كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكل عصرٍ اقتضاءً خاصّاً ؟

طباعة

كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكل عصرٍ اقتضاءً خاصّاً ؟ (1)
التطور الإجتماعي يستلزم تطوراً في قوانين المجتمع ، والقانون الموضوع في
ظرف خاص ، ربما يكون مضرّاً أو غير مفيد في ظرف آخر ، ومقتضيات الزَّمان
( القوانين ) ، تختلف باختلاف ألوان الحياة والظروف الطارئة على المجتمع ، فما
صحّ بالأمس ، لا يصحّ اليوم ، وما يصحّ اليوم لا يصحّ غداً . وعلى هذا فلو
كانت الحياة مستمرة على وتيرة واحدة ، لساغ للتشريع الإلهي المحمدي أن يسود
في جميع الظروف والأحوال إلى يوم القيامة ، لكنها لما كانت متغيرة ومتحوّلة ، فلا
يصحّ للشريعة الإلهيّة السيادة على المجتمعات دائماً ، فكيف يصحّ القول بأنّ
شريعة الإسلام شريعة خالدة ، إذ لا يُعْنى من خاتمية النبوة ، إلّا خاتمية الشريعة
وبقاؤها إلى الأبد .
الجواب :
إنّ هذه الشبهة من أَهمّ الشبهات في موضوع الخاتمية ، ومنشؤها تخيل أنّ
__________________
(1) الفرق بين هذا السؤال وسابقه واضح ، فإنّ الأول ، يعتمد على اصل فلسفي وهو شمول التحول
لكلّ ما في الكون ، وانطلاقاً من هذا الأصل لا يمكن الإعتراف بثبات أصل وقانون . والسؤال الثاني
سؤال اجتماعي ، وهو لزوم اختلاف القوانين حسب اختلاف المقتضيات ، والإعتراف بهذا لا
يجتمع مع القول بثبوت سنن الإسلام وقوانينه .

التحوّل يدبّ في جميع شؤون الإنسان ، وأمّا إذا قلنا بأنّ للإنسان ـ مع قطع النظر
عمّا يحيط به من الظروف المختلفة ـ روحيات وغرائز لا تتغير أبداً ، ولا تَنْفَكُّ
عنه ، وهي في الحقيقة مشخصات تكوينية له ، بها يتميز عن سائر الحيوانات ،
فالشبهة مندفعة من رأس ، فإنّ القوانين والسنن الراجعة إليها ، تكون ثابتة
خالدة ، حسب خلودها ، إذا كانت موافقة لما تقتضيه .
توضيحه : إنّ السائل قد قصر النظر على ما يحيط بالإنسان من الظروف
المختلفة المتبدلة ، التي هي نتيجة تكامل الحضارات والمجتمعات ، وذهل عن أنّ
للإنسان غرائز ثابتة وروحيات خالدة ، لا تستغني عن قانون ينظّم اتجاهاتها
وتشريعٌ يعدِّلها ، ويصونها عن الإفراط والتفريط ، فبما أنّ هذه الغرائز
والفطريات ، لا تمسّها يد التغيّر ، فالتشريعات المطابقة لمقتضى الفطرة ، والصالحة
لهدايتها ، تخلد بخلودها وتثبت بثبوتها ، فلو كان السائل واقفاً على أنّ الإنسان
مركب من مشخصات تكوينية أبدية ، ومشخصات طارئة متغيرة ، لوقف على أنّ
القوانين الراجعة إلى هداية الفطرة وتعديلها ، تَثْبُت على جبين الدَّهر ، ما دام
الإنسان إنساناً ، وأمّا القوانين الراجعة إلى المشخصات الطارئة المتحولة ، فلا
تصلح للخلود والثبات . وإليك فيما يلي أمثلة لما ذكرناه .
1 ـ الروابط العائلية ، كرابطة الولد بوالديه ، والأخ بأخيه ، هي روابط
طبيعية ، لوجود الوحدة الروحية ، فالسنن الراجعة إلى تنظيم هذه الروابط ، من
التوارث أولاً ، ولزوم التكريم والصِّلة ثانياً ، من الأحكام التي لا تتغيّر بتغيّر
الزمان ، فلا تجد مجتمعاً ينادي بقطع التوارث بين الوالد والولد ، أو قطع الحضانة
بين الأُم وولدها ، أو ما شابه ذلك .
2 ـ إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس ، فهما موجودان
بشريان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً ، على رغم كل الدعايات السخيفة التي
تريد إزالة كل تفاوت بينهما . ولأجل ذلك إختلفت أحكام كل منهما عن الآخر
اختلافاً يقتضيه طبع كل منهما . فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً
لطبعهما ، ظلّ ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان لثبات الموضوع المقتضي لثبات محموله .
3 ـ الإنسان بما هو موجود إجتماعي ، يحتاج لحفظ حياته وبقاء نسله ، إلى


العيش الإجتماعي ، والحياة العائلية ، وهذان الأمران من أُسس حياة الإنسان ، ما
برحت تقوم عليهما ـ في جمله ما تقوم عليه ـ منذ تكون الإنسان .
ومن المعلوم أنّ الحياة الإجتماعية والعائلية ، ليستا غنيتين عن التشريع
لتنظيمهما ، فلو كان التشريع حافظاً لحقوق الأفراد ، خالياً عن الظلم والجور ،
مبنياً على مِلاكات واقعية ، يدوم هذا القانون ، ما دام مرتكزاً على العدل
والصلاح .
4 ـ التشريع الإسلامي حريص جداً على صيانة الأخلاق وحفظها من
الضياع والإنحلال ، ومما لا يشك فيه أنّ الخمر والميسر ، والإباحية الجنسية ،
ضربات تقصم ظَهْر الأخلاق وتقضي عليها ، فالخمر يزيل العقل ، والميسر يُنبت
العداوة في المجتمع ، والإباحية الجنسية تُفْسد الحرث والنسل ، فالأحكام الراجعة
إليها ثابتة دائماً .
وحصيلة البحث أنّ تطور الحياة الإجتماعية في بعض نواحيها ، لا يوجب أن
يتغير النظام السائد على مقتضى الفطرة ولا أن تتغير الأحكام الموضوعة على طبق
ملاكات واقعية من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها ، فلو تغيّر لون الحياة في
وسائل الركوب ، والنقل ، ومعدات التكتيك الحربي ، و . . ، فإنّ ذلك لا يقتضي
أن تنسخ أحكام الفطرة أو تنسخ حرمة الظلم ، ووجوب العدل ، ولزوم أداء
الأمانة ، والوفاء بالعهود والأَيْمان ، إلى غير ذلك من الأحكام الراجعة إلى
التحسين والتقبيح العقليين ، التي يستقل العقل ببقاء أحكامهما ما دام الموضوع
موضوعاً .
أجل ، إنّ تقلب الأحوال ، وتحوّل الأوضاع الإجتماعية يتطلب تحولاً في
السنن والأنظمة ، وتبدّلاً في الأحكام والقوانين ، غير أنّه لا يتطلب تحوّلاً فيما يمسّ
واقعية الإنسان الثابتة في جميع الظروف ، كما لا يتطلب تحوّلاً في القوانين الكونية
التي تدير الكون بأُصولها الثابتة ، فلا تتغير النسب الرياضية ، ولا القواعد
الهندسية ، وإن تطورت الأوضاع وتحولت (1) .
__________________
(1) قد مضى عند البحث في الشاهد الخامس من شواهد إعجاز القرآن الكريم ، وهو اتقان التشريع
والتقنين ، ما يفيدك ، فراجع .

مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 516 ـ 518