في النبوّة

طباعة

تقتضي حِكْمَةُ الصانعِ ـ تعالى ـ إعلامَ العَبْدِ أنَّ كماله فيما هُوَ ؟

وكم هُوَ ؟

وكيف هُوَ ؟

وأين هُوَ ؟

ومتى هُوَ ؟

وهذه الأشياء ممّا لا تهتدي إليه عُقولُ البَشَر ؛ لأنّها تفاصيلُ مُقْتَضَى العَقْلِ ؛ لأنّهُ يَقْتضي أنّ طَلَبَ الكَمالِ حَسَنٌ ، والهرَبَ من الهلاكِ واجِبُ ، وَهُوَ دَفْعُ المضرّةِ : ولكنّه لا يهْتَدي إلى طَريقِ كُلّ واحدٍ منهما ـ من الكمال والهلاك ...

فيختارُ الحكيمُ مَنْ (١) يستعدُّ لِقَبُول تفاصِيل الكَمال ، ولكنْ بواسطة الملائِكة ـ الّذينَ هُمْ خواصُّ حَضرنِهِ ـ فيُفضي إليه ما هُوَ سَبَبُ كمالِهِمْ ؛ فيُسمّى « نبيّاً ».

وقبولُهُ من الملائكة يُسمّى « وَحْياً ».

وتَبْليغُهُ إلى الخلْقِ يُسمّى « نبوّة ».

ولا بُدّ أنْ يكونَ ممّنْ لا يُغَيِّرُ ما يُوحَى إليه ، ويؤمَنُ عليه مِن الكَذِبِ ، والتَغْيير ، وَيُسمّى « عصمة » وهِيَ : لُطْفٌ يختارُ عندَه الطاعَة ، ويَصْرِفُهُ عن المعصيَةِ ، مع قُدرته على خلافِهِ.

فيُظهِرُ الله عليه من العِلْم ما يَدلُّ على صِدْقه بَعْدَ دَعْواه ، ويكونُ ذلِكَ خارقاً للعادَةِ ، وممّا يعجُزُ عنه غيرُه ؛ فيُسمّى « مُعجِزاً ».

وما يُظهره من الطريق إلى النجاة والدرجات ، يسمّى « شريعة ».

ثمّ لا تخلُو تلكَ الشريعةُ من أنْ تَتَعَلّقَ بمصالحِ العَبْد آجِلاً ، أو عاجِلاً :

فالمصَالحُ الآجلةُ تُسمّى « عِباداتٍ ».

والمصالحُ العاجِلةُ تُسمّى « معاملاتٍ ».

كما هي مذكورة في كُتُب الفِقه.

فيضَعُ كلَّ أمْرٍ مَوضِعَهُ ، ويُعَلّمُ كلَّ مَنْ يطلبُ مَبْدأهُ ، ومَعادَهُ ، والطريقَ إليه ، ويُنَظّمُ الخَلْقَ على نِظامٍ مُستَقيم.

وتلك الغايةُ التي يُعلِمُنا أنّها كمالُنا ، تُسمّى « مَعاداً وآخرة ».

ويُعلّمنا ـ أيضاً ـ مقاديرَ العِباداتِ ، والمعامَلاتِ ، وكيفيّاتِها ، وأينَ يختصُّ بالتَوجُّهِ اليه ؟ كالقبلة ، ومتى يجبُ ؟ كأوقات العبادات.

ومتى خالفنا ذلك ؛ إلى ماذا يَصيرُ أمرُنا ؟ ونهلكُ هلاكاً دائِماً ؟ أو مُنقطعاً ؟

هذه كلّها مما لا يُعْلَمُ إلا بواسطةٍ.

فَعَلِمْنا أنّ الخلقَ محتاجونَ ـ في هذه الوجوهِ ـ إلى من يُعلّمُهُم هذه الأشياءَ.

فلمّا ثبتَ ـ على الجملةِ ـ وجُوبُ النبوَّة ؛ بَقِيَ علينا أنْ نُثْبِتَ نبوّةَ نَبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم ، وهُوَ :

أنَّ الناسَ ضَرْبانِ :

ضربٌ منهم مَن يُنكرُ النبوّة ، أصلاً.

ومنهم مَن يُثبِتُها ، ولكنّهُ يُنكِرُ نُبُوّةَ نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد بيّنّا أنّ الدليلَ على صحّةِ نبوّةِ كُلّ نَبيٍ العِلمُ المعجِز.

وإذا تقرّرَ هذا ، فَظُهُورُ مُعْجز نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم أجلى ، وأمرُهُ في ذلك أعْلى ، فهو بالنبوّة أولى.

وَهُوَ : القُرآن ؛ الظاهرُ بين ظهرانيّ البرّ والفاجِرِ ، والباهِرُ بفصاحَتِهِ على فَصَاحَةِ كلّ ماهِرٍ.

وغيرُهُ ، مما ذِكْرُ أقلّهِ لا يحتملُه هذا الموضعُ ، فضلاً عن أكثره.

ولمّا ثبتَ ـ بالتَجْرِبَةِ ، وعليه البراهينُ المعقولةُ التي ليسَ هيهنا موضِعُ ذِكرها ـ أنّ الانسانَ لا يَبقى في الدُنيا أبَداً ؛ فلا بُدّ أنْ يَرْجِعَ النبيُّ إلى مَعادِهِ ، ويَبْقى بَعْدَه من يحتاجُ إلى هذِهِ الأشياءِ وإلى النِظام في أمُورِ الخلق ، فَيُفضي جميعَ ما تحتاجُ إليه أمّتهُ إلى مَن يؤمَنُ عليه من التغيير والتبديل.

وَهُوَ الكلامُ في الإمامة.

 

الهوامش

1. في المخطوط جاءت كلمة ( إنْ ) هنا ، ويمكن أن تكون شرطية ، فليلاحظ.

 

مقتبس من كتاب عجالة المعرفة في اصول الدين