لماذا حُرمت الأُمة من النبوة التبليغية ؟

طباعة

لماذا حُرمت الأُمة من النبوة التبليغية ؟
إنّ النبي إذا بُعث بشريعة جديدة ، وكتابٍ جديد ، تكون نبوَّته تشريعية ،
وإذا بعث لغايةِ دعم أحكام شريعة سالفة ، فالنبوة ترويجية أو تبليغية . والقسم
الأول من الأنبياء منحصر في خمسة ، ذكرت أسماؤهم في القرآن (1) . وأمّا القسم
الثاني ، فيشكّله أكثرية الأنبياء ، لأنّهم بُعثوا لترويج الدين النازل على أحد
أُولئك ، فكانت نبوتهم تبليغية (2) .
فعندئذٍ ، يُطرح السؤال التالي : إنّ نبيَّ الإسلام جاء بأكمل الشرائع
وأتمّها ، ولذلك أُوصد باب النبوة التشريعية ، ولكن لماذا أُوصد باب النبوة
التبليغية التي منحها الله للأُمم السالفة ، فإنّ الشريعة مهما بلغت من الكمال
والتمام ، لا تستغني عمن يقوم بنشرها وتجديدها ، لكي لا تندرس ، حتى يتم
إبلاغها من السلف إلى الخلف بأُسلوب صحيح . فلِمَ أُوصد هذا الباب ، بعدما
كان مفتوحاً في وجه الأُمم الماضية ؟ .
الجواب :
إنّ انفتاح باب النبوة التبليغية في وجه الأُمم السالفة وإيصاده بعد
__________________
(1) سورة الشورى : الآية 13 .
(2) الكلمة الدارجة لمعنى التبليغ في البيئات العربية ، هي كلمة التشريع ، ولكن كلمة التبليغ أولى
وأليق ، فهي مقتبسة من القرآن ، ومدلولها اللغوي منطبق على المقصود .

نبي الإسلام ، لا يعني أنّ الأمم السالفة تفرّدت بها لفضيلة استحقتها دون الخلف
الصالح ، أو أنّ الأمّة الإسلامية حرمت لكونها أقلّ شأناً من الأُمم الخالية ، بل
الوجه هو حاجة الأُمم السالفة إليها وغناء الأُمة الإسلامية عنها ، لأنّ المجتمعات
تتفاوت إدراكاً ورشداً فربّ مجتمع يكون في أخلاقه وشعوره كالفرد القاصر ، لا
يقدر على أن يحتفظ بالتراث الذي وصل إليه ، بل يضيعه ، كالطفل الذي يمزق
كتابه وقرطاسه ، غير شاعر بقيمتهما .
ومجتمع آخر بلغ من القيم ، الفكرية والأخلاقية والإجتماعية ، شأواً
بعيداً ، فيحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه ، بل يستثمره إستثماراً جيداً ، وهو
عند ذاك غني عن كل مروّج يروّجُ دينه ، أو مُبَلِّغ يذكِّره بمنْسيَه ، أَو مُرَبٍّ يرشده
إلى القيم الأخلاقية ، أو معلّم يعلّمه معالم دينه ، إلى غير ذلك من الشؤون .
فأفراد الأُمم السالفة كانوا كالقُصَر ، غير بالغين في العقلية الإجتماعية ، فما
كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم ، بل كانوا يلعبون به لعب
الصبي في الكتاتيب ، بكتابه أو قرطاسه ، فيخرقه ويمزقه ولا يبقي شيئاً ينتفع منه
إلى آخر العام الدراسي . ولهذا كان على المولى سبحانه أن يبعث في كل جيل منهم نبيّاً
ليذكّرهم بدينهم ، ويجدد به شريعة من قبله ، ويزيل ما علاها من شوائب
التحريف .
وأمّا المجتمع البشري بعد بعثه الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
فقد بلغ من المعرفة والإدراك والتفتّح العقلي شأواً ، يتمكن معه من حفظ تراث
نبيّه وصيانة كتابه عن طوارق التحريف والضياع ، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني
إلى حدّ تأسيس علوم عديدة لفهم كتابه . فازدهرت ، تحت راية القرآن ، ضروب
من العلوم والفنون . فلأجل ذلك الرشد الفكري ، جعلت وظيفة التبليغ
والترويج وصيانة التراث على كاهل نفس الأُمّة ، حتى تبوّأَت وظيفة الرسل في
التربية والتبليغ ، واستغنت عن بعث نبي مجدد .
ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (1) .
__________________
(1) سورة آل عمران : الآية 110 .

وقال سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (1) .
وقد ظهرت طلائع هذا الإعتماد على الأُمّة من قوله سبحانه : ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن
كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ ) (2) .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « إذا ظهرت البِدَعْ ، فليُظْهر العالِمُ
عِلْمَه ، فمن لم يفعل ، فعليه لعنة الله » (3) .
وقال الإمام الباقر : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيلُ الأنبياء ،
ومنهاج الصلحاء ، وفريضة تقام بها الفرائض ، وتؤمَن المذاهب ، وتَحِلُّ
المكاسب ، وتُرَدُّ المَظالم ، وتَعْمُر الأرض ، وينتصف من الأعداء ، ويستقيم
الأمر » (4) .
وما ذكرنا من الجواب يلائم أُصول أهل السنة في دور الأُمة وعلمائها في حفظ
الشريعة . ولكن هناك جواب آخر أصحّ وأجمع .
وحاصله : إنّ أئمّة الشيعة بحكم حديث الثَّقلين ، يحملون علم النبي في
المجالات المختلفة سواء في مجال المعارف والعقائد ، أو في مجال الأحكام
والوظائف ، أو في مجال الإحتجاج والمناظرة ، أو في مجال الأجوبة على الأسئلة
المستجدة ، كل ذلك بتعليم من الله سبحانه ، من دون أَن يكونوا أنبياء يوحى
إليهم .
فلأجل ذلك ، كل إمام في عصره ، يقوم بمهمة التبليغ والترويج ، ويجلي
الصدأ عن وجه الدين ، ويردُّ شبهات المبطلين ، فاستغنت بهم الأُمّة عن كل نبوة
__________________
(1) سورة آل عمران : الآية 104 .
(2) سورة التوبة : الآية 122 .
(3) وسائل الشيعة ، كتاب الأمر بالمعروف ، الباب 40 ، الحديث 1 .
(4) وسائل الشيعة ، ج 11 ، كتاب الأمر بالمعروف ، الباب الأول ، الحديث 6 .

ترويجية ، والتاريخ يشهد بأنّ كل إمام من أئمة الشيعة الإثني عشرية ، قام بأعباء
مهمة التبليغ ، وإيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الأمة ، ولقد عانوا في ذلك
من المشاق ، ولاقوا من الأهوال ما لاقاه جدّهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله
وسلم (1) .
  


__________________
(1) بما أنّ الأبحاث المعقودة في فصل الإمامة والخلافة تتكفل بإثبات ذلك ، اكتفينا بهذا المقدار ،
وسيوافيك التفصيل فيه .
مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 505 ـ 508