلزال وقع بعد حياته صلّى الله عليه وآله وسلّم وانقطاع الوحي الإلهي ، فإنّ القول بوجوب أداء صلاة الآيات والمتعلّقة في هذه الحالة « بالزلزلة » لا يُعدّ بدعة بحجّة أنّ هذا الأمر حادث ولم يقع في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم !! ، بل إنّه هنا من صميم السُنّة الشريفة ، لأنّه وجب عن طريق الدليل الشرعي الخاصّ ، غاية الأمر أنّه لم يقع في زمن التشريع أو في زمن حياة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

٢ ـ ومن أمثلة الدليل الخاصّ أيضاً ما ورد من النصوص الشرعيّة التي تحرّم على الرجل أن يتزيّى بزيّ النساء ، وتحرم على المرأة ان تتزيّى بزيّ الرجال.

عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّه قال : « لعنَ اللهُ الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل » (26).

وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ليس منّا من تشبّه بالرجال من النساء ، ولا من تشبّه بالنساء من الرجال » (27).

إنّ تشبّه الرجال بالنساء ، وتشبّه النساء بالرجال أخذ عنوانه الشرعي بالحرمة من خلال نصّه الخاصّ ، وتحريمه بعد وقوعه عقب زمن التشريع لا معنى لجعله ضمن دائرة « البدعة » ، بل إنّ تحريمه يُعتبر من صميم التشريع لورود الدليل الخاصّ فيه.

وخلاصة القول : إنّ النصّ الخاصّ هو جزء من التشريع ، وإن كان الأمر الذي ورد فيه ذلك النصّ لم يحدث إلّا بعد عصر التشريع.

تقسيم البدعة

لقد تقدّم في تعريف البدعة أنّها الزيادة في الدين أو النقصان منه ، وبعبارة أُخرى إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرّم أو تحريم مباح أو إيجاب ما ليس بواجب. وهو كما ترى يعتمد على محور الإضافة والحذف.

ومع هذا التعريف هل يمكن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة ؟

وقبل الإجابة التفصيليّة على هذا السؤال يحسن أن نشير إلى أنَّ القول بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيّئة يقوم على أساس عدم التفريق ، أو الخلط بين البدعة بمعناها اللغوي ـ والتي هي بمعنى إحداث شيء ليس على مثال سابق ـ وبين معناها الإصطلاحي الشرعي ، والذي هو بمعنى إدخال ما ليس من الدين في الدين ، وإنقاص أمر من الدين على أنّه ليس منه.

إنَّ الأمر المحدث لا على مثال سابق يحتمل أن يكون مذموماً وأن يكون ممدوحاً أيضاً حسب موقعه انسجاماً أو تقاطعاً مع تعاليم الشريعة المقدّسة.

إنّ البدعة بمعناها اللغوي تنسجم مع طبيعة تطور الحياة وتنوع حاجات الإنسان على مرّ العصور ، فما كان سائداً من طريقة للكتابة وأدواتها في العصور الاَُولى تطوّر عبر الأزمان والأعصار وأصبح بالشكل الذي هو عليه اليوم.

إنّ البدعة بالمعنى اللغوي قد تكون لها علاقة بالدين وقد لا تكون كذلك ، وهي تنقسم إلى قسمين ، إذ إن كلّ شيء محدث مفيد للحياة الإنسانيّة من العادات والتقاليد والرسوم إذا تمّ أداءه من دون اعتباره جزء من الدين ولم يكن محرّماً « بذاته » كان بدعة حسنة ، مثل الإحتفال بيوم الإستقلال ، أو الإجتماع للبراءة من المشركين ، أو الإحتفال التأبيني لتكريم بطل من أبطال الاُمّة ، وبشكل عام فإنّ ما هو حلال بالذات لا مانع من أن تتّفق عليه الاُمّة وتتّخذه عادة متبعةً في المناسبات ، ما لم يرد فيه نهي فهو بهذا المعنى بدعة لغويّة.

أمّا إذا كان محرّماً « بالذات » مثل سفور النساء أمام الرجال ، فلو أصبح ذلك رائجاً واتّخذ عادة وتقليداً ، فانّه أمر محرّم بالذات ، أيّ أنّه عصيان للأمر الإلهي والتشريع ، وهذه الحرمة لا تتأتى من كونه بدعة بالمعنى الشرعي بمعنى التدخل في أمر الدين وإنكار أنّ الحجاب جزء من التشريع الديني ، فالقائلون بالسفور يحتجون بأنّ ذلك جزء من مقتضيات العصر والحضارة مع الإعتراف بأنّه مخالف للشريعة ، ولو قيل أنّ السفور بدعة قبيحة فذلك بمعناها اللغوي لا بمعناها الشرعي.

ويتّضح من خلال ذلك أنَّ أكثر الذين أطنبوا في الحديث في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيّئة قد خلطوا بين المعنى اللغوي للبدعة وبين معناها الشرعي ، مستشهدين بذلك بأمثلة زاعمين أنّها من البدع بمعناها الشرعي مع أنّ أمرها يدور بين أمرين :

فهي أمّا أن يُعمل بها باسم الدين والشريعة ، ويكون لها أصل فيهما ، فتخرج بذلك عن دائرة البدعة ، مثل تدوين الكتاب والسُنّة إذا توفّرت الخشية عليهما من التلف والضياع ، وبناء المدارس وغيرها ، فمثّلوا للبدعة الواجبة بالتدوين ، وللبدعة المستحبّة ببناء المدارس ، مع أنّهما ليسا من البدعة بمعناها الشرعي ، لوجود أصل صالح لهما في الشريعة.

أو أنّها عمل عادي يتمّ العمل بها ليس باسم الدين بل من أجل ضرورات تطوّر الحياة وطلب الراحة ، فتكون خارجة عن موضوع البدعة بمعناها الشرعي أيضاً مثل نخل الدقيق ، فقد ورد أنّ أوّل شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اتّخاذ المناخل ولين العيش من المباحات. وهذه حالة يصحّ إطلاق البدعة عليها بمعناها اللغوي ، أيّ الإتيان بشيء جديد لاعلى مثال سابق.

وقد وافق هذا القول جملة من المحقّقين منهم الشاطبي ، قال : إنّ متعقّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لأنّه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكلّ ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يُذم ، إذ لا يصحّ في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع .. وأيضاً فلو فرض أنّه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصوّر ، لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك. وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيّتها إذ لو قال الشارع : « المحدثة الفلانيّة حسنة » لصارت مشروعة ، ولمّا ثبت ذمّها ثبت ذمّ صاحبها لأنّها ليست بمذمومة من حيث تصوّرها فقط ، بل حيثُ اتّصف بها المتّصف ، فهو إذن المذموم على الحقيقة ، والذمّ خاصّة التأثيم ، فالمبتدع مذموم آثم ، وذلك على الاطلاق والعموم (28) ، وقال العلّامة المجلسي : إحداث أمر لم يرد فيه نصّ بدعة ، سواء كان أصلهُ مبتدعاً أو خصوصيّاته مبتدعة فما يقال : إنّ البدعة منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة أمرٌ باطل ، إذ لا تطلق البدعة إلّا على ما كان محرّماً كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار » (29).

أدلّة عدم جواز تقسيم البدعة :

وأمّا الأدلّة على عدم جواز تقسيم البدعة فسوف نعرض أهمّها ، وكما يأتي :

الدليل الأوّل : إنّ التدقيق في المعنى الإصطلاحي لمفهوم البدعة الذي ورد مستفيضاً في النصوص الشرعيّة ، يقضي بعدم إمكانيّة تقسيم البدعة ، فالبدعة في الإصطلاح الشرعي هي : « إدخال ما ليس من الدين فيه » وقد مرَّ ذلك ، ويعني هذا أنّ البدعة إنّما تكون « بدعة » عندما تأخذ صفة التشريع الوضعي في مقابل التشريع الإلهي المقدّس ، فهل يمكن أن نتصوّر أنّ هناك قسماً من « البدعة » ممدوح ، وهو يمثل محاولة لتقويض الدين وقوانينه ؟ وهل يدخل تحت واحد من الأحكام الشرعيّة الخمسة سوى التحريم ؟

إنّ شأن الابتداع في المصطلح الشرعي شأن الكذب على الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فهل يعقل أن يكون هناك لون ممدوح من الكذب على الله ورسوله ؟

إنّ البدعة في الإصطلاح الشرعي تأبى التقسيم ، وهي محرّمة مطلقاً لأنّها ـ كما علمت ـ تدخّل صريح في التشريع الإلهي وتلاعب فيه.

الدليل الثاني : إنَّ جوّ النصوص التي تحدثت عن البدعة ، جوّ يفيض بالذمّ والتهديد والوعيد للمبتدع ، فقد مرّت علينا النصوص التي جعلت البدعة ندّاً مقابلاً للسنة ، وضدّاً لا يلتقي معها أبداً ، وذمت المبتدع وكالت له أنواع الذمّ والتوبيخ والتقريع والتهديد ، وأوعدته بالعذاب العظيم في الدنيا والآخرة ، بل دعت الناس إلى مقاطعته وهجرانه وهدّدت بالعذاب من يلقاه بوجه صبوح ، وقالت بعدم قبول توبته ، وهذا من أقسى أنواع التهديد والعقاب. ومع وجود كلّ هذه الألوان من التهديد والوعيد ، فهل يمكن أن يكون هناك نوع ممدوح من البدعة ؟ إنّ البدعة معصية ولم يسمع أحد أنّ الله أو رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد مدح المعصية.

واقتصار النصوص الواردة في ذكر البدعة على الذمّ والانتقاد الشديد يبطل مقولة البدعة الحسنة فلو كان هناك نحو من أنحاء الإستثناء في موارد معينة مفترضة حتّى لو كانت جزئيّة ، لما تجاوزتها الشريعة المقدّسة أو تجاهلتها.

إنّ هناك صفات وأعمالاً تناولتها النصوص الصريحة من الكتاب والسُنّة الشريفة ، بالذمّ الشديد والتحذير لفاعليها ، مثل صفة « الكذب » إلّا أنّ الشريعة لم تتجاهل في الوقت نفسه بعض الموارد التي يرتفع فيها موضوع الذمّ ، حتّى إنّنا نرى أنَّ هناك نصوصاً في الشريعة شديدة الصراحة على استثناء بعض أنواع الكذب من أصل التحريم ، إذ قد يخرج الكذب من دائرة التحريم إلى دائرة الوجوب ، فيما لو توقف عليه صيانة نفس مؤمنة من القتل أو الهلاك.

وكذلك الأمر مع « الغيبة » هذه الخصلة المذمومة الممقوتة في نظر الشريعة ، إذ ورد الحكم في جوازها في بعض الموارد كجواز اغتياب الفاسق المتجاهر بالفسق.

الدليل الثالث : ورد في الحديث المتّفق عليه عند الفريقين أنَّ الرسول محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : « .. ألا وكلّ بدعة ضلالة ، ألا وكلّ ضلالة في النار » (30). وورد بلفظ آخر : « فإنّ كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة تسير إلى النار » (31).

ودلالة الحديث بلفظيه على شمول جميع أنواع البدع بإنّها ضلالة لا تحتاج منّا إلى المزيد من الإيضاح ، ولا تقبل الجدل والإنكار.

مواقف العلماء من تقسيم البدعة

ما تقدم كان استعراضاً للأدلّة على عدم جواز تقسيم البدعة إلى مذمومة وحسنة ، وننقل القارئ الكريم الآن إلى مطالعة النصوص التالية لعلماء من الفريقين قالوا بعدم جواز تقسيم البدعة :

١ ـ الحافظ ابن رجب الحنبلي ، قال : « والمراد بالبدعة : ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه ، أمّا ما كان له أصل من الشرع يدلّ عليه ، فليس ببدعة شرعاً ، وإن كان بدعة لغة » (32). ويضيف قائلاً : « فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم « كلّ بدعة ضلالة » من جوامع الكلم ، لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ » ، فكلّ من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ، فهو ضلالة ، والدين بريء منه ، وسواء من ذلك مسائل الإعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة » (33).

٢ ـ ابن حجر العسقلاني ، قال : المحدَثات ، جمع مُحدَثة ، والمراد بها ما أُحدث وليس له أصل في الشرع ، ويسمّى في عرف الشرع « بدعة » ، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة ، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة ، فإنّ كلّ شيء أُحدث على غير مثال يسمّى بدعة ، سواء كان محموداً أو مذموماً ، وكذا القول في المحدثة ، وفي الأمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة : « ما أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ » (34).

٣ ـ أبو اسحاق الشاطبي : يقول بشأن النصوص الشرعيّة التي تناولت مفهوم البدعة بالذمّ : « إنّها جاءت مطلقة عامّة على كثرتها ، لم يقع فيها استثناء البته ، ولم يأتِ فيها ممّا يقتضي أنَّ منها ما هو هدى ، ولا جاء فيها : كلّ بدعةٍ ضلالة إلّا كذا وكذا ، ولا شيء من هذه المعاني ، فلو كان هنالك مُحدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الإستحسان ، أو أنّها لاحقة بالمشروعات لذُكر ذلك في آيةٍ أو حديث ، لكنّه لا يوجد ، فدلَّ على أنّ تلك الأدلّة بأسرها على حقيقة ظاهرها في الكلّية ، التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد .. إنَّ متعقَّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لأنّه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكلّ ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يُمدح وما يُذمّ » (35).

ثمّ يقول منتقداً رأي القائلين بتقسيم البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة : « إنَّ هذا التقسيم أمر مخترع لا يدلّ عليه دليل شرعي ، بل هو في نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدلّ عليها دليل شرعي ، لا من نصوص الشرع ، ولا من قواعده ، إذ لو كان هنالك ما يدلّ من الشرع على وجوبٍ أو ندبٍ ، أو إباحةٍ ، لما كان ثَمَّ بدعة ، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها ، أو المُخيّر فيها ، فالجمع بين تلك الأشياء بدعاً ، وبين كون الأدلّة تدلّ على وجوبها ، أو ندبها ، أو إباحتها ، جمع بين مُتنافيين » (36).

٤ ـ الشهيد الأوّل : قال في « قواعده » : « محدثات الاَُمور بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تنقسم أقساماً ، لا تطلق اسم البدعة عندنا إلّا على ما هو محرم منها .. » (37).

٥ ـ العلّامة الشيخ محمّد باقر المجلسي ، يقول في توضيح قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « كلّ بدعة ضلالة » « يدلُّ على أنَّ قسمة بعض أصحابنا البدعة إلى أقسام تبعاً للعامّة باطل فإنّها إنّما تطلق في الشرع على قولٍ أو فعلٍ أو رأيٍ قرّر في الدين ، ولم يرد فيه من الشارع شيء ، لا خصوصاً ولا عموماً ، ومثل هذا لا يكون إلّا حراماً ، أو افتراءً على الله ورسوله .. » (38).

الهوامش

1. دائرة المعارف الإسلاميّة ، دار المعرفة ٣ : ٤٥٦.

2. الاعتصام ، لأبي إسحاق الشاطبي ٢ : ٧٤.

3. إحياء علوم الدين ، لأبي حامد الغزالي ٢ : ٢٥١ كتاب العزلة.

4. الاعتصام ، لأبي إسحاق الشاطبي ١ : ١١٦.

5. المدخل ، لابن الحاج ٢ : ٢١٧.

6. المصدر السابق ٢ : ٢١٩.

7. الهدية السنية ، الرسالة الثانية : ٥١.

8. فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني ٧ : ٦ باب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

9. المصدر السابق.

10. العين ، للخليل. اللسان ، لابن منظور ، مادة « قران ».

11. الأنعام ٦ : ٦.

12. شرح صحيح مسلم ، للنووي ١٦ : ٨٥.

13. فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني ٧ : ٤.

14. جامع الأصول ، لابن الأثير ١٠ : ٤٦٩ / ٧٩٩٨ طبعة دار الفكر.

15. المنافقون ٦٣ : ١ ـ ٨.

16. التوبة ٩ : ١٠١.

17. الأحزاب ٣٣ : ١٢.

18. التوبة ٩ : ٤٥ ـ ٤٧.

19. آل عمران ٣ : ١٥٤.

20. الحجرات ٤٩ : ١٤.

21. التوبة ٩ : ٦٠.

22. الأنفال ٨ : ١٦.

23. الحجرات ٤٩ : ٦.

24. الأنعام ٦ : ٢١.

25. يونس ١٠ : ٥٩.

26. كنز العمال ٨ : ٣٢٣ / ٤١٢٣٥.

27. كنز العمّال ، لعلاء الدين الهندي ٨ : ٣٢٤ / ٤١٢٣٧.

28. الاعتصام ، للشاطبي ١ : ١٤٢.

29. البحار ، للمجلسي ٢ : ٣٠٣ / ٤٣.

30. بحار الأنوار ، للمجلسي ٢ : ٢٦٣ / ١٢ كتاب العلم باب ٣٢.

31. كنز العمال ، لعلاء الدين الهندي ١ : ٢٢١ / ١١١٣.

32. الاساس في السُنّة وفقهها ، لسعيد حوّى : ٣٦١ ، عن جوامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي : ٣٣٣.

33. البدعة ـ تعريفها ـ أنواعها ـ أحكامها ، لصالح الفوزان : ٨.

34. فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني ٤ : ٢٥٢.

35. الاعتصام ، لأبي اسحاق الشاطبي ١ : ١٤١.

36. الاعتصام ، لأبي اسحاق الشاطبي ١ : ١٩١ ـ ١٩٢.

37. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ، لمحمّد باقر المجلسي ١ : ١٩٣.

38. بحار الأنوار ، للمجلسي ٧١ : ٢٠٣.

مقتبس من كتاب : [ البدعة مفهومها وحدودها ] / الصفحة : 27 ـ 50