وقفة عند الأحداث

طباعة

وقفة عند الأحداث

تلكم أبعاد الصورة التي وصلت إلينا عن الأحداث ، ولا شكّ أنّها بقية من ملامح الصورة التي حفظتها ذاكرة الرواة والمؤرّخين ، وربّما سمحت أولم تسمح بها سلطات الحاكمين ، كما لا شكّ بأنّ الصورة أصابها من التلميع والتصنيع ، إمعاناً في تضييع التشنيع.

لذلك تبيّنت الصورة باهتة الألوان أحياناً كثيرة ، وربّما غير متناسقة الأبعاد ، لاختلاف التسجيل تبعاً للأهواء والآراء ، لكن الحاسّة السادسة ـ كما يقولون ـ لها عملها في استنطاق الصورة عمّا محي منها ، وما بقي معها من خشخشة ووشوشة.

ولا شكّ أنّ المسلم الواعي لدينه تصيبه الصدمة حين يقرأ تلك الأحداث المروعة والمفزعة المفجعة ، كيف يمكن له أن يصدق أنّ رموز الصحابة الّذين عاصروا النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم ، وعايشوه سفراً وحضراً ، هم الّذين قاموا بذلك ، كيف لم يمنعهم طول الصحبة ، ولا علقة المصاهرة ، ولا سابقة الإسلام ، عن ارتكاب ما جرى ؟

كيف لم يرعوا لرسول الله صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم إلاً ولا ذمّة ؟ فلم يحترموا قرباه بمودة جعلها الله تعالى أجر رسالته فقال : ( قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَىٰ ) (1).

كيف استطاعوا أن يرتكبوا مأثماً ما له من نظير ؟ فأرادوا أن يحرقوا بيت عليّ وفاطمة عليهما وعلى ولديهما ومن فيه ، وذلك البيت هو الذي بالأمس القريب كان رسول الله صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم يأتيه ، فيقف عند بابه كلّ صباح طيلة تسعة أشهر ويقرأ قوله تعالى : ( إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2).

كيف صمّت أسماعهم عن صوت نبيّهم ، وهو لا يزال يرنّ في مسمع الدهر يقول لأصحابه : « أوصيكم بأهل بيتي خيراً » (3).

وهكذا تتوالى الصدمات كلّما توالت الاستفهامات كيف وكيف ، وتزداد عنفاً حين تتوثق الروايات ، ويبقى القارئ في حيرة من أمره بين التصديق والتشكيك ، كيف جرى ما جرى ؟! فالخطب جليل ، والرزء عظيم ، والذوات صحابة من الرعيل الأوّل ، أضفيت عليهم ابراد القداسة ، من نسج الحاكمين والسياسة.

ولعلّ أشدّها عنفاً تلك الصدمة التي تكاد تذهب بلب القارئ دهشة وحيرة ، حين يقرأ ما أخرجه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص والسبكي في شفاء الغرام ، والأمر تسري في أرجح المطالب (4) فدخل حديث بعضهم في بعض :

« انّ عمر بن الخطاب سمع رجلاً يذكر علياً بشر ، فقال : ويلك تعرف مَن في هذا القبر ؟ ـ وأشار إلى قبر رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ـ فسكت الرجل ، فقال عمر : محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ، وهذا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب ، قبّحك الله فقد آذيت رسول الله في قبره ، لا تذكروا علياً إلّا بالخير ، إن تنقّصته آذيت صاحب القبر ، إذا آذيت علياً فقد آذيته ».

فمن يقرأ هكذا خبراً عن عمر ، ألا يصاب بالدهشة والحيرة ؟ فيسأل عن عمر أين غاب عنه ذلك الوعي يوم جاء بقبس من نار ليحرق البيت على من فيه ؟

وهل إنّ ما ذكره من تقبيح في الدعاء على من تنقّص علياً بلسانه ، لا يشمل من جاء ليحرق عليه بيته ؟ وهل أن إيذاء النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم يخصّ من تنقّص علياً بلسانه فحسب ، فلا يشمل من آذاه وأخرجه يتلّه بعنف ؟ فهل من جواب عند الحساب لمن يقرأ « إنّ السكينة تنطق على لسان عمر » ؟ فأين غابت عنه تلك السكينة المزعومة حينما هدّد بإحراق بيت فاطمة فقال له الناس : انّ في الدار فاطمة ، وهو يعلم ذلك ، وإنما قالوا له ذلك تنبيهاً على عظيم الخطر لو تطاير من البيت الشرر ، لكن أبا حفص قال : « وإن » غير مبالٍ بما سيكون.

أو ليس من حق القارئ أن يصارح بأنّ الّذين جاؤوا بالحطب والنار وأرادوا إحراق الباب كانوا معتدين ظالمين ، وبايذائهما عليّاً آذوا رسول الله صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم لقوله : « من آذى علياً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله » (5).

ولقوله في فاطمة : « فاطمة بضعة منّي من أغضبها أغضبني » (6).

وأيضاً قوله فيها : « فاطمة بضعة منّي يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها » (7).

وأنكى من ذلك كلّه ما أحزن وأبكى أن يروي البخاري في صحيحه (8) عن أبي بكر قوله : « ارقبوا محمّداً ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ في أهل بيته » ؟

ثم يرد فيه حديث : « فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها أغضبني ».

وليتني أدري هل راقب أبو بكر محمّداً في أهل بيته ، حين أمر عمر بأن يأتي بيت فاطمة عليها‌ السلام ليأتيه بعلي وبمن معه ، وقال له : فإن أبوا فقاتلهم ، كما سيأتي هذا موثقاً في نصوص يجب أن تقرأ بإمعان ، وقد جاء عمر كما أمره أبو بكر ، وبيده قبس من نار ، ويحمل معه الحطب مَنْ جاء معه من الأتباع والأشياع وأصحاب الأطماع ، وهو يريد أن يحرق البيت على من فيه ، وفاطمة تقول له : « يابن الخطاب أتراك محرقاً عليّ بيتي ؟ » فيقول لها بكل صلف : نعم ، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك. فبكت وصاحت : « يا أبتاه يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ؟ ».

وسيأتي النصّ موثقاً في الفصل الثالث في ـ نصوص يجب أن تقرأ بإمعان ـ.

هذا هو مجمل الأحداث التي أودت بحياة السيّد السبط المحسن السقط عليه‌ السلام ، وهو أوّل ضحايا العنف في أحداث السقيفة.

ولا أحسب إنساناً مسلماً يقرأ ما جرى ثمّ يعذر الجناة في أفعالهم ، إلّا من استزلّه الشيطان فبقي على ضلاله في مشايعتهم على ظلمهم وأيذائهم النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم في أهل بيته.

كما لا أظنّ أحداً يقرأ النصوص الآتية ، ثمّ يحاول مستكبراً أن ينكر ما حدث ، وأنّى له ذلك ؟ وما يُجديه الإنكار ، والحدث أشهر من أن ينكر ، وأكبر من أن يستر ، فالمصادر كثيرة والأحداث شهيرة ، حتّى صارت سنة سيّئة يحتج بها عند من لا حريجة له في الدين.

وحسبنا شاهداً واحداً نتلوه عليك ، وذلك ما رواه المسعودي في كتابه مروج الذهب من دفاع عروة بن الزبير عن أخيه عبد الله لما استحوذ على مكّة وأطراف الحجاز ، ودعا الناس إلى بيعته بالقهر والإكراه ، استنّ بالخالفين قبله ومنهم جده لأمّه أبو بكر ، فدعا بني هاشم إلى مبايعته ، فأبى عليه ابن عبّاس وابن الحنفيّة وبقيّة بني هاشم ، فحبسهم في الشعب ، وجمع الحطب ليحرقهم إن لم يبايعوا له ، لكنّ الله تعالى أنجاهم بإغاثة جيش المختار الذي أرسله بقيادة أبي عبد الله الجدلي لتخليصهم ، فأدركوهم ولمّا أزفت ساعة الحريق فأخرجوهم سالمين ، فعاب الناس فعل ابن الزبير ذلك الفعل الشنيع المريع ، وخاضوا في ذلك ممّا جعل عروة بن الزبير يعتذر عن أخيه بقوله : إنّ عمر بن الخطاب أحضر الحطب ليحرق الدار على من تخلّف عن بيعة أبي بكر.

الهوامش

1. سورة الشورى : ٢٣ وانظر الكشاف للزمخشري ٤ : ٢١٩ ، وتفسير مفاتيح الغيب للرازي ٢٧ : ١٦٦ ، ومستدرك الحاكم ٣ : ١٧٢ ، تجد أنّ الآية الكريمة نزلت في « عليّ وفاطمة وابناهما ». وروى ابن حجر المكّي في صواعقه في الفصل الأوّل من الباب : ١١ في تفسير الآية : ١٤ من الآيات التي أوردها في فضل أهل البيت فقال : أخرج أحمد والطبراني والحاكم وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ، قالوا : يا رسول الله مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلّم : « عليّ وفاطمة وابناهما ».

2. الأحزاب : ٣٣ ؛ راجع كتاب : « عليّ إمام البررة ١ : ٣٧١ ـ ٨ ـ ٤ » , تجد أسماء الرواة ، وقد ناهزوا العشرين ، والمصادر وقد نيفت على المائة ، كلّها ذكرت اختصاص الآية بالخمسة الأطهار : النبي وعلي والزهراء والحسن والحسين عليهم‌ السلام.

3. جاء في ذخائر العقبى : ١٨ ، قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : « استوصوا بأهل بيتي خيراً ، فإنّي أخاصمكم عنهم غداً ، ومن أكن خصمه أخصمه ، ومن أخصمه دخل النار ». أخرجه أبو سعد والملا في سيرته.

وجاء في مسند أحمد من حديث أبي سعيد قال ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ : « إنّي أوشك أن ادّعى فأجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي ، أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا فيما تخلفوني فيهما ».

وجاء في صواعق ابن حجر : ٨٩ ـ ٩٠ , نقلاً عن الطبراني عن ابن عمر , أنّ آخر ما تكلّم به النبي صلّى‌ الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم : « أخلفوني في أهل بيتي » وهذه هي المودّة الثالثة التي ابتلعها الرواة في حديث الرزية كما في « موسوعة عبد الله بن عباس ».

4. تذكرة الخواص : ٤٩ ، شفاء الغرام : ٢٠٧ ، أرجح المطالب : ٥١٥.

5. راجع كتاب « علي إمام البررة » ١ : ١٣٤ ـ ١٤٠ ، و ٢ : ١٢٥ ـ ١٣٧.

6. ذخائر العقبى : ٣٧ ، نقله عن الشيخين والترمذي.

7. المصدر نفسه : ٣٧.

8. صحيح البخاري ٥ : ٢١.

مقتبس من كتاب : [ المحسن السبط مولود أم سقط ] ، الصفحة : 181 ـ 185