لزوم بعثة الأنبياء

طباعة

لزوم بعثة الأنبياء
إتفق أهل الملل قاطبة على لزوم بعثة الأنبياء إلى الناس ، بمعنى أن
حكمة الخالق البالغة تقتضي إرسال الرسل لهداية الناس وإرشادهم إلى سبل
السعادة .
وخالفهم في ذلك البراهمة ، فقالوا بأن المجتمع الانساني بفطرته
وعقليته ، يصل إلى تلك الغاية ، من دون حاجة إلى معلم غيبي .
والتعرف على الحق في ذلك يتوقف على تحليل أدلة الطائفتين ، ونقدم
أولاً أدلة المثبتين ، مختارين القليل من الكثير منها (1) ، ثم نتبعها بأدلة النافين
فنذكرها ونحلّلها .


__________________
(1) استدل المتكلمون بأدلة تقارب العشر على لزوم البعثة ، فلاحظ تجريد الإِعتقاد وشروحه

أدلة لزوم البعثة
1
حاجة المجتمع إلى القانون الكامل
وبيان هذا الدليل يستدعي رسم أمور :
الأمر الأول : نزعة الإِنسان إلى الحياة المدنية .
لا يشك احد من الفلاسفة والباحثين في الحياة الإِنسانية ، في أن للإِنسان
ميلاً إلى الإِجتماع والتمدن ، فهو يفر من حياة الإِنفراد في الغابات والصحاري
وكهوف الجبال ، ويتجه إلى التشكّل مع أبناء نوعه في اطار المجتمعات
الكبرى ، وكلّما تكاملت الحضارة الإِنسانية ، إنحسرت تلك الحياة الفردية
وازدادت التشكّلات المدنية والإجتماعية .
وهناك نظريتان في تفسير هذه النزعة الانسانية :
الاولى : أن الإِنسان « مدني بالطبع » فهو بدافع فطري محض يفر من
الحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية .
والثانية : أن الإِنسان « مستخدِم بالطبع » ، يميل إلى استخدام كلِّ شيء
في الطبيعة لصالح غرائزه ومتطلِّبات فطرته ، ولا يمكنه تحقيق هذا الدافع إلى
الإِستخدام إلا بالتشكل في إطار الحياة الإِجتماعية . ولولا وفاء التعاون مع أبناء
نوعه ـ المستلزم للحياة الإِجتماعية ـ بإشباع ميله للاستخدام ، لظلّ حليف
الغابات والكهوف .

وعلى كل تقدير ، لا مفر للإِنسان عن الحياة الإِجتماعية سواء لكونه مدنياً
بالطبع أو مستخدماً بالطبع .
الأمر الثاني : الحياة الإِجتماعية رهن القانون
إن حاجة المجتمع إلى القانون مما لا يُرتاب فيه ، وذلك لأن الانسان
مجبول على حب الذات ، وهذا يجرّه إلى تخصيص كل شيء بنفسه من دون أن
يراعي لغيره حقاً . ومن المعلوم أن الحياة الإِجتماعية بهذا الوصف تنتهي إلى
التنافس والتشاجر بين أبناء المجتمع ، وتؤدي بالتالي إلى عقم الحياة وتلاشي
أركان المجتمع .
فلأجل ذلك لا يقوم للحياة الإِجتماعية أساس إلا بوضع قانون دقيق
ومحكم ومتكامل ، يقوم بتحديد وظائف كلِّ فرد وحقوقه ، ويشرِّع الحدود
والقيود التي يجب تحرك الجميع من خلالها .
الأمر الثالث : شرائط المقَنِّن
إن وضع قانون ولو للقضايا والمشاكل الجزئية ، يعدّ من أصعب الأُمور
في مقام التحقيق ، ولا يقوم به إلا أماثل رجال المجتمع الذين تجتمع فيهم
مؤهلات عالية من العلم والخبرة . ولكي تقف على حقيقة ما ذكرنا نضرب مثالا
لبعض القضايا :
إنّ مشكلة أزمة السير من أعسر المشكلات التي تعاني منها المجتمعات
المدنية الحديثة ، ويُعَدّ حلُّها من الأُمنيات الكبرى لسكانها والقائمين عليها .
فلو قامت مدينة تعاني من هذه الأزمة بتشكيل لجنة مهمتها وضع قانون وضوابط
كفيلة بحلّها ، فلا بد أن تتوفر لدى أعضاء هذه اللجنة ، المعرفة والخبرة
اللازمين لتحقيق هذه الغاية ، فلا بد أن تكون مطلعة على عدد شوارع المدينة
ومقدار سعتها ، وكيفية ارتباطها ، وعدد الوسائط النقلية التي تجوبها ، وكذلك
المراكز الاقتصادية والحيوية في المدينة ، ومراكز الكثافة السكانية ، ومراكز


المواقف العامة للسيارات ، ومقدار سعتها وضيقها ، وكذلك الوعي الثقافي لدى
الناس الداعي إلى رعاية النظم والتخطيطات ، والتعرف ايضاً على خبرات
السابقين والمخططات التي طبّقت في المدن الاخرى . . . . . . . الى غير ذلك
من الشروط اللازمة لوضع قانون وخطة وافية بحل الإِزمة . والجهل بواحد منها
فضلا عن جميعها ، موجب للفشل وعدم نجاح القانون .
فإذا كان هذا الموضوع الجزئي بحاجة إلى علم وخبروية بهذا الحد حتى
يُجْعَلَ له قانون كافل لحل أزمته ، فكيف يجعل القانون للمجتمعات البشرية
المنتشرة في أصقاع الأرض ، والتي تتباين من حيث الظروف الجغرافية
والعادات والتقاليد ، يكون متناوِلاً لجميع جوانب الحياة ؟!
لا ريب أن جعل قانون كهذا يحتاج إلى توفّر شروط وشروط ، تخرج قطعاً
عن طاقة الإِنسان مهما ترقّى في درجات العلم . واليك ثلاثة من أُمهات تلك
الشروط .
الشرط الأول : أن يكون المقنّن عارفاً بالإِنسان .
إنّ أول وأهم خطوة في وضع القانون ، معرفة المقنِّن بالمورد الذي يضع له
القانون ، كما أشرنا إليه في المثال المتقدم . وعلى ضوء هذا ، لا بد أن يكون
المقنّن عارفا بالإنسان : جسمِهِ وروحِهِ ، غرائزه وفطرياته ، وما يصلح لهذه
الامور أو يضُر بها ، وكلما تكاملت هذه المعرفة بالإِنسان ، كلما كان القانون
ناجحاً وناجعاً في علاج مشاكله وإبلاغه إلى السعادة المتوخاة من خلقه ووجوده
في هذا الكون .
ومَثَلُ المقنِّن في هذا المقام ، مَثَلُ الطبيب ، كلما كانت معلوماتهُ حول
المريض ، جسمِهِ وروحِهِ وظروفِهِ المحيطةِ به ، كاملةً ، كلما كانت الوصفة
مفيدةً وناجعة في قَلْعِ المرض .
وهناك وجهة أُخرى لاقتضاء طبيعة التقنين ، المعرفة الكاملة بالانسان ،
وهي أن الانسان خُلِقَ مع غرائز جامحة لا تعرف لإِرضائها قاعدة ولا حدّاً . ومن


المعلوم أن تعطيل هذه الغرائز بالكلية ينتهي إلى الفناء ، كما أن اطلاق عنانها
يؤدي نفس النتيجة . فالطريق الأوسط ، كبح جماحها على حد يتم لصالح
الإِنسان الفرد أولاً ، وصالح المجتمع ككلّ ثانيا .
ومن هذا يتبين أن من يريد أن يقنِّن لصالح المجتمع ، يجب أن يكون
عارفا بالإِنسان عرفاناً كاملاً ، واقفاً على زوايا روحه وأعماق ضميره
وخصوصيات بدنه وطاقاته ، وما يرجع إليه بالصلاح أو الفساد .
الشرط الثاني : أن لا يكون المقنِّن منتفعاً بالقانون .
وهذا الشرط بديهي ، فإن المقنن إذا كان منتفعاً من القانون الذي يضعه ،
سواء كان النفع عائداً إليه أو إلى من يمت إليه بصلة خاصة ، فإنّ هذا القانون
سيتم لصالح المقنِّن لا لصالح المجتمع ، ومثل هذا القانون ناكب عن الحق ، متردّ
في مهاوي التفرقة والتمييز ، ونتيجته الحتمية الظلم والإجحاف .
فالقانون الكامل لا يتحقق إلا إذا كان واضعُهُ مجرّداً عن حب الذات
وهوى الإِنتفاع الشخصي .
الشرط الثالث : إصلاح الباطن
إن للعقيدة دورها وأثرها في اختيار الفعل وانتخابه ، وكلُّ ما يصدر من
الإنسان من فعلٍ أو تركٍ فهو وليد عقيدته وتفكيره ، فالمؤمن بالله وشرائعه يسعى
للإتيان بأعمال يرضي بها ربَّه ، كما أنّ الملحد والكافر به وبشرائعه يسعى إلى
الأعمال التي فيها رضى غرائزه ومتطلبات نفسه .
والقانون مهما بلغ في درجات التكامل ، لا يكون ناجحاً ومفيداً إلا إذا
كان في جوهره وصميم ذاته ، ضمانات لأجرائه وتجسيده في الحياة .
وبضم هاتين المقدمتين إلى بعضهما يتضح أن الضمان الكامل لإجراء
القانون لا يتحقق إلا بتوجه المقنِّن إلى إصلاح الباطن مع إصلاح الظاهر ، ولا
يكون نظره محصوراً بوضع الضوابط الماديَّة الجافّة .

فالقانون الكامل يبتني على إيجاد عقيدة وإيمان بالغيب ، وبقوةٍ قاهرةٍ
كبرى ، تراقب الإِنسان في ليله ونهاره وفي حياته الشخصية وعلاقاته
الإِجتماعية ، بالإِضافة إلى ايجاد التنظيمات المادية لمراقبة أعمال الفرد
الظاهرية .
واجتماع هذين الأمرين يصنع من الفرد إِنساناً إِجتماعياً يعيش في ظل
القانون مراعياً له ولا ينقضه إلا شاذاً ونادراً .
ولو كان المقنِّن ناظراً إلى الجهات الظاهرية فقط ومكتفياً في ضمانات
الإِجراء بالتنظيمات الرائجة ، لكان خاسراً في تقنينه ، ولن يَرى له تجسّداً إلا
في وضح النهار وأمام أعين القوى البشرية المُجْرِية .
هذه أبرز الجهات الوافية بكمال القانون فهلمّ نرى أين تتحقق هذه
الشرائط ، وعند مَنْ ؟ .
أما الشرط الأول ، فإنا لن نجد في صفحة الوجود موجوداً أعرف بالإنسان
من خالقه ، فإن صانع المصنوع أعرف به من غيره . يقول سبحانه : ( أَلَا يَعْلَمُ
مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .
واما الشرط الثاني ، فلن نجد أيضا موجوداً مجرداً عن أي فقر وحاجة
وانتفاع سواه سبحانه ، ووجه ذلك أن الإِنسان مجبول على حب الذات ، فهو
مهما جرّد نفسه من تبعات غرائزه ، لن يستطيع التخلص من هذه النزعة ، وإِلا
لزم أن ينسى نفسه ، ويَخْرُجَ بالتالي من عداد البشر .
وأما الشرط الثالث ، أي تشريع القانون على صرح الإِيمان والإِعتقاد
بصحة التشريع ، فلن نجده أيضاً في غيره سبحانه ، لأنه يدعو إلى ربوبية نفسه
وعبوديّة غيره ، ويبين للناس أن صلاحهم في إطاعته وشقاءهم في مخالفته
وبهذا يسرى قانونُه وتشريعُه في الحياة والمجتمعات البشرية سريان الماء في
الشجر والنبات ، ويكون مضمون الإِجراء والتطبيق .
__________________
(1) سورة المُلْك : الآية 14 .

أضف إلى ما ذكرنا ، أن التبدل الدائم في القوانين ، والنقض المستمر
الذي يورد عليها ، بحيث تحتاج في كل يوم إلى استثناء بعض التشريعات وزيادة
اخرى ، إضافة الى تناقض القوانين المطروحة في العالم من قبل البشر ، كل
ذلك دالّ على قصورها عن الوفاء بحاجة المجتمعات إليها ، وما ذلك إلا
لقصورهم عن معرفة الانسان حقيقة المعرفة ، وانتفاء سائر الشروط في
واضعيها .
فتلخص من هذا الدليل أُمور :
الأول : أَنَّ الأنسان يميل إلى الحياة المدنية ، إما لكونه « مدنياً
بالطبع » ، أو لكونه « مستخدماً بالطبع » .
الثاني : أَنَّ الحياة الإِجتماعية لا تستقر إلا بتعرف أعضاء المجتمع على
وظائفهم وحقوقهم ، وهذا لا يتسنى الّا بالتقنين .
الثالث : أَنَّ مهمة التقنين الشاقة لا يقوم بها إلا من اجتمعت فيه عدّة
شروط أهمها : معرفته الكاملة بالأنسان ، وعدم انتفاعه من القانون الذي
يجعله ، وأن يبني قانونه على صَرْح الإِيمان .
الرابع : أنّ تلك الشروط لا توجد على وجه الكمال إلّا في الله سبحانه خالق
البشر .
فإذا كان استقرار الحياة الاجتماعية للبشر متوقفاً على التقنين الإلهي ،
فالواجب في حكمته تعالى إبلاغ تلك القوانين إليهم عبر واحد منهم يرسله إليهم ،
ليوقفهم على ما فيه سعادتهم . والحامل لرسالة الله سبحانه هو النبي المنبىء عنه
والرسول المبلغ إلى الناس ، ويَثْبُتُ بذلك أنّ بعث الأنبياء واجب في حكمته
تعالى حفظاً للنظام المتوقف على التقنين الكامل .
إشارة الى هذا الدليل في الذكر الحكيم .
إنّ في الكتاب الحكيم ما يشير إلى هذا الدليل ، وهو قوله تعالى :

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ . . . ) (1) .
فجعل القيام بالقسط الذي هو عبارةٌ أخرى عن ضبط المجتمعات بالنظم
والقوانين ليحصل التآزر والتآلف المطلوبين لتأمين الأرضية الصالحة لسلوك
الإِنسان إِلى معين السعادة ، جعله علةً وغايةً لإِرسال الرسل ، فالقسط لا يتحقق
إِلا بالتسنين الصحيح والتقنين الكامل الذي لا يقوم به إلا خالق الانسان
وبارئه .


__________________
(1) سورة الحديد : الآية 25 .


أدلة لزوم البعثة
(2)
حاجة المجتمع الى المعرفة
كل انسان عاقل إذا جال ببصره فيما يحيطه من أرض وسماءٍ ، يقف على
أن الكون لم يخلق عبثاً ، بل له غاية وهدف تتفاعل كل أجزائه في سبيله .
وليس معنى كونه ذا غاية أن الفاعل قام بإيجاده لسد حاجته كما هو
المتعارف في أفعال غيره سبحانه ، بل المراد أن الفعل ليس فعلاً عبثيّاً فاقداً
للغاية ، التي ترجع إلى غيره ، فكون الفاعل ذا غرض يفارق كون الفعل ذا
غاية ، والمنفي عن ساحته سبحانه هو الأول دون الثاني ـ وقد أوضحنا حاله في
الجزء الأول فلاحظ . (1)
إن النظام السائد على العالم ، والإِنسجام الموجود بين أجزائه يعرب عن
أن الهدف من إيجاده هو استقرار الحياة في كوكبنا هذا . وهذه الغاية إن لم تكن
هي الوحيدة فهي على الأقل ـ إحدى الغايات فكأن سير النجوم والكواكب
والشمس والقمر ، ونزول الأمطار والثلوج ، وحركة الرياح والسحب ، وجزر
البحار ومدّها ، واخضرار المزارع وتفتح الازهار وو . . . مما لا يعدّ ولا يحصى
من الآثار الطبيعية ، كلها لاجل تكوّن الحياة واستقرارها وتهيئة الأرضية الصالحة
لتكامل الموجودات الحية .
__________________
(1) الالهيات ، ج 1 ، ص 263 ـ 271 .

وتتضح حاجة الانسان إلى المعرفة بالوقوف على أُمور :
الأمر الأول ـ الهداية التكوينية .
إن الموجودات الحية تصل إلى الغايات التي خلقت لها ، في ظلّ الهداية
التكوينية والغرائز المودعة في ذواتها ، ولا تحتاج في بلوغها ذلك الكمال إلى
عامل خارج عن ذواتها ، سوى الإِنسان .
إن الإِنسان ، وإن كان مجهّزا بغرائز ذاتية ، إلا أنها غير وافية في إبلاغه
الغاية التي خلق لها ، ولا تعالج إلا القليل من حاجاته الضرورية . ولاجل ذلك
ضمّ خالق الإنسان إلى تلك الغرائز ، مصباحاً يضيء له السبيل في مسيرة
الحياة ، ويفي بحاجاته التي تقصر الغرائز عن إيفائها ، وهو العقل .
ومع ذلك كله فإن العقل والغرائز غير كافيين أيضا في إبلاغ الانسان إلى
السعادة المتوخاة ، بل يحتاج معهما إلى عامل ثالث يعنيه في بلوغ تلك الغاية .
ووجه ذلك أن العقل الإِنساني غير مصون عن الخطأ والزلل والإِشتباه ،
وذلك لأن عمل العقل إختياري ، فإنه يرى أمامه طرقاً متعددة وخطوطاً متفاوته ،
عليه أن يسلك إحداها ويتجنب بقيّتها ، وكثيراً ما يركب الخاطيء منها ويحيد
عن الصائب .
الأمر الثاني ـ قصور العلم الإنساني في مجال المعارف الإلهية
إذا كان العقل والغرائز غير وافيين بحلّ عامة مشاكل الإِنسان ، فالعلم
الإِنساني أيضاً غير كاف فيه ، وذلك أن الإِنسان رغم التقدم الذي أحرزه في
العلوم الطبيعية ، لا يزال في بدايات سلّم هذا العلم ، وما أحرزه ضئيل جداً
أمام أسرار الكون العظيم . ورغم أن الإِنسان تمكّن من معرفة قسم من
المعادلات والقوانين التي تسير عليها الظواهر الطبيعية والقوى الكونية ، إلّا أنّه لا
يعلم أي شيء هي ، وما حقيقتها وماهيتها (1) .
__________________
(1) وقف مرة اينشتاين العالم الكبير ، عند درج صغير أسفل مكتبته ، وقال : « إنّ نسبة ما أعلم إلى ما


ومما يوضح قصور العلم البشري في العلوم الالهية ، أن هناك الملايين
من البشر يقطنون بلدان جنوب شرق آسيا على مستوى راق في الصناعات
والعلوم الطبيعية ، إلى حد أوقعوا العالم في اسارة استهلاك مصنوعاتهم ، ومع
ذلك فهم في الدرجة السفلى في المعارف الالهية . فجلّهم ـ إن لم يكن كلّهم ـ
عبّاد الأصنام والأوثان ، وأُسراء الأحجار والاخشاب .
وقد بلغ الحد في بلاد اليابان أن جعلوا لكل حادثة ربّاً ، حتى أن هناك رباً
باسم « رب الزواج » ، يتوسل إليه البنات الذين تأخروا في الزواج ، ليؤمن لهم
الأزواج المناسبين .
وببابك بلاد الهند الشاسعة ، وما يعتقده مئات الملايين من أهلها من قداسةٍ
وتألهٍ في « البقر » . وليست بعيدة عنّا أيام أصاب الجوع تلك البلاد ، وأصدر
المجلس العام إجازة بذبح قسم من الأبقار لسدّ الجوع ورفع الموت عن أبناء
الشعب ، فقد ثارت ثائرة الجماهير إلى الحدّ الذي أجبر الحكومة على إلغاء
القانون . فرضوا أن يموت الإنسان بجوعه ، ويعيش البقر بأطيب عيشه ، يأكل
محاصيلهم ويتلف ممتلكاتهم .
فإذا كان هذا هو حال المعارف الإلهية في عصر الفضاء والذرة ، وبعد ما
جاءت الرسل تترى لهداية البشر ، فما هو حالها في غابر القرون والأزمان ؟ ! . بل
بأي صورة يا ترى كان وضعنا الآن لولا الهداية الإلهية عن طريق الرسل ؟ ! .
نعم ، هناك نوابغ في التاريخ عرفوا الحق وتعرفوا عليه عن طريق التفكير
والتعقل ، كسقراط وأفلاطون وأرسطو . ولكنهم أُناس استثنائيون ، لا يعدون
معياراً في البحث ، ولا ميزاناً في نفي لزوم البعثة . وكونهم عارفين بالتوحيد ،
لا يكون دليلاً على مقدرة الآخرين عليه . على أنه من المحتمل جدا أن يكون
__________________
= لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي . ولو أنصف لقال : أقلّ من هذه النسبة ، لما ذكرناه من
جهل الإنسان حقائق القوى التي يكتشف معادلاتها . لاحظ مجلة رسالة الإسلام ، الصادرة عن
دار التقريب بالقاهرة ، العدد الأول ، السنة الرابعة ، ص 24 ، تنحت مقاله بعنوان ما نعلم وما
لا نعلم للدكتور أحمد أمين .

وقوفهم على هذه المعارف في ظل ما وصل اليهم من التعاليم السماوية عن
طريق رسله سبحانه وأنبيائه .
الأمر الثالث ـ ضالة العلم الأنساني في التعرف على المصالح
والمفاسد .
ربما يتصور أن الهدف الوحيد من بعثة الأنبياء ، هو هداية الناس إلى
المبدأ والمعاد ، وما في المبدأ من صفات جمال وجلال ، ولكن هذه الفكرة
نصرانية بحتة ، فإن هدف الأنبياء أوسع من ذلك ، فإنهم قد بعثوا ـ مضافاً إلى
ما مرّ ـ لهداية الناس إلى وسائل السعادة والشقاء ، فلأجل ذلك حثّوا على
الأخلاق والمثل العليا في الحياة ، كما بيّنوا مصالح العباد ومفاسدهم الفردية
والإِجتماعية ، ولذا كانت برامجهم تتسع وتتكامل بتكامل المجتمعات البشرية ،
حتى ختم التشريع بخاتم الأنبياء ، وتبيّنت معالم الهداية في كافة الجوانب .
والذي يحتم ضرورة هذا الهدف قصور العلم الأنساني عن تشخيص
منافع البشر والمجتمعات ومضارّها ، ويدل على ذلك :
أولاً ـ إن المجتمع الأنساني ـ مع ما بلغه من الغرور العلمي ـ لم يقف
بعد على ألفباء الأقتصاد . فقد انقسم العالم الحديث إلى طائفتين : واحدة
تزعم أن سعادة البشرية في نظام الرأسمالية والإِقتصاد الحر المطلق ، وانه هو
العامل الوحيد لرفاه المجتمعات وتفجّر الطاقات . والأُخرى تدّعي أنّ سعادة
البشر في النظام الاشتراكي بدءً والشيوعي غايةً ، فالسعادة كلها في سلب الملكية
عن أدوات الإنتاج وتفويضها إلى الدولة الحاكمة .
فلو كان الأنسان قادراً بحق على تشخيص المصالح والمفاسد ، وما ينفعه
وما يضره ، لما حصل هذا الإِختلاف ، الذي انجر إلى انقسام خطير بين دول
العالم .
ثانياً ـ وكما أن الإنسان لم يصل إلى النظام الإقتصادي النافع له ، فهو كذلك


لم يصل إلى وفاق في مجال الأخلاق وقد تعددت المناهج الأخلاقية في العصر
الأخير إلى حد التضاد فيما بينها .
ونضرب مثالا بأحدها : الشيوعية . إنها تدعى لنفسها منهجا أخلاقياً من
أُصوله أن الإِنسان لا يكون شيوعياً إلا بالتضحية بكل شيء لبناء صرح حكومة
العمال في العالم ، وكل ما كان يصبّ في هذا المنحى فهو من الأخلاق
الفاضلة ، وإن كان ذلك إعداماً ، وتدميراً وسرقة واختلاساً . ولأجل تبرير هذه
الآراء الشاذة اعتنقوا الأصل المعروف : « الغايات تبرر الوسائل » .
يقول لينين ـ أحد زعماء الشيوعية بعد ماركس وانجلز ـ : « إن الشيوعي
هو من يتحمل كل التضحيات ويلجأ إلى انواع الحيل والأفعال غير المشروعة ،
ليجد لنفسه موضعاً ، وموطيء قدم في الإِتحاديات التجارية » (1) .
فإذا كان هذا حال الإِنسان في معرفة المسائل الإبتدائية في الاقتصاد
والأخلاق ، فما ظنك بحاله في المسائل المبنية على أُسس تلك العلوم . أفبعد
هذا الجهل المطبق يصح لنا أن نقول إن الأنسان غني عن الوحي في سلوك
طريق الحياة .
ثالثاً ـ إنّ التعرف على عوامل السعادة والشقاء له صلة وطيدة بسلوك
الإنسان في الحياة ، ومع الأسف إنّ الإنسان ـ مع ما يدّعيه من العلم والمعرفة ـ لم
يدرك بعد تلك العوامل ، بشهادة أنه يشرب المسكرات ، ويستعمل المخدرات ،
ويتناول اللحوم الضارة . كما يقيم إقتصاده على الربا ، الذي لا يشك إنسان
عطوف على المجتمع بأنه عامل إيجاد التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع .
هذه الوجوه وأمثالها ترشدنا إلى أن الإِنسان ليس ـ ولم يكن ـ غنياً عن
تعاليم الأنبياء ، وتدعم بوضوح لزوم بعثتهم لنشر المعرفة بين الأمم الإِنسانية .
قال القاضي عبد الجبار : « إنه قد تقرر في عقل كل عاقل ، وجوب دفع
__________________
(1) موسوعة نيقولاي لينين ، ج 17 ، ص 142 ، طبعة 1923 .

الضرر عن النفس ، وثبت أيضاً أن ما يدعو الى الواجب ويصرف عن القبيح فإنه
واجب لا محالة . إذا صحّ هذا ، وكنا نجوّز أن يكون في الافعال ما إذا فعلناه
كنا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات (1) وأجتناب المقبّحات ، وفيها ما اذا
فعلناه كنا بالعكس من ذلك ، ولم يكن في قوة العقل ما يعرف به ذلك ويفصل
بين ما هو مصلحة ولطف ، وبين ما لا يكون كذلك ، فلا بد من أن يعرّفنا الله
حال هذه الأفعال كي لا يكون عائداً بالنقص على غرضه بالتكليف . وإذا كان لا
يمكن تعريفنا ذلك إلّا بأن يبعث إلينا رسولاً مؤيّداً بالمعجز الدالّ على صدقه ، فلا
بُدّ من أن يفعل ذلك ، ولا يجوز له الإخلال به (2) .
إشارة إلى هذا الدليل في الكتاب .
قد جاء في الكتاب العزيز والسنة الشريفة إشارة الى هذا الدليل نذكر
منها :
قوله سبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ
وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . . . ) (3) .
فإن الاختلاف ـ إن كان عن نوايا صادقة ـ آية عجز البشر عن الوصول إلى
الحقيقة .
وقول رسول الله صلى الله عليه وآله : « ولا بعث الله نبيّاً ولا رسولاً حتى
يستكمل العقل . . . » (4) .
وقول أمير المؤمنين عليه السلام : « فبعث الله محمدا صلى الله عليه وآله
__________________
(1) المراد من الواجبات ليس الفرائض الشرعية بل ما يقابل المقبحات ، وهي الامور التي يحكم
العقل بحسنها ولزوم الإِتيان بها .
(2) شرح الاصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ، ص 564 .
(3) سورة البقرة : الآية 213 .
(4) الكافي ، ج 1 ، كتاب العقل والجهل ، الحديث 11 .

ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته ، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته » (1) .
وقوله عليه السلام : « . . . إلى أن بعث الله محمداً رسول الله صلى الله
عليه وآله لانجاز عدته ، وتمام نبوته . . . وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة ،
وأهواء منتشرة ، وطوائف متشتتة ، بين مشبه لله بخَلْقه ، أو ملحدٍ في أسمائه ،
أو مشير به إلى غيره ، فهداهم به من الضلالة . . . » (2) .
وفي هذا الحديث اشار إلى قصور الانسان في التعرف على المبدأ
والمعاد .
وقول الإمام الكاظم عليه السلام لتلميذه هشام : « يا هشام ، ما بعث الله
أنبيائه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم
معرفة . وأعلمهم بأمر الله ، أحسنهم عقلاً . وأكملهم عقلاً ، أرفعهم درجة في
الدنيا والآخرة (3) .
وقول الامام الرضا عليه السلام : « لم يكن بدّ من رسول الله بينه
وبينهم ، يؤدي إليهم امره ونهيه وأدبه ، ويقفهم على ما يكون به مِنْ إحراز
منافعهم ودفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون
إليه . (4) .
  


__________________
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 147 .
(2) نهج البلاغة الخطبة الاولى .
(3) الكافي ، ج 1 ، كتاب العقل والجهل ، الحديث 12 .
(4) بحار الانوار ، ج 11 ، ص 40 .


أدلة لزوم البعثة
3
هداية الفطريات وتعديل الغرائز
وتقرير هذا الدليل يحتاج إلى تقديم أمرين :
الأمر الأول ـ الانسان مجبول على فطرياته وغرائزه .
لا تكتمل وتتوازن حياة الإِنسان إلا إذا عاش على مقتضى متطلبات الفطرة
ومتوخيات الغرائز ، بل العيش على خلاف هذه المقتضيات يؤدي بالحياة
البشرية إِلى الهلاك ، وما مثل هذا إِلا كالسابح في عكس تيار الماء ، لن تكون
عاقبته إِلا الإِرهاق وانهيار القوى فيتوقف عن السباحة ويبتلعه الماء .
فحاجة الخلايا إلى الغذاء ، والبدن إلى الراحة والنوم ، حاجة ضرورية لا
بد من تلبيتها . كما أن الحاجة إلى اطفاء الشهوة بالزواج حاجة فطرية لا يمكن
إهمالها ، وإلا صار الإِنسان موجوداً عصبياً ، وكانت الحياة كالعلقم في فمه .
ومن جملة الفطريات المودعة في وجود الإِنسان ، والمكتوبة على جبينه
بقلم القضاء والخلقة ، والتي تتفجر في أوائل بلوغ الإِنسان عمر الشباب ،
معرفةُ الله سبحانه ، والميل إلى الأمور الحسنة ، والإِنزجار عن الأمور السيئة ،
ولأجل ذلك لا ترى إنساناً ـ لم يقع تحت تأثير الأهواء وعوامل الانحراف ـ يَعُدُّ ردّ
الامانة قبيحاً ، والخيانة بها كرامة ، كما لا يعد العمل بالعهد أمراً سيئاً ، ونقضه
أمراً حسناً ، وهكذا الكثير من الأمور كالميل إِلى العفة والعدالة والإِنزجار عن


الدناسة والخيانة . وكل ذلك مما يلمسه الإِنسان في حياته ويعايشه في وجدانه ،
وقد كشف عنه العلم الحديث وأيّده (1) .
الأمر الثاني ـ حاجة الفطريات إِلى الهداية والغرائز إلى التعديل
إن إعمال الغرائز والفطريات ـ وإِن كان به قوام الحياة ـ إِلا أنَّه لا يصح في
المقابل تركها وحالها وإفساح المجال لها ، وإِلا أَدّى ذلك بالحياة البشرية إِلى
الفناء والهلاك . وإنما تتحق سعادة الإِنسان بهداية فطرياته هداية صحيحة
وتعديل غرائزه على وجه يفي بحاجاته ولا يخرجه عن طور إِنسانيته .
بيان ما ذكرنا : إن الثلوج المتراكمة على قمم الجبال إنما يمكن الأنتفاع
بها إذا كان هناك جداول وقنوات تمتد من رأس كلّ جبل إلى السهول المحيطة
به ، فتسيل فيها مياه الثلوج الذائبة بالتدريج . وفي غير تلك الصورة يسيل الماء
كيف كان ، جارفاً في طريقه الاحجار والصخور ، وربما أنقلب إلى سيل جارف
يدمّر كلَّ شيء أمامه .
وكذلك الفِصَل المغروسة ، أو البذور المنثورة على الأرض ، تحمل في
ذواتها قوى واستعدادات ، إلا أنَّ تفجُّر تلك الطاقات يحتاج إلى من يتعهدها
حراسةً وسقايةً وعنايةً على النحو المأنوس ، وعندها تصير الفِصَل أشجاراً مثمرة ،
والبذور سنابل ذهبية .
ثم نقول : إذا كانت الإِستفادة من الثلوج المتراكمة على الجبال ،
والفصل المغروسة والبذور المنثورة على الأرض ، متوقفاً على هداية خاصّة ،
حتى تصب في مجراها الصحيح ، وتَرْشُدَ على نهجها الطبيعي ، فكذلك الأمر
في السجايا الإِنسانية والغرائز البشرية الكامنة في وجود الانسان ، فإنها لن تعود
عليه بالنفع والصلاح إلا في ظل هداية تمنعها من الإفراط والتفريط ، وتسيّرها
في ما هو صالح البدن والروح .
__________________
(1) تقدم التعرض لذلك في مقدمات الجزء الاول : الالهيات ، ج 1 ، ص 11 ـ 13 .

وخذ على ذلك مثالاً ، معرفة الله والميل إلى عوالم الغيبية ، فان لها
جذوراً في عمق وجود الانسان ، ولم يزل كل انسان من صباه إلى كهولته ميّالا
إلى تلك العوالم ، شغوفاً بحب الاطلاع عليها ، والخضوع لها .
ولكن هذا الميل إذا لم يقع في إطار الهداية والتوجيه الإلهي ، يسفّ بالإنسان
إلى الحضيض ، ويصنع منه عابداً للحجر والخشب والعجماوات ، خاضعاً
للشمس والقمر والنار . ألا ترى صانعي الآلات ومخترعي العقول الالكترونية
كيف طفقوا يخضعون للأصنام والأبقار ؟ !
ولكنها إِذا كانت تحت ظل هداية إلهية ، تتجلى بمظهر التوحيد ، وأَنّ
للعالم بأسره إلها واحداً أحداً عالماً ، قادراً ، محيطاً بكل شيء ، جامعاً لكل
صفات الكمال والجمال .
إن الميول الطبيعية ، كالميل إلى الزواج والتسلط على المناصب والتكاثر
في الأموال ، مما خُمّر عليه الإِنسان ، ولا بقاء لحياته إلا به ، ولو سلبت عنه
لصار موجوداً مهملا خاملاً طالباً للموت وجانحاً إلى الفناء .
ولكن لو تركت هذه الغرائز ومجالها ، لآل الإنسان إلى حيوان ضار ، مدمر
لكل شيء بغية تحصيل المال والإستبداد بالمناصب .
وأما لو كبح جماحها ، وعدّلت ميولها بهداية تحدد مجاريها وتُرشد
صاحبها الى كيفية الإِستفادة منها ، لصار موجوداً عاقلاً متكاملاً سعيداً في
حياته ، متآلفاً ومتآزراً مع سائر بني نوعه ، لبناء المجتمع الصالح .
وهكذا ، فقد عُلِم من هاتين المقدمتين أن وجود الفطريات والغرائز في
الإنسان ، وحاجتها إلى الهداية والتعديل أمر لا ينكر ، وإنّما الكلام كلّه في تعيين
من يقوم بهذه المهمة :
فهل المحاسبات العقلية كافية في حمل الإِنسان على هداية فطرياته وكبح
جماح غرائزه عن الإِفراط والتفريط ؟
أم هل الشخصيات الممتازة في عالم الإِجتماع ، الموصوفة بالعقل


والدراية والتجربة قادرة على القيام بهذه المهمة ؟
أم أنّ المَرْجِعَيْن المتقدمين ـ مع تقدير عملهما والإعتراف بانتفاع الإنسان من
هدايتهما في مسير حياته ـ قاصران عن القيام بهذه المهمة ، ولا بدّ من مرجع ثالث
له الإحاطة الكاملة بالفطريات والغرائز البشرية وما يصلحها ويقوّمها ، وهم
الأنبياء والرسل الإلهيون المعصومون من الخطأ والزلل ، والمؤيدة هدايتُهم بضمانات
إجرائية قاهرة ؟ .
نحن نعتقد أن الأمر الثالث هو المتعين ، وأن المرجعين الأوَّلَيْن غيُر
وافيين بمعالجة المشكلة .
أما العقل ، فمع الإِعتراف بأنه يضيء الطريق أمام الإِنسان ، ويأخذ بيده
في المزلّات والمزالق ، إلا أنه قاصر عن مصارعة الغرائز المتفجرة وكبح
ثورانها . فإن كلَّ إِنسان يعلم من نفسه أن غرائزه وميوله الشهوية إذا تفجرت ،
لم تترك للعقل ضياء ولا للفكر نوراً ، بل كان مثل العقل حينذاك مثل الإِنسان
المبصر إِذا وقع في مهب الرياح والزوابع الرملية ، فإنها تَكُفُّ بَصَرَه عن الرؤية
وتُعَرْقِل مَسيرَهُ .
وفي تلك الحالات ، لا ينفك العقل عن خداع صاحبه وإراءة المحاسبات
الكاذبة لتبرير عمله ، وإيجاد الذرائع لارتكابه ، بحيث لو كان هذا الإنسان في
موقف عادي خالٍ عن ذلك الثوران في العواطف والغرائز لما اعتنى بشيء من تلك
التسويلات ، ولذلك لا تجد مجرماً يقوم بجناية إلّا وهو يلقي لنفسه الأعذار
والتبريرات حين إقدامه عليها .
وكثيراً ما يستسهل الإنسان في تلك الحالات ـ على فرض إلتفاته إلى خطورة
وقبح ما يقوم به ـ يستسهل ما يترتب عليه من الذم واللوم والعقاب ، قضاءً لوَطره
منه ، وإشباعاً لشهوته مما يناله من اللذائذ المادية .
وأما رجالات الأخلاق والإِجتماع ، فمع أنّ لهم دوراً في تهذيب
النفوس ، ودفعها إلى الكمال ، وكبح جماح غرائزها على الإجمال ، إلا أَنّ
عملهم لا يخلو عن نقائص ربما تَذْهَبُ بأعمالهم أدراج الرياح .

أما أولاً ، فلأنَّ شرط التربية ، الوقوف على رموز الخلقة ، والتعرف على
خصوصيات من ترجى تربيته . وليس لهذه الشخصيات ، العلم المحيط
بخصوصيات الإِنسان ، لا لقلة عملهم وضيق أَفكارهم ، بل لعظمة الانسان في
روحه ومعنوياته ، وغرائزه وفطرياته ، وهو أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله ، ولا
يضاء محيطه . وقد خفيت كثير من جوانب حياته ورموز وجوده ، حتى لُقّب بـ
« الموجود المجهول » . (1)
ويُصدَّق ضالة هذه المعرفة ، تزايدُ الفساد وارتفاع نسبته في أقطار العالم عبر
نفس المناهج التربوية التي تصوّبها تلك الشخصيات المرموقة في عالم التربية .
وأما ثانياً ، فلأَن الحجر الأَساس لتأثير التربية ، أنْ يكون المربي إنساناً
كاملاً وموجوداً مثالياً ، يتمتع بسمو الأخلاق والملكات ، فيجذب بها القلوب ،
ويشد إليها النفوس .
ومن المعلوم أن واضعي المناهج التربوية في العالم ، وإن كانوا خبراء في
مجال تخصُّصِّهم ، إلا أنّهم فاقدون لهذا الشرط الأساس . ألا ترى أَنَّهم
يوصون ببسط العدل ، وحماية المستضعف ، وترك الخمر والقمار وو . . . ومع
ذلك فهم مرتكبون لها ، واقعون فيها .
ولا يشذ عنهم إلا من كان مراعياً للدين متمسكاً بأهدابه ، ولكن الفضل
حينئذ لا يعود إليه بل إِلى صاحب الشريعة الذي سَنَّ تلك البرامج والمناهج .
وأما ثالثاً ، فلأن المناهج التربوية لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت منتسبة إلى
الخالق سبحانه ، فإنّ هذا يمنحها ضمان الإِجراء والتجسّد في المجتمع
لارتباطها بعوامل التشويق إلى الثواب والتحذير من العقاب ، وإلا فلن تعدو
مجموعة نصائح شخصية أو مدرسية ، ما أسرع ما تتهاوى أمام ضربات معاول
الشهوة الثائرة .
__________________
(1) وقد ألف الفيلسوف الفرنسي الكسي كارل ، كتاباً خاصاً حول الإنسان وغرائزه وفطرياته ، أسماه
« الإنسان ذلك الموجود المجهول » .

ومجموع ما ذكرناه يدلنا على أن مهمة هداية الغرائز والفطريات ، التي
تصنع من الإِنسان موجوداً عارفاً بالنُّظُم ، مؤمناً بالمناهج ، مجرياً لها في ليلة
ونهاره ، وسرّه وإعلانه ، لا تتم إِلا بيد رسل مبعوثين من جانب خالق البشر ،
بمناهج كاملة أنزلها إليهم ، وحفّها بدوافع الطاعة من المغريات بالثواب
والمحذّرات من العقاب .
قال الشيخ الرئيس في بيان ما يلزم أن تشتمل عليه الأفعال التي يسنها
النبي للبشر ، أفراده ومجتمعاته حتى تأخذ لنفسها طريقاً إلى التطبيق ومسلكاً إلى
البقاء :
« ويجب أن تكون هذه الأفعال مقرونة بما يذكّر الله تعالى والمعاد لا
محالة ، وإلا فلا فائدة فيها .
والتذكير لا يكون إلا بالفاظ تقال أو نيات تنوى في الخيال ، وأَنْ يقال
لهم : إن هذه الأفعال يتقرب بها إلى الله ويستوجب بها الخير الكريم » . . . .
إلى ان قال : « وبالجملة يجب أَنْ يكون فيها منبّهات » (1) .
الأنبياء والفطرة في الحديث
إنّ الإمام أمير المؤمنين علياً عليه السلام يصوّر الإنسان موجوداً يجمع في
ذاته دفائن العقول وأنوار العرفان .
غير أنّ إثارة تلك المعارف الكامنة ، وإبراز تلك الأسرار الدفينة ، يحتاج إلى
إنسان كامل يقوم بتلك المهمة وهو النبي .
فدور الأنبياء دور التذكير والتنبيه ، لا دور التعليم والتأسيس ، لأن كل ما
يلقيه الأنبياء من أُصول ومعارف مختمر في وجود الإِنسان بعلم فطري وقضاءٍ
خلقي ، لكنه لا يلتفت إليها إلا بفضل من يوجّهه .
__________________
(1) « النجاة » في الحكمة الإلهية ، للشيخ الرئيس ، ص 306 ، الطبعة الثانية 1357 ه‍ ـ 1938 م .

يقول عليه السلام : « فبعث فيهم رُسُلَه ، وواتر إليهم أَنبيائه ، ليستأدوهم
ميثاق فطرته ، ويذكروهم مَنْسِيَّ نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم
دفائن العقول . . . » (1) .
فمثل الانبياء على هذا التقدير ، مثل المهندس الزراعي ، فكما أنه ليس
له دور في خلق الثمار على الأشجار وإِظهارها على الأغصان ، وانما ينحصر
دوره في إخصاب الأرض وتهيئتها لتُظهِر الشجرة ثمارها وفواكها ، فهكذا الأنبياء
بتعاليمهم السماوية ، فإن دورهم تهيئة الإِنسان ليُبرز ما تعلّمه في مدرسة الفطرة
من الأصول والمعارف التي تدعو إلى العدل والقسط ، ونبذ الظلم والتعدي
وغيرها .
نعم ، للأنبياء ـ على تقدير آخر ـ دور التعليم ، وذلك في الوظائف
الفرعية في مجال العبادات والمعاملات إذ لولاهم لما وقف الإِنسان على طرق
عبادة الله تعالى ، وكيفية سلوكه مع بني نوعه في مقام المعاملة .
  

__________________
(1) نهج البلاغة ، الخطبة الاولى .


أدلة لزوم البعثة
(4)
بعثة الأنبياء أولى من الكماليات
يعتمد هذا الدليل بنحو رئيسي على مشاهدة النعم التي أودعها الخالق في
وجود الإِنسان وما يحيط به ليُسهِّل عليه معيشتَه وتكاملَه في الحياة . وليست كلّ
هذه النعم دخيلة في ضروريات حياته ، بحيث ينعدم وجوده بدونها ، بل إن كثيراً
منها مما يدخل في الكماليات ، وتسهيل مجاري الحياة . وكثير من هذه
الكماليات أُمور جزئية بسيطة لا يلتفت إليها الإِنسان إلا بالتأمل والتدبّر . ولأَجل
زيادة التوضيح نمثِّل ببعض الأَجهزة في بدن الإِنسان .
إن الصانع الحكيم جهّز العين بأجهزة مختلفة ، منها ما هو دخيل في
أصل تحقق الرؤية ، ومنها ما هو دخيل في سهولتها وتيسرها .
1 ـ فجعل العين في أعلى أجزاء بدن الإنسان حتى يتسلط بنحو كامل على ما
أمامه .
2 ـ وجعل العين بمختلف طبقاتها في إطار جسم شحمي صلب أبيض
اللون ، حفظاً لها مما قد يصيبها .
3 ـ وجعل العين بإطارها وجميع طبقاتها في حفرة عظيمة ، زيادة في
صيانتها من الصدمات الطارئة .
4 ـ وجعل فوق العين حاجباً يمنع من نزول العرق إليها ، وأوجد في


ناصية الإِنسان خطوطاً ليسهل إنحراف العرق يميناً ويساراً .
5 ـ وجعل لكل عين جفنين حافظين لها ، وخلق فيهما أشفاراً وأهداباً ،
صيانة لها عن الدخان والأغبرة . وهما ، مع أنهما يمنعان بضمهما دخولَ ما
يؤذي العين ، لكنهما لا يمنعان من الرؤية . فهما في هذا المجال أشبه بالستائر
الحديديّة تسمح للنور بالدخول من دون دخول أشعة الشمس .
6 ـ وجعل في باطن كل جفن غدداً يترشح منها سائل لزج يصون أنسجة
العين من الإِحتكاك بما يحيطها ، ويسهل دوران كرة العين في جميع الجهات .
7 ـ وأحاط عدسية العين بمجموعة من الأنسجة العضلية ، تجعلها تنقبض
أمام الأَنوار القوية وتنبسط أمام الضعيفة منها ، صيانة للعين عن دخول أزيد مما
تتحمله أو أقل مما تحتاج إليه من النور .
هذا بعض يسير مما يرجع الى العين ، وفي الأجهزة الأُخرى بدائع وفوائد
لا تحصى نذكر نذراً منها :
إنّ يد الخلقة جعلت تحت قدم الإنسان ، أخمصاً حتى يَسْهُل عليه الوقوف
والسير .
وجعلت في اليد أصابع ، ثم فاوتت بينهما في الطول ، ليسهل على
الإِنسان القيام بأعماله ، وليكون بذلك صانعاً فناناً مبدعاً .
وجعلت في بواطن الأَنامل خطوطاً وتعاريج ليسهل عليه الإِمساك
بالأجسام .
وهكذا إذا درسنا خلقة الإِنسان وجدنا أنها مشتملة على أجهزة مختلفة بين
دخيلة في أصل الحياة ودخيلة في كمالها وسهولتها . وكل ذلك يدفعنا إلى
التساؤل : هل يمكن لخالق الإِنسان أن يسهّل له كل طرق التكامل الظاهرية ،
ثم يترك ما هو دخيل في تكامله الروحي والمعنوي ؟ .
وهل يمكن لأحد أن ينكر دور الأنبياء في تكامل الإنسان ، ولو على وزان
دور الخطوط في بواطن الأنامل على الأقل ؟ .

أو يصح من الخالق الحكيم أن يهب له تلك الأجهزة المُؤَثِّرة في كمالاته
المادية ، ويترك ما هو مؤثر في تكامل روحه وفكره ؟ .
ولقد أُلهمنا هذا البرهان مما ذكره الشيخ الرئيس في إلهيات الشفاء حيث
قال :
« الحاجة إلى هذا ( بعث النبي ) في أن يبقى نوع الإِنسان ويتحصَّل
وجوده ، أشدّ من الحاجة إلى نبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين ،
وتقصير الأخمص من القدمين ، وأشياء أُخرى من المنافع التي لا ضرورة إليها
في البقاء . . . . فلا يجوز أن تكون العناية الأُولى تقضي تلك المنافع ، ولا
تقضي هذه التي هي أُسُّها » (1) .
وإلى هذا يشير صدر المتألهين بقوله : « إن ذاته سبحانه منبع الخيرات
ومنشأ الكمالات ، فيصدر منه كل ما يصدر على أقصى ما يتصور في حقه من
الخير والكمال ، والزينة والجمال ، سواء أكان ضرورياً له ، كوجود العقل
للإِنسان والنبي للأُمة . وغير ضروري ، كإنبات الشعر على الأشفار
والحاجبين ، وتقصير الأخمص من القدمين » (2) .
  

__________________
(1) الهيات الشفاء ، بحث النبوة ، ص 557 طبعة طهران . وأورده بعينه في كتاب النجاة ،
ص 304 ، طبعة 1357 ه‍ .
(2) المبدأ والمعاد ، لصدر المتألهين ، ص 103 ، طبعة طهران .


أدلة لزوم البعثة
(5)
اللُّطف الإِلهي
استدلوا على لزوم بعث الرسل بقاعدة اللطف . وبما أن هذه القاعدة
تطرح دليلاً في مواضع مختلفة من المسائل الكلامية ، فلا بد لنا من بسط الكلام
فيها بشكل عام ، حتى يتبين حالها في كل مقام يستدل بها ، سواء فيما له صلة
ببعث الرسل أو غيره ، فنقول :
إن اللطف ، في اصطلاح المتكلمين ، يوصف بوصفين :
1 ـ اللطف المُحَصِّل .
2 ـ اللطف المُقَرِّب .
وهناك مسائل تترتب على اللطف بالمعنى الأول ، ومسائل أُخرى تترتب
على اللطف بالمعنى الثاني ، وربما يؤدي عدم التمييز بين المعنيين إلى خلط ما
يترتب على الأول بما يترتب على الثاني . ولأجل الإِحتراز عن ذلك نبحث عن
كل منهما ، بنحو مستقل .
أ ـ اللُّطف المحصِّل .
اللُّطف المحصِّل عبارة عن القيام بالمباديء والمقدمات التي يتوقف عليها
تحقق غرض الخلقة ، وصونها عن العبث واللغو ، بحيث لولا القيام بهذه


المباديء والمقدّمات من جانبه سبحانه ، لصار فعله فارغاً عن الغاية ، وناقَضَ
حكمته التي تستلزم التحرز عن العبث . وذلك كبيان تكاليف الإنسان ، وإعطائه
القدرة على امتثالها .
ومن هذا الباب بعث الرسل لتبيين طريق السعادة ، وتيسير سلوكها . وقد
عرفت في الأدلّة السابقة ، أن الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقّة ، أو يهتدي
إلى طريق السعادة في الحياة ، بالإعتماد على عقله ، والإستغناء عن التعليم
السماوي . ووجوب (1) اللطف بهذا المعنى ، ليس موضع مناقشة لدى القائلين
بحكمته سبحانه ، وتنزيهه عن الفعل العبثي الذي اتّفق عليه العقل والنقل . (2)
اللطف المحصِل في مصطلح المتكلمين
ما ذكرناه من المعنى للطف المحصل ، مصطلح خاص لنا وليس معروفاً
بين المتكلّمين والمعنى المعروف لديهم هو : قيامه سبحانه بعمل تترتب عليه
الطاعة . قال القاضي عبد الجبار : انّ اللطف هو كلّ ما يختار عنده المرء الواجبَ ،
ويتجنب عن القبيح . (3)
ب : اللطف المقرب
المراد منه ما يكون موجباً لقرب المكلف إلى فعل الطاعة والبعد عن فعل
المعصية ، من دون أن يكون له حظ في التمكين ولا يبلغ الإلجاء وذلك كالوعد
والوعيد والترغيب والترهيب التي تستتبع رغبة العبد إلى العمل وبعده عن
المعصية . (4)
قولهم : « ولاحظ في التمكين » يخرج بعث الرسل وبيان التكليف ، واعطاء
__________________
(1) سيوافيك معنى الوجوب على الله سبحانه .
(2) لاحظ سورة الذاريات : الآية 56 ، وسورة المؤمنين : الآية 115 .
(3) الأُصول الخمسة / 519 .
(4) كشف المراد / 201 ، ط صيدا .

القدرة فانّها ممكِّنة للعبد من الطاعة لا مقربة منها وقد عرفت انّ هذا القسم من
اللطف داخل في المحصل بالمعنى الأوّل المختار وقوله : « ولا يبلغ الالجاء » يخرج
ما إذا لم يكن للعبد معه محيص من اختيار الطاعة ، فهذا أيضاً الجاء وليس لطفاً .
استدلوا على وجوب اللطف مطلقاً انّه تعالى أراد من المكلّف الطاعة فإذا
علم أنّه لا يختار الطاعة ( اللطف المحصل ) أو لا يكون أقرب إليها إلّا عند فعل
يفعله به ، وجب في الحكمة أن يفعل ، إذا لو أخل به لكشف ذلك عن عدم إرادته أو
جرى ذلك مجرى من أراد من غيره حضور طعامه وعلم أو ظنّ انّه لا يحضر بدون
رسول ، فمن لم يرسل عدّ مناقضاً لغرضه . (1)
والحقّ هو القول بوجوب اللطف إذا كان مؤثر في قرب الأغلبية الساحقة من
المكلّفين إلى الطاعة أي ما هو دخيل في نفس الرغبة إلى الطاعة ، والابتعاد عن
المعصية في نفوس الأكثرية ، فيجب على الله القيام به .
وفي الكتاب والسنّة إشارات إلى هذا النوع من اللُّطف . يقول سبحانه : ( وَ
بَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) . (2)
والمراد من الحسنات والسيئات ، نعماء الدنيا وضرّاؤها وكأنّ الهدف من
ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحقّ والطاعة .
ويقول سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَ
الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) . (3)
ومفاد الآية أنّ الله تعالى أرسل رسله لإبلاغ تكاليفه تعالى إلى
العباد وإرشادهم إلى طريق الكمال ، غير أن الرَّفاه والرَّخاء والتوغل
في النعم المادية ، ربما يسبب الطغيان وغفلة الإنسان عن
__________________
(1) قواعد المرام / 118 .
(2) سورة الأعراف : الآية 168 .
(3) سورة الأعراف : الآية 94 .

وإجابة دعوة الأنبياء ، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضراء ، لعلهم
يضرعون ويبتهلون إلى الله تعالى (1) .
ولاجل ذلك نشهد أن الأنبياء لم يكتفوا بإقامة الحجة والبرهان ، والإِتيان
بالمعاجز ، بل كانوا ـ مضافاً إلى ذلك ـ مبشرين ومنذرين . وكان الترغيب
والترهيب من شؤون رسالتهم ، قال تعالى : ( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (2) .
والإنذار والتبشير دخيلان في رغبة الناس بالطاعة وابتعادهم عن المعصية .
وفي كلام الإِمام علي عليه السلام إشارة إلى هذا ، قال عليه السلام :
« أيها الناس ، إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على
آداب رفيعة وأخلاق شريفة ، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأَن يعرّفهم ما لهم
وما عليهم ، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي (3) . والأمر والنهي لا يجتمعان
إلا بالوعد الوعيد ، والوعد لا يكون إلا بالترغيب ، والوعيد لا يكون إلا
بالترهيب ، والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم ، والترهيب
لا يكون إلا بضد ذلك . . . الخ » (4) .
وقوله عليه السلام : « والأمر والنهي لا يجتمعان إلّا بالوعد والوعيد » ،
إشارة إلى أنّ امتثال الأمر والنهي ونفوذهما في نفوس الناس يتوقف على الثواب
والعقاب ، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابية نحو التكليف إلّا من العارفين الذين
يعبدون الله تعالى لا رغبة ولا رهبة ، بل لكونه مستحقاً للعبادة .
فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقق الرغبة بالطاعة ، والإبتعاد عن
المعصية ، في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر ، يجب على الله سبحانه القيام
به صوناً للتكليف عن اللغو ، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث .
__________________
(1) لاحظ الإلهيات ، ج 1 ، بحث البلايا والمصائب والشرور وكونه حكيماً ، ص 273 ـ 286 .
(2) سورة النساء : الآية 165 .
(3) هذا إشارة إلى اللطف المحصل .
(4) بحار الأنوار ، ج 5 ، كتاب العدل والمعاد ، الباب الخامس عشر ، الحديث 13 ، ص 316 .

نعم إذا كانت هذه المباديء كافية في تحريك الأكثرية ، نحو الطاعة ، ولكن
القليل منهم لا يمتثلون إلّا في ظروف خاصة ، كاليسر في الرزق ، أو كثرة الرفاه ،
فهل هو واجب على الله سبحانه ؟ .
الظاهر لا ، إلا من باب الجود والتفضل .
وبذلك يعلم أن اللطف المقرب إذا كان مؤثراً في رغبة الأكثرية بالطاعة
وترك المعصية يجب من باب الحكمة .
وأما اذا كان مؤثراً في آحادهم المعدودين ، فالقيام به من باب الفضل
والكرم .
وبذلك تقف على مدى صحة ما استدل به بعضهم على اللطف في
المقام ، أو سقمه .
استدل القاضي عبد الجبار على وجوب اللطف بقوله : « إنه تعالى كلّف
المكلّف ، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب ، وعلم أن في مقدوره ما
لو فعل به لاختار عنده الواجب ، واجتنب القبيح ، فلا بد من أن يفعل به ذلك
الفعل وإلا عاد بالنقض على غرضه ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد
من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه ، وعلم من حاله أنه لا يجيبه ،
إلا اذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره ، فإنه يجب عليه أن يبعث ، حتى
إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه . وكذلك ها هنا » (1) .
وقال العلامة الحلي : « إن المكلِّف ( بالكسر ) إذا علم أن المكلَّف لا
يطيع إلا باللطف ، فلو كلفه من دونه كان ناقضاً لغرضه ، كمن دعا غيره إلى
طعام ، وهو يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعاً من التأدّب ، فإن لم يفعل
الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه ، فوجوب اللطف يستلزم
تحصيل الغرض » (2) .
__________________
(1) شرح الاصول الخمسة ، ص 521 .
(2) كشف المراد ، الفصل الثاني ، المسألة الثانية عشرة ، ص 325 ، ط قم 1407 .

وقال الفاضل المقداد : « إنا بيَّنّا أنه تعالى مريد للطاعة وكاره للمعصية ،
فإذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة ، أو لا يترك المعصية ، أو لا يكون أقرب
الى ذلك إلا عند فعل يفعله به ، وذلك الفعل ليس فيه مشقة ولا غضاضة ، فإنه
يجب في حكمته أن يفعله ، إذا لو لم يفعله لكشف ذلك : إما عن عدم إرادته
لذلك الفعل ، وهو باطل لما تقدم ، أو عن نقض غرضه ، إذا كان مريداً له ،
لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه .
ويجري ذلك في الشاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة ،
وعرف أو غلب على ظنه أن ذلك الشخص لا يحضر إلا مع فعل يفعله ، من
إرسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة أو غير ذلك من الأفعال ، ولا غضاضة عليه
في فعل ذلك فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه .
ونقض الغرض باطل ، لأنه نقض ، والنقص عليه تعالى محال ، ولأن
العقلاء يعدونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة » (1) .
وهذه البيانات تدل على أن اللطف واجب من باب الحكمة .
هذا كلام القائلين بوجوب اللطف ، وهو على اطلاقه غير تام ، بل الحق
هو التفصيل بين ما يكون مؤثراً في تحقق التكليف بشكل عام بين المكلفين ،
فيجب من باب الحكمة ، والا فيرجع إلى جوده وتفضله من دون إيجاب عليه .
واستدل القائل بعدم وجوبه بقوله : « لو وجب اللطف على الله تعالى لكان
لا يوجد في العالم عاصٍ ، لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من
الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح ، فلما وجدنا في
المكلفين من أطاع وفيهم من عصى ، تبين أن الألطاف غير واجبة على الله
تعالى » (2) .
يلاحظ عليه : أنَّ كون العاصي دليلاً على عدم وجوبه ، يعرب عن أنّ
__________________
(1) ارشاد الطالبين ، ص 277 ـ 278 .
(2) شرح الاصول الخمسة ، ص 523 .

المستدل لم يقف على حقيقة اللطف ، ولذلك استدل بوجود العصاة على عدم
وجوبه ، فهو تصور أن اللطف عبارة عما لا يتخلف معه المكلف عن الإتيان
بالطاعة وترك المعصية ، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوده ،
وعدم وجوده دليلاً على عدم وجوبه ، مع أنك قد عرفت في أدلة القائلين به بأنه ما
يكون مقرباً إلى الطاعة ومبعّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حد الإلجاء .
يقول القاضي عبد الجبار بأن العباد على قسمين ، فإن فيهم من يعلم الله
تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنب
القبيح ، أو يكون اقرب الى ذلك . وفيهم من هو خلافه حتى إنْ فَعَلَ به كُلَّ ما
فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً (1) .
ويؤيده ما ورد في الذكر الحكيم من أن هناك اُناساً لا يؤمنون ابداً ولو
جاءهم نبيهم بكل أنواع الآيات والمعاجز .
قال سبحانه : ( وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ) (2) .
وقال سبحانه : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا
قِبْلَتَكَ ) (3) .
وفي الختام ، نقول : إن اللطف سواء أكان المراد منه اللطف المحصِّل
أو اللطف المقرّب ، من شؤون الحكمة ، فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن
اللغو العبث ، لا مناص له عن الإعتقاد بهذه القاعدة ، غير أنّ القول بوجوب
اللطف في المحصّل أوضح من القول به في المقرّب .
ولكن يظهر من الشيخ المفيد أن وجوب اللطف من باب الجود والكرم ،
قال : « ان ما اوجبه أصحاب اللطف من اللطف ، إنما وجب من جهة الجود
__________________
(1) شرح الاصول الخمسة ، ص 520 .
(2) سورة يونس : الآية 101 .
(3) سورة البقرة : الآية 145 .

والكرم ، لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه ، وأنه لو لم يفعل لكان ظالماً » (1)
يلاحظ عليه : إن إيجابه من باب الجود والكرم يختص باللطف الراجع
إلى آحاد المكلفين ، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة أو غرض التكليف
عند الأكثرية الساحقة من المكلفين ، كما عرفت .
ثم إن المراد من وجوب اللطف على الله سبحانه ، ليس ما يتبادر إلى
اذهان السطحيين من الناس ، من حاكمية العباد على الله ، مع أن له الحكم
والفصل ، بل المراد إستكشاف الوجوب من أوصافه تعالى ، فإن أفعاله مظاهر
لأوصافه تعالى ، كما أن أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى .
فإذا علمنا ـ بدليل عقلي قاطع ـ أنه تعالى حكيم ، استتبع ذلك واستلزم
العلم بأنه لطيف بعباده ، حيثما يبطل غرض الخلقة أو غرض التكليف ، لو لا
اللطف .
  


__________________
(1) اوائل المقالات ، ص 25 ـ 26
مقتبس من كتاب : الإلهيّات / المجلّد :3 / الصفحة :22 ـ 58