قصّة الشورى

طباعة

قصَّة الشورىٰ (1)

لمَّا طُعنَ عمر بن الخطاب ، أُخذ ودماؤه تسيل منه ، قيل له وهو واهن القوىٰ : لو استخلفت علىٰ الناس ، يا أمير المؤمنين ! فقال : إن أستخلف ، فقد استخلف مَنْ هو خيرٌ منِّي ، وإن أترك فقد ترك مَنْ هو خيرٌ منِّي ـ يشير إلىٰ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر ـ وأراد من ذلك أن يكون الأمر للمسلمين شورىٰ ، فظهر مبدأ الشورىٰ لأوَّل مرَّة علىٰ لسانه في خطبته الشهيرة التي قال فيها : « فمن بايع رجلاً من غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه ، تغرَّة أن يُقتلا » (2).

ثُمَّ لم يلبث مليَّاً حتّىٰ نقض قوله ، بقوله : « لو كان أبو عبيدة حيَّاً لولَّيته ! لو كان معاذ بن جبل حيَّاً لولَّيته ! لو كان سالم مولىٰ أبي حذيفة حيَّاً لولَّيته » ! (3) ذلك لأن تمسكه بالشورى كان له سبب مثير !!

ففي موسم الحجّ من تلك السنة جاء عبدالرحمن بن عوف إلىٰ ابن عبّاس ، فقال له : لو سمعت ما قاله أمير المؤمنين ـ يعني عمر بن الخطاب ـ إذ بلغه أنّ فلاناً « قال : لو قد مات عمر لبايعت فلاناً » فما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلتة .. فهمّ عمر أن يخطب الناس ردّاً علىٰ هذا القول فنهيته لاجتماع الناس كلّهم في الحجّ وقلت له : إذا عدت المدينة فقل هناك ما تريد ، فإنّه أبعد عن إثارة الشغب.

فلمّا رجعوا من الحجّ إلىٰ المدينة قام عمر في خطبته المذكورة.

قال ابن حجر العسقلاني : وجدته في الأنساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري ، بالإسناد المذكور في الأصل ، ولفظه قال عمر : بلغني أنّ الزبير قال : لو قد مات عمر لبايعنا عليّاً .. الحديث (4)

اختار عمر ستّة من الصحابة ، زعم : « أنَّ رسول الله كان راضياً عن هؤلاء الستَّة » وهم : عُثمان بن عفَّان وعليُّ بن أبي طالب ، وطلحة وسعد بن أبي وقَّاص والزبير وعبدالرحمٰن بن عوف قال : « وقد رأيت أن أجعلها شورىٰ بينهم ليختاروا لأنفسهم ».

واستدعىٰ إليه أبا طلحة الأنصاري فقال له : يا أبا طلحة ، إنَّ الله طالما أعزَّ بكم الإسلام ، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم ، وخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله ، واجمعهم في بيتٍ واحد ، وقم علىٰ رؤوسهم ، فإنَّ اجتمع خمسة وأبىٰ واحد فاشدخ رأسه بالسيف ، وإن اتَّفق أربعة وأبىٰ اثنان فاضرب رؤوسهما ، وإن رضي ثلاثة فانظر الثلاثة الذين فيهم عبدالرحمٰن بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمَّا اجتمع فيه الناس ، وإن مضىٰ الستَّة ولم يتَّفقوا علىٰ أمر ، فاضرب أعناق الستَّة ، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم ..

هذا هو مبدأ الشورىٰ الذي أراده عمر ، ولنرىٰ كيف تمَّ الإتِّفاق ..

ولمَّا خرج عليٌّ عليه السلام والجماعة من البيت بانتظار الموعد المعيَّن ، ما لبث أن جاءه عمُّه العبَّاس يسأله عمَّا جرىٰ ، فقال : « عدلتْ عنَّا » ! فقال : وما علمك ؟

قال : « قرن بي عُثمان ، وقال : كونوا مع الأكثر ، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً ، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمٰن ، فسعد لا يخالف ابن عمِّه ، وعبدالرحمٰن صهر عُثمان لا يختلفون ، فيولِّيها أحدهما الآخر ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني » .. ومضىٰ يقصُّ علىٰ عمِّه أحداث الشورىٰ وتفاصيلها ، حتّىٰ ملكته الدهشة لما سمع .. فقال له العبَّاس : إحذر هؤلاء الرهط ، فإنَّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتّىٰ يقوم به غيرنا ، وأيم الله لا يناله إلَّا بشرٌ لا ينفع معه خير ! فقال عليٌّ عليه السلام : « أمّا لئن بقي عُثمان لأذكِّرنَّه ما أتىٰ ، ولئن مات ليتداولُنَّها بينهم ، ولئن فعلوا لتجدنِّي حيث يكرهون » (5).

ولمَّا اجتمعوا تكلَّم أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال : « الحمد لله الذي بعث محمَّداً منَّا نبيَّاً ، وبعثه إلينا رسولاً ، فنحن بيت النبوَّة ، ومعدن الحكمة ، وأمان أهل الأرض ، ونجاة لمن طلب ، لنا حقٌّ إن نُعْطَه نأخذه ، وإن نُمْنَعْه نركبْ أعجاز الإبل ولو طال السُّرىٰ ، لو عهد إلينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عهداً لأنفذنا عهده ، ولو قال لنا قولاً لجادلنا عليه حتّىٰ نموت ، لن يسرع أحد قبلي إلىٰ دعوة حقٍّ وصلة رحم ، لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله ، اسمعوا كلامي وعوا منطقي ، عسىٰ أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجمع تُنتضىٰ فيه السيوف ، وتُخان فيه العهود ، حتّىٰ تكونوا جماعة ، ويكون بعضكم أئمّة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة » ثُمَّ قال :

فإن تكُ جاسمٌ هلكتْ فإنِّي

 

بما فعلتْ بنو عبد بن ضخمِ

مطيعٌ في الهواجرِ كلَّ عيٍّ

 

بصيرٌ بالنَّوىٰ من كلِّ نجمِ (6)

ومهما كان الحال ، فقد جاء في سائر التواريخ أنَّ أوَّل عمل قام به طلحة أن أخرج نفسه منها ، ووهب حقَّه فيها لعثمان بن عفَّان ، كرهاً منه لعليِّ بن أبي طالب عليه السلام ، وأدرك الزبير النوايا المبيتة من طلحة ، فثارت في نفسه نزعة القرابة التي تشدُّه إلىٰ عليٍّ عليه السلام ، فقال : وأنا أُشهدكم نفسي أنِّي قد وهبت حقِّي في الخلافة لعليِّ بن أبي طالب ، فوقف سعد بن أبي وقَّاص وقال : لقد وهبت حقِّي لعبد الرحمٰن بن عوف ، « وبقي في الساحة ثلاثة كلُّ واحدٍ منهم يمثِّل اثنين » فقال عبدالرحمٰن لعثمان وعليٍّ عليه السلام : أيُّكما يخرج منها للآخر ؟ فلمَّا لم يجد منهما جواباً ، أخرج نفسه منها علىٰ أن يجعلها في أفضلهما.

وعرض علىٰ كلٍّ منهما أن يتولَّىٰ الأمر من يؤثر الحقَّ ولا يتَّبع الهوىٰ ، ولا يخصُّ ذا رحمِ ولا يألو الأُمَّة نصحاً ، فوافق كلٌّ منهما علىٰ هذه الشروط .. لكنَّه ـ وبعد أن أحرجه الإمام بقبول الشروط ـ خلا عبدالرحمٰن بسعد بن أبي وقَّاص ، فأدرك عليٌّ عليه السلام أنَّهما إنَّما يريدان مخرجاً يسهِّل لهما أن يُعطوا الخلافة لعثمان ؛ فقال أمير المؤمنين لسعد : « ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ) (7) ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وبرحم عمِّي حمزة منك أن لا تكون ظهيراً لعبد الرحمٰن » ..

ويبدو من هذا الاتِّفاق أنَّهم خرجوا بشرط جديد يُحرِج عليَّاً عليه السلام ، ولا يمكن له أن يقبله ، وبذلك تكون البيعة لعثمان بن عفَّان ، فقال عبدالرحمٰن لعليٍّ عليه السلام : عليك عهد الله وميثاقه ، لتعملنّ بكتاب الله وسُنَّة رسوله وسيرة الشيخين من بعده ، قال الإمام : « أعمل بكتاب الله وسُنَّة نبيِّه وبرأيي ، فيما لا نصَّ فيه من كتابٍ أو سُنَّة » ، ودعا عُثمان فقال له مثل ما قال لعليٍّ عليه السلام فوافق عليها ، وقال : نعمل نعمل ، فرفع رأسه إلىٰ سقف المسجد ، ويده في يد عُثمان فقال : اللَّهمَّ اسمع واشهد ، اللَّهمَّ إنِّي قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عُثمان ، فبايعه ، وبهذا النحو الذي شهدناه تمَّت البيعة لعثمان ، وحسب التخطيط الذي أراده عمر بن الخطَّاب.

وعقّب الأُستاذ هاشم معروف الحسني علىٰ قصَّة الشورىٰ هذه بقوله : « أقول ذلك وأنا علىٰ يقين بأنَّ عليَّاً لو وافقهما علىٰ الشرط الأخير ، لوضعا له شرطاً آخر ، وهكذا حتّىٰ ينسحب منها ، وتتمَّ لابن عفَّان بلا منازع ».

حتماً ، فهذه ليست أوَّل مؤامرة تظاهروا بها علىٰ آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما قال أمير المؤمنين عليه السلام حينها : « ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا ، ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ) ، والله ما وليتَ عُثمان إلَّا ليردَّ الأمر إليك ، والله كلُّ يومٍ في شأن » ! فقال عبدالرحمٰن : يا عليُّ ، لا تجعل علىٰ نفسك حجَّةً وسبيلاً ، فخرج عليٌّ عليه السلام وهو يقول : « سيبلغ الكتاب أجله » ، فقال المقداد : يا عبدالرحمٰن ، أما والله لقد تركته ، وإنَّه من الذين يقضون بالحقِّ وبه يعدلون ، فقال : يا مقداد ، والله لقد اجتهدتُ للمسلمين. قال : إن كنتَ أردتَ الله فأثابك الله ثواب المحسنين.

ثمّ قال المقداد : ما رأيتُ مثل ما أتىٰ إلىٰ هذا أهل البيت بعد نبيِّهم ، إنِّي لأعجب من قريش أنَّهم تركوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أنَّ رجلاً أقضىٰ بالعدل ولا أعلم منه ، أما والله لو أجد أعواناً عليه !

فقال عبدالرحمن : يا مقداد ، اتِّق الله ، فإنِّي خائفٌ عليك الفتنة.

فقال رجل للمقداد : رحمك الله ، مَن أهل هذا البيت ، ومن هذا الرجل ؟

قال : أهل البيت بنو عبدالمطَّلب ، والرجل عليُّ بن أبي طالب.

فقال عليٌّ عليه السلام : « إنَّ الناس ينظرون إلىٰ قريش ، وقريش تنظر بينها فتقول : إن وُلِّيَ عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً ، وما كانت في غيرهم تداولتموها بينكم ».

وقد شهد أبو الطفيل رضي الله عنه حادثة الشورىٰ بما شهده وسمعه ، فقال : كنت علىٰ الباب يوم الشورىٰ ، فارتفعت الأصوات بينهم ، فسمعت عليَّاً عليه السلام يقول : « بايع الناس لأبي بكر ، وأنا والله أولىٰ بالأمر منه وأحقُّ به منه ، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أن يرجع الناس كفَّاراً يضرب بعضهم رقاب بعضٍ بالسيف ، ثُمَّ بايع الناس عمر وأنا والله أولىٰ بالأمر منه ، وأحقُّ به منه ، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أن يرجع الناس كفَّاراً يضرب بعضهم رقاب بعضٍ بالسيف ، ثُمَّ أنتم تريدون أن تبايعوا عُثمان ! إذاً أسمع وأُطيع » (8).

ولمَّا عزموا علىٰ البيعة لعثمان ، قال الإمام عليٌّ عليه السلام : « أُنشدكم الله ، أفيكم أحد آخىٰ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بينه وبين نفسه غيري ؟ » قالوا : لا. قال : « أفيكم أحدٌ قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : من كنتُ مولاه فهذا مولاه ، غيري ؟ » قالوا : لا.

قال : « أفيكم أحدٌ قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أنت منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ غيري ؟ » قالوا : لا.

قال : « أفيكم من أؤتمن علىٰ سورة براءة ، وقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنَّه لا يؤدِّي عنِّي إلَّا أنا أو رجل منِّي ، غيري ؟ » قالوا : لا.

قال : « ألا تعلمون أنَّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فرُّوا عنه في مأقطِ الحرب في غير موطن ، وما فررتُ قطُّ ؟ » قالوا : بلىٰ.

قال : « ألا تعلمون أنِّي أوَّل الناس إسلاماً ؟ » قالوا : بلىٰ.

قال : « فأيُّنا أقرب إلىٰ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نسباً ؟ » قالوا : أنت.

فقطع عليه عبدالرحمٰن بن عوف كلامه ، وقال : يا عليُّ ، قد أبىٰ الناس إلَّا عُثمان ، فلا تجعلنَّ علىٰ نفسك سبيلاً !

ثُمَّ توجَّه عبدالرحمٰن إلىٰ أبي طلحة الأنصاري ، فقال له : يا أبا طلحة ، ما الذي أمرك عمر ؟ قال : أن أقتل من شقَّ عصا الجماعة !

فقال عبدالرحمٰن لعليٍّ : بايع إذن ، وإلَّا كنتَ متَّبعاً غير سبيل المؤمنين !! وأنفذنا فيك ما أُمرنا به !!

فقال عليٌّ عليه السلام كلمته الشهيرة : « لقد علمتم أنِّي أحقُّ بها من غيري ، ووالله لأُسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها جورٌ إلَّا عليَّ خاصَّةً ؛ إلتماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً في ما تنافستموه من زخرفه وزبرجه » (9).

كان هذا آخر ما قاله الإمام عليٌّ عليه السلام يوم الشورىٰ ، فهل تسمَّىٰ هذه شورىٰ ؟ أم غلبة بالسيف ؟!

وختاماً من المناسب أن نذكر هذا المقطع من الخطبة المعروفة بالشقشقيّة والذي يصف فيه موقفه من هذه الشورىٰ ، فيقول : « فصبرتُ علىٰ طول المدَّة ، وشدَّة المحنة .. حتّىٰ إذا مضىٰ لسبيله ، جعلها في جماعة زَعَم أنِّي أحدهم ، فيا لله وللشورىٰ ، متىٰ اعترض الريبُ فيَّ مع الأوَّل منهم حتّىٰ صرتُ أُقرنُ إلىٰ هذه النظائر ! » (10).

الهوامش

1. عن : سير أعلام النبلاء ٢ : ٩٢ وما بعدها ، الإصابة ٢ : ٥٠٨ ترجمة الإمام عليِّ بن أبي طالب ، الكامل في التاريخ ٢ : ٤٥٩ ، طبقات ابن سعد ٣ : ٢٦٠ ..

2. صحيح البخاري ٦ / ٦٤٤٢ ، مسند أحمد ١ : ٥٦.

3. الكامل في التاريخ ٢ : ٤٥٩ ، طبقات ابن سعد ٣ : ٣٤٣.

4. مقدّمة فتح الباري في شرح صحيح البخاري / ٣٣٧ ، القسطلاني / إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ١٠ : ١٩.

5. الكامل في التأريخ / ابن الأثير ٢ : ٤٦١ ط. دار الكتب العلمية.

6. تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٧ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٤٦٦.

7. سورة النساء : ١.

8. كنز العمَّال ٥ : ٧٢٤ / ١٤٢٤٣.

9. شرح ابن أبي الحديد ٦ : ١٦٦.

10. نهج البلاغة ، الخطبة ٣.

مقتبس من كتاب : [ الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ ] / الصفحة : 162 ـ 169