أدلة إبطال التناسخ

طباعة

الدليل الأول

استلزم التناسخ الحرکة الرجعية لقانون التکامل الحاکل على عالم الإمکان. لا شک ولا ريب في وجود الارتباط الوثيق بين الروح والبدن المادي العنصري في عالم الدنيا ، الذي يعبر عنه بالألفة الطبيعية بينهما (1) ، أو بحسب التعبير الفلسفي أن الروح مجردة ذاتاً عن المادة لا فعلاً.

وبموجب قانون التکامل الحاکم على عالم الإمکان ، فإن الروح والبدن يتحرکان نحو تحقق التکامل ، فإن الروح عند تعلقها بالجسم الجنيني تکون في مرحلة التحضير والاستعداد في حال کونها ضعيفة جداً ، ومع التکامل التدريجي للروح منذ أوان الصغر إلى مرحلة الشيخوخة ، فإنا نلتمس بالوجدان الحرکة التکاملية التي تمر بها النفس الإنسانية في هذه المدة ، وکيف أنها تتحول من العقل الهيولاني إلى العقل بالملکة إلى العقل بالفعل إلى العقل المستفاد (2) ، بحسب اصطلاح الحکمة النظرية ، وهنا نتساءل عن إمکان التناسخ الذي يوجب الحرکة الرجعية من الکمال إلى النقص ، ورجوع النفس من الوجدان للکمال إلى فقدان الکمال ؟ وهل يمکن للنفس أن نفقد کمالاتها الذاتية التي أصبحت جزءاً منها أم لا ؟ وهل هناک طريق لإمکان وجود الحرکة الارتجاعية في النظام الطبيعي ؟

هذه الأسئلة طرحناها والتي نحن في صدد البحث عن جوابها على أساس الدليل ، فإنمّا نطرحها باعتبار أن التناسخ الذي ذهب إليه أتباع التناسخية ، هو حقيقة رجوع النفس بعد وصولها إلى مرتبة کمالية معينة في حال تعلقها بالبدن الأول إلى بدن جنين إنساني أو حيواني أو خلية نباتية ، وجميع هذه دونها في الکمال ، وهذا باطل ؛ لأنه لا يخلو من صورتين :

الأولى : إما أن تتعلق النفس بهذه الأجنة الإنسانية أو الحيوانية ، أو الخلية النباتية ، وهي بمالها من الکمال المناسب لمقامها ، وهذا غير ممکن عقلاً ؛ لأن النفس مادامت في البدن تزداد في فعليتها شيئاً فشيئاً حتى تصير أقوى وجوداً وأشد تحصلاً ، ومثل هذا لا يمکن أن يتعلق بالوجود الأدنى منه ، الذي لا يحمل ذلک الکمال وتلک الفعلية ، لعدم تحقق التعاضد والانسجام بينهما. وبطلان هذا الوجه ناتج من اجتماع الفعلية وعدم الفعلية ، فالفعلية ناتجة من استکمال النفس وجامعيتها لبعض الکمالات ، وعدم فعليتها ناتج من تعلقها بالجنين الذي يجب أن تکون فيه مستجمعة لها بالقوة فحسب ، فتکون الکمالات في محل واحد وزمان واحد ، بالفعل وبالقوة معاً ، وهذا محال ؛ لأنه جمع بين الوجدان والفقدان. (3)

الثانية : « أن تتعلق النفس بهذه الأجنة أو الخلية النباتية ، ولکن بعد تنزلها عن فعليتها ، انسلاخها عن کمالاتها ، وهذا النحو من التعلق ، وإن کان يوجد بين البدن والنفس تعاضداً وانسجاماً ، لکن ذلک الانسلاخ إما ناشئ من ذات وصميم النفس ، وإما أن يکون حاصلاً بقهر من الله سبحانه. والأول لا يتصور ؛ لأن الحرکة الذاتية من الکمال إلى النقص غير معقولة ، والثاني ينافي الحکمة الإلهية التي تقتضي بلوغ کل ممکن إلى کماله الممکن ». (4)

فهذا وإن خصه القائلون بهذا النوع من التناسخ بالمتوسطين في الکمال والناقصين فيه ، دون الکاملين في مجالي العلم والعمل ، قال الشيخ السبحاني : « فهو على طرفي النقيض من المعاد في الصنفين الأولين ، دون الصنف الثالث الذين لهم الحشر والانتقال إلى النشأة الأخرى دون التناسخ ، نعم إن هذين الصنفين الأولين بعد انتهاء دورة التناسخ وزمنها ينتقلون إلى عالم النور ، فيکون لهم من الحشر ما للکاملين من أفراد الإنسان ». (5)

الدليل الثاني : عدم الموازنة بين الأموات والمواليد

قبل طرح هذا الدليل فمن الضروري أن نذکر نقطتين وهما :

الأولى : زيادة أفراد النّاس.

أقول : فقد ثبت بالتجربة الحسية والإحصاء أن أفراد البشر في بداية الخلقة لم يكونوا بهذا المقدار والعدد ، وإنما أصبح بهذا العدد نتيجة التوليد المتوالي لأفراد البشر ، وقد ثبت بالإحصاء أيضاً أن عدد الأموات يساوي ثلث المواليد ، وعليه يکون ما يتولد من أفراد البشر بحسب الإحصاء أکثر بکثير من أفراد البشر الميتين ، وهکذا يزداد عدد البشر يوماً بعد يوم. (6)

الثانية : الموت غير الطبيعي.

وهذا على العکس من النقطة الأولى التي کانت تثبت أن عدد الأموات أقل بکثير من المواليد ، ولکن هنا قد تکون الأموات أکثر بکثير من المواليد ؛ وذلک عن طريق حصول بعض الکوارث والحوادث الطبيعية التي تؤدي إلى قتل وموت الآلاف والملايين من الناس في ساعة واحدة کحصول الزلازل ، أو الطوفان ، أو الحرب النووية ، أو أمراض الطاعون ، وغيرها في حال يکون فيه مواليد تلک السنة أو الشهر أو اليوم لا يتعدى سدس الأموات الذين يموتون نتيجة تلک الحوادث والکوارث ، وعليه فيجب أن تکون هناک أرواح کثيرة من الأموات محرومة من تعلقها بالبدن لمدة طويلة ، أو ما يعبر عنها بتعطيل الأرواح ، وهذا اللون من التعطيل لا يعتقد به حتى أتباع مذهب التناسخ ، بل هو طبق عقيدتهم يکون محالاً ، بناءً على أن أرواح الأموات يجب أن يساوي عدد المواليد ، فحتى يولد فرد جديد يجب أن يموت فرد في مقابله حتى تتعلق روح الميت بالجنين المتولد الجديد ، وعليه يجب أن يکون عدد أفراد البشر أوان الخلقة يساوي عدد أفراد البشر في آخر العالم ؛ لأن الروح دائماً في حالة خلع ولبس ، وهذا لا يؤيده الوجدان والواقع ، بل هما على خلافه ؛ لأنه بأقل تأمل ونظر يثبت للإنسان أن عدد أفراد البشر دائماً في زيادة مستمرة لم تکن موجودة سابقاً. (7)

وقد يجيب التناسخي عن ذلک بإمکان خلق أرواح جديدة من قبل الله تعالى تتعلق بأبدان جديدة إلى جانب الأرواح السابقة التي مازالت في دور التناسخ بين التعلق وعدم التعلق.

والحق أن هذا القول هو فرار صريح من الإشکال ، ولا يتناسب مع من يدعي العلم ، وما هو إلا شکل من الإشکال الجدل الأعمى ، هو مخالفة صريحة لما ذهبوا إليهم القول بالتناسخ الدوري اللايقفي عندهم ، وإلا إذا سلم التناسخي بهذا القول فلماذا لا يسلم بالقدرة الإلهية على حفظ الأرواح في محل ووضعية خاصة من دون حلولها وتعلقها بأبدان جديدة في هذا العالم الدنيوي ، کما يذهب إليه القائلون بالبرزخ الذي أخبر عنه الوحي الإلهي ؟ (8) وعليه فلا موازنة بين عدد الأموات وعدد المواليد ، في الحال الذي يذهب إليه أصحاب التناسخ بوجوب الموازنة بينهم.

الدليل الثالث : عدم الفائدة في التکرار

إنّ أرواح الناس في حال تعلقها بالأبدان الجسمانية وتذوقها للحوادث الحلوة والمرة ، التي تتذوقها الروح الإنساني عن طريق البدن الذي تؤدي أعمالها من خلاله لأجل الاستکمال المطلوب لها ، فإذا کان بمجرد مفارقتها للبدن الأول تتعلق ببدن آخر ، وهکذا تستمر دائماً من أجل أن تتذوق تلک المتاعب والآلام واللذات ، وقد تذوقتها من قبل ، وهنا نتساءل عن فائدة هذا العود ، وهل يتناسب مع الحکمة الإلهية التي اقتضت أن توصل کل شيء إلى کماله الذي خلق من أجله ؟ ولا أرى أنه هناک عاقل يرى في ذلک التکرار المستمر فائدة معينة ، بل قد يکون نقضاً للغرض والحکمة الإلهية من الخلقة ، والحلال أن الالتزام بالتناسخ هو لزوم القول بالتکرار غير المفيد ، في حين أن هذا النوع من التکرار لا حاصل فيه ، بل يعد من اللغو واللعب والبعث ، وهو لا يتناسب مع الحکمة الإلهية ، فهو باطل بالضرورة الدينية والعقلية. (9)

الدليل الرابع : اجتماع نفسين في بدن واحد

وهذا الدليل مبني على أمرين :

الأمر الأول : إن کان جسم نباتاً کان ، أو حيواناً ، أو إنساناً ، إذا بلغ من الکمال إلى درجة يصير فيها صالحاً لتعلق نفس به ، وبعبارة أخرى : متى حصل في البدن مزاج صالح لقبول تعلق النفس المدبرة به ، فبالضرورة تفاض عليه من الواهب من غير مهلة ولا تراخ ، وذلک مقتضى الحکمة الإلهية التي شاءت إبلاغ کل ممکن إلى کماله الممکن. (10)

الأمر الثاني : إن القول بالتناسخ يستلزم تعلق النفس المستنسخة المفارقة للبدن ، ببدن نوع من الأنواع من نبات ، أو حيوان ، أو إنسان ، بحيث يتقوّم ذلک البدن بالنفس المستنسخة المتعلقة به. (11)

ولازم تسليم هذين الأمرين ، تعلق نفسين ببدن واحد : أحدهما النفس المفاضة على البدن لأجل صلاحيته للإفاضة ، وثانيتهما النفس المستنسخة المتعلقة بعد المفارقة بمثل هذا البدن ، فينتج أن التناسخ المبتنى على أحد هذين الأمرين لازم لاجتماع نفسين ، أو ممانعية أحدهما من طروء الأخرى ، وهو باطل. (12)

ومن المعلوم بطلانه ؛ وذلک لأن تشخص کل فرد من الأفراد بنفسه وروحه ، وفرض نفسين وروحين مساوق لفرض ذاتين ووجودين لوجود واحد وذات واحدة. (13)

والحق أن الوجدان يکذب تعلق نفسين ببدن واحد ، إذا لو کان کذلک لأدرک من خلال العلم الحضور بالذات للذات التي نعبر عنها ب‍ « أنا » ، أو من خلال إدراک أفعال النفس المدبرة لتلک الأفعال ، فلو کانت هناک ذاتان لحصل في يوم من الأيام التعارض بينهما من خلال تدبير البدن ، والأقوى من ذلک کله علمنا الضروري أنه لا يوجد معها في هذا البدن نفس أخرى مدبرة ومتصرفة في أمره ، وکذلک تعلم بالضرورة أنه ليس لها تدبير ببدن آخر ، وعليه فلا نفس معها في البدن ، ولا تعلق لها ببدن غير بدنها المتعلقة به ، ودليل ذلک کله الوجدان والواقع. فقد قال صاحب کشف المراد في هذا الصدد ما هذا لفظه : « ... إنّه لو تعلقت نفس واحدة ببدنين ، لزم أن يکون معلوم أحدهما معلوماً للآخر وبالعکس ، وکذا باقي الصفات النفسانية ، وهو باطل بالضرورة ». (14)

وقال التفتازاني : « إن کل نفس تعلم بالضرورة أن ليس معها في هذا البدن نفس أخرى تدبر أمره ، وأن ليس لها تدبير وتصرف في بدن آخر ، فالنفس مع البدن على التساوي ، وليس لبدن واحد إلا نفس واحدة ، ولا تتعلق نفس واحدة إلا ببدن واحد ». (15)

الدليل الخامس : علاقة النفس بالبدن توجب التناسق بينهما قوة وفعلاً

هناک بحث حول طبيعة وعلاقة النفس بالبدن ، وقد ذکر في ذلک أن الترکيب بينهما ترکيب طبيعي اتحادي ، لا ترکيب انضمامي ، وهما في بدايتهما متسمان بالقوة ثم يأخذان بالتکامل التدريجي بموجب قانون التکامل الطبيعي الحاکم على عالم الإمکان ، ويخرجان من القوة إلى الفعل ، أو من الضعف إلى الشدة مادامت النفس متعلقة بالبدن في هذه النشأة الأولى ، ولها نوع استکمال آخر خارج هذه النشأة في عالم البرزخ کما ذهب إليه البعض. (16)

وعليه فلو تعلقت نفس بعد بلوغها مرتبة معينة من الکمال بحيث أصبحت فيها بالنسبة لهذه المجموعة من الکمالات بالفعل ، ببدن آخر عند کونه جنيناً أو غير ذلک ، للزم أن أحدهما بالقوة وهو البدن والآخر بالفعل ، وذلک ممتنع ؛ لأن الترکيب بينهما طبيعي اتحادي ، وهذا النوع من الترکيب يستحيل أن يتحقق بين أمرين ، أحدهما بالفعل ، والآخر بالقوة. (17)

وقد يعترض علينا بالشکل التالي : برهانکم هذا يتناسب مع الالتزام بأن النفس تتعلق دائماً ببدن هو أدون منها مرتبة کبدن الجنين ، أو خلية النبات ، ولکنه غير جارٍ فيما إذا کان البدن بفعلية متناسبة مع فعلية النفس.

ونجيب عن هذا الاعتراض بأن محور هذا البرهان هنا هو لزوم التناسق بين النفس والبدن من حيث القوة والفعل ، وهذا الشرط مفقود في أکثر موارد التناسخ ، کما لو تعلقت ببدن الجنين الذي هو أدون منها مرتبة ، وما ذکرناه في إبطال التناسخ النزولي کان محوره لزوم الحرکة الرجعية في عالم الکون ، وهو خلاف القانون الحاکم عليه ، أو يستلزم النقض للحکمة الإلهية.

وعليه فإن الالتزام بالتناسخ يوجب القول بعدم التناسق بين النفس والبدن ولو في موارد متعددة ومعينة ، بل قد يکون ذلک في أکثر موارده خصوصاً بالنسبة للنفوس غير المستکملة کما يذهب إليه أتباع المذهب التناسخي ، وهذا التنافي يبطله علاقتهما وترکيبهما معاً الذي يحکم بوجوب التناسق بينهما من حيث القوة والفعل.

 

الهوامش

1. راجع : محمد باقر شريعتي سبزواري ، کتاب معاد در نگاه عقل ودين ، ويرايش دوم ، ص ١٢٢.

2. راجع : المحقق عبدالهادي السبزاوري ، شرح المنظومة ، قسم الطبيعيات ، مباحث النفس ، ص ٣٠٦ ، ٣٠٧ ؛ العلامة محمد حسين الطباطبائي ، بداية الحکمة ؛ المرحلة ١١ ، الفصل ٤ ، ص ١٧٩ ؛ لنفس المؤلف ، نهاية الحکمة ، المرحلة ١١ ، الفصل ٥ ، ص ٢٤٧.

3. لاحظ : جعفر السبحاني ، کتاب الإلهيات ، ج ٤ ، ص ٣٠٣ : فقد قال فيه ، إنّ ما ذکرناه کان تقريراً لما أفاده ملاصدرا في الأسفار ، ج ٩ ، ص ١٦.

4. راجع : جعفر السبحاني ، کتاب الإليهات ، ج ٤ ، ص ٣٠٤.

5. راجع : جعفر السبحاني ، کتاب الإليهات ، ج ٤ ، ص ٣٠٤.

6. راجع : محمد باقر سبزواري ، کتاب معاد در نگاه عقل ودين ، ص ١٢٤.

7. المصدر السابق.

8. المصدر السابق ، ص ١٢٥ ، ١٢٦.

9. لاحظ : محمد باقر سبزواري ، معاد در نگاه عقل ودين ، ص ١٢٥ ـ ١٢٧.

10. جعفر السبحاني ، الالهيات ، ج ٤ ، ص ٣٠٦.

11. المصدر السابق.

12. لاحظ : ملاصدرا ، الاسفار ، ج ٩ ، ص ١٠.

13. جعفر السبحاني ، کتاب الإلهيات ، ج ٤ ، ص ٣٠٦.

14. راجع : کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص ١١٣.

15. سعد الدين التفتازاني ، شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٣٨.

16. لاحظ : محمد المحمدي ، کتاب المعاد ، الفصل ٨ ، ص ٩٣.

17. راجع : صدر المتألهين ، الأسفار ، ج ٤ ، ص ٢ ، ٣.

 

مقتبس من كتاب المعاد الجسماني