حوارات الإمام الرضا عليه السلام مع أهل الأديان والملل والعقائد المختلفة

طباعة

حواراته عليه السلام مع أهل الأديان والملل والعقائد المختلفة

اتّخذ الإمام الرضا عليه السلام من الحوار الهادف ، المبني على الدليل ، وسيلة إلى الإقناع ، وكان حواره عليه السلام مع أهل الأديان والعقائد المختلفة حواراً مفتوحاً ، وذلك من خلال المناظرات التي عقدها معهم ، وسعى من خلالها على إطلاق العقول من عقال الجهل والحيرة والضلالة. ولعلّ أهمّ شاهد نسوقه في هذا المجال مجلس الإمام الرضا عليه السلام مع أهل الأديان وأصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت وعمران الصابىء والهربذ الأكبر ، في التوحيد ، عند المأمون ، ودار الحوار فيها حول مواضيع عقائديّة حسّاسة ، وقد استطاع الإمام الرضا عليه السلام تحقيق النتائج التالية :

أوّلاً : إثبات نبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكتب السماويّة

تتبدّىٰ لنا عظمة وعلميّة الإمام الرضا عليه‌السلام وكونه حجّة لله على عباده من خلال معرفته الكاملة بالكتب السماويّة ، وحفظه التامّ لمتونها واطّلاعه الدقيق على ما تتضمّنه من نصوص تثبت نبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم بحيث لا يسعهم انكارها والتنصل منها ، يتّضح لنا ذلك من المناظرة التي جرت بمحضر المأمون وبطلب منه بين الإمام الرضا عليه السلام وبين الجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي ، وقد طلب الجاثليق من الإمام الرضا عليه السلام بعد كلام بينهما أن يقيم شاهدي عدل على ما يقوله في إثبات نبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله :

فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نُبوّة محمّد ممّن لا تنكرهُ النَّصرانيةُ ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.

قال الرِّضا عليه السلام : « الآن جئتَ بالنَّصَفة يا نصرانيُ ، ألا تقبل منّي العدل المقدم عند المسيح بن مريم ؟ ».

قال الجاثليق : ومن هذا العدلُ ؟ سمِّه لي. قال : « ما تقول في يوحنا الدَّيلمي ؟! » قال : بخٍ بخٍ ، ذكرت أحبَّ النّاس إلى المسيح.

قال : « فأقسمتُ عليك هل نطق الإنجيل أنَّ يوحنّا قال : إنَّ المسيح أخبرني بدينِ محمّد العربي وبشّرني به أنّه يكونُ من بعده فبشرتُ به الحواريين فآمنوا به ؟! » قال الجاثليقُ : قد ذكر ذلك يوحنّا عن المسيح وبشّر بنبوّةِ رجلٍ وبأهل بيته ووصيّه ، ولم يُلخِّص متىٰ يكون ذلك ولم يُسمِّ لنا القوم فنعرفهم ، قال الرِّضا عليه السلام : « فإن جئناك بمن يقرءُ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته واُمّته أَتُؤمن به ؟! » قال : سديداً.

قال الرِّضا عليه السلام لقسطاس الرُّوميِ : « كيف حفظك للسِّفر الثالث من الإنجيل ؟ ».

قال : ما أحفظني له ! ثمَّ التفت إلىٰ رأس الجالوت فقال له : « ألست تقرءُ الإنجيل ؟! » قال : بلى لعمري. قال : « فخُذ على السِّفر الثالث ، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته واُمّته سلام الله عليهم فاشهدوا لي » وإن لم يكن فيه ذكرهُ فلا تشهدوا لي ، ثمّ قرأ عليه السلام السِّفر الثالث حتّى إذا بلغ ذكر النبيِ عليه السلام وقف ، ثمّ قال : « يا نصراني إنِّي أسألك بحقّ المسيح واُمّه أتعلم أنِّي عالم بالإنجيل ؟! » قال : نعم ، ثمَّ تلا علينا ذكر محمّد وأهل بيته واُمّته ، ثمّ قال : « ما تقول يا نصرانيُ ؟ هذا قول عيسى بن مريم فإن كذّبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذَّبت عيسىٰ وموسىٰ عليهما السلام ، ومتى أنكرت هذا الذِّكر وجب عليك القتل لأنَّك تكون قد كفرت بربِّك ونبيِّك وبكتابك ».

قال الجاثليق : لا اُنكرُ ما قد بان لي في الإنجيل ، وإنِّي لمقرّ به.

قال الرِّضا عليه السلام : « اشهدوا على إقراره ».

ثمّ قال عليه السلام : « يا جاثليق سل عمّا بدا لك » ، قال الجاثليق : أخبرني عن حواريي عيسىٰ بن مريم ، كم عِدّتُهم ؟ وعن علماء الإنجيل ، كم كانوا ؟

قال الرِّضا عليه السلام : « على الخبير سقطت ، أمّا الحواريّون فكانوا اثني عشر رجلاً ، وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا ، وأمّا علماء النَّصارى فكانوا ثلاثة رجال : يوحنا الأكبر بأج ، ويوحنا بقرقيسيا ، ويوحنا الدَّيلمي بزجان ، وعنده كان ذكرُ النَّبيَ صلّى الله عليه وآله وسلّم وذكر أهل بيته واُمّته ، وهو الذي بشّر اُمَّةَ عيسى وبني إسرائيل به » (2).

والملاحظ أنّه مع براعة اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه ، تمكّن إمامنا الرضا عليه السلام من إسكات رأس الجالوت ، وفي سكوته هذا إقرار منه بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بنبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

هذا ، وفي المجلس نفسه طلب رأس الجالوت من الإمام الرضا عليه السلام أن لا يحتجّ عليه إلّا بما في التوراة أو الإنجيل أو الزبور في إثبات نبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال عليه السلام : « شهد بنبوّته صلّى الله عليه وآله وسلّم موسىٰ بن عمران وعيسىٰ بن مريم وداود خليفةُ الله عزَّوجلَّ في الأرض ».

فقال له : أثبت قول موسى بن عمران.

قال الرِّضا عليه السلام : « هل تعلم يا يهودي أنَّ موسى أوصى بني إسرائيل ، فقال لهم : إنَّهُ سيأتيكُم نبيّ هو من إخوتكم فبه فصدِّقوا ، ومنه فاسمعوا ؟ فهل تعلمُ أنَّ لبني إسرائيل إخوةً غير ولد إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه السلام ؟ ».

فقال رأس الجالوت : هذا قول موسى لا ندفعهُ.

فقال له الرِّضا عليه السلام : « هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبيّ غير محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟! » قال : لا.

قال الرِّضا عليه السلام : « أو ليس قد صحَّ هذا عندكم ؟! » قال : نعم ، ولكنّي اُحبُّ أن تصحّحه لي من التوراة.

فقال له الرِّضا عليه السلام : « هل تنكر أنَّ التَّوراة تقولُ لكم : جاءَ النُّورُ من جبل طُور سيناء ، وأضاءَ لنا من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران ؟ ».

قال رأسُ الجالوت : أعرفُ هذه الكلمات ، وما أعرفُ تفسيرها.

قال الرِّضا عليه السلام : « أنا اُخبرك به ، أمّا قولهُ : جاءَ النّورُ من جبل طورِ سيناءَ ، فذلك وحيُ الله تبارك وتعالى الذي أنزلهُ على موسىٰ عليه السلام على جبل طور سيناء ، وأمّا قوله : وأضاء لنا من جبل ساعير ، فهو الجبل الّذي أوحى الله عزَّوجلَّ إلى عيسى بن مريم عليه السلام وهو عليه ، وأمّا قوله : واستعلن علينا من جبل فاران ، فذلك جبل من جبال مكّةَ بينهُ وبينها يوم ، وقال شعيا النّبيّ عليه السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة : رأيت راكبين أضاء لهما الأرض ، أحدهما راكب على حمار والآخر على جمل ، فمن راكبُ الحمارِ ومن راكبُ الجملِ ؟ ».

قال رأس الجالوتِ : لا أعرفهما ، فخبِّرني بهما.

قال عليه السلام : « أمّا راكبُ الحمار فعيسىٰ بنُ مريمَ ، وأمّا راكبُ الجمل فمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أتنكر هذا من التَّوراة ؟! » قال : لا ما اُنكرهُ.

ثمّ استعرض الإمام الرضا عليه السلام نصوصاً أخرى من التوراة والإنجيل تبشّر بنبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ثمّ التفت عليه السلام إلى رأس الجالوت فقال : « يا يهودي أقبل عليَّ أسألك بالعشر الآيات الَّتي اُنزلت علىٰ موسىٰ بن عمران عليه السلام ، هل تجدُ في التَّوراة مكتوباً نبأ محمّد واُمَّته : « إذا جاءت الاُمّةُ الأخيرةُ أتباعُ راكبِ البعيرِ يُسبِّحونَ الرَّبَّ جدّاً جدّاً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجُدد ، فليفرغ بنو إسرائيلَ إليهم وإلى ملكهم لتطمئنَّ قلوبُهم ، فإنَّ بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الاُمم الكافرة في أقطار الأرض » هكذا هو في التوراة مكتوب ؟! ».

قال رأس الجالوت : نعم إنّا لنجده كذلك.

ثمّ قال للجاثليق : « يا نصرانيُّ كيف علمكَ بكتابِ شعيا ؟ » قال : أعرفُهُ حرفاً حرفاً.

قال الرِّضا عليه السلام لهما : « أتعرفان هذا من كلامه : « يا قوم إنِّي رأيتُ صورةَ راكبِ الحمار لابساً جلابيب النُّور ، ورأيتُ راكبَ البعيرِ ضوؤهُ مثلُ ضوء القمر » » ؟ فقالا : قد قال ذلك شعيا.

قال الرِّضا عليه السلام : « يا نصراني ، هل تعرفُ في الإنجيل قول عيسىٰ : إنِّي ذاهب إلىٰ ربِّي ورَبِّكم ، والفارقليطا جاء هو الَّذي يشهد لي بالحقِّ كما شهدتُ له ، وهو يُفسّر لكم كلَّ شيءٍ ، وهو الَّذي يُبدي فضائح الاُمم ، وهو الَّذي يكسر عمود الكفر ؟ ».

فقال الجاثليـق : ما ذكرت شيئاً ممّا في الإنجيل إلّا ونحن مقرُّون به.

فقال : « أتجدُ هذا في الإنجيل ثابتاً يا جاثليقُ ؟! » قال : نعم (3).

إن قراءة متمعنة ما بين سطور هذه المناظرة تكشف عن الأفق المعرفي الرَّحب الذي يتمتع به الإمام الرضا عليه السلام ، ويهمّنا هنا الإشارة إلى أن إمامنا عليه السلام حاول إصلاح الفكر والمقولات والرؤى لأقطاب أهل الأديان والملل من خلال الحجج القوية المجلجلة التي قرعت آذانهم وأفحمتهم أيّما إفحام. ومن السهل أن نكتشف أن الإمام عليه السلام قد اتّبع المنهج النقلي مع أهل الكتاب ممثلين بالجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي ، فقد احتجّ على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزَّبور بزبورهم لتكون الحجّة عليهم أقوم ، ولقد وجدنا كيف أن الجاثليق رفض الاحتكام إلى نصوص القرآن ، قائلاً منذ البداية : كيف اُحاجّ رجلاً يحتجُ عليًّ بكتاب أنا منكره ، وبنبيٍّ لا أُؤمنُ به ؟!

لذلك وقف إمامنا معهم على أرض مشتركة من الفهم ، حيث خاطبهم بلغتهم وأورد نصوصاً من كتبهم لا يسعهم إنكارها.

ثانياً : إبطال عقيدة النصارى في المسيح عليه السلام

من المعروف أن النصارى تغلو في شخص عيسى عليه السلام فتسلب منه صفته البشريّة وتمنحه صفة الاُلوهيّة وتعتقد بأنّه ابن الله جلَّ تعالى عن ذلك ، وإمامنا الرضا عليه السلام في الوقت الذي أثبت فيه نبوّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم بالدليل النقلي الوارد بالإنجيل عن طريق بشارة المسيح عليه السلام لحوارييه بمبعثه من بعده ، أبطل بالدليل العقلي عقيدة النصارى في المسيح المتّسمة بالغلوّ والبعيدة كلّ البعد عن التنزيه لله تعالى. ففي هذا المجلس الذي هو ـ بحسب تعبيرنا ـ بمثابة مؤتمر فكري عالمي ، وجه إمامنا كلامه للجاثليق قائلاً :

« .. يا نصراني والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما ننقم على عيساكم شيئاً إلّا ضعفه وقلّة صيامه وصلاته ! »

قال الجاثليق : أفسدتَ والله علمك وضعفت أمرك ، وما كنت ظننتُ إلّا أَنَّك أعلمُ أهل الإسلام !

قال الرِّضا عليه السلام : « وكيف ذلك ؟ ».

قال الجاثليق : من قولك : « إنَّ عيساكم كان ضعيفاً قليلَ الصيام قليل الصلاة » ، وما أفطر عيسى يوماً قطُّ ومازال صائمَ الدَّهر ، قائم الليل ! ، قال الرَّضا عليه السلام : « فلمن كان يصومُ ويُصلّي ؟! » قال : فخرس الجاثليق وانقطع.

قال الرِّضا عليه السلام : « يا نصراني ، إنِّي أسألك عن مسألة » ، قال : سل ، فإن كان عندي علمها أجبتك.

قال الرِّضا عليه السلام : « ما أنكرت أنّ عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله عزَّوجلَّ ؟ ».

قال الجاثليق : أنكرت ذلك من قِبَل أنَّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، فهو ربّ مستحقّ لأن يُعبد !

قال الرِّضا عليه السلام : « فإنَّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى ، مشىٰ على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، فلم تتّخذه اُمّته ربّاً ، ولم يعبده أحد من دون الله عزَّوجلَّ ، ولقد صنع حزقيل النبي عليه السلام مثل ما صنع عيسىٰ ابن مريم عليه السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجلٍ من بعد موتهم بستّين سنةٍ .. هذا في التَّوراة لا يدفعه إلّا كافر منكم ».

قال رأس الجالوت : قد سمعنا به وعرفناه ، قال : « صدقت ».

ثمّ قال الرِّضا عليه السلام : « لقد أبرأ ـ أيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الأكمه والأبرص والمجانين وكلّمته البهائم والطَّير والجنُّ والشَّياطين ولم نتّخذه ربّاً من دون الله عزَّوجلَّ ، ولم ننكر لأحدٍ من هؤلاء فضلهم ، فمتى اتّخذتم عيسى ربَّاً جاز لكم أن تتَّخذوا اليسع وحزقيل ربّاً ، لأنَّهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى ، وغيره أنَّ قوماً من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم اُلوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعةٍ واحدة ، فعمد أهلُ تلك القريةِ فحَظَرُوا عليهم حظيرةً فلم يزالوا فيها حتّى نخرت عظامهم وصاروا رميماً ، فمرَّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجّب منهم ومن كثرةِ العظام البالية ، فأوحى الله إليه أتُحبُّ أن اُحييهم لك فتنذرهم ؟ قال : نعم ياربِّ ، فأوحى الله عزَّوجلَّ إليه أن نادهم ، فقال : أيَّتُها العظامُ البالية قومي بإذن الله عزَّوجلَّ ، فقاموا أحياءً أجمعين ينفضون التُّراب عن رؤوسهم.

ثمَّ إبراهيم عليه السلام خليلُ الرَّحمن حين أخذ الطُّيور وقطَّعهنَّ قطعاً ثمَّ وضع على كُلِّ جبلٍ منهنَّ جزءاً ثمَّ ناداهُنَّ فأقبلن سعياً إليه ، ثم موسى بنُ عمران وأصحابه والسَّبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له : لن نؤمنَ لك حتّى نرى الله جهرةً ، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيداً ، فقال : ياربِّ اخترتُ سبعينَ رجلاً من بني إسرائيل فجئتُ بهم وأرجعُ وحدي ، فكيف يُصدقني قومي بما اُخبرهم به ، فلو شئت أهلكتهم من قبلُ وإيّاي أفتُهلكنا بما فعل السُّفهاءُ منّا ، فأحياهم الله عزَّوجلَّ من بعد موتهم ، وكلُّ شيء ذكرتُهُ لك من هذا لا تقدرُ على دفعهِ لأنَّ التَّوراةَ والانجيلَ والزَّبور والفُرقانَ قد نطقت بهِ ، فإن كان كلُّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرصَ والمجانين يُتَّخذُ ربّاً من دونِ الله فاتَّخذ هؤلاء كلَّهم أرباباً ، ما تقولُ يا نصرانيُ ؟! ».

قال الجاثليقُ : القولُ قولكَ ولا إله إلّا الله.

وهكذا أثبت الإمام عليه السلام للجاثليق خطأ زعمهم اُلوهيّة عيسىٰ عليه السلام.

ولما تشعب الكلام معه حول الإنجيل وكيف فُقد ومن ثمّ كتبه تلاميذ تلاميذ المسيح من بعده ، أماط الإمام اللِّثام عن التحريف الذي حصل للإنجيل بعد ضياعه ، وكيف أن تلاميذ تلاميذ المسيح قد خطوه بأيديهم وحرّفوه واختلفوا فيه حول طبيعة المسيح عليه السلام ، أقر الجاثليق بكلّ ما جاء به الإمام الرِّضا عليه السلام عن الإنجيل وكيفيّة تحريفه ، فقال موجّهاً كلامه للإمام عليه السلام :

قد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء ممّا علمته شهد قلبي أنَّها حقّ فاستزدتُ كثيراً من الفهم (4).

وعندما كشف الإمام عليه السلام عن التناقض الذي وقع فيه علماء الإنجيل ـ لوقا ومرقابوس ومتّى ويوحنا ـ حول طبيعة المسيح عليه السلام ، أذعن الجاثليق بهذه الحقائق ، وأقرّ بالعمق المعرفي للرضا عليه السلام ، ثمّ قال : فلا وحقِّ المسيح ما ظننتُ أنَّ في علماء المسلمين مثلك (5).

ثالثاً : الرَّد على عقيدة اليهود

تطرق إمامنا مع رأس الجالوت إلىٰ معاجز موسى عليه السلام واستغرب من إقراره بها مع انكاره معاجز الأنبياء من قبله أو من بعده كمعاجز عيسى عليه السلام ومحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتساءل قائلاً : « أرأيت ما جاء به موسى من الآيات ، أشاهدته ؟! أليس إنَّما جاء في الأخبار من ثقات أصحابِ موسى أَنَّه فعل ذلك ؟! » قال : بلى.

قال : « فكذلك أتتكُم الأخبارُ المتواترة بما فعل عيسى بنُ مريم فكيف صدَّقتم بموسى ولم تُصدِّقوا بعيسى ؟! » فلم يُحِر جواباً.

قال الرِّضا عليه السلام : « كذلك أمرُ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به وأمرُ كلِّ نبيٍّ بعثه الله ، ومن آياته أنّه كان يتيماً فقيراً أجيراً ولم يختلف إلىٰ معلّم ، ثمَّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفاً حرفاً وأخبارُ من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثمَّ كان يُخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى ».

قال رأس الجالوت : لم يصحَّ عندنا خبرُ عيسى ولا خبر محمّد ، ولا يجوز لنا أن نُقرَّ لهما بما لم يصحَّ.

قال الرِّضا عليه السلام : « فالشاهدُ الّذي شهد لعيسىٰ ولمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم شاهدُ زورٍ ؟! » فلم يُحِر جواباً (6).

رابعاً : الردّ على المجوس

ليس خافياً بأن المجوس (7) أُناس منحرفو العقيدة والفطرة يعبدون النار ويحلّلون الزواج من المحارم ، بدون دليل أو برهان سوى التقليد

الأعمى للآباء ، فحاول إمامنا عليه السلام أن يدلّهم على الطريق السوي ويوقفهم على أفق أرحب ، وأن يخرج بوعيهم من قفص التقليد :

دعا الإمام الرضا عليه السلام الهربذ الأكبر فقال له : « زرادشت الذي تزعم أنَّه نبي ، ما حُجَّتك على نبوَّته ؟ ».

قال : إنَّه أتىٰ بما لم يأتنا به أحد قبله ، ولم نشهده ، ولكنَّ الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنَّه أحلَّ لنا ما لم يُحلّهُ غيره فاتَّبعناهُ.

قال عليه السلام : « أفليس إنَّما أتتكم الأخبارُ فاتَّبعتُموه ؟! » قال : بلى.

قال : « فكذلك سائرُ الأُمم السالفة أتتهم الأخبارُ بما أتىٰ به النبيّون وأتىٰ به موسىٰ وعيسىٰ ومحمّد صلوات الله عليهم ، فما عذركُم في ترك الإقرار لهم إذ كنتم إنَّما أقررتم بزرادشت من قبل الأخبار المتواترة بأنَّه جاء بما لم يجيء به غيره ؟! » فانقطع الهربذُ مكانه (7).

لقد وجد الإمام عليه السلام أن أصحاب زرادشت تضيق عدسة الرؤية لديهم فيؤمنون بالأخبار الواردة من قبل آبائهم عن زرادشت دون غيره ، وهذا التخصيص لايستقيم على سكة العقل السَّوية ، فإذا كان منهجهم في الاعتقاد قائماً على النقل عن الآباء فلماذا لا يعتمدون على ذات المنهج الذي اتّبعه الأنبياء ؟! الذين جاءوا ـ كذلك ـ بما لم يجيء به غيرهم من الشرائع ، وفوق ذلك كانوا يبرهنون على صحّة نبوّتهم بالمعاجز الباهرة والبراهين القاطعة ؟

خامساً : الردّ على الصابئة :

ثمّ وصلت النوبة إلى عمران الصابىء ، وكان واحداً من المتكلّمين ، فسأل الإمام عليه السلام عن الكائن الأوّل وعمّا خلق.

قال عليه السلام : « سألت فافهم ، أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض ولايزال كذلك .. واعلم يا عمران أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجةٍ لم يخلق إلّا من يستعين به على حاجته ، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنَّ الأعوان كلَّما كثروا كان صاحبهم أقوى ، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه لم يُحدث من الخلق شيئاً إلّا حدثت فيه حاجةٌ اُخرى ، ولذلك أقول : لم يخلق الخلق لحاجةٍ ، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلىٰ بعض وفضَّل بعضهم على بعض ، بلا حاجةٍ منه إلىٰ من فَضَّل ، ولا نقمةٍ منه على من أذلَّ ، فلهذا خَلقَ ».

وتطرق معه في النقاش لمسائل مختلفة في توحيد الله وأسفرت هذه المناظرة عن اعتراف عمران الصابىء بصواب أجوبة الإمام الرضا عليه السلام على أسئلته الحساسة والمختلفة ، وعلى إثر ذلك أعلن إسلامه أمام المأمون مخاطباً الإمام الرضا عليه السلام بقوله : .. قد فهمتُ وأشهدُ أنَّ الله على ما وصفتهُ ووحدتهُ ، وأنَّ محمّداً عبدهُ المبعوث بالهدىٰ ودين الحقِّ ، ثمّ خرَّ ساجداً نحو القبلة وأسلَمَ.

قال الحسنُ بن محمّد النَّوفليّ : فلمّا نظر المتكلّمون إلى كلام عمران الصابىء ، وكان جدلاً لم يقطعه عن حجّته أحد قطّ ، لم يدنُ من الرِّضا عليه السلام أحد منهم ولم يسألوه عن شيءٍ ، وأمسينا فنهض المأمون والرِّضا عليه السلام فدخلا وانصرف الناس .. (9).

ويلاحظ أن الإمام عليه السلام قد اتّبع المنهج العقلي مع غير أهل الكتاب كأصحاب زرادشت ورؤساء الصابئين ، وذلك لأن هؤلاء لا يؤمنون بالنقل أو النصوص من حيث الأساس.

سادساً : الرَّد على الزنادقة

وإذا أمعنا النظر في طريقة حواره مع الزنادقة نجد أنّه اتّبع معهم ذات المنهج الأخير ـ أيّ المنهج العقلي ـ لعدم إيمان هؤلاء بالله تعالى وكتبه وأنبيائه ، وكان يتبع مع أمثال هؤلاء أسلوب « التداول الحرّ للأفكار » ، يتّضح لنا ذلك من خلال حوار الإمام عليه السلام مع أحد الزنادقة :

عن محمّد بن عبد الله الخراساني ، خادم الرضا عليه السلام ، قال : دخل رجل من الزنادقة على الرضا عليه السلام وعنده جماعة ، فقال له أبو الحسن عليه السلام : « أرأيت إن كان القول قولكم ، وليس هو كما تقولون ، ألسنا وإيّاكم شرع سواء ، ولا يضرّنا ما صلّينا وزكّينا وأقررنا ؟ » فسكت ، فقال أبو الحسن عليه السلام : « وإن يكن القول قولنا ، وهو قولنا ، وكما نقول ، ألستم قد هلكتم ونجونا ؟ ».

قال : رحمك الله فأوجدني كيف هو ؟ وأين هو ؟ قال : « ويلك ، إن الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أيّن الأين ولا أين ، وكيّف الكيف وكان ولا كيف ، فلا يُعرف بكيفوفيّة ، ولا بأينونيّة ، ولا يدرك بحاسة ولا يُقاس بشيء ».

قال الرجل : فإذن انّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس !

فقال أبو الحسن عليه السلام : « ويلك إذا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنّا انّه ربّنا ، وأنّه شيء بخلاف الأشياء ».

قال الرجل : فأخبرني متى كان ؟!

قال أبو الحسن عليه السلام : « أخبرني متىٰ لم يكن ، فأخبرك متىٰ كان ؟! ».

قال الرجل : فما الدليل عليه ؟

قال أبو الحسن عليه السلام : « إنّي لما نظرت إلىٰ جسدي فلم يمكني زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة اليه ، علمت أن لهذا البنيان بانياً ، فأقررت به ، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته ، وإنشاء السحاب ، وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات ، علمت أن لهذا مقدّراً ومنشأً ».

قال الرجل : فلم احتجب ؟

فقال أبو الحسن عليه السلام : « إنّ الحجاب على الخلق ، لكثرة ذنوبهم ، فأمّا هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار ».

قال : فلم لا تدركه حاسة الأبصار ؟

قال : « للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم ، ثمّ هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيطه وهم أو يضبطه عقل ».

قال : فحده لي ؟

قال : « لا حدّ له » ، قال : ولم ؟

قال : « لأن كلّ محدود متناه إلى حدّ ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، واذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزيء ولا متوهَّم .. » (10).

نستخلص من هذا النصّ وممّا سبقه أن الإمام عليه السلام كان يحاجج الخصوم بصدر رحب وطول نفس ، وبأسلوب يتناسب مع عقليّة الخصم سواء كان من أهل الكتاب أو غيرهم ليلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.

الهوامش

1. التوحيد / الشيخ الصدوق : 454 ، باب « 66 ».

2. التوحيد / الصّدوق : 417 وما بعدها ، باب « 65 ».

3. التوحيد : 417 ـ 440 ، باب « 65 ».

4. التوحيد : 417 ـ 440 ، باب « 65 ».

5. التوحيد : 417 ـ 440 ، باب « 65 ».

6. التوحيد : 417 ـ 440 ، باب « 65 ».

7. أتباع زرادشت. وهو رجل من أذربيجان. ادّعى النبوّة ، ويتّفق المجوس على أن الله تعالى يسلم العالم إلى الشيطان سبعة آلاف سنة يحكم ويفعل مايريد. وبعد ذلك عهد أن يقتل الشيطان. وهذا الكلام غير لائق بالعقلاء ـ انظر : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ، فخر الدين الرازي : 120 ، الفصل الثالث ـ.

8. التوحيد : 417 ـ 440 ، باب « 65 ».

9. التوحيد : 417 ـ 440 ، باب « 65 ».

10. عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 120 ، ح 28 ، باب « 11 ».

مقتبس من كتاب : [ الإمام الرضا سيرة وتاريخ ] / الصفحة : 88 ـ 102