المجتهدون بعد النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله

البريد الإلكتروني طباعة

المجتهدون بعد النبي صلّى الله عليه وآله

لقد علمنا بوجود تيارين في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله : متعبّد ، ومجتهد ، وبقاءهما إلى آخر لحظة من حياة النبي صلّى الله عليه وآله ، ولظروف شتّى صار زمام الخلافة بيد رؤساء الإجتهاد والرأي بعد النبي صلّى الله عليه وآله ، فكان من جملة ما اتّخذوه من قرارات هو معارضتهم للتحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله لأمور رأوها.

فجاء في تذكرة الحفاظ : أنّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم ، فقال : إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه (1).

وعن عروة بن الزبير : أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ، ثمّ أصبح يوماً ، وقد عزم الله له فقال : إنّي كنت أردت أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً ، فأكبّوا عليها فتركوا كتاب الله تعالى ، وإنّي والله لا ألبس كتاب الله بشيءٍ أبداً (2).

وروي عن يحيى بن جعدة : أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا له أن لا يكتبها ، ثمّ كتب في الأمصار : من كان عنده منها شيء فليمحه (3).

وعن القاسم بن محمّد بن أبي بكر : أنّ عمر بن الخطاب بلغه أنّه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها وكرهها ، وقال : أيّها الناس ! إنّه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبُّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلّا أتاني به ، فأرى فيه رأيي.

قال : فظنّوا أنّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثمّ قال : أمنيّة كأمنيّة أهل الكتاب (4).

وفي الطبقات الكبرى ومسند أحمد ، قال محمود بن لبيد : سمعت عثمان على المنبر يقول : لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر (5).

وعن معاوية أنّه قال : أيّها الناس ! أقلّوا الرواية عن رسول الله ، وإن كنتم تحدّثون ، فحدّثوا بما كان يُتَحدَّث به في عهد عمر (6).

وهذه النصوص توضّح لنا انقسام المسلمين إلى اتّجاهين :

١ ـ اتّجاه الشيخين ومن تبعهما من الخلفاء ، فإنّهم كانوا يكرهون التدوين ويحضرون على الصحابة التحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.

٢ ـ اتّجاه جمعٍ آخر من الصحابة قد اتّخذوا التدوين مسلكاً ومنهجاً حتّى على عهد عمر بن الخطاب ، منهم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأبوذر وغيرهم.

فترى هؤلاء يدوّنون ويحدّثون وإن وضعت الصمصامة على أعناقهم ، لقول الراوي : أتيت أباذر ـ وهو جالس عند الجمرة الوسطى ـ وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل (7) فوقف عليه ثمّ قال : ألم تُنْهَ عن الفتيا ؟ (8) فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت عليَّ ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي اُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل أن تجيزوا (9) عليّ لأنفذتها ! (10).

وترى الخلفاء وأتباعهم يمنعون التحديث والتدوين ويضربون ويهدّدون المحدّثين.

ومن هنا حدث التخالف في الموقف بين النهجين ، هذا يحدّث ويدوّن ، وذاك يقول بالإقلال ومنع التحديث والتدوين ، وهذا يقول بلزوم عرض المنقول عن رسول الله على القرآن ، فإن وافقه يؤخذ به وإن خالفه يُضرب به عرض الجدار ، والآخر يقول بعدم ضرورة ذلك ويعتبره من عمل الزنادقة ، وبذلك ارتسمت الأصول الفكريّة للطرفين تدريجيّاً.

الهوامش

1. تذكرة الحفاظ ١ : ٢ ـ ٣ ، حجيّة السنة : ٣٩٤.

2. تقييد العلم : ٤٩ ، حجية السنة : ٣٩٥ عن البيهقي في المدخل ، وابن عبدالبر.

3. تقييد العلم : ٥٣ ، حجيّة السنة : ٣٩٥.

4. حجيّة السنة : ٣٩٥ ، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ١ ٦ ١٤٠ « مثناة كمثناة أهل الكتاب ».

5. الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٦ وعنه في السنة قبل التدوين : ٩٧.

6. كنز العمال ١ : ٢٩١.

7. هو فتى من قريش كما في تاريخ دمشق ٦٦ : ٩٤. وفي فتح الباري ١ : ١٤٨ « وبيّنّا أنّ الذي جابهه رجل من قريش ».

8. قال ابن حجر في فتح الباري ١ : ١٤٨ « إنّ الذي نهاه عن الفتيا عثمان ».

9. تجيزوا : أي تكملوا قتلي.

10. سنن الدارمي ١ : ١٣٦. ورواه الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ : ٦٤ ، وابن سعد في طبقاته ٢ : ٣٥٤. وروى هذا الحديث البخاري في صحيحه ٦ : ٢٥ لكنّه بتره ولم يذكر نهي عثمان ولا الفتى القرشي الرقيب الجاسوس ، بل اكتفى بذكر قول أبي ذر « لو وضعتم الصمصامة » ... الخ.

مقتبس من كتاب : [ لماذا الإختلاف في الوضوء ] / الصفحة : 25 ـ 28

 

أضف تعليق

الحديث وعلومه

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية