آية الوضوء محكمة وليست مجملة

طباعة

آية الوضوء محكمة وليست مجملة

اتّفق المسلمون تبعاً للذكر الحكيم على أنّ الصلاة لا تصح إلّا بطهور. والمراد من الطهور هو المزيل للخبث ـ النجاسة ـ والحدث ، والمزيل له هو الوضوء والتيمّم والغسل ، وهل التيمّم رافع للحدث مؤقّتاً ما دام المتيمّم غير واجد للماء ؟ أو مبيح للدخول في الصلاة وكلّ عمل عبادي مشروط بالطهارة ؟ فيه قولان.

وعلى كلّ تقدير فالتكليف بتحصيل الطهارة منّة منه سبحانه على عباده لمثول العبد بين يدي الربّ بنظافة ظاهريّة تكون مقدّمة لتزكية السرائر.

وقد بيّن سبحانه سرّ التكليف بتحصيل الطهور قبل الصلاة بقوله تعالى : ( مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) [ المائدة ـ 6 ].

وقال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « بني الدين على النظافة ».

وقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « مفتاح الصلاة الطهور ».

وقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « الطهور نصف الإيمان ».

وقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « افتتاح الصلاة الوضوء ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ».

وروي عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : « لا صلاة إلّا بطهور ».

وقال الصادق عليه السّلام : « الوضوء شطر الإيمان » (1).

فإذا كان الوضوء بهذه الأهميّة كما نطق به الكتاب والسنّة ، فمن الواجب الوقوف على أجزائه وشرائطه ونواقضه ومبطلاته ، وقد تكفّلت الكتب الفقهيّة بيان هذه المهمّة ، ولكن نختار للبحث في المقام تبيين ما اختلفت فيه كلمة الأُمّة، وهو حكم الأرجل من حيث المسح والغسل. ونرجو من الله سبحانه أن تكون الغاية من دراستنا هذه فهم الواقع بعيداً عن الهوى والعصبيّة والتحيّز إلى رأي دون رأي.

الوضوء عبادة كسائر العبادات يُتَوَخّى منها التقرّب إلى الله سبحانه ونيل رضاه ، فيشترط في صحّتها : الإخلاص والابتعاد عن الرياء ، فهي نور لنور آخر ، أعني : الصلاة ، التي هي قرّة عين المؤمن.

بيّن سبحانه الوضوء في الكتاب بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ المائدة ـ 6 ].

الآية تشكّل إحدى آيات الأحكام التي تستنبط منها الأحكام الشرعيّة العمليّة الراجعة إلى تنظيم أفعال المكلّفين فيما يرتبط بشؤون حياتهم الدينيّة والدنيويّة.

وهذا القسم من الآيات يتمتّع بوضوح التعبير ، ونصوع الدلالة ، فإنّ المخاطب فيها هي الجماهير المؤمنة التي ترغب في تطبيق سلوكها العملي وفقاً لها ، وبذلك تفترق عن الآيات المتعلّقة بدقائق التوحيد ورقائق المعارف العقليّة التي تشدّ إليها أنظار المفكّرين المتضلّعين خاصّة فيما يرتبط بمسائل المبدأ والمعاد.

والإنسان إذا تأمّل في هذه الآية ونظائرها من الآيات التي تتكفّل بيان وظيفة المسلم ، كالقيام إلى الصلاة في أوقات خمسة ، يجدها محكمة التعبير ، ناصعة البيان ، واضحة الدلالة ، تخاطب المؤمنين كافّة لترسم لهم وظيفتهم عند القيام إلى الصلاة.

والخطاب ـ كما عرفت ـ يجب أن يكون بعيداً عن الغموض والتعقيد ، وعن التقديم والتأخير ، وعن تقدير جملة أو كلمة حتّى تقف على مضمونها عامّة المسلمين على اختلاف مستوياتهم من غير فرق بين عالم بالقواعد العربيّة أو لا.

فمن حاول تفسير الآية على غير هذا النمط فقد غفل عن مكانة الآية ومنزلتها ، كما أنّ من حاول تفسيرها على ضوء الفتاوى الفقهيّة لأئمّة الفقه فقد دخل من غير بابها.

نزل الروح الأمين بهذه الآية على قلب سيّد المرسلين ، فتلاها على المؤمنين وفهموا واجبهم تجاهها بوضوح دون تردّد و دون أن يشوبها أيّ إبهام أو غموض ، وإنّما دبّ الغموض فيها في عصر تضارب الآراء وظهور الاجتهادات.

إنّ المسلمين في الصدر الأوّل تعلّموا القرآن من أفواه القرّاء ، وكانت المصاحف قليلة النسخ لا يصل إليها إلّا النفر اليسير ، وإنّما انتشر نسخ القرآن في الحواضر الإسلاميّة في العقد الثالث من القرن الأوّل ، وكانت المصاحف يومذاك مع قلّتها غير منقّطة ، ولا معربة ، وانّما نقّطت وأُعربت بعد منتصف القرن الأوّل.

بيد أنّ القرآن في الصدر الأوّل كان محفوظاً في صدور الرجال ومأموناً عليه من الخطأ واللحن بسبب أنّ العرب كانت تقرؤه صحيحاً حسب سليقتها الفطريّة التي كانت محفوظة لحدّ ذاك الوقت ، أضف إلى ذلك شدّة عنايتهم بالأخذ والتلقّي عن مشايخ كانوا قريبي العهد بعصر النبوّة ، فقد توفّرت الدواعي على حفظه وضبطه صحيحاً حينذاك.

أمّا بعد منتصف القرن الأوّل حيث كثر الدخلاء وهم أجانب عن اللغة ، فإنّ السليقة كانت تعوزهم ، فكانوا بأمسّ الحاجة إلى وضع علامات ودلالات تؤمّن عليهم الخطأ واللّحن وذلك ممّا دعا أبا الأسود الدؤلي وتلميذيه : يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم إلى وضع نقاط وعلامات على الحروف (2)

يظهر من الروايات الكثيرة أَنّ الاختلاف في كيفيّة الوضوء ظهر في عصر الخليفة عثمان.

روى مسلم عن حمران مولى عثمان ، قال : أتيت عثمان بن عفان بوضوء فتوضّأ ، ثمّ قال : إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ أحاديث لا أدري ما هي ؟! ألا إنّي رأيت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ توضّأ مثل وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ هكذا ، غفر له ما تقدّم من ذنبه ، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة. (3) وتؤيد ذلك كثرة الروايات البيانيّة لوضوء رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ المرويّة عن عثمان ، وقد ذكر قسماً منها مسلم في صحيحه (4)

وهناك روايات بيانيّة أُخرى عن لسان عثمان لم يذكرها مسلم وإِنّما ذكرها غيره تشير إلى ظهور الاختلاف في كيفيّة وضوء النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في عصره.

وأمّا مصدر الخلاف وسببه فهو اختلافهم في كيفيّة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فسيوافيك أَنّ لفيفاً من الصحابة نقلوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ـ وأَنّه مسح رجليه مكان غسلهما ، كما أنّ لفيفاً آخر نقلوا انّه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ غسل رجليه ، وقد نُقلت عن عثمان كلتا الكيفيّتين.

ومن زعم أنّ مصدر الخلاف في ذلك العصر هو اختلاف القراءة فقد أخطأ لما ستعرف من أَنّ العربي الصميم لا يرضى بغير عطف الأرجل على الرؤوس سواء أقرأه بالنصب أم بالجر ، وأمّا عطفه على الأيدي فلا يخطر بباله حتّى يكون مصدراً للخلاف.

فعلى من يبتغي تفسير الآية وفهم مدلولها ، أن يجعل نفسه كأنّه الحاضر في عصر نزول الآية ويسمع كلام الله من فم الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أو أصحابه ، فعندئذٍ ما فهمه حجّة بينه وبين ربّه ، وليس له عند ذاك ، الركون إلى الاحتمالات والوجوه المختلفة التي ظهرت بعد ذلك العصر.

إنّ هذه الرسالة وإن كرّست البحث في حكم الأرجل من حيث المسح أو الغسل ، ولكن لما كان الاختلاف في فهم الآية لا يقتصر على هذا المورد بل يعمّ كيفيّة غسل الأيدي أيضاً ، استدعت الحاجة إلى البحث في الثاني أيضاً على وجه موجز ، وتأتي هذه الدراسة ضمن فصول.

( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) [ المائدة : 15 ]

الهوامش

1. الوسائل : ج 1 ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء.

2. محمّد هادي معرفة : التمهيد في علوم القرآن : 1 / 309 ـ 310 ، نقل بتصرّف.

3. صحيح مسلم ، بشرح النووي : 3 / 112.

4. نفس المصدر : 3 / 102 ـ 117.

مقتبس من كتاب : [ الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة ] / الصفحة : 9 ـ 13