الوضوء في العهد النبوي

طباعة

الوضوء في العهد النبوي

ممّا لا شكّ ولا ريب فيه أنّ المسلمين في الصدر الأوّل كانوا يتوضّؤون كما كان النبي (ص) يتوضّأ بكيفيّة واحدة ، ولم يقع بينهم أيّ اختلاف يذكر ، وأنّه لو وجد لوصل إلينا ما يشير إليه ، ولتناقلته كتب الحديث والسير والأخبار ، إذ أن المشرع كان بين ظهراني الأمّة ، وهو بصدد التعليم والإرشاد ـ لأمّته الحديثة العهد بالإسلام ـ فمن البعيد حدوث الخلاف بينهم مع كون الجميع يرجعون إلى شخص واحد للأخذ منه وقد قال سبحانه : فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ ، أضف إلى ذلك مشاهدتهم لفعله (ص) الذي هو السنّة والرافع لكلّ لبس وإبهام قد يخالطان البعض ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى : إن الخلاف في كثير من الأمور بين الأمّة إنما هو وليد العصور المتأخّرة التي جاءت بعد عهده الشريف.

نعم ، قد يقال : إن سبب اختلاف الأمّة في الوضوء وجود تشريعين ، كان النبي (ص) يفعلهما على نحو التخيير ، دون الإشارة إلى ذلك !! أيّ أنّه (ص) : كان تارة يتوضّأ حسبما رواه عثمان (1) وعبد الله بن زيد بن عاصم (2) والربيع بنت المعوذ (3) وعبد الله بن عمرو بن العاص (4) عنه (ص) ، وأخرى مثلما نقله علي ابن أبي طالب (5) ورفاعة بن رافع (6) وأوس بن أبي أوس (7) وعباد بن تميم بن عاصم (8) و ... عنه (ص).

فلو ثبت ذلك ... لصحّت كلتا الكيفيّتين ، ولتخيّر المكلّف في الأخذ بأيّهما شاء مع ترك الآخر ، فتكون حاله كبقيّة الأحكام التخييريّة.

لكن هذا الاحتمال في غاية البعد ، لأنّنا نعلم بأن الحكم الشرعي ـ سواء التعييني أو التخييري ـ إنّما يأخذ مشروعيّته من الكتاب والسنّة ، فكفّارة اليمين ـ مثلاً ـ دلّ عليها دليل من القرآن وهو قوله تعالى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ (9) فعرفنا على ضوء الآية بأن الحكم في كفّارة اليمين إمّا إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة.

وكفّارة صوم شهر رمضان ، قد دلّ عليها حديث الأعرابي (10) ، ورواية أبي هريرة (11) ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى غيرهما من الأحكام التخييريّة ...

أمّا فيما نحن فيه ، فلا دلالة قرآنيّة ، ولا نصّ من السنّة النبويّة ، ولا نقل من صحابي بأنّه (ص) فعلها على نحو التخيير ، وليس بأيدينا ولا رواية واحدة ـ وإن كانت من ضعاف المرويّات ـ مرويّة عن أيّ من الفريقين تدلّ على التخيير ، بل الموجود هو التأكيد على صدور الفعل الواحد عنه (ص) وقد اختلفوا في ذلك ، فذهب بعض إلى أنه (ص) غسل رجله ، وذهب البعض الآخر إلى أنّه (ص) مسح رجله ، واستنصر كلّ منهما بالقرآن والسنّة على ما ذهب إليه (12).

وإذا ما تتبع الباحث أقوال علماء الإسلام فسوف يقف على أنّ الوضوء عندهم تعييني لا تخييري ، فغالب أتباع المذاهب الأربعة يقولون بلزوم الغسل في الأرجل لا غير ، أمّا الشيعة الإماميّة فإنّهم لا يقولون إلّا بالمسح وحده ، وإن كلا منهما ينسب قوله ـ مضافاً إلى دعوى استظهاره من الكتاب ـ إلى فعل رسول الله (ص) ، وهو ما جاء في صحاح مرويّاتهم.

أما القائلون بالجمع (13) أو التخيير (14) ، فإنّهم إنّما يقولون بذلك لا على أساس أن النبي (ص) جمع أو خير ، بل إن القائل بالجمع إنّما يقول به لكونه مطابقاً للاحتياط ، وأنّه طريق النجاة ، إذ الثابت عنده أن الكتاب ورد بالمسح ، وأنّ السنّة وردت بالغسل ، فأوجبوا العمل بهما معاً رعاية للاحتياط ، لا على أساس أن النبي (ص) جمع بينهما ، وأن ذلك هو المروي عنه (ص).

وكذا الحال بالنسبة للقائل بالتخيير ، فإنّه إنّما ذهب إلى ذلك لتكافؤ الخبر عنده في الفعلين « المسح والغسل » ، فالمكلّف لو أتى بأيّهما كان معذوراً ، إذ لم يرجح عنده أحد الفعلين حتّى يلزمه الأخذ به ، وعليه فدعوى التخيير مجرّد رأي جماعة قليلة من فقهائنا السابقين ، فلا يمكن به نقض الإجماع المركب بين المسلمين على أنّ الوضوء إمّا مسحي أو غسلي ، بل هناك أدلّة ستقف عليها لاحقاً ترجح أحد الطرفين وبها يثبت أن لا معنى للتخيير !

الهوامش

1. سنن النسائي 1 : 80 ، صحيح مسلم 1 : 204 / 3 ، سنن البيهقي 1 : 53 ، 68.

2. سنن النسائي 1 : 71 ، صحيح مسلم 1 : 210 / 18 ، سنن البيهقي 1 : 50 ، 59.

3. سنن الدارقطني 1 : 96 / 5 ، سنن البيهقي 1 : 64.

4. سنن البيهقي 1 : 68.

5. شرح معاني الآثار 1 : 34 / 156.

6. سنن ابن ماجة 1 : 156 / 460 ، سنن البيهقي 1 : 44 ، شرح معاني الآثار 1 : 35 / 161.

7. كنز العمال 9 : 476 / 27042.

8. كنز العمال 9 : 429 / 26822 ، شرح معاني الآثار 1 : 35 / 162.

9. سورة المائدة : ٨٩.

10. موطأ مالك 1 : 297 / 29.

11. موطأ مالك 1 : 296 / 28 ، صحيح البخاري 3 : 41 ، صحيح مسلم 2 : 781 / 81.

12. ستقف عزيزي القارئ على حقيقة وضوء رسول الله (ص) في الفصل الأول من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى.

13. كالناصر للحقّ من أئمّة الزيديّة ، وداود بن علي الظاهري وغيرهما.

14. كالحسن البصري ، وأبي علي الجبائي ، وابن جرير الطبري وغيرهم.

مقتبس من كتاب : [ وضوء النبي (ص) ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 30 ـ 32