الوضوء في العهد العباسي الأوّل ـ 3

طباعة

العهد العباسي الأوّل « 227 ـ 132 هـ »

الوضوء الثنائي المسحي في العصر العباسي

بعد أن تكونت لدينا صورة عن المذاهب الأربعة ، ووقفنا على أهداف الحكّام من احتواء الفقهاء ، وبينا جذور الوضوء الثلاثي وكيفيّة تأثّر المذاهب الأربعة به في العهد العبّاسي .. لا بدّ من ملاحظة السير التاريخي لمسألة الوضوء وكيفيّته عند نهج « التعبّد المحض » في هذا العصر ، والمتمثّل بأهل البيت (ع).

وإذا أخذنا بعين الاعتبار معاصرة كلّ من الإمام أبي حنيفة ومالك للدولة الأمويّة وتتلمذهم فيها ، فإن الإمام الشافعي وأحمد كانا صورتين مكررتين لفقه مالك وأبي حنيفة في العهد العبّاسي ، وإن كان لكلّ منهما أصول يختصّ بها.

إنّه لا بد هنا من معرفة رأي أئمّة أهل البيت وكيفيّة امتداد وضوئهم في العصر العبّاسي.

نبدأ بذكر وضوء محمّد بن علي بن الحسين « الباقر » والذي صدر في العهد الأموي ، ثمّ نردفه بوضوء الأئمّة من ولده مبينين سرّ تأكيدهم على بيان بعض الجزئيّات في الوضوء ، علماً أنّ الباقر ـ كما قلنا سابقاً ـ كان لا يتّقي في الوضوء ، إذ أنّ الوضوء الذي يصفه لا يمكن الخدش فيه ، فتراه يؤكّد على المرّة والمرّتين ، وهو ثابت في الأحاديث النبويّة المتواتر صدورها في الصحاح والمسانيد عنه (ص) ، وأنّ رسول الله (ص) قد توضّأهما. أمّا تأكيد عثمان على الغسل الثالث فمختلف فيه ، وعليه فإن ما طرحه الباقر متّفق عليه بين المسلمين ولا اختلاف فيه.

والآن لنسرد بعض الروايات المرويّة عنه :

1 ـ قال عن زرارة : قال أبو جعفر ـ أيّ الباقر ـ : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله (ص) ؟ »

قلنا : بلى ، فدعا بقعب فيه شيء من ماء ، فوضعه بين يديه ، ثمّ حسر عن ذراعيه ، ثمّ غمس فيه كفّه اليمنى ، ثمّ قال : « هكذا ، إذا كانت الكفّ طاهرة » ، ثمّ غرف بملئها ماء ، فوضعه على جبينه ، ثمّ قال : « بسم الله » ، وسدله على أطراف لحيته ، ثمّ أمر يده على وجهه وظاهر جبينيه مرّة واحدة. ثمّ غمس يده اليسرى ، فغرف بها فملأها ، ثمّ وضعه على مرفقه اليمنى ، فأمر كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه. ثمّ غرف بيمينه ملأها ، فوضعه على مرفقه اليسرى ، فأمر كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ومسح مقدّم رأسه وظهر قدميه ببلة يساره وبقيّة بلة يمناه.

قال : وقال أبو جعفر : « إنّ الله وتر ، يحبّ الوتر ، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه ، واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك ، وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى ».

قال زرارة : قال أبو جعفر : « سأل رجل أمير المؤمنين عن وضوء رسول الله ، فحكى له مثل ذلك » (1).

2 ـ وجاء عن زرارة وبكير أنّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول الله (ص) ، فدعا بطشت أو تور فيه ماء ، فغمس يده اليمنى ، فغرف بها غرفة ، فصبّها على وجهه ، فغسل بها وجهه ، ثمّ غمس كفّه اليسرى ، فغرف بها غرفة ، فأفرغ على ذراعه اليمنى ، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ ، لا يردّها إلى المرفق ، ثمّ غمس كفّه اليمنى ، فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق ، وصنع بها مثل ما صنع باليمنى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماء جديداً ، ثمّ قال : « ولا يدخل أصابعه تحت الشراك » ، قال : ثمّ قال : « إن الله تعالى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) فليس له أن يدع شيئاً من وجهه إلّا غسله ، وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين ، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئاً إلّا غسله ، لأنّ الله تعالى يقول : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) ، ثمّ قال : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع ، فقد أجزأه ».

قال : فقلنا : أين الكعبان ؟

قال : « ها هنا » ، يعني المفصل دون عظم الساق.

فقلنا : هذا ما هو ؟

فقال : « هذا من عظم الساق ، والكعب أسفل من ذلك » (2).

وإن في جملة « لا يردها إلى المرافق » و « ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه لم يحدث لهما ماء جديداً » إشارة إلى فعل بعض الناس في ردّ الماء إلى المرفق وفي المسح بماء جديد ، وهو ربّما يعدونه من سنّة رسول الله ، فالراوي أراد أن يؤكّد على أن ما شاهده من وضوء الباقر ليس فيه شيء من هذا الذي يقال.

3 ـ وعن بكير بن أعين ، عن أبي جعفر ، أنّه قال : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله (ص) ؟ » ، فأخذ بكفّه اليمنى كفّاً من ماء فغسل به وجهه ، ثمّ أخذ بيده اليسرى كفّاً فغسل به يده اليمنى ، ثمّ أخذ بيده اليمنى كفّاً من ماء فغسل به يده اليسرى ، ثمّ مسح بفضل يديه رأسه ورجليه (3).

4 ـ وعن ميسر ، عن أبي جعفر ، قال : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ؟ » ، ثمّ أخذ كفّاً من ماء ، فصبّها على وجهه ، ثمّ أخذ كفّاً فصبّها على ذراعه ، ثمّ أخذ كفّاً آخر فصبّها على ذراعه الأخرى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه ، ثمّ وضع يده على ظهر القدم ، ثمّ قال : « هذا هو الكعب ».

قال : وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب ، ثمّ قال : « إنّ هذا هو الظنبوب » ، ـ وفي القاموس : الظنبوب : حرف الساق أو عظمه (4) ـ.

من هذا النصّ وما مرّ في رقم « 2 » نعرف أن الاختلاف في مفهوم الكعب والمناقشات فيه قد بدأت ملامحه في عهد الإمام الباقر.

5 ـ عن ابن أذينة ، عن بكير وزرارة بن أعين ، أنّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول الله (ص) ؟ فدعا بطشت أو بتور فيه ماء ، فغسل كفّيه ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها ، واستعان بيده اليسرى بكفّه على غسل وجهه ، ثمّ غمس كفه اليمنى في الماء ، فاغترف بها من الماء ، فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الأصابع لا يردّ الماء إلى المرفقين ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء ، فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكف لا يرد الماء إلى المرفق ، كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ، لم يجدد ماء (5).

في هذا الحديث وما في رقم « 2 » دلالة على أنّ بعض الناس كانوا يردّون الماء عند غسلهم إلى المرافق ويجدّدون الماء في المسح ، فالراوي أراد التأكيد على أن الباقر لم يرد الماء إلى المرفقين في وضوئه ولم يجدّد ماء عند مسحه !

6 ـ عن جميل بن دراج ، عن زرارة بن أعين ، قال : حكى لنا أبو جعفر وضوء رسول الله (ص) ، فدعا بقدح من ماء ، فأدخل يده اليمنى فأخذ كفّاً من ماء ، فأسدلها على وجهه من أعلى الوجه ، ثمّ مسح بيده الجانبين جميعاً ، ثمّ أعاد اليسرى في الإناء ، فأسدلها على اليمنى ، ثمّ مسح جوانبها ، ثمّ أعاد اليمنى في الإناء ، ثمّ صبّها على اليسرى ، فصنع بها كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح ببلة ما بقي في يديه رأسه ورجليه ، ولم يعدهما في الإناء (6).

7 ـ عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر ، أنّه قال : « يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده ، والماء أوسع ، ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ؟ »

قلت : بلى ، قال : فأدخل يده في الإناء ، ولم يغسل يده ، فأخذ كفّاً من ماء ، فصبّه على وجهه ، ثمّ مسح جانبيه حتّى مسحه كلّه ، ثمّ أخذ كفّاً آخر بيمينه ، فصبّه على يساره ، ثمّ غسل به ذراعه الأيمن ، ثمّ أخذ كفّاً آخر ، فغسل ذراعه الأيسر ، ثمّ مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه (7).

وعن أبان وجميل ، عن زرارة ، قال : حكى لنا أبو جعفر وضوء رسول الله ، فدعا بقدح ، فأخذ كفّاً من ماء فأسدله على وجهه ، ثمّ مسح وجهه من الجانبين جميعاً ، ثمّ أعاد يده اليسرى في الإناء ، فأسدلها على يده اليمنى ، ثمّ مسح جوانبها ، ثمّ أعاد اليمنى في الإناء ، فصبّها على اليسرى ، ثمّ صنع بها كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ، ولم يعدهما في الإناء (8).

8 ـ عن داود بن فرقد ، قال : سمعت أبا عبد الله يقول : « إن أبي كان يقول : إن للوضوء حدا ، من تعدّاه لم يؤجر. وكان أبي يقول : إنّما يتلدد ، فقال له رجل : وما حدّه ؟ قال : تغسل وجهك ويديك ، وتمسح رأسك ورجليك » (9).

وقد عرف المجلسي معنى « يتلدد » بمن يتجاوز عن حدّ الوضوء ويتكلّف مخاصمة الله في أحكامه ، من اللدد وهو الخصومة ونقل ما قاله ابن الأثير في النهاية (10).

وعلّق الحرّ العاملي على الخبر السابق بقوله : « والمراد أن من تعدّى حدّ الوضوء فإنّما يوقع نفسه في التحيّر والتردّد والتعب بغير ثواب ، لأنّه لم يؤمر بأكثر من مسمّى الغسل والمسح » (11).

وقد روينا سابقاً عن الإمام الباقر والصادق في معنى التعدّي ، وأن الباقر لما سئل عن معنى كلام الإمام أمير المؤمنين « هذا وضوء من لم يحدث » : فأيّ حدث أحدث من البول ؟

فقال : « إنّما يعني بذلك التعدّي في الوضوء ، أن يزيد على حدّ الوضوء » (12).

وأخرج الكليني بسنده إلى حماد بن عثمان ، قال : كنت قاعداً عند أبي عبد الله ـ أيّ الصادق ـ فدعا بماء فملأ به كفّه فعم به وجهه ، ثمّ ملأ كفّه فعم به يده اليمنى ، ثمّ ملأ كفّه فعم به يده اليسرى ، ثمّ مسح على رأسه ورجليه ، وقال : « هذا وضوء من لم يحدث » يعني به التعدّي في الوضوء (13).

وجاء عنه (ع) : « إنما الوضوء حدّ من حدود الله ، ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ، وإنّ المؤمن لا ينجسه شيء ، إنّما يكفيه مثل الدهن » (14).

فالإمام الباقر بقوله هذا الكلام أراد التعريض بالذين تعمّقوا ، من عند أنفسهم ، في الدين وأدخلوا فيه ما ليس منه وأبدلوا المسح بالغسل ، وزادوا في عدد الغسلات .. كلّ ذلك اعتقاداً منهم أنّه الإسباغ وإتمام للوضوء !

فالباقر بقوله : « يكفيه مثل الدهن » أراد الإشارة إلى عدم ضرورة تعدّد الغسلات ، وأنّ طهارة الوضوء ليست حقيقيّة ، بل هي طهارة حكميّة ، فالامتثال يتحقّق بإتيانه كالدهن ، إذ المؤمن لا ينجسه شيء.

وتلخص ممّا سبق :

1 ـ أنّ الإمام الباقر لا يرتضي الغسل الثالث في الوضوء ، ويرى الإتيان به مرّة تسقط ما في ذمّة المكلّف ، وقد توضّأها رسول الله (ص). أمّا الغسلة الثانية فهي سنّته (ص) وعليها يعطى الأجر مرّتين ، إذ أن طهارة الوضوء ليست حقيقيّة ـ كرفع النجاسة ـ بل هي طهارة حكميّة يمكن تحقّقها والامتثال بالمرة ، إذ المؤمن لا ينجسه شيء ويكفي في طهارته من المقدار كالدهن !

2 ـ لزوم مسح الرأس والأرجل ببل يديه ، فإنّه ولما توضّأ قال : « هذا وضوء من لم يحدث » ويعني بالمحدث الذي تعدّى في الوضوء !

3 ـ غسل اليدين من المرفقين ، فلا يجوز عندهم ردّ الماء إلى المرافق بعد أن صبّ عليها.

4 ـ عدم جواز غسل الرأس بل لزوم مسح مقدّمه ، وإن مسح بشيء من رأسه أجزاه. وهناك اختلافات أخرى منها في حدّ الوجه ومنها ما يتعلّق بأمور أخرى نشرحها مفصّلاً تحت العنوان التالي :

خلافيّات الوضوء في العهد الأموي

فقد عرفنا ـ مضافاً إلى ما سبق ـ إن المسائل الخلافيّة الجديدة في الوضوء في العهد الأموي كانت كالآتي :

1 ـ اختلاف المسلمين في جواز ردّ الماء في غسل الذراعين ، فذهب بعضهم إلى جوازه ، وذهب غيرهم إلى عدم جوازه ، وأن الراوي بنقله الخبر رقم « 2 » و « 5 » أراد أن يشير إلى أن الإمام الباقر كان لا يرد الماء من رؤوس الأصابع إلى المرافق بعد صبّ الماء على المرافق ، مؤكّداً أن هذا كان فعل النبي وهو من جملة وضوئه.

2 ـ اختلافهم في جواز أخذ ماء جديد لمسح الرأس والرجلين ، فالراوي بنقله : « ثمّ مسح رأسه وقدميه ، ببلل كفّه ، لم يحدث لهما ماء جديداً » كما في الخبر « 2 » ، و « ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ، لم يجدد ماء » كما في الخبر « 5 » أراد الإشارة إلى أن المسح يمكن تحقّقه بدون وجود الماء ، وهو خلاف الغسل ، الذي يتوقّف تحقّقه عليه ، وأن الباقر كان يمسح ببلل كفّه لم يحدث ماء جديداً لها.

3 ـ جواز المسح بجزء الرأس أو الرجل ، بعكس العضو الغسلي فإن الغسل يجب تعميمه واستيعابه لجميع أجزاء العضو المغسول ، كما رأيت ذلك في الخبر رقم « 2 ».

4 ـ اختلافهم في معنى ومفهوم الكعب ، وأنّ الإمام الباقر أكّد أن الكعب هو على قبة القدم ومعقد الشراك ، وليس القبتان على طرفي الساق ، بل الكعب أسفل من ذلك ، انظر رقم « 2 » و « 5 ».

5 ـ التأكيد على أن المرّة قد أتى بها رسول الله. أمّا المرّتان فهي وضوء رسول الله وسنّته ـ وهو الملاحظ في أغلب المرويّات ـ وأن المتجاوز عن حدّه إنما يتلدد.

وقد فسّر الصادق والباقر معنى التعدّي بالزيادة عن الحدّ الذي فرضه الله في كتابه ، وأن الوضوء المتعدّى هو وضوء المحدث في الدين لقوله : « هذا وضوء من لم يحدث ».

ومن المسائل التي أثيرت في عهد الإمام الباقر ، هي : هل العذار أو الصدغ من الوجه أم لا ؟

فجاء الباقر يوضح لنا حدّ الوجه ، وقد سأله زرارة عن ذلك ، بقوله : أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ الذي ـ قال الله عزّ وجلّ ؟

فقال الباقر : « الوجه الذي قال الله وأمر بغسله الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه ، إن زاد عليه لم يؤجر ، وإن نقص منه أثم : ما دارت عليه الوسطى والإبهام ، من قصاص الشعر إلى الذقن.

وما جرى عليه الإصبعان مستديراً ، فهو من الوجه. وما سوى ذلك فليس من الوجه ».

فقال له : الصدغ من الوجه ؟

فقال : « لا » (15).

ومن تلك المسائل حكم الأذنين ، هل هو الغسل أم المسح ؟

وهل يصحّ ما قاله البعض بأن باطن الأذنين من الوجه وظاهره من الرأس.

ورد في الكافي والتهذيب : أن زرارة قال : قلت : إن ناساً يقولون إن بطن الأذنين من الوجه ، وظهرها من الرأس ؟

فقال الباقر : « ليس عليهما غسل ولا مسح » (16).

ولنتكلّم قليلاً عن اختلافهم في مفهوم الكعب ، لأن هذه المسألة من أهمّ ما طرح في ذلك العهد.

أخرج الكليني ـ كما مرّ عليك ـ حديثاً عن الباقر .. إلى أن يقول : ثمّ قال : ( ... وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدمه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه ».

فقال : فقلنا : أين الكعبان ؟

قال : « ها هنا » ، يعني المفصل دون عظم الساق.

فقلنا : هذا ما هو ؟

قال : « هذا من عظم الساق ، والكعب أسفل من ذلك » (17).

وفي آخر : ثمّ وضع يده على ظهر القدم ، ثمّ قال : « هذا هو الكعب ».

قال : وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب ، ثمّ قال : « إن هذا هو ».

وجاء في دعائم الإسلام : إن الإمام الباقر بين جواز المسح بالبعض لمكان الباء ، بقوله « إن المسح إنما هو ببعضها لمكان الباء في قوله برؤوسكم كما في التيمّم فامسحوا بوجوهكم وأيديكم وذلك أنه علم عزّ وجلّ أن غبار الصعيد لا يجري على الوجه ولا كل اليدين ، فقال : بوجوهكم وأيديكم ، وكذلك مسح الرأس والرجلين في الوضوء » (18).

ونقل الشهيد الأول في « الذكرى » ، بعد نقله كلام الأصمعي : إنّه الناتي في أسفل الساق عن يمين وشمال: وأخبرني سلمة ، عن الفراء ، قال : هو في مشط الرجل ، وقال هكذا برجله ، قال أبو العبّاس : فهذا الذي يسمّيه الأصمعي الكعب هو عند العرب المنجم.

قال : وأخبرني عن الفراء ، قال : قعد محمّد بن علي بن الحسين في مجلس كان وقال : « ها هنا الكعبان ».

فقالوا : هكذا ؟

فقال : « ليس هو هكذا ، ولكنّه هكذا » ، وأشار إلى مشط رجله.

فقالوا له : إن الناس يقولون : هكذا ؟

فقال : « هذا قول الخاصّة ، وذلك قول العامّة » (19).

وجاء عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر : ألا تخبرني من أين علمت وقلت إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟

فضحك ، وقال : « يا زرارة ، قاله رسول الله ، ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ ، لأنّ الله عزّ وجلّ قال : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ، ثمّ قال : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام ، فقال : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فعرفنا حين قال برؤوسكم أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه ، فقال :

( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فعرفنا حين وصلها بالرأس أنّ المسح على بعضها ، ثمّ فسّر ذلك رسول الله للناس فضيّعوه » (20).

ومن يراجع إلى نصوص الأئمّة من أهل البيت يقف على سير الكثير من التفريعات الفقهيّة ، وأن ما نقل عن الإمام الباقر وتأكيده على لزوم الترتيب بين أعضاء الوضوء قد يكون ناظراً إلى ما ذهب إليه أمثال أبي حنيفة ومالك من عدم لزوم الترتيب بين أعضاء الوضوء.

وهكذا الحال بالنسبة إلى غيرها من التفريعات الفقهيّة ، فالباحث لو قرن كلام الإمام الباقر مع الآراء المطروحة في عصره لعرف الحكم الشرعي من زاوية قربه للواقع.

كان هذا بعض الشيء عن سير المسألة في العهد الأموي وما ورد عن الإمام الباقر فيه. وسنشير إلى كلمات الأئمّة من ولده ممّن عايشوا الحكم العبّاسي ليقف المطالع على حقيقة الحال أكثر وينجلي له المجهول.

خلافيّات الوضوء في العهد العباسي

إنّ الإمام الصادق ـ والأئمّة من بعده ـ قد ساروا على نهج آبائهم ، واجهوا المجيزين للمسح على الخفين بصلابة (21) ، وأكّدوا أن المسح يلزم أن يكون على مقدّم الرأس (22) ، ولزوم مسح الرجلين ، وعدم جواز غسلهما.

وجاء عنه أنّه قال : « إنّ الرجل ليعبد الله أربعين سنة وما يطيعه في الوضوء ، لأنّه يغسل ما أمر الله بمسحه » (23).

وفي آخر : « أنّه يأتي على الرجل ستّون وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة ».

قلت : كيف ذاك ؟

قال : « لأنّه يغسل ما أمر الله بمسحه » (24).

وقد عارض الإمام الصادق أن تكون الأذنان من الرأس أو الوجه ، لقوله :

« الأذنان ليسا من الوجه ولا من الرأس » (25).

وهذا يفهم بأن هناك فريقاً من المسلمين يدخلون الأذنين في ضمن الوضوء على اعتبارهما من الوجه ، وهناك بعض آخر يدخلهما في ضمن الوضوء باعتبارهما من الرأس ، فالصادق أراد الإشارة إلى أن الأذن هما بنفسها حقيقة مستقلّة لا ربط بينها وبين الرأس والوجه. وعلى فرض اعتباره من الرأس فذلك لا يوجب مسحه جميعاً ، لأن المسح كما عرفت يتحقّق بالبعض ولا ضرورة لشموله جميع الرأس.

أمّا ما نسب إلى الصادق من أنّه مسح الأذنين ، أو أخذ ماءً جديداً لرأسه وغيرها ، فإنّا لا نستبعدها ـ لو صحّ عنه ـ إذ أنّه كان يعيش ـ وخصوصاً في أواخر عهد المنصور وظفر المنصور بالهاشميين وإبعادهم إلى الكوفة ـ في أشدّ حالة من حالات الضغط والإرهاب.

هذا وقد حصر الصادق نواقض الوضوء في البول والريح والنوم والغائط والجنابة (26) ، وفي ذلك إشارة إلى عدم ناقضيّة ما مسّته النار وعدم ناقضيّة مسّ الذكر وخروج الدم وغيرها ممّا تقوله العامّة اليوم.

إن ، هذه المسائل كانت إذن من الأمور المطروحة في عهد الصادق ، وقد جاء في الفقيه : عن عمرو بن أبي المقدام ، قال : حدّثني من سمع أبا عبد الله يقول : « إنّي لأعجب ممّن يرغب أن يتوضّأ اثنتين اثنتين ، وقد توضّأ رسول الله اثنتين اثنتين » (27).

وروي عنه أنّه قال : « الوضوء واحدة فرض ، واثنتان لا يؤجر ، والثالثة بدعة » (28).

ثمّ فسّر قوله هذا في رواية أخرى بـ : « الوضوء مثنى مثنى فمن زاد لم يؤجر » (29) أيّ من لم يستيقن أن واحدة من الوضوء تجزيه ، لم يؤجر على الثنتين وهكذا الحال بالنسبة للذي يأتي بأكثر من اثنتين.

بهذا الأسلوب كان الإمام الصادق يواجه الذين تعدوا حدود الله في الوضوء.

وقد صدرت عنه نصوص كثيرة تؤيّد ما قلناه ، منها قوله بعدم جزئيّة المضمضة ، معلّلاً ذلك بقوله : « لأنّها من الجوف » ، فإنّه قال بذلك ليقف أمام اجتهادات أمثال ابن عمر الذي عرف عنه بأنّه كان يقول افتحوا أعينكم عند الوضوء لعلّها لا ترى نار جهنّم !

فترى الصادق يقول : « لا تضربوا وجوهكم بالماء إذا توضّأتم ، ولكن شنوا الماء شنا » (30).

وقد جاء عن موسى بن جعفر الكاظم نصّ قريب ممّا سبق ..

قال أبو جرير الرقاشي : قلت لأبي الحسن موسى : كيف أتوضّأ للصلاة ؟

فقال : « لا تعمق في الوضوء ، ولا تلطم وجهك بالماء ، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحاً » (31).

فموسى بن جعفر أجاب السائل بجواب يستبطن الإشارة إلى شيوع ظاهرة التعمّق في الوضوء والمبالغة في صب الماء إلى حدّ الإسراف ، وذلك ما حدا بالإمام أن يقدم له مقدّمة ربما لا ترتبط بسؤال السائل ، لأنّ السائل طلب بيان كيفيّة الوضوء ، والإمام أجاب بقوله « لا تعمق في الوضوء ». وفي جواب الإمام دلالة على قضيّة مهمّة ، هي شيوع ظاهرة تكثير الغسلات ، وغسل الممسوحات ، فالإمام قدم هذه المقدّمة ليوضح للسائل ماهية الوضوء وأنّه ليس كما يصوّره البعض بلطم الماء بالوجه وإدخاله في العين وعدم جواز ردّ سلام القادم وما شابه ، فإن كل هذه من التعمّق المنهي عنه في الدين.

وقد حمل الفقهاء المسح ـ الوارد في ذيل هذه الرواية ـ أولا على المجاز بمعنى الغسل ، ثمّ على الحقيقة ، وذلك عين الصواب.

فإن الإمام عبر عن الغسل هنا بالمسح مجازاً لبيان أن المطلوب من الوضوء هو المرّة الواحدة التي يصدق بها الغسل والطهارة الشرعيّة ، ولذلك بالغ في إجزائها فعبر بالمسح على الذراعين ، وكان قبلها بين غسل الوجه بقوله « اغسله ... مسحاً » فعبر بالمسح أيضاً مبالغة في إجزاء الغسل المأمور به وعدم إجزاء تكثير الغسلات وغسل الممسوحات ، دحضاً للمدرسة الوضوئيّة التي تبناها أتباع مدرسة الرأي والاجتهاد.

كما روى الكاظم للناس الوضوء الذي أمر الله به نبيّه :

عن عيسى بن المستفاد عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه أن رسول الله (ص) قال لعلي وخديجة لما أسلما : « إن جبرئيل عندي يدعوكما إلى بيعة الإسلام ، ويقول لكما : إن للإسلام شروطاً ، أن تقولا : نشهد أن لا إله إلّا الله ... »

إلى أن يقول : « وإسباغ الوضوء على المكاره ، الوجه واليدين والذراعين ومسح الرأس ومسح الرجلين إلى الكعبين » (32).

وفي رواية أخرى عن الإمام موسى بن جعفر ، عن أبيه : « إنّ رسول الله قال للمقداد وسلمان وأبي ذر : أتعرفون شرائع الإسلام ؟

قالوا : نعرف ما عرفنا الله ورسوله.

فقال : هي أكثر من أن تحصى : أشهدوني على أنفسكم بشهادة أن لا إله إلّا الله ... والوضوء الكامل على الوجه واليدين والذراعين إلى المرفقين ، والمسح على الرأس والقدمين إلى الكعبين لا على خف ولا على خمار ولا على عمامة ... إلى أن يقول : فهذه شروط الإسلام ، وقد بقي أكثر » (33).

وهذه الرواية تشبه سالفتها في التأكيد على أهميّة الوضوء وأنّه من شرائط الإسلام ، ثمّ تبيّن حدوده ومغسولاته وممسوحاته.

وعلى ضوء ما تقدّم تأكّد لدينا أن مدرسة الباقر والصادق والكاظم والرضا هي مدرسة واحدة ، وأنّها امتداد لمدرسة رسول الله (ص) ، فترى الكاظم يقول بقول الصادق ، والصادق يقول بقول أبيه ، وهكذا إلى نهاية السلسلة ، ومن ذلك :

ما جاء عن الهيثم بن عروة التميمي ، قال : سألت أبا عبد الله عن قوله : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) ، فقلت : هكذا ؟ ومسحت من ظهر كفّي إلى المرافق.

فالصادق (ع) لم يرتض فعل الهيثم ثمّ أمر يده من مرفقه إلى أصابعه.

وهو معنى آخر لما نقلناه عن الإمام الباقر ، من أنّه كان لا يرد الماء إلى المرافق.

وهكذا الحال بالنسبة إلى مفهوم التعدّي في الوضوء ، فهو واحد عند الباقر والصادق والكاظم وغيرهم من أئمّة أهل البيت.

روى حماد بن عثمان ، قال : كنت قاعداً عند أبي عبد الله ، فدعا بماء فملأ به كفّه فعم به وجهه ، ثمّ ملأ كفّه فعم به يده اليمنى ، ثمّ ملأ كفّه فعم به يده اليسرى، ثمّ مسح على رأسه ورجليه ، وقال : « هذا وضوء من لم يحدث » ، يعني التعدّي في الوضوء (34).

وقال : « من تعدّى في وضوئه كان كناقضه » (35) ، وهي إشارة إلى قوله تعالى ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه.

وقد جاء عن الإمام علي بن موسى الرضا ـ كما في عيون الأخبار ـ أنّه قال :

« الوضوء مرّة فريضة ، واثنتان إسباغ » (36).

وفي كتابه إلى المأمون العبّاسي : « ثمّ إنّ الوضوء كما أمر الله في كتابه : غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس والرجلين مرّة واحدة ».

وفي جملة الإمام « كما أمر الله في كتابه » إشارة إلى أن حقيقة الطلب تتحقّق بالمرّة ، فلا يجب التكرار فيها. وستعرف أن المفروض والمأمور به في الكتاب هو المرّة لا أكثر ، وهو فعل رسول الله ، وقد تواتر عن الصحابة نقل ذلك عنه (ص).

هذا وقد علّل الإمام علي بن موسى الرضا سبب مسح الرأس والرجلين وعدم غسلهما بما يلي :

« ... وإنّما أوجب الغسل على الوجه واليدين ، والمسح على الرأس والرجلين ، ولم يجعل غسلا كلّه ولا مسحا كلّه لعلل شتى:

منها : إن العبادة العظمى إنّما هي الركوع والسجود ، وإنّما يكون الركوع والسجود بالوجه واليدين ، لا بالرأس والرجلين.

ومنها : إن الخلق لا يطيقون في كلّ وقت غسل الرأس والرجلين ويشتدّ عليهم ذلك في البرد والسفر والمرض والليل والنهار. وغسل الوجه واليدين أخفّ من غسل الرأس والرجلين ، وإنّما وضعت الفرائض على قدر أقل الناس طاقة من أهل الصحّة ، ثمّ عم فيها القوي والضعيف.

ومنها : إن الرأس والرجلين ليس هما في كلّ وقت بأديان وظاهران كالوجه واليدين لموضع العمامة والخفين والجورب وغيرها ... ».

وفي خبر آخر عنه ، أنّه سئل عن وضوء الفريضة في كتاب الله ؟

فقال : « المسح ، والغسل في الوضوء للتنظيف ».

وجاء عن أيّوب بن نوح ، قال : كتبت إلى أبي الحسن أسأله عن المسح على القدمين ؟

فقال : « الوضوء المسح ، ولا يجب فيه إلّا ذاك ، ومن غسل فلا بأس » (37).

قال الشيخ الحرّ العاملي : « حمله الشيخ ـ الطوسي ـ على التنظيف لما مرّ ، ويمكن حمله على التقيّة ، فإن منهم من قال بالتخيير ».

وعن المسح على العمامة والخفين ، قال الإمام الرضا : « لا تمسح علىعمامة ولا قلنسوة ولا على خفيك » (38).

وفي دعائم الإسلام : ونهوا عليهم السلام عن المسح على العمامة والخمار والقلنسوة والقفازين والجوربين والجرموقين ، إلّا أن يكون القبال غير مانع من المسح على الرجلين كليهما (39).

وفي فقه الرضا : روي عن العالم : « لا تقيّة في شرب الخمر ولا المسح على الخفّين ، ولا تمسح على جوربك إلّا من عذر أو ثلج تخاف على رجليك » (40).

ومن كل ما مرّ وضح ، بما لا مزيد عليه ، أن نهج التعبّد المحض الذي رسمه الله لنبيّه وقاده علي بن أبي طالب وابن عبّاس وكبار « الناس » .. كان قد استمرّ إلى عهد التابعين وتابعي التابعين ، ثمّ واصله أئمّة أهل البيت والخلف العدول منهم في أحرج الظروف وأصعبها ، ولذلك ترى أحاديثهم الوضوئيّة ووضوءاتهم البيانيّة التي استعرضناها لا تضارب بينها ولا اختلاف ، على عكس وضوء المذاهب الأربعة حيث ترى الخلاف بينهم واضحاً ومشهوراً ، فالبعض يذهب إلى أن فرائض الوضوء سبعة ، والآخر يرى أنّها أربعة ، وثالث يقول أنّها ستّة ، وإن كان الجميع يتّحدون في تثليث الغسلات وغسل الممسوحات !

وهذا يوضح التأكيد الحكومي على بعض المفردات الوضوئيّة وتشديد المخالفة مع نهج التعبد المحض ، وهو الذي دعا الإمام الصادق أن يقول :

« الوضوء واحدة فرض ، واثنتان لا يؤجر ، والثالثة بدعة ».

ثمّ فسّر قوله في رواية أخرى : « أيّ من لم يستيقن أن واحدة من الوضوء تجزئه لم يؤجر على الثنتين » (41).

وأن زرارة بن أعين روى عنه قوله : « الوضوء مثنى مثنى ، من زاد لم يؤجر عليه » (42).

وقد سئل مرة عن الوضوء ، فقال : « ما كان وضوء علي إلّا مرّة مرّة » (43).

وسأله بعض خلّص أصحابه وخاصّتهم ، عن الوضوء للصلاة ، فقال : « مرّة مرّة » (44).

وفي رواية أخرى يقسم بالله أن وضوء النبي ما كان يتوضّأ إلّا مرّة مرّة ، بقوله :

« والله ما كان وضوء رسول الله إلّا مرّة مرّة » (45).

ثمّ أكّد الإمام على أن الوسواس ليس من الايمان وليس من الطهارة في شيء ، فمن توضّأ أكثر من مرّة وهو يرى أن المرّة لا تجزئه لم يكن وضوؤه صحيحاً وكان مخالفاً لما أمر الله به ، ولذلك يقول : « توضّأ النبي مرّة مرّة ، وهذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به ».

وقد روي عنه : « إنّ الوضوء حدّ من حدود الله ، ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ، وإنّ المؤمن لا ينجسه شيء وإنّما يكفيه مثل الدهن ».

وجاء عنه : « ... هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسّك بها وأراد الله هداه ، إسباغ الوضوء كما أمر الله في كتابه الناطق : غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس والقدمين إلى الكعبين ، مرّة مرّة ، ومرّتان جائز » (46).

وهذه الكلمات إمّا صريحة أو ملوحة أو ناظرة إلى أن تثليث الغسلات بدعة وتعد ومخالفة لفعل النبي وقوله ، ولفعل علي ، ومخالف للأسباغ الذي أمر الله به ، ولم يعط للفاعل أجراً ، بل إنّه يعاقب على فعله.

وقد روى عن الصادق والباقر أنّهما قالا : « إنّ الفضل في واحدة ، ومن زاد على اثنتين لم يؤجر » (47).

وفي حديث آخر : « إن المرّتين إسباغ » (48).

وعلى ضوء ما تقدّم تأكّد لدينا أن مدرسة الإمام الصادق هي امتداد لمدرسة أبيه الباقر وجده علي بن الحسين وأنّهم قد أخذوا علمهم عن رسول الله ، لأنّه خصّ عليّاً لكتابة صحيفته ، وهي الموجودة بعده عند ولده ، وقد عرفت أنّهم لا يجيزون في الرأس والرجلين إلّا المسح ، وكذا لا يجيزون تثليث الغسلات ويعتبرونها بدعة ، إذ أن الرسول لا يرتضي للمسلمين فعله !

وقد عرفت أنّهم لم يأخذوا ماء جديداً لمسح الرأس والرجلين ، لما مرّ عليك من أخبار الرواة :

« ثمّ مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء » (49).

وفي أخرى : « ثمّ مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه » (50).

وفي أخرى : « ;ثمّ مسح بفضل الندى رأسه ورجليه » (51).

وفي أخرى : « ثمّ مسح ببلة ما بقي في يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء » (52).

وفي أخرى : « ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ، لم يجدد ماء » (53).

وقد مرّ عليك تفسيرهم للأسباغ ومعنى التعدّي في الوضوء والإحداث وهو يختلف عمّا استفادت منه السلطة لتقوية الوضوء العثماني والذي أخذ به الفقهاء في العصور المتلاحقة سواء عن علم أو عن غفلة !! فدوّنوه في كتبهم وبنوا عليه آراءهم الوضوئيّة ، ثمّ أخذ بها من جاء بعدهم.

وقد اطّلعت سابقاً على موقف المهدي العبّاسي والمنصور والرشيد في الوضوء ، واطّلعت على تنكيلهم بالهاشميين والأئمّة من أهل البيت ، خصوصاً بعد الظفر بمحمّد بن عبد الله بن الحسن « النفس الزكيّة » وهو ما جعل الإمام الصادق يرشد داود ابن زربي إلى التقيّة للحفاظ على دينه ونفسه.

وهكذا الحال بالنسبة إلى علي بن يقطين ، وقد مرّت عليك رسالة موسى بن جعفر إليه وإرشاده إلى العمل بخلاف ما هو ثابت عنده ، للنجاة بنفسه والحفاظ على دينه.

وزبدة المروي عن نهج التعبد المحض هو أنّ الوضوء المجزي والمأمور به إنّما هو مرّة واحدة ، والثانية هي فعل الرسول وسنّته ، ومن تجاوز عن ذلك فلا يؤجر ، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ المقصود من كلامهم وتأكيدهم على المرّة ليس وحدة الصبّ وإن لم يكف في الغسل ، بل معناه هو تحقّق الغسل الواحد وإن تعدّد الصبّ على العضو ، والمرّة الثانية بعدها هي السنّة ، أمّا المرّة الثالثة فهي إسراف وإبداع وليس من الدين.

أسماء بعض المؤيّدين للوضوء المسحي في العهد العبّاسي

اتّضح لنا ممّا سبق تكامل بنى المدرستين الوضوئيّتين في هذا العصر ، فكان رواد مدرسة الوضوء الثلاثي الغسلي هم فقهاء المذاهب الأربعة. وهؤلاء الفقهاء قد أخذوا بوضوء الخليفة عثمان بن عفان الذي نسبه إلى رسول الله ، إمّا اعتقاداً منهم بصحّة تلك المرويات عنه (ص) وثبوت طرقها لديهم وحجيّة صدورها عندهم ، وإمّا تأثّراً بالسلطة التي تريد إبعاد الناس عمّا ينسبه أولاد علي بن أبي طالب إلى رسول الله ، لأنّ مصلحة العباسيين كانت في عزل الناس عن العلويين ، وذلك لأمرين :

الأوّل : إمكان التعرّف عليهم للنيل منهم ، لأنّهم المخالفون للخلفاء العباسيين والمطالبون بالحكم.

الثاني : رسم المبرّر للتنكيل بالعلويين لأنّهم خرجوا عن جماعة المسلمين ، وسعوا لبثّ الفرقة بينهم ، إذ أن عبادتهم غير عبادة المسلمين ، ووضوئهم غير وضوء المذاهب الأربعة !

نعم ، إنّ تأكيدنا على الشقّ الثاني من وجوه الاحتمال في سبب أخذ المذاهب الأربعة برأي عثمان في الوضوء ـ المارّ الذكر في الصفحات السابقة ـ إنّما كان بسبب حملة التعتيم الإعلامي التي مارستها السلطة ومنعت العلماء والأساتذة من التفوّه بما يعرف بوجود ما يعارض ذلك.

وحينما رأيت التأكيد على الوضوء الغسلي ـ حتّى شاع بين المسلمين ـ أحببت أن أكشف عن الوجه الآخر في الوضوء ، وأشير إلى أسماء الذين فعلوا المسح وعملوا به في العهد العبّاسي الأوّل ، ولا أبغي منه الجرد الكلّي للأسماء بل العدد الذي يثبت به ما نقلناه ، وحيث وصل عدد القائلين بالمسح ـ على ضوء الصفحات السابقة ـ إلى « 24 » صحابيّاً وتابعيّاً ، نظيف إليه أسماء أخرى مراعين التسلسل السابق :

25 ـ موسى بن جعفر الكاظم.

26 ـ علي بن موسى الرضا.

27 ـ داود بن فرقد.

28 ـ علي بن يقطين.

29 ـ بكير بن أعين.

30 ـ زرارة بن أعين.

31 ـ محمّد بن مسلم.

32 ـ أبان بن عثمان.

33 ـ ابن أبي عمير.

34 ـ عمر بن أذينة.

35 ـ جميل بن دراج.

36 ـ علي بن رئاب.

37 ـ محمّد بن قيس.

38 ـ الفضل بن شاذان.

39 ـ ابن محبوب.

40 ـ أبو جرير الرقاشي.

41 ـ علي بن إبراهيم بن هاشم.

42 ـ عيسى بن المستفاد ... وآخرون من أصحاب الأئمّة.

ولو أردنا أن نضيف أسماء القراء الذين قرأوا الآية وأرجلكم بالجر ـ كما فعله كبار فقهاء العامّة ، والآخرون من أصحاب أئمّة أهل البيت ـ وندخلهم ضمن هذه القائمة لتجاوز عددهم العشرات ودخل حيز المئات.

وهنا مسألة يلزم الإشارة إليها ، وهي :

إن مشروعيّة المسح ـ كما قلنا ـ كان ذا أصالة ، وقد التزم به كبار الصحابة والتابعين ودافعوا عنه ، وأنّ الغسل لم يكن متواتراً عند المسلمين ـ على مرّ الزمان ـ بل كان بين الأعلام بعض الكلام فيه ، فترى آراء القائلين بالمسح تطرح في كتب السلف ويشيرون إلى أن هذا الرأي مستقى من القرآن ، فلو كان غسل الأرجل هو ما اتّفق عليه المسلمون فلا داعي لذكر تلك الأقوال في كتب السلف !

وما نحتمله في هذا الأمر هو تواتر عمل المذاهب المنقرضة به. ونحن لو أخذنا من باب المثال رأي ابن حزم الأندلسي الذي يمثل رأي داود الظاهري ، ورأي ابن جرير الطبري وهو يمثل رأي مذهبه الذي عمل لمدّة من الزمن ، لعرفنا أنّ المسح كان مشروعاً في عهدهم إذ تراهم يعملون به. وإليك :

رأي ابن حزم الأندلسي في المحلى :

« وأمّا قولنا في الرجلين ، فإن القرآن نزل بالمسح ، قال الله تعالى وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كلّ حال عطف على الرؤوس ، إمّا على اللفظ وإمّا على الموضع ، لا يجوز غير ذلك ، لأنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضيّة مبتدأة ، وهكذا جاء عن ابن عباس : « نزل القرآن بالمسح ، يعني في الرجلين في الوضوء ».

وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف ، منهم : علي بن أبي طالب ، ابن عبّاس ، الحسن ، عكرمة ، الشعبي وجماعة غيرهم ، وهو قول الطبري ، ورويت في ذلك آثار :

منها : أثر من طريق همام ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، ثنا علي بن يحيى بن خلاد ، عن أبيه ، عن عمّه ـ وهو رفاعة بن رافع ـ : أنّه سمع رسول الله (ص) يقول : « إنّه لا يجوز صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره الله عزّ وجلّ ، ثمّ يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ».

وعن إسحاق بن راهويه ، ثنا عيسى بن يونس ، عن الأعمش ، عن عبد خير ، عن علي : « كنت أرى باطن القدمين أحقّ بالمسح حتّى رأيت رسول الله يمسح ظاهرهما ».

قال علي بن أحمد : « وإنما قلنا بالغسل لما حدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، ثنا إبراهيم بن أحمد ، ثنا الفربري ، ثنا البخاري ، ثنا مسدد ، ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشير ، عن يوسف بن ماهك ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : « تخلف النبي في سفر فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار ، مرّتين أو ثلاثاً ».

كتب إليّ سالم بن أحمد ، قال : ثنا عبد الله بن سعيد الشنتجالي ، ثنا عمر بن محمّد السجستاني ، ثنا محمّد بن عيسى الجلودي ، ثنا إبراهيم بن محمّد بن سفيان ، ثنا مسلم بن الحجّاج ، ثنا إسحاق بن راهويه ، ثنا جرير ـ وهو ابن عبد الحميد ـ ، عن منصور ، عن هلال بن أساف ، عن أبي يحيى ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : « خرجنا مع رسول الله من مكّة إلى المدينة حتّى إذا كنّا بماء الطريق ، تعجل قوم عند العصر ، فتوضّوا وهم عجال ، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء ، فقال رسول الله : ويل للأعقاب من النار ، أسبغوا الوضوء.

فأمر عليه السلام بإسباغ الوضوء في الرجلين ، وتوعد بالنار على ترك الأعقاب ».

فكان هذا الخبر زائداً على ما في الآية ، وعلى الأخبار التي ذكرنا ، وناسخاً لما فيها ، ولما في الآية ، والأخذ بالزائد واجب.

ولقد كان يلزم من يقول بترك الأخبار للقرآن أن يترك هذا الخبر للآية ، ولقد كان يلزم من يترك الأخبار الصحاح للقياس أن يترك هذا الخبر ، لأنّنا وجدنا الرجلين يسقط حكمهما في التيمّم ، كما يسقط الرأس ، فكان حملهما على ما يسقطان بسقوطه ويثبتان بثباته أولى من حملها على ما لا يثبتان بثباته ، وأيضاً فالرجلان مذكوران مع الرأس ، فكان حملهما على ما ذكرا معه أولى من حملهما على ما لم يذكرا معه ، وأيضاً فالرأس طرف والرجلان طرف ، فكان قياس الطرف على الطرف أولى من قياس الطرف على الوسط. وأيضاً فإنّهم يقولون بالمسح على الخفين ، فكان تعويض المسح من المسح أولى من تعويض المسح من الغسل ، وأيضاً فإنّه لو جاز المسح على ساتر للرجلين ولم يجز على ساتر دون الوجه والذراعين دلّ ـ على أصول أصحاب القياس ـ أن أمر الرجلين أخف من أمر الوجه والذراعين ، فإذ ذلك كذلك فليس إلّا المسح ولا بد ، فهذا أصحّ قياس في الأرض لو كان القياس حقّاً (54).

نعم ، لو درس الباحث الشريعة بعيداً عن الرواسب الحكوميّة لعرف الكثير.

ومن المسائل التي أودّ أن ألفت النظر إليها مسألة المسح على الخفين ، فالحكّام كانوا يؤكّدون على المسح على الخفين بغضاً للخوارج والشيعة ، وهذه مسألة من مئات المسائل التي يجب أن يقف عندها المحقّق في أمور الشريعة !

محمّد بن جرير بن يزيد الطبري والوضوء :

قال عنه الخطيب البغدادي : كان حافظاً لكتاب الله ، عارفاً بالقرآن ، بصيراً بالمعاني ، فقيهاً بأحكام القرآن ، عالماً بالسنن وطرقها ، صحيحها وسقيمها ، ناسخها ومنسوخها ، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين فمن بعدهم (55). وقال عنه ابن الجوزي ـ إنّه كان ـ عالماً باختلاف العلماء ، خبيراً بأيّام الناس وأخبارهم. من تصانيفه : التاريخ والتفسير وتهذيب الآثار (56).

ونقل ابن عقيل الوراق عنه أنّه قال لأصحابه : أتنشطون لتفسير القرآن ؟

قالوا : كم يكون قدره ؟

قال : ثلاثون ألف ورقة.

فقالوا : هذا ممّا تفنى الأعمار قبل تمامه.

فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة ثمّ قال : هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا ؟

قالوا : كم يكون قدره ؟

فذكر نحواً ممّا ذكر في التفسير ، فأجابوه بمثل ذلك ..

فقال : إنّا لله ماتت الهمم.

فاختصره في نحو ممّا اختصر التفسير (57).

قال الطبري في تفسيره لآية الوضوء :

« والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء ، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمّم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضّئ كان مستحقّاً اسم ماسح غاسل ، لأنّ غسلهما إمرار اليد عليهما أو إصابتهما بالماء ، ومسحهما إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما ، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح ، ولذلك من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم والخصوص الذين أحدهما مسح ، ببعض والآخر مسح بالجميع اختلفت قراءة القراء في قوله وأرجلكم فنصبها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكاراً منه المسح عليهما مع تظاهر الأخبار عن رسول الله (ص) بعموم مسحهما بالماء. وخفضها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح ، ولما قلنا في تأويل ذلك أنّه معنى به عموم مسح الرجلين بالماء ، كره من كره للمتوضّئ الاجتزاء بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده أو بما قام مقام اليد توجيهاً منه قوله وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين إلى مسح جميعهما عاماً باليد أو بما قام مقام اليد ، دون بعضهما مع غسلهما بالماء » (58).

قال ابن الجوزي في المنتظم : كان ابن جرير يرى جواز المسح على القدمين ولا يوجب غسلهما ، فلهذا نسب إلى الرفض ، وكان قد رفع في حقّه أبو بكر بن أبي داود قصّة إلى الحاجب يذكر عنه أشياء فأنكرها (59).

انظر كيف يتعاملون مع العلماء ومن يحمل رؤية لا يستسيغها الحكّام حتّى قيل « بأنّه دفن ليلاً ولم يؤذن به أحد ، واجتمع من لا يحصيهم إلّا الله ، وصلّى على قبره عدة شهور ليلاً ونهاراً.

وذكر ثابت بن سنان في تاريخه : أنّه إنما أخفيت حاله لأن العامّة اجتمعوا ومنعوا من دفنه بالنهار وادعوا عليه الرفض ، ثمّ ادعوا عليه الإلحاد » (60).

لماذا ؟ ألقوله بالمسح الذي لم يقل به أصحاب المذاهب الأربعة ؟!

أم لكتابته عن حديث الغدير (61) ـ في أواخر عمره ـ وهو ما لا يرضي السلطان كذلك ؟ أم لشيء آخر ؟

وعلى ضوء ما تقدّم عرفت أن المصالح السياسيّة للسلطان كانت وراء تدوين ما يرتضيه وحذف ما لا يرتضيه ، وأن تأصيل المذاهب والقول بمشروعيّة رأي الجميع وما يقاربها من آراء كانت دعوة حكوميّة ظهرت سماتها في الفقه والحديث. ومتى أراد الباحث الوقوف على المزيد منها أمكنه الوقوف عليها من خلال استطلاع إجمالي لكتب الفقه والتاريخ.

علماً بأن دور السياسة لم يقتصر على تدوين الفقه والحديث ، بل إن دورها في تدوين التاريخ ولغة العرب ليس بأقلّ ممّا مضى. والباحثون يعرفون هذه الحقيقة. ونحن نعرض هنا عن بيان الآراء صارت تتشعّب في لغة العرب نظراً للظروف السياسية والاجتماعيّة الحاكمة آنذاك ، خوفاً من الإطالة والخروج عن البحث ، بل نكتفي بنقل بعض النصوص عن مشاهير الأعلام ودور السياسة في الفقه وتأصيل المذاهب.

1 ـ قال الأستاذ جمال الدين الأفغاني :

بأيّ نصّ سدّ باب الاجتهاد ، أو أيّ إمام قال : لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث ، أو أن يجد ويجتهد بتوسيع مفهومه والاستنتاج على ما ينطبق على العلوم العصريّة وحاجيات الزمان وأحكامه ، ولا ينافي جوهر النصّ. إن الله بعث محمّداً رسولاً بلسان قومه العربي ليعلمهم ما يريد إفهامهم ، وليفهموا منه ما يقوله لهم.

ولا ارتياب بأنّه لو فسح في أجل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وعاشوا إلى اليوم لداموا مجدين مستنبطين لكلّ قضية حكماً من القرآن والحديث وكلّما زاد تعمّقهم زادوا فهماً وتدقيقاً. نعم ، إن أولئك الفحول من الأئمّة ورجال الأمّة اجتهدوا وأحسنوا فجزاهم الله خير الجزاء ، ولكن لا يصحّ أن نعتقد أنّهم أحاطوا بكل أسرار القرآن وتمكّنوا من تدوينها في كتبهم (62).

2 ـ قال الأستاذ عبد المتعال الصعيدي ـ أحد علماء الأزهر الشريف ـ :

إنّي أستطيع أن أحكم بعد هذا بأن منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة ، وبوسائل القهر والإغراء بالمال. ولا شكّ أنّ هذه الوسائل لو قدرت لغير المذاهب الأربعة التي نقلّدها الآن لبقي لها جمهور يقلّدها أيضاً ، ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها ، فنحن إذا في حل من التقيّد بهذه المذاهب الأربعة التي فرضت علينا بتلك الوسائل الفاسدة ، وفي حل من العود إلى الاجتهاد في أحكام ديننا ، لأن منعه لم يكن إلّا بطرق القهر ، والإسلام لا يرضى إلّا بما يحصل بطريق الرضى والشورى بين المسلمين كما قال تعالى في الآية 28 من سورة الشورى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) (63).

3 ـ قال الدكتور عبد الدائم البقري الأنصاري :

منع الاجتهاد هو سر تأخّر المسلمين ، وهذا هو الباب المرن الذي عندما قفل تأخر المسلمون بقدر ما تقدم العالم ، فأضحى ما وضعه السابقون لا يمكن أن يغيّر ويبدّل لأنّه لاعتبارات سياسيّة.

منع الولاة والسلاطين الاجتهاد حتّى يحفظوا ملكهم ، ويطمئنّوا إلى أنّه لن يعارضهم معارض ، وإذا ما عارضهم أحد فلن يسمع قوله ، لأن باب الاجتهاد قد أغلق ، لهذا جمد التشريع الإسلامي الآن ، وما التشريع إلّا روح الجماعة وحياة الأمّة. وإنّي أرجع الفتنة الشعواء التي حصلت في عهد الخليفة عثمان والتي كانت سبباً في وقف الفتح الإسلامي حيث تحوّلت في عهده الحرب الخارجيّة إلى حرب داخليّة ، أرجع ذلك إلى أن عثمان كان من المحافظين ، وقد شرط ذلك على نفسه عندما وافق عبد الرحمن بن عوف على لزوم الاقتداء بالشيخين في كلّ ما يعني دون اجتهاد ، عند انتخابه خليفة ، ولم يوافق الإمام علي على ذلك حينئذ قائلاً : إن الزمن قد تغيّر ، فكان سبب تولّي عثمان الخلافة هو سبب سقوطه (64).

4 ـ قال الأستاذ عزّ الدين عبد السلام :

من العجب العجيب أنّ الفقهاء المقلّدين يقف أحدهم على ضعف قول إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً وهو مع ذلك مقلّد فيه ، ويترك من شهد الكتاب والسنّة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم ، جموداً على تقليد إمامه ، بل يتحيل لظاهر الكتاب والسنّة ويتأوّلهما بالتأويلات البعيدة الباطلة ، نضالاً عن مقلّده. ولم يزل الناس يسألون من اتّفق من العلماء ، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصّبوها من المقلّدين ، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلّة ، مقلّداً فيما قال كأنّه نبي مرسل. وهذا نأي عن الحقّ ، وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب (65).

5 ـ قال جمال الدين بن الجوزي :

إعلم أن المقلّد على غير ثقة فيما قلّد فيه ، وفي التقليد إبطال منفعة العقل ، لأنّه إنّما خلق للتدبّر ، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة.

واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبّر فيما قال ، وهذا عين الضلال ، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل (66).

6 ـ قال الدهلوي :

فأيّ مذهب كان أصحابه مشهورين وأسند إليهم القضاء والافتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس ودرسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض ، ولم يزل ينتشر كلّ حين. وأيّ مذهب كان أصحابه خاملين ولم يولوا القضاء والافتاء ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين (67).

فمدرسة أهل البيت لم تكن كغيرها من المذاهب الحكوميّة بل كانت لها سماتها الخاصّة ، وعرفت باستقلالها الفكري وعدم خضوعها لنظام السلطة ، بل في رؤاها تضاد مع خلفاء الجور ولا تسمح « لأولي الأمر ! » أن يتدخلوا في شؤونها وتوجيه فكرها بل إن أهل البيت دعوا شيعتهم للابتعاد عن الخلفاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإن بقاء مذهب كهذا رغم كلّ هذه الملابسات يرجع إلى قوّته الروحيّة وملكاته الربانيّة ، وإن أمر انتشار غيره من المذاهب لم يكن مثله ، وقد قرأت عن تلك المذاهب وإنّها ترجع إلى المقوّمات الجانبيّة فيها كتوليهم للقضاء. وقد رأينا إن هذه المذاهب نفسها تختلف شدّة وضعفاً لما أنيط بأصحابها من القضاء والافتاء ، فالمذهب الحنفي يقوى عندما يكون أبو يوسف وجيهاً في الدولة مقبولاً عند الخلفاء. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الآخرين في العهود الأخرى.

أمّا انتشار مذهب جعفر بن محمّد الصادق وبقاؤه لحدّ هذا اليوم رغم مخالفة الحكّام فيرجع إلى ملكاته الروحيّة ومقوّماته الذاتيّة ، ولا ينكر ذلك أحد.

فأهل البيت وشيعتهم منصورون بالحجج والبراهين التي بأيديهم لا يضرّهم من خالفهم وخذلهم ، وإليك ما رواه الحفاظ عن النبي أنه قال : « لا تزال طائفة من أمّتي منصورين قائمين بالحقّ لا يضرّهم من خالفهم وخذلهم » (68).

وجاء في كتاب « الفقيه والمتفقّه » : « ... لن تزال أمّة من أمّتي على الحقّ ظاهرين على الناس لا يبالون من خالفهم ولا من ناوأهم حتّى يأتي أمر الله وهم ظاهرون » (69).

وفي آخر : « لا يزال في هذه الأمّة عصابة على الحقّ لا يضرّهم خلاف من خالفهم حتّى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك » (70)

قال المقريزي : فلمّا كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولى بمصر أربعة قضاة ، وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي ، فاستمرّ ذلك من سنة 665 حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة. وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام. وعودي من تمذهب بغيرها ، وأنكر عليه ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد ولا قدم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلّداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها (71).

وعليه ، إن حصر المذاهب بهذه الأربعة جاءت لأمر السلطان بيبرس ، وإن الحكّام كانوا دائماً يفرضون رأيهم بالقوّة.

انظر ما جاء في شذرات الذهب (72) : إنّ القادر العبّاسي حمل الناس في سنة 422 على الاعتقاد بما يراه في فضل الصحابة وتكفير المعتزلة بخلق القرآن ، وألّف كتاباً يتلى على الناس في كلّ جمعة ، وكما أنّه حملهم بالقهر على الاعتقاد بالسنّة واستتابة من خالفه من المعتزلة والشيعة ، وأخذ خطوطهم بالتوبة وبعث بها إلى السلطان محمود يأمره ببثّ السنّة في خراسان.

تلخص ممّا سبق أنّ الحكّام سعوا إلى بثّ روح الفرقة بين أفراد الأمّة بالتزامهم هذا المذهب ضدّ ذاك ، ونسبوا إلى معارضيهم من الشيعة سوء العقيدة والخروج عن الإسلام ، وأوعزوا إلى الوعاظ في المساجد والكتاب والقصّاصين توسعة رقعة هذا الخلاف بين المسلمين. ولا ينكر أحد بأن عناية السلطة بجهة ، أو فرقة تكسبها الاعتبار والعظمة حسب نظام السياسة لا النظام الطبيعي ، إذ أن الخضوع للسلطان أمر لا مفرّ منه.

لو لم تتدخّل الحكومات في مثل هذه الأمور لكان أعود على الأمّة وأصلح لدينها ودنياها ، لكن الحكومات كانت ترى في وحدة المسلمين الخطر على مصالحها والوقوف على عيوبها والخروج عن طاعتها ، فرأت الاستعانة بهذا المذهب ضدّ ذاك ، وكان ذلك هو الخيار السهل الذي يمكن إشغال المسلمين به وجرّهم إلى النزاعات التي كانوا بعيدين عنها ممّا كدر صفو الأمّة وشتتها بعد الألفة. وقد أفصح التاريخ عن نيّاتهم السيّئة وما يقصدون من وراء ذلك وآزرهم رجال ابتعدوا عن الحقّ والإنسانيّة. وإن المطالع لو وقف على المجازر الطائفيّة وحتّى بين المذاهب الأربعة لعرف ما نقوله.

وعلى أيّ حال فقد تفرقت الأمّة كما شاءت السياسة ، أو كما شاء ولاة الجور ، وحاولوا إعطاء هذه الفرقة صفة شرعيّة مع أنّها بعيدة في الواقع كلّ البعد عن روح الإسلام.

فاتّسع الخلاف وعظم الارتباك ووقعت الخصومة ، وبذلك نجا الحاكم ، ورفع الاستبداد رأسه وافترس كل ما وجده صالحاً للأمّة ، وعجز المصلحون عن معالجة مشاكل الأمّة ، وتبنت الحكومات مؤاخذة الشيعة ، وحاكوا التهم عليهم تقولا بالباطل وابتعاداً عن الحق.

فحكموا فيما حكموا على الشيعة أنّهم يقولون بتكفير الصحابة ، وشتان ما بين النقد والتكفير ، وما بين احرامهم ـ مع إخضاع أقوالهم للمناقشة وإمكان دراسة نصوصهم ـ وإضفاء هالة من التقديس والعصمة وسدّ باب المناقشة والحوار المنطقي السليم.

ولم يقتصر الحكّام على ذلك بل جاءوا يحكمون على من يقول الحقّ ويريد التحرّر من الجمود الفكري بأنّه رافضي ، أو نراهم يتركون الحق والسنة الصحيحة لأنّها عمل الرافضة بحجّة أن التشبّه بهم غير جائز !

قال ابن تيميّة في منهاجه عند بيان التشبّه بالشيعة : ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات ، إذا صار شعاراً لهم ، فإنّه وإن لم يترك واجباً لذلك لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم ، فلا يتميّز السنّي من الرافضي.

ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة ذلك المستحب.

وقال مصنّف الهداية ، من الحنفيّة : إنّ المشروع التختّم باليمين ، ولكن لما اتّخذته الرافضة جعلناه في اليسار.

وقال الغزالي : إن تسطيح القبور هو المشروع ، ولكن لما جعلته الرافضة شعاراً لها ، عدلنا إلى التسنيم.

وقال الشيخ بن عبد الرحمن في كتاب « رحمة الأمّة في اختلاف الأئمّة » المطبوع في هامش « ميزان الشعراني 1 : 88 » : السنّة في القبر التسطيح ، وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي.

وقال أبو حنيفة وأحمد : التسنيم أولى ، لأن التسطيح صار شعاراً للشيعة.

ذكر الزرقاني في « المواهب اللدنية » في صفة عمة النبي على رواية علي في إسدالها على منكبه حين عمّمه رسول الله ، ثمّ ذكر قول الحافظ العراقي : إن ذلك أصبح شعار كثير من فقهاء الإماميّة ينبغي تجنّبه ، لترك التشبه بهم.

فأتباع أهل البيت أمروا بالحيطة من العامّة لمعرفتهم ووقوفهم على انخداعهم بأساليب الحكّام من علي ونهجه ، أمّا نهي فقهاء الدولة فقد جاء للتعرّف عليهم وهجرانهم ، وقد جسم البغدادي ذلك بنقله قصّة عن رجل ، فقال :

إنّ رجلاً رأى عليّاً في المنام فلم يجسر على الدنو منه ، فسأله صاحبه ، فقال : أخشى إن قربت إليه أسأله أن أتهم بالتشيّع.

نعم ، إنّ تهمة التشيّع كانت أكبر تهمة توجّه إلى الإنسان في تلك العهود ، وعلى ضوئها صار الناس يبغضون عليّاً والسائرين على نهجه.

قال علي بن الحسين : « أحبّونا حبّ الإسلام ، فوالله ما زال تقولون فينا حتّى بغضتمونا إلى الناس » (73).

وقوله : « ما أكذبكم وما أجرأكم على الله ، نحن من صالحي قومنا وبحسبنا أن نكون من صالحي قومنا » (74).

نعم ، إنّ تهمة التشيّع كانت أخطر من تهمة الزندقة ، وكان الناس يفرّون منها ، ويخافون من قول كلمة تنصر الحق.

قال الزمخشري في كيفيّة الصلاة على النبي محمّد (ص) : وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد ، فمكروه لأن ذلك صار شعاراً لذكر رسول الله (ص) ، ولأنّه يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض، وقال رسول الله : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم ».

وقد حكموا على المولى ظهير الدين الأردبيلي بالاعدام واتّهم بالتشيّع ، لأنّه ذهب إلى عدم وجوب مدح الصحابة على المنبر ، وأنّه ليس بفرض ، فقبض عليه وقدم للمحاكمة وحكم عليه القاضي بالاعدام ، ونفذ الحكم في حقّه ، فقطعوا رأسه وعلقوه على باب زويلة بالقاهرة (75).

واتّهم خيثمة بن سليمان العابد بالتشيّع من قبل بعض الناس لتأليفه في فضائل الصحابة ومنها فضائل علي. قال غيث بن علي : سألت عنه الخطيب ، فقال : ثقة ثقة.

فقلت : يقال : إنّه يتشيّع !

فقال : ما أدري ، إلّا أنّه صنّف في فضائل الصحابة ولم يخصّ أحداً (76) !

وقال الذهبي عن عبد الرزاق بن همام : إنّه صاحب تصانيف ، وثقه غير واحد وحديثه مخرج في الصحاح ، وله ما ينفرد به ، ونقموا عليه التشيّع ، وما كان يغلو فيه بل كان يحبّ عليّاً ويبغض من قاتله ... (77).

وعن جعفر بن سليمان الضبعي : هو من ثقات الشيعة ، حدث عنه سيار بن حاتم ، وعبد الرزاق بن همام ، وعنه أخذ بدعة التشيّع (78) !

وقد اتّهم محمّد بن طلحة بن عثمان ، أبو الحسن النعال بالتشيّع والرفض وتعرض للخطر ، لأن أبا القاسم نقل عنه ، أنّه شتم معاوية (79) !

وكذا محيي الدين العثماني الأموي المتوفّى سنة 668 ، قال ابن العماد في ترجمته : وكان شيعيّاً يفضل عليّاً على عثمان ، مع كونه ادّعى نسباً إلى عثمان ، وهو القائل :

     

أدين بما دان الوصي ولا أرى

 

سواه وإن كانت أمية محتدي

ولو شهدت صفين خيلي لأعذرت

 

وساء بني حرب هنالك مشهدي (80)

وكذا حكموا على الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك بأنّه شيعي لذكره في كتابه حديث الطائر المشوي وحديث من كنت مولاه فعلي مولاه (81) ، وزاد الذهبي فيه : أنّه تكلّم في معاوية فأوذي (82).

وقد اتّهم الشافعي بالرفض لحبّه لأهل البيت ، وقد ضعفه ابن معين لاستنقاصه معاوية !

وضرب سليمان بن عبد القوي المتوفّى في 716 ـ من علماء الحنابلة بمصر ـ لقوله في علي :

كم بين من شك في خلافته وبين من قال إنه الله

فقد نسبوا إليه هجاء الشيخين والحط من مقام عمر بن الخطاب لقوله في شرح الأربعين :

إن أسباب الخلاف الواقع بين العلماء : تعارض الرويات والنصوص. وبعض الناس يزعم أنّ السبب في ذلك عمر بن الخطاب ، لأنّ الصحابة استأذنوه في تدوين السنّة فمنعهم مع علمه بقول النبي (ص) : « اكتبوا لأبي شاة » وقوله : « قيّدوا العلم بالكتابة ».

فلو ترك الصحابة يدوّن كلّ واحد منهم ما سمع من النبي لانضبطت السنّة ، فلم يبق بين آخر الأمّة وبين النبي إلّا الصحابي الذي دوّنت روايته ، لأن تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم كما تتواتر عن البخاري. انتهى.

والأغرب من كلّ هذا ما ذكره ابن كثير في تاريخه ، وهو: أن شهاب الدين أحمد المعروف بابن عبد ربه مؤلف « العقد الفريد » كان من الشيعة ، بل إن فيه تشيّعاً شنيعاً ، وذلك لأنّه روى أخبار خالد القسري وما هو عليه من سوء الحال.

ونصّ الكلام هو :

وقد نسب إليه ـ أيّ خالد ـ أشياء لا تصحّ ، لأن صاحب العقد الفريد كان فيه تشيّع شنيع ومغالاة في أهل البيت ، وربّما لا يفهم أحد كلامه ما فيه من التشيّع ، وقد اغترّ به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ وغيره (83).

حتّى وصل الأمر أن يقال إن شخصيّة جابر بن حيّان هي شخصية أسطوريّة ، وذلك لثبوت أخذ ابن حيّان علم الكيمياء عن جعفر الصادق (84).

قال الرياشي : سمعت محمّد بن عبد الحميد قال : قلت لابن أبي حفصة :

ما أغراك ببني علي ؟

قال : ما أحد أحبّ إليّ منهم ، ولكن لم أجد شيئاً أنفع عند القوم منه ، أيّ من بغضهم والتحامل عليهم (85).

وابن أبي حفصة هو الذي تحامل على آل علي عند المهدي ، فتزاحف المهدي من مصلّاه حتّى صار على البساط ، إعجاباً بما سمع ، وقال : كم بيتاً هي ؟

قال : مائة بيت ، فأمر له بمائة ألف درهم !

نعم ، إنّ الفطرة قد تسوق الإنسان لقول الحقّ ، لكن يستتبع ذلك اتّهام الرفض والخروج من الدين وشتم بالصحابة وسواها من التهم.

فهل يعقل أن يكون كلّ ما شرعوه أو نسبوه إلى الشرع شرعيّاً حقّاً ؟

وهل أنّ رسول الله (ص) أمر بترك التشبّه بالشيعة وإن وافقوا الحقّ ؟

وهل الرافضة هم الذين رفضوا الإسلام ، أم الذين رفضوا التعامل مع السلطان الباطل ؟؟

ولماذا يعرف الشيعي دون غير بالصلاة على محمّد وآل محمّد اليوم ؟ وألم يكن الرسول قد أمر أتباعه بحبّ آل محمّد والصلاة عليهم ؟!

ولماذا النيل من علي وأولاده ، وهل هذا هو ما وصّى به رسول الله إليهم ؟!

وما معنى قوله تعالى : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) ؟ ومن هم القربى ، ولماذا خصّ أجر الرسالة بحقّهم ؟!

اللهم إنّا نبرأ إليك ممّا يقوله الحاقدون ، ونوالي أصحاب رسولك الذين رضيت عنهم وأخلصوا في الدعوة والجهاد في سبيلك.

ربّنا احكم بيننا وبين قومنا بالحقّ.

ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة.

ربّنا إنّا آمنّا بك واتّبعنا نبيّك واستننا بسنّته ، ووالينا أهل بيته وأصحابه الذين نهجوا نهجه واهتدوا بهديه ، وسمعوا دعوة الحقّ فتلقتها نفوسهم بكلّ قبول وصدق ، والذين أقاموا الفرائض وأحيوا السنن.

ربّنا إنّا آمنّا بنبيّك وتبرّأنا من المنافقين الذين مردوا على النفاق ونصبوا لنبيّك الغوائل ، ولم يؤمنوا إيمان القلب والجنان ، بل إيمان الشفة واللسان وقد ذكرتهم في كتابك.

ونتبرّأ من الذين شاقوا رسولك وقد قلت في كتابك : ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ).

ونقول ما قاله علي بن الحسين في الصحابة :

« ... اللهم وأصحاب محمّد خاصّة الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته ، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظلّ قرابته فلا تنس اللهم ما تركوا لك وفيك ، وارضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك ، وكانوا مع رسولك دعاة إليك ، واشكرهم على هجرتهم فيك ديارهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ... ».

وما قاله الإمام علي بن أبي طالب في أهل البيت :

« ... فأين تذهبون ؟ وأنّى تؤفكون ؟ والأعلام قائمة ! والآيات واضحة ! والمنار منصوبة ! فأين يتاه بكم ، بل كيف تعمهون ؟ وبينكم عترة نبيّكم ، وهم أزمة الحقّ ، وأعلام الدين ، والسنّة والصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وردوهم ورود الهيم العطاش.

أيّها الناس ، خذوا من خاتم النبيين (ص) إنّه يموت من مات منّا وليس بميّت ، ويبلى من بلى منا وليس ببال ، فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإن أكثر الحق فيما تنكرون ، واعذروا من لا حجّة لكم عليه ، وأنا هو ، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر ، وأترك فيكم الثقل الأصغر ، وركزت فيكم راية الايمان ، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام ... » (86).

وقال في آخر :

« ... فاستجيبوا للداعي واتبعوا الراعي ، قد خاضوا بحار الفتن ، وأخذوا بالبدع دون السنن ، وأرز المؤمنون ، ونطق الضالون المكذّبون ، نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلّا من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقاً ، فيهم كرائم القرآن وكنوز الرحمن ...» (87).

وفي ثالث :

« ... تالله لقد علمت تبليغ الرسالات ، وإتمام العدات ، وتمام الكلمات ، وعندنا أهل البيت أبواب الحكمة وضياء الأمر. ألا وإنّ شرائع الدين واحدة ، وسيلة قاصدة ، من أخذ بها لحق وغنم ، ومن وقف عنها ضلّ وندم ... » (88).

وفي رابع يقول (ع) عن أهل البيت :

« ... عيش العلم ، وموت الجهل ، ويخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم. لا يخالفون الحقّ ، ولا يختلفون فيه.

هم دعائم الإسلام ، وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ في نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته. عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل سماع ورواية ، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل » (89).

وفي خامس :

« ... لا يقاس بآل محمّد من هذه الأمّة أحد ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ... » (90).

إلى آخر كلماته (ع) في أهل البيت ، وذمّه للأمويين وبيان دورهم التضليلي للأمّة وإبعادهم عن نهج رسول الله ! تنكيلا بالإسلام وبغضا لعلي.

الهوامش

1. الكافي 3 : 25 / 4 ، من لا يحضره الفقيه 1 : 24 / 74 ، وما رواه الإمام الباقر عن أمير المؤمنين قد جاء في كنز العمال 9 : 448 / 26908 وعهد الإمام علي من هذا الكتاب.

2. الكافي 3 : 25 ـ 26 ح 5 ، التهذيب 1 : 76 / 191 و 81 / 211.

3. الكافي 3 : 24 / 2.

4. التهذيب 1 : 75 / 190.

5. التهذيب 1 : 56 / 158 ، الإستبصار 1 : 57 / 168 ، الكافي 3 : 25 / 5.

6. التهذيب 1 : 55 / 157 ، الإستبصار 1 : 58 / 171 ، الكافي 3 : 24 / 1.

7. الكافي 3 : 24 / 3.

8. الكافي 3 : 24 / 1 ، التهذيب 1 : 55 / 157.

9. الكافي 3 : 21 / 3.

10. مرآة العقول 13 : 67.

11. وسائل الشيعة 1 : 387 / 1 انظر : هامش الخبر.

12. معاني الأخبار : 248 ، وعنه في الوسائل 1 : 440.

13. الكافي 3 : 27 / 8.

14. الكافي 3 : 21 / 2.

15. من لا يحضره الفقيه 1 : 28 / 88 ، تفسير العياشي 1 : 299 ح 52.

16. الكافي 3 : 29 / 10 ، التهذيب 1 : 55 / 156 ، 94 / 249 ، الإستبصار 1 : 63 / 187.

17. الكافي 3 : 25 / 5 ، تفسير العياشي 1 : 298 ح 51.

18. دعائم الإسلام 1 : 109.

19. ذكرى الشيعة : 88 ، وعنه في البحار 80 : 299.

20. الفقيه 1 : 56 / 212 ، الكافي 3 : 30 / 4 ، علل الشرائع : 279 / 1 ، التهذيب 1 : 61 / 168 ، الإستبصار 1 : 62 / 186.

21. انظر : قرب الإسناد : ص 162 حديث 591.

22. انظر : وسائل الشيعة 1 : 418.

23. انظر : وسائل الشيعة 1 : 422.

24. الكافي 3 : 31 / 9 ، علل الشرائع : 289 / 2 ، التهذيب 1 : 92.

25. الكافي 3 : 29 / 2 ، وعنه في الوسائل 1 : 404.

26. راجع وسائل الشيعة 1 : 397.

27. من لا يحضره الفقيه 1 : 25 / 80.

28. التهذيب 1 : 81 / 212 ، الإستبصار 1 : 71 / 217.

29. التهذيب 1 : 80 / 210 ، الإستبصار 1 : 70 / 215.

30. التهذيب 1 : 357 / 1072 ، الإستبصار 1 : 69 / 208.

31. قرب الإسناد : ص 312 الحديث 1215 ، وعنه في وسائل الشيعة 1 : 431.

32. الطرف : 5 ، وعنه في وسائل الشيعة.

33. الطرف : 11 ، وعنه في وسائل الشيعة.

34. الكافي 3 : 27 / 8 ، وعنه في وسائل الشيعة 1 : 437 أبواب الوضوء ب 31 ح 8.

35. من لا يحضره الفقيه 1 : 25 / 79.

36. عيون أخبار الرضا 2 : 125 / 2.

37. التهذيب 1 : 64 / 180 ، الإستبصار 1 : 65 / 194.

38. فقه الرضا : 68 ، المستدرك 1 : 330 أبواب الوضوء ب 32 ح 1.

39. دعائم الإسلام 1 : 110.

40. فقه الرضا : 68 ، مستدرك وسائل الشيعة 1 : 331 أبواب الوضوء ب 33 ح 1.

41. التهذيب 1 : 81 / 212 ، الإستبصار 1 : 71 / 217.

42. التهذيب 1 : 80 / 210 ، الإستبصار 1 : 70 / 215.

43. الكافي 3 : 27 / 9 ، التهذيب 1 : 80 / 207.

44. الكافي 3 : 26 / 6 ، التهذيب 1 : 80 / 206 ، الإستبصار 1 : 69 / 211.

45. من لا يحضره الفقيه 1 : 25 / 76 ، الإستبصار 1 : 70 / 212.

46. الخصال 603 / 9.

47. السرائر : 473.

48. وسائل الشيعة 1 : 439 أبواب الوضوء ب 31 ح 20.

49. الكافي 3 : 24 / 1 ، التهذيب 1 : 55 / 157.

50. الكافي 3 : 24 / 3.

51. التهذيب 1 : 58 / 162 ، الإستبصار 1 : 58 / 172.

52. الإستبصار 1 : 58 / 171.

53. التهذيب 1 : 56 / 158 ، الإستبصار 1 : 57 / 168.

54. المحلى ، لابن حزم 2 : 56 ـ 58. وستأتي مناقشتنا لدليل « ويل للأعقاب » وغيره من الأدلّة في الفصل الثاني من هذه الدراسة.

55. تاريخ بغداد 2 : 163.

56. المنتظم 13 : 215.

57. المنتظم 13 : 216.

58. تفسير الطبري 6 : 83.

59. المنتظم 13 : 217.

60. المنتظم 13 : 217.

61. قال الذهبي في تذكرة الحفاظ : 2 : 713 رأيت مجلّداً من طرق هذا الحديث لابن جرير ، فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق. وقال ابن كثير في البداية والنهاية 11 : 146 « وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ فجمع فيه مجلّدين أورد فيهما طرقه وألفاظه ».

62. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 179 ، عن خاطرات جمال الدين : ص 177.

63. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 178 ، عن ميدان الاجتهاد : ص 14.

64. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 179 ، عن الفلسفة السياسية للإسلام : 21.

65. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 177 ، عن الأنصاف : ص 37.

66. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 177 ، عن تلبيس إبليس : 81.

67. الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2 : 11 ، عن الحجّة البالغة للدهلوي 1 : 151.

68. انظر : صحيح مسلم 3 : 1523 / 170 ، 174 ، وصحيح البخاري 9 : 124 ـ 125 ، سنن ابن ماجة 1 : 4 ، 5 / 6 ، 9 ، 10.

69. الفقيه والمتفقّه ، للخطيب البغدادي 1 : 5 ـ 6.

70. الفقيه والمتفقّه ، للخطيب البغدادي 1 : 30.

71. الخطط المقريزية 3 : 232 ـ 235.

72. شذرات الذهب 3 : 222 و 186 وغيرها.

73. الطبقات الكبرى 5 : 214.

74. الطبقات الكبرى 5 : 214.

75. شذرات الذهب 8 : 173.

76. لسان الميزان 2 : 411.

77. تذكرة الحفاظ 1 : 364.

78. تذكرة الحفاظ 1 : 241.

79. انظر: تاريخ بغداد 5 : 384.

80 شذرات الذهب 5 : 328 ، مرآة الجنان 4 : 169.

81. تاريخ بغداد 5 : 474.

82. وهو ما حكاه العماد الحنبلي عنه ، انظر : شذرات الذهب 3 : 177.

83. تاريخ ابن كثير 10 : 22.

84. انظر : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 425.

85. انظر : العقد الفريد.

86. نهج البلاغة 1 : 152 ـ 153.

87. نهج البلاغة 2 : 57 / ط 150.

مقتبس من كتاب : [ وضوء النبي (ص) ] / الجزء : 1 / الصفحة : 423 ـ 472