حياة الإمام أبي الحسن الأشعري

طباعة

حياة الإمام أبي الحسن الأشعري

ميلاده ووفاته

اختلف المترجمون له في عام ميلاده ووفاته ، فقيل : وُلِد سنة سبعين ومائتين ، وقيل : ستين ومائتين بالبصرة ؛ وتوفّي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ، وقيل : سنة ثلاثين (1) ، والظاهر من ابن عساكر في تبيينه عدم الخلاف في مولده ، وأنّ مولده هو عام ستّين بعد المائتين قال : ولد ابن أبي بشر سنة ستّين ومائتين ، ومات سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة ، لا أعلم لقائل هذا القول في تاريخ مولده مخالفاً ، ولكن أراه في تاريخ وفاته رحمه الله مجازفاً ، ولعلّه أراد سنة نيف وعشرين ، فإنّ ذلك في وفاته على قول الأكثرين. (2)

ولكن اتّفقت كلمتهم على أنّه تخرج في كلام المعتزلة على أبي علي الجبائي ، وهو محمّد بن عبد الوهّاب بن سلام من معتزلة البصرة ، ويعرف بأنّه الذي ذلل الكلام وسهله ، ويسر ما صعب منه ، وإليه انتهت رئاسة البصريّين في زمانه لا يدافع في ذلك ، وقد ولد عام ٢٣٥ ، وتوفي سنة ٣٠٣ (3) وقام مقامه ابنه أبو هاشم في التدريس والتقرير.

مناظرات الأشعري مع الجبّائي قبل رجوعه عنه

إنّ الأشعري هو خريج منهج المعتزلة وتلميذ شيخها أبي علي الجبّائي ، ومع ذلك ينقل ابن عساكر عن أحمد بن الحسين المتكلّم أنّه قال : سمعت بعض أصحابنا يقول : إنّ الشيخ أبا لحسن رحمه الله لما تبحّر في كلام الاعتزال وبلغ غايته ، كان يورد الأسئلة على أُستاذه في الدرس ولا يجد جواباً شافياً ، فيتحيّر في ذلك (4) ، وقد حفظ التاريخ بعض مناظراته مع أُستاذه أبي علي الجبائي ، فنكتفي ببعضها :

المناظرة الأُولى

ـ الأشعري : أتوجب على الله رعاية الصلاح أو الأصلح في عباده ؟

ـ أبو علي : نعم.

ـ الأشعري : ماتقول في ثلاثة إخوة : أحدهم كان مؤمناً برّاً تقياً ، والثاني كان كافراً فاسقاً ، والثالث كان صغيراً فماتوا ؛ كيف حالهم ؟

ـ الجبائي : أمّا الزاهد ففي الدرجات ، وأمّا الكافر ففي الدركات ، وأمّا الصغير ففي أهل السلامة.

ـ الأشعري : إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له ؟

ـ الجبائي : لا ، لأنّه يقال له : إنّ أخاك إنّما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة ، وليس لك تلك الطاعات.

ـ الأشعري : فإن قال ذلك الصغير : التقصير ليس منّي ، فإنّك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة.

ـ الجبائي : يقول الباري جلّ وعلا : كنت أعلم أنّك لو بقيت لعصيت ، وصرت مستحقاً للعذاب الأليم ، فراعيت مصلحتك.

ـ الأشعري : لو قال الأخ الكافر : يا إله العالمين ، كما علمت حاله فقد علمت حالي ، فلم راعيت مصلحته دوني ؟

ـ الجبائي : إنّك مجنون.

ـ الأشعري : لا بل وقف حمار الشيخ في العقبة !!

ثمّ إنّ ابن خلّكان لمّا كان أشعريّاً في الكلام ، استغلّ هذه المناظرة لمذهبه وقال : هذه المناظرة دالّة على أنّ الله تعالى خصّ من شاء برحمته ، وخصّ آخر بعذابه ، وأنّ أفعاله غير معللة بشيء من الأغراض. (5)

أقول : إنّ تنزيه أفعاله سبحانه عن اللغو والعبث ممّا دلّ عليه العقل والنقل. ولو اعتزل الأشعري عن إدراك ما يحكم به العقل السليم فليس له مناص عن سماع كلام ربّ العزّة ، قال سبحانه : الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (6). وقال عزّ من قائل : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (7) ، إلى غير ذلك من الآيات النافية للعبث واللغو عن ساحته.

ومعنى القاعدة : أنّ أفعال هـ على الإطلاق ـ غير منفكة عن الأغراض والمصالح التي ترجع إلى نفس العباد دون خالقهم. ثمّ إنّ قسماً كبيراً من الحكم والمصالح المرعيّة ظاهر غير خفي ، يقف عليه الإنسان بالتأمّل والتروّي ، وقسماً منها خفيّ غير بارز لا يكاد يقف عليه الإنسان لقلة علمه وضالّة دركه ، قال سبحانه : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) (8) ، وقال عزّ من قائل : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) (9) ، ومع ذلك نعلم أنّه تعالى لا يفعل إلّا الخير ، ولا يعجز عن الإيجاد على الوجه الأصلح ، ومن الخطأ أن يطلب الإنسان تحليل ما في الكون من دقائق الأُمور وجلائلها ، بعقله الصغير ودركه البسيط ، ويحكم بأنّه كانت المصلحة في إبقاء هذا وإفناء ذاك ، وكأنّ هذا هو المزلقة الكبرى للمعتزلة ، حيث أرادوا إخضاع كلّ ما في الكون من الحوادث والأفعال لعقولهم.

المناظرة الثانية

دخل رجل على الجبائي فقال : هل تجوز تسمية الله عاقلاً ؟

فقال الجبائي : لا ، لأنّ العقل مشتق من العقال ، وهو المانع ، والمنع في حقّه سبحانه محال ، فامتنع الإطلاق.

فقال له الشيخ أبو الحسن : على قياسك لا تجوز تسميته حكيماً ، لأنّ هذاالاسم مشتق من « حكمة اللجام » وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج ، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت :

     

فنحكم بالقوافي من هجانا

 

ونضرب حين تختلط الدماء

وقول الآخر :

     

أبَني حنيفة حكِّموا سفهاءكم

 

إنّي أخاف عليكم أن أغضبا

أيّ نمنع بالقوافي من هجانا ، وامنعوا سفهاءكم ؛ فإذا كان اللفظ مشتقاً من المنع ، والمنع على الله محال ، لزمك أن تمنع إطلاق « حكيم » عليه سبحانه.

فقال الجبائي : فلم منعت هذا وأجزت ذاك ؟

فقال الأشعري : إنّ طريقي في مأخذ أسماء الله ، الإذن الشرعي دون القياس اللغوي ، فأطلقت « حكيماً » لأنّ الشرع أطلقه ومنعت « عاقلاً » لأنّ الشرع منعه ، ولو أطلقه الشرع لأطلقته. (10)

ويلاحظ على هذه الرواية :

أوّلاً : أنّ الروايات السابقة دلت على أنّ صلة الأشعري بالجبائي قد انقطعت بعد انسلاكه في مسلك المحدّثين ، والظاهر من هذه الرواية خلافها ، وأنّ الأشعري كان يناظر أُستاذه حتّى بعد الإنابة عن الاعتزال ، بشهادة قول الأُستاذ : فلم منعت هذا وأجزت ذاك ... ».

وثانياً : أنّه من البعيد أن لا يقف الجبائي على عقيدة أهل الحديث ، بل عقيدة المسلمين جميعاً في أسمائه سبحانه ، وأنّها توقيفيّة ، وأنّه لا تصح تسميته إلّا بما سمّى به سبحانه نفسه. وذلك لصيانة ساحة الرب عمّا لا يليق بها ، إذ لو لم تكن التسمية توقيفيّة ، ربّما يعرف سبحانه بأسماء وصفات غير لائقة بساحته ، فإنّ السواد الأعظم من الناس غير واقفين على الحدّ الذي يجب تنزيهه سبحانه عنه.

وثالثاً : لقائل أن ينصر الأُستاذ « الجبائي » ويقول : إنّ « الحكم » مشترك بين معنيين ، أحدهما المنع ، والآخر معنى يلازم العلم والفقه والقضاء والإتقان ؛ قال سبحانه : ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (11) وإرجاع المعنى الثاني إلى الأوّل تكلّف. وإطلاق الحكيم على الله بالملاك الثاني دون الأوّل. (12)

المغالاة في الفضائل

الغلو هو : تجاوز الحدّ والخروج عن الوسط ، مائلاً إلى جانب الإفراط ، قال سبحانه : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) (13) كما أنّ البخس بالحقوق وإنكار الفضائل الثابتة بالدلائل الصحيحة ، تفريط وتقصير ؛ فكلا العملين مذمومان ، ودين الله كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو ما بين المقصر والغالي : « فعليكم بالنمرقة فيها يلحق المقصر ويرجع إليها الغالي ». (14)

     

عليك بأوساط الأُمور فإنّها

 

نجاة ولا تركب ذلولاً ولا صعباً

وقد نقل المترجمون في حقّ الأشعري أُموراً تعد من المغالاة في الفضائل واتّخذوها تاريخاً صحيحاً من دون أيّ غمز وإنكار في السند ، ونأتي بنموذجين من ذلك :

١ ـ روى ابن عساكر عن أبي الحسين السروي ، الفاضل في الكلام يقول : كان الشيخ أبو الحسن ، يعني الأشعري ، قريباً من عشرين سنة يصلّي صلاة الصبح بوضوء العتمة ، وكان لا يحكي عن اجتهاده شيئاً إلى أحد !! (15)

ونحن لا نعلّق على هذا الفضيلة المزعومة بشيء غير أنّها تعد من خوارق العادات ، إذ قلّما يتفق لإنسان أن لا يكون مريضاً ولا مسافراً ولا معذوراً طيلة عشرين سنة ، حتّى يصلّي فيها صلاة الصبح بوضوء العتمة ، أضف إلى ذلك أن سهر الليالي في هذه المدّة الطويلة لا يوافق عليه العقل ، ولا يندب إليه الشرع ، وما كان النبي ولا الخلفاء على هذا السلوك ، وقد قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ) (16) ولازم القيام في الليل على النحو الذي جاء في تلك الرواية ، هو كون النهار سكناً والليل مبصراً. ولأجل عدم انطباق ظاهر الرواية على مقتضى العرف والشرع ، عمد بعض المترجمين إلى تحريف الرواية وقال : ويحكي أبو الحسين السروي (17) عن عبادته في الليل واشتغاله ما يدلّ على حرصه وقوّته في العبادة. (18)

٢ ـ روى ابن عساكر عن أبي عبد الله بن دانيال يقول : سمعت بندار بن الحسين ، وكان خادم أبي الحسن علي بن إسماعيل بالبصرة ، قال : كان أبو الحسن يأكل من غلة ضيعة ، وقفها جده بلال بن أبي بردة بن موسى الأشعري على عقبه ، قال : وكانت نفقته في كلّ سنة سبعة عشر درهماً. (19)

وهذا من غرائب الأُمور ، إذ مع أنّه لا يكفي لنفقة إنسان طول السنة مهما بلغت قيمة العملة الفضية ، كما هو معلوم لمن تتبع قيمة الدرهم والدينار في العصور الإسلاميّة ، إنّ الشيخ قام بتأليف كتب يناهز عددها المائة ، وبعضها يقع في مجلّدات ضخمة ، وقد ذكر المقريزي أنّ تفسيره يقع في سبعين مجلّداً. (20)

وهذا المبلغ لا يفي بقرطاس كتبه وحبرها ويراعها ، والعجب أنّ الكاتب المعاصر عبد الرحمن بدوي حسب الرواية حقيقة راهنة ، وأخذ بالمحاسبة الدقيقة ، وخرج بهذه النتيجة : أنّ الأشعري كان ينفق في السنة ١٧ درهماً ، والدرهم « ٩٥ / ٢ » غراماً من الفضة فكان مقدار ما ينفقه في العام هو ما يساوي « ١٥ / ٥٠ » غراماً من الفضّة ، ثمّ قال : فما كان أرخص الحياة في تلك الأيام. (21)

ولأجل ما في هذا النقل من الغرابة ، نقله ابن خلّكان بصورة أُخرى ، وهي أنّ نفقته كلّ يوم كانت « ١٧ » درهماً. (22)

ولكن الحقّ ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ، من أن مُغَلَّه كان في كلّ سنة « ١٧ » ألف درهم (23). فسقط الألف من نسخ القوم ، وبذلك تجلّى الأشعري بصورة أنّه كان زاهداً متجافياً عن الدنيا.

رجوعه عن الاعتزال

اتّفق المترجمون له على أنّه أعلن البراءة من الاعتزال في جامع البصرة ، وأقدم مصدر يذكر ذلك هو ابن النديم في « فهرسته » حيث يقول : أبو الحسن الأشعري من أهل البصرة ، كان معتزلياً ثمّ تاب من القول بالعدل وخلق القرآن ، في المسجد الجامع بالبصرة ، في يوم الجمعة رقي كرسياً ، ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه نفسي ، أنا فلان بن فلان ، كنت قلت بخلق القرآن ، وإنّ الله لا يرى بالأبصار ، وإنّ أفعال الشر أنا أفعلها. وأنا تائب مقلع معتقد للردّ على المعتزلة ، وخرج بفضائحهم ومعايبهم. وكان فيه دعابة ومزح كبير. (24)

وقد أوعز إلى إنابة الأشعري عن منهج الاعتزال كثيرمن علماء التراجم ، غير أنّهم لم يشيروا إلى الحوافز التي دعت الشيخ إلى هذا الانسلاخ ، ولم يخطر ببالهم سبب له سوى انكشاف الخلاف عليه في المذهب الذي كان يتمذهب به من شبابه إلى أوائل كهولته ، ولأجل ذلك يجب التوقّف هنا إجمالاً ، حتّى نقف على بعض الحوافز الداعية له إلى الإنابة عن الاعتزال.

سبب رجوعه عن الاعتزال

إنّ رجوع الأشعري عن منهج الاعتزال كان ظاهرة روحية تطلب لنفسها علّة وسبباً ، ولا يقف عليها مؤرّخ العقائد إلّا بالغور في حياته ، وما كان يحيط به من عوامل اجتماعيّة أو سياسيّة أو خلقيّة.

إلّا أنّ قلم الخيال والوهم ، أو قلم العاطفة ، أعطى للموضوع مسرحيّة خاصّة أقرب إلى الجعل والوضع منها إلى الحقيقة ، فنقلوا منامات كثيرة أمر فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أبا الحسن أن ينصر سنّته ، ويرجع عمّا كان فيه. غير أنّي أضن بوقت القارئ أن أنقل كلّ ما جاء به ابن عساكر في « تبيينه » في ذلك المجال ، وإنّما أكتفي بنموذج بل نموذجين منه :

١ ـ نقل بسنده عن أحمد بن الحسين المتكلّم قال : سمعت بعض أصحابنا يقول : إنّ الشيخ أبا الحسن لما تبحّر في كلام الاعتزال فبلغ غايته ، كان يورد الأسئلة على أُستاذيه في الدرس ولا يجد لها جواباً شافياً ، فيتحيّر في ذلك ، فحكي أنّه قال :

وقع في صدري في بعض الليالي شيء ممّا كنت فيه من العقائد ، فقمت وصلّيت ركعتين ، وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق المستقيم ، ونمت فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمنام فشكوت إليه بعض ما بي من الأمر ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : عليك بسنّتي ، فانتبهت وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار فأثبته ، ونبذت ما سواه ورائي ظهرياً.

٢ ـ نقل أيضاً عن الأشعري أنّه قال : بينا أنا نائم في العشر الأُول من شهر رمضان ، رأيت المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : يا علي أنصر المذاهب المرويّة عنّي فإنّها الحقّ ، فلمّا استيقظت دخل عليّ أمر عظيم ، ولم أزل مفكراً مهموماً لرؤياي ، ولما أنا عليه من إيضاح الأدلّة في خلاف ذلك ، حتّى كان العشر الأوسط فرأيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام فقال لي : ما فعلت فيما أمرتك به ؟ فقلت : يا رسول الله ، وما عسى أن أفعل وقد خرّجت للمذاهب المرويّة عنك وجوهاً يحتملها الكلام ، واتّبعت الأدلّة الصحيحة التي يجوز إطلاقها على الباري عزّوجلّ ؟ فقال لي : أنصر المذاهب المرويّة عنّي فإنّها الحقّ ، فاستيقظت وأنا شديد الأسف والحزن ، فأجمعت على ترك الكلام واتبعت الحديث وتلاوة القرآن ؛ إلى آخر ما ذكره من الرؤيا. (25)

وكان الأولى للمحقّق ترك نقل هذه المنامات ، لأنّ العوام والسذج من الناس إذا أعوزتهم الحجّة في اليقظة ، يلجأون إلى النوم فيجدون ما يتطلبونه من الحجج في المنام ، فيملأون كتبهم بالمنامات والرؤى.

أضف إلى ذلك وجود التهافت بين المنامين ، فإنّ الأوّل يعرب عن ظهور الشكّ في صحّة معتقداته قبل المنام وتزايده إلى أن أدّى إلى التحول والبراءة بسبب الرؤيا ، ولكن الثاني يعرب عن أنّ التحول كان فجائياً غير مسبوق بشيء من الشكّ والتردّد في صحّة المنهج الذي عاش عليه فترة من عمره.

وكما لا يمكن الاعتماد على هذه المنامات ، لا يمكن الركون إلى النقل التالي أيضاً.

٣ ـ إنّ الأشعري أقام على مذهب المعتزلة أربعين سنة وكان لها إماماً. ثمّ غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً ، ثمّ خرج إلى الجامع وصعد المنبر وقال : معاشر الناس إنّما تغيبت عنكم في هذه المدّة ، لأنّي نظرت فتكافأت عندي الأدلّة ولم يترجح عندي حقّ على باطل ولا باطل على حقّ ؛ فاستهديت الله تبارك وتعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه ، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا ؛ وانخلع من ثوب كان عليه ، ورمى به. ودفع الكتب إلى الناس ، فمنها كتاب « اللمع » وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة وسمّاه بـ « كشف الأسرار وهتك الأسرار » وغيرهما ، فلمّا قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنّة والجماعة أخذوا بما فيها ، واعتقدوا تقدّمه ، واتّخذوه إماماً حتّى نسب إليه مذهبهم. (26)

ولا يصحّ هذا النقل من وجوه :

أمّا أوّلاً : فلأنّ ظاهر كلامه ذاك أنّه قام بتأليف هذه الكتب في أيّام قلائل ، وهو في غاية البعد.

وأمّا ثانياً : فلأن الناظر في كتابيه : ـ الإبانة واللمع ـ يجد الفرق الجوهري بينهما في عرض العقائد ، فالأوّل منهما هو الذي ألّفه بعد انخراطه في مسلك أهل الحديث. ولأجل ذلك أتى في مقدمة الكتاب بلب عقائد إمام الحنابلة ، بتغيير يسير. وأمّا كتاب اللمع فهو كتاب كلامي لا يشبه كتب أهل الحديث ، ولا يستحسنه طلابه وأتباعه. وسيوافيك الكلام في ذلك عند عرض مذهب الأشعري من خلال كتبه.

وأمّا ثالثاً : فكيف يمكن أن يقال إنّه أقام على مذهب أُستاذه أربعين سنة ؟ فلو دخل منهج الأُستاذ في أوان التكليف للزم أن يكون عام الخروج موافقاً لكونه ابن خمس وخمسين سنة ، وبما أنّه من مواليد عام ٢٦٠ هـ ، فيجب أن يكون عام الإنابة موافقاً لسنة ٣١٥ هـ.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّه تبرأ من منهج الأُستاذ وهو حي ، وقد توفي أُستاذه الجبائي عام ٣٠٣ هـ ، وعندئذ كيف يمكن تصديق ذلك النقل ؟!

الحوافز الدافعة إلى ترك الاعتزال

إنّ الأشعري قد مارس علم الكلام على مذهب الاعتزال مدّة مديدة وبرع فيه إلى أوائل العقد الخامس من عمره ، وعند ذاك تكون عقيدة الاعتزال صورة راسخة وملكة متأصلة في نفسه ، فمن المشكل جدّاً أن ينخلع الرجل دفعة واحدة عن كلّ ما تعلم وعلّم ، وناظر وغَلب أو غُلب ، وينخرط في مسلك يضاد ذلك ويغايره بالكلية. نعم ، نتيجة بروز الشك والتردُّد هو عدوله عن بعض المسائل وبقاؤه على مسائل أُخر ، وأمّا العدول دفعة واحدة عن جميع ما مارسه وبرع فيه ، والبراءة من كلّ ما يمت إلى منهج الاعتزال بصلة ، فلا يمكن أن يكون أمراً حقيقيّاً جدّياً من جميع الجهات.

ولأجل ذلك لابدّ لمؤرّخ العقائد من السعي في تصحيح وتفسير هذه البراءة الكاملة من منهج الاعتزال من مثله.

فنقول : أمّا السبب الحقيقي فالله سبحانه هو العالم. ولكن يمكن أن يقال إنّ الضغط الذي مورس على بيئة الاعتزل من جانب السلطة العباسيّة أوجد أرضية لفكرة العدول في ذهن الشيخ ونفسه ، وإليك بيانه :

١ ـ الضغط العبّاسي على المعتزلة

إنّ الخلفاء العباسيين ـ من عصر المأمون إلى المعتصم ، إلى الواثق بالل هـ كانوا يروّجون لأهل التعقّل والتفكّر ، فكان للاعتزال في تلك العصور رقيّ وازدهار. فلمّا توفّي الواثق بالله عام ٢٣٢ هـ وأخذ المتوكّل بزمام السلطة بيده ، انقلب الأمر وصارت القوة لأصحاب الحديث ، ولم تزل السيرة على ذلك حتّى هلك المتوكّل وقام المنتصر بالله مقامه ، فالمستعين بالله ، فالمعتز بالله ، فالمهتدي ، فالمعتمد ، فالمعتضد ، فالمكتفي ، فالمقتدر ، وقد أخذ المقتدر زمام الحكم من عام ٢٩٥ هـ إلى ٣٢٠ هـ وفي تلك الفترة أظهر أبو الحسن الأشعري التوبة والإنابة عن الاعتزال ، والانخراط في سلك أهل الحديث. وقد ضيق أصحاب السلطة ـ في عصر المتوكّل إلى عهد المقتدر ـ الأمر على منهج التعقّل ، فالضغط والضيق كانا يتزايدان ولا يتناقصان أبداً ، وفي تلك الفترة ، لا عتب على الشيخ ولا عجب منه أن يخرج من الضغط والضيق بإعلان الرجوع عن الاعتزال ، والانخراط في سلك أهل الحديث ، الذين كانت السلطة تؤيّدهم كما كانوا يؤيّدونها.

لا أقول : إنّ فكرة الخروج عن الضغط كانت العامل الوحيد لعدوله عن منهج الاعتزال ، بل أقول : قد أوجدت تلك الفكرة ، أرضية صالحة للانسلاك في مسلك أهل الحديث ، والثورة على المعتزلة ، فإنّ تأثير البيئة وحماية السلطة ممّا لا يمكن إنكاره.

٢ ـ فكرة الإصلاح في عقيدة أهل الحديث

وهناك عامل آخر يمكن أن يكون مؤثراً في تحوّل الشيخ وانقلابه إلى منهج الحنابلة ، وهو فكرة القيام بإصلاح عقيدة أهل الحديث التي كانت سائدة في أكثر البلاد. وما كان الإصلاح ممكناً إلّا بالانحلال عن الاعتزال كلياً.

توضيحه : إنّ الغالب على فكرة أهل الحديث كان يوم ذاك هو القول بالتجسيم والجهة والجبر ، وغير ذلك من العقائد الموروثة عن اليهود والنصاري ، الواردة على أوساط المسلمين عن طريق الأحبار والرهبان ، فعندما رجع الأشعري عن عقيدة الاعتزال وأعلن انخراطه في أصحاب الحديث ، وأنّه يعتقد بما يعتقد به أصحابه ، وفي مقدّمتهم أحمد بن حنبل ، مكّنه ذلك من إصلاح عقيدة أهل الحديث وتنزييهها عمّا لا يناسب ساحة الرب ، من التجسيم وغيره. فكان الرجوع عن مذهب الاعتزال ، شبه واجهة لأن يتقبله أهل الحديث بعنوان أنّه من أنصارهم وأعوانهم ، حتّى يمكنه أن يقوم بإصلاح عقائدهم.

وفي هذا المورد يقول بعض المحقّقين : إنّ الخرافات السائدة بين أهل الحديث أوجبت سقوط عقائدهم عن مقامها في نفوس الناس ، بعد ما كانت قد طبقت العالم الإسلامي ، وانتشرت في أرجاء البلاد ، ولما قام الإمام الأشعري بالإصلاح ، بإحلال التنزيه ، مكان التجسيم ، حلّت محلّها عقيدة الأشعريّة بعد هدوء الجو ، وبسرعة تتناسب مع تغيير العقائد في العادة.

والعقيدة الأشعريّة هي عقيدة حنبليّة معدلة ، وقد تصرفت في جميع ما كان غير معقول في العقيدة الأُم ، وهي الحنبلية. (27)

وقد توفّق الرجل في عمليّة الإصلاح في بعض المجالات ، غير أنّه أبقى مسائل أُخرى على حالها ، فممّا توفق فيه مثلاً هو : القول بكون القرآن قديماً ، أو الاعتقاد بالجبر والقدر ، بحيث يكون الإنسان مسبّراً لا مخيّراً ، أو إثبات الصفات الخبريّة لمعانيها الحقيقيّة على الله تعالى ، كاليد والرجل والعين وسائر الأعضاء التي كانت الحنابلة وأهل الحديث يثبتونها بوضوح ، وكان سبباً لسقوط هذه العقائد في نفوس العقلاء والمفكّرين ، فجاء الإمام الأشعري بإصلاح وتغيير في هذه الأفكار المشوهة ، فجعل القديم من القرآن ، هو الكلام النفسي القائم بالله تبارك وتعالى ، لا القرآن الملفوظ والمكتوب والمسموع ، كما أنّه فسّر مسألة الجبر والقدر بأنّ الله سبحانه هو الخالق للأفعال خيرها وشرّها ، ولكن العبد كاسب لها ، فللعبد دور في أفعاله باسم الكسب كما يأتي ، ومع ذلك فقد أبقى رؤية الله تعالى في الآخرة بهذه الأبصار الظاهرة على حالها ، ولم يفسّرها بشيء.

يقول الشيخ الكوثري في تقديمه على كتاب التبيين ، عن عصر المتوكّل : ففي ذلك الزمان ارتفع شأن الحشويّة والنواصب ، وقمع أهل النظر والمعتزلة ، والحشويّة يجرون على طيشهم وعمايتهم واستتباعهم الرعاع والغوغاء ، ويتقولون في الله ما لا يجوّزه الشرع ولا العقل ، من إثبات الحركة له ، والنقلة ، والحد ، والجهة ، والقعود والاقعاء والاستلقاء والاستقرار ، إلى نحوها ممّا تلقّوه بالقبول من دجاجلة الملبسين من الثنوية وأهل الكتاب ، وممّا ورثوه من أُمم قد خلت ويؤلّفون في ذلك كتباً يملأونها بالوقيعة بالآخرين ، متذرعين بالسنّة ومعزين إلى السلف ، يستغلون ما ينقل عن بعض السلف من الأقوال المجملة التي لا حجّة فيها ، وكانت المعتزلة تتغلب على عقول المفكّرين من العلماء ، ويسعون في استعادة سلطانهم على الأُمّة ، وأصناف الملاحدة والقرامطة الذين توغلوا في الفساد ، واحتلّوا البلاد ، ففي مثل هذه الظروف قام الإمام أبو الحسن الأشعري لنصرة السنّة وقمع البدعة ، فسعى أوّلاً للإصلاح بين الفريقين من الأُمّة بإرجاعهما عن تطرّفهما إلى العدل ، قائلاً للأوّلين : أنتم على الحقّ إذا كنتم تريدون بخلق القرآن ، اللفظ والتلاوة والرسم ، وللآخرين : أنتم مصيبون إذا كان مقصودكم بالقديم ، الصفة القائمة بذات الباري غير البائنة منه ، وأسماه بالكلام النفسي.

وقام بمثل هذا الجمع في مسألة الرؤية فقال للأوّلين : نفي المحاذاة والصورة صواب ، غير أنّه يجب عليكم الاعتراف بالتجلّي من غير كيف. وقال لأصحاب الحديث : إيّاكم من إثبات الصورة والمحاذاة ، وكلّ ما يفيد الحدوث ، وأنتم على صواب إن اقتصرتم على إثبات الرؤية للمؤمنين في الآخرة من غير كيف. (28)

أقول : إنّ هذا الإصلاح لو صحّ فإنّما هو بفضل ما تمرن عليه بين أصحاب التفكير والتعقّل ، وعرف منهم التنزيه والتشبيه. ولولاه لما كان له هذا التوفيق البارز ، وسيوافيك أنّه وإن نجح في هذا الأمر ، لكنّه نجاح نسبي لا نجاح على الإطلاق. فإنّ المذهب الأشعري عند التحليل يتّفق مع أحد المنهجين ، وإن كان يتظاهر بأنّه على مذهب المحدّثين ، ولكنّه تارة يوافقهم ، وأُخرى يخالفهم ويوافق المعتزلة في اللب والمعنى ، وإن كان يخالفهم في القشر واللفظ كما سيظهر.

كلام لأبي زهرة

إنّه تصدى للردّ على المعتزلة ومهاجمتهم ، فلابدّ أن يلحن بمثل حجّتهم ، وأن يتّبع طريقتهم في الاستدلال ، ليفلح عليهم ، ويقطع سباتهم ، ويفحمهم بما بين أيديهم ، ويرد حججهم عليهم.

إنّه تصدى للردّ على الفلاسفة ، والقرامطة ، والباطنية ، والحشوية والروافض وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل الباطلة ، وكثير من هؤلاء لا يقنعه إلّا أقيسة البرهان ، ومنهم فلاسفة علماء لا يقطعهم إلّا دليل العقل ، ولا يرد كيدهم في نحورهم أثر أو نقل.

ولقد نال الأشعري منزلة عظيمة ، وصار له أنصار كثيرون ، ولقي من الحكّام تأييداً ونصراً ، فتعقّب خصومه من المعتزلة والكفّار ، وأهل الأهواء في كلّ مكان ، وبث أنصاره في الأقاليم والجهات ، يحاربون خصوم الجماعة ومخالفيها ، ولقّبه أكثر العلماء بإمام أهل السنّة أو الجماعة.

ولكن مع ذلك بقي له من علماء الدين مخالفون منابذون ، فابن حزم يعدّه من الجبريّة ، لرأيه في أفعال الإنسان (29) ، ويعده من المرجئة لرأيه في مرتكب الكبيرة (30) ، وقد تعقّبه في غير هاتين المسألتين ، ولكن مع ذلك ذاب مخالفوه في لجّة التاريخ الإسلامي ، واشتدّ ساعد أنصاره جيلاً بعد جيل ، وقويت كلمتهم وقد حذوا حذوه ، وسلكوا مسلكه ، وقاموا بما كان يقوم به هو والماتريدي من محاربة المعتزلة والملحدين ، ومنازلة لهم في كلّ ميدان من ميادين القول ، وكلّ باب من أبواب الإيمان ، ومذاهب اليقين.

ومن أبرزهم وأقواهم شخصية وأبينهم أثراً أبو بكر الباقلاني (31) ، فقد كان عالماً كبيراً ، هذّب بحوث الأشعري ، وتكلّم في مقدمات البراهين العقلية للتوحيد ، فتكلّم في الجوهر والعرض ، وأنّ العرض لايقوم بالعرض ، وأنّ العرض لا يبقى زمانين ، إلى آخر ما هنالك ، ولم يقتصر في الدعوة لمذهب الأشعري على ما وصل إليه من نتائج ، بل ذكر أنّه لا يجوز الأخذ بغير ما أشار إليه من مقدّمات لإثبات تلك النتائج ؛ فكان ذلك مغالاة وشططاً في التأييد والنصرة ، فإنّ المقدّمات العقليّة لم تذكر في كتاب أو سنّة ، وميادين العقل متّسعة ، وأبوابه مفتحة ، وطرائقه مسلوكة ، وعسى أن يصل الناس إلى دلائل وبينّات من قضايا العقول ونتائج الإفهام لم يصل إليها الأشعري ، وليس من شرّ في الأخذ بها ما دامت لم تخالف ما وصل إليه من نتائج ، وما اهتدى إليه من ثمرات فكريّة. (32)

وما أُطري به الشيخ الأشعري ، على طرف النقيض ممّا جاء به نفسه في كتابه « الإبانة » ، فإنّه أيّد فيه مقالة الحشوية بأحاديث مدسوسة من جانب الأحبار والرهبان.

والحقّ أنّ الشيخ الأشعري خدم الحشويّة خدمة جليلة ، فصار سبباً لديمومية أمد أنفاسها ، في الوقت الذي كانت قد شارفت فيه على الزوال والفناء ؛ فالناظر في كتاب « الإبانة » يقف على أنّه بصدد إثبات عقائد الحشوية بالنصوص والروايات ، مع الإصرار على عدم الحيادة عنها قيد أنملة.

والله سبحانه هو الواقف على سرائره ، وإنّه لماذا تاب عن الاعتزال وانضوى تحت لواء عقائد الحشوية ، وما يذكرون له من المبرّرات والأعذار لا محصل وراءها.

وأمّا كتابه « اللمع » وهو وإن كان لم ينسجه على غرار كتاب الإبانة ، بل أفرغه في قالب من البرهنة والاستدلال ، ولكنّه استعمل البرهان على إحياء عقائد أهل الحديث والحشوية ، ونسف الاتجاه العقلي ؛ غفر الله له ولنا.

مع ذلك ، لم يقبل منه أهل الحديث ما أراد من التعديل ، كالحسن بن علي بن خلف البربهاري ، الذي كان أكبر أصحاب أبي بكر المروزي ، وخليفته في القول بأنّ المقام المحمود هو أن يُقعِد الله رسوله معه على العرش.

روى القاضي ابن أبي يعلى بسنده : أنّه ما كان يجلس مجلساً إلّا ويذكر فيه أنّ الله عزّوجلّ ـ يُقعِد محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم معه على العرش ، وليس هذا بغريب عن مثل البربهاري ، إنّما الغريب أن يتبعه من ينسب إلى العلم مثل ابن قيم وأُستاذه ابن تيميّة محيي البدع في القرن الثامن.

قال الأوّل : المراد من المقام المحمود إقعاد الرسول على العرش. (33)

وقال الثاني فيما ردّ به على « أساس التقديس » للرازي عند الكلام في الاستواء : ولو شاء الله لاستقرّ على ظهر بعوضة ، فاستقلت بقدرته ، فكيف على عرش عظيم (34) ؟

وقد حكى ابن أبي يعلى في طبقاته بطريق الأهوازي حيث قال : قرأت على علي القومسي عن الحسن الأهوازي قال :

سمعت أبا عبد الله الحمراني يقول : لمّا دخل الأشعري بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول : رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ، ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس ، وقلت وقالوا ، وأكثر الكلام ، فلمّا سكت قال البربهاري : وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً ، ولا نعرف إلّا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل. قال : فخرج من عنده وصنف كتاب « الإبانة » فلم يقبله منه ، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها. (35)

والحقّ أنّ كتاب « الإبانة » لا يفترق عمّا كتبه أبناء الحنابلة في عقائدهم قدر شعرة ، ففيه الجبر والتجسيم والتشبيه ، إلى غير ذلك ممّا يعتقده المتطرّفون من أهل الحديث ، ولأجل ذلك شكّ بعض المحقّقين كالشيخ محمّد زاهد الكوثري في صحّة نسبة ما طبع من الإبانة إلى الشيخ الأشعري صيانة لمقامه عن بعض الأُمور الشنيعة الواردة فيه ممّا لا يفترق عن التجسيم والجهة.

ملامح المذهب الأشعري

إنّ الاطّلاع التفصيلي على ملامح وسمات مذهب الإمام الأشعري يتطلب سبر أغوار كتبه على الوجه التفصيلي ، وعرض آرائه وأنظاره ، غير أنّا هنا نركز على أمرين رئيسيّين يميّزان ذلك المذهب عمّا تقدّمه من مذهب المحدّثين ، وإليك بيانهما :

١ ـ عدم عزل « العقل » في مجال العقائد

كانت المعتزلة تعتمد على العقل في المسائل الكلاميّة ، ويؤوّلون النصوص القرآنية عندما يجدونها مخالفة لآرائهم ـ بزعمهم ـ ولا يكادون يعتمدون على السنّة ، ولأجل ذلك نرى أنّهم أوّلوا الآيات الكثيرة الواردة حول الشفاعة ـ الدالّة على غفران الذنوب بشفاعة الشافعين ـ بأنّ المراد رفع درجات الصالحين بشفاعة الشفعاء ، لا غفران ذنوب الفاسقين.

وكان المحدّثون يرون الكتاب والسنّة مصدراً للعقائد ، وينكرون العقل ورسالته في مجالها ، ولم يعدّوه من أدوات المعرفة في الأُصول ، فكيف في الفروع ، ولا شكّ أنّ هذا خسارة كبيرة لا تجبر.

وقد جاء الإمام الأشعري بمنهج معتدل بين المنهجين ، وقد أعلن أنّ المصدر الرئيسي للعقائد هو الكتاب والسنّة ، وفي الوقت نفسه خالف أهل الحديث بذكاء خاصّ عن طريق استغلال البراهين العقليّة والكلاميّة على ما جاء في الكتاب والسنّة.

كان أهل الحديث يحرّمون الخوض في الكلام ، وإقامة الدلائل العقليّة على العقائد الإسلاميّة ، ويكتفون بظواهر النصوص والأحاديث ، ولكن الأشعري بعد براءته من الاعتزال وجنوحه إلى منهج أهل الحديث ، كتب رسالة خاصّة في استحسان الخوض في الكلام (36). وبذلك جعل نفسه هدفاً لعتاب الحنابلة المتزمّتين الذين كانوا يرون الخوض في هذه المباحث نوعاً من الزيغ والضلال.

ولأجل ذلك تفترق كتب الشيخ الأشعري وتلاميذ منهج هـ ممّن أتوا بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني ، وعبد القاهر البغدادي ، وإمام الحرمين أبي المعالي الجويني ـ عن كتب الحنابلة المتعبّدين بظواهر النصوص. وقد عزلوا العقل عن الرسالة المودعة له ، حتّى في الكتاب والسنّة. ولوجود هذا التفاوت ظلّ المذهب الأشعري غير مقبول عند الحنابلة في فترات من الزمن.

ولأجل ذلك ترى أنّ الأشعري بحث عن كثير من العقليّات والحسيّات التي لا صلة لها بالعقيدة والديانة ، لمّا وجد أنّ المعتزلة والفلاسفة بحثوا عنها بلسان ذلق وذكاء بارز ، وترى أنّ الجزء الثاني من كتاب « مقالات الإسلاميين » يبحث عن الجسم والجواهر ، والجوهر الفرد ، والطفرة والحركة والسكون ، إلى غير ذلك من المباحث التي يبحث عنها في الفلسفة في الأُمور العامّة ، وفي قسم الطبيعيّات.

ومع أنّ الإمام الأشعري أعطى للعقل مجالاً خاصاً في باب العقائد أخذ ينكر التحسين والتقبيح العقليّين ولا يعترف بهما.

وبذلك افترق عن منهج الاعتزال والعدليّة بكثير ، واقترب من منهج أهل الحديث ، وقد سمعت أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته أنّه كان يقول بالعدل وقد انخلع منه.

والخسارة التي توجّهت إلى المذهب الكلامي الأشعري من تلك الناحية لا تجبر أبداً ، كما سيوافيك بيانه عند عرض آرائه.

٢ ـ العقيدة الوسطى بين العقيدتين

ربّما يتخيّل القارئ من إنابة الأشعري إلى مذهب أهل الحديث أنّه لجأ إلى عقيدة المحدّثين ـ وفيهم أهل التنزيه والتقديس ، وفيهم أهل التشبيه والتجسيم ـ وقبل ذلك المنهج بلا تغيير ولا تصرّف ، ويقوى ذلك التخيّل إذا اطّلع على ما ذكره في مقدّمة كتاب « الإبانة » ، حيث إنّه يصرح فيها بأنّه على مذهب أئمّة الحديث ، وفي مقدّمتهم إمام الحنابلة ، ويقول : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها ، التمسّك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ وبسنّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمّة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل ـ نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبت هـ قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون ، لأنّه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحقّ ، ودفع به الضلال ، وأفصح به المنهاج ، وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين ، وشكّ الشاكّين ، فرحمة الله عليه من إمام مقدّم ، وجليل معظم ، وكبير مفخم ، وعلى جميع أئمّة المسلمين. (37)

ويقرب من ذلك ما ذكره في مقالات الإسلاميّين ، حيث إنّه بعد ما سرد عقائد أهل الحديث قال : وبكلّ ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب. (38)

إلّا أنّ السابر في كتبه يقف على أنّ هذه التصاريح ليست على إطلاقها ، وإنّما اتّخذها واجهة لإيجاد المنهج الوسط بين المنهجين.

فإذا كان بعض أهل الحديث يصرون على إثبات الصفات الخبريّة لله تعالى ، كالوجه واليد والرجل والاستواء على العرش ، حتّى اشتهروا بالصفاتيّة ، كما اشتهرت المعتزلة بنفاة الصفات ومؤوّليها. فجاء إمام الأشاعرة بمنهج وسط ، وزعم أنّه قد أقنع به كلا الطرفين ، فاعترف بهذه الصفات كما ورد في الكتاب والسنّة بلا تأويل وتصرّف ، ولما كان إثباتها على الله سبحانه بظواهرها يلازم التشبيه والتجسيم ـ وهما يخالفان العقل ، ولا يرضى بهما أهل التنزيه من العدليّة ـ أضاف كلمة خاصّة أخرجته عن مغبّة التشبيه ومزلقة التجسيم ، وهي أنّ لله سبحانه هذه الصفات لكن بلا تشبيه وتكييف.

وهذا هو المميّز الثاني لمنهج الأشعري ، فقد تصرف في الجمع بين المنهجين في كلّ مورد بوجه خاص ، وسيجيء الكلّ عند عرض آرائه ونظراته.

وقد تفطّن إلى ما ذكرناه بعض من جاء بعده ، منهم :

ابن عساكر في ترجمته عن الأشعري فقال : إنّه نظر في كتب المعتزلة ، والجهمية والرافضة ، فسلك طريقة بينها. قال جهم بن صفوان : العبد لا يقدر على إحداث شيء ولا على كسب شيء ، وقالت المعتزلة : هو قادر على الإحداث والكسب معاً. فسلك طريقة بينهما ، فقال : العبد لا يقدر على الإحداث ، ويقدر على الكسب. فنفى قدرة الإحداث وأثبت قدرة الكسب ، وكذلك قالت الحشوية المشبهة : إنّ الله سبحانه يُرى مكيّفاً محدوداً كسائر المرئيّات ، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية : إنّه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال ، فسلك طريقة بينهما فقال : يرى من غير حلول ، ولا حدود ، ولا تكييف ، فكما يرانا هو سبحانه وتعالى وهو غير محدود ولا مكيّف ، كذلك نراه وهو غير محدود ولا مكيّف.

وكذلك قالت النجارية : إنّ الباري سبحانه بكلّ مكان من غير حلول ولا جهة وقالت الحشوية والمجسّمة : إنّه سبحانه حال في العرش وإنّ العرش مكان له ، وهو جالس عليه. فسلك طريقة بينهما فقال : كان ولا مكان فخلق العرش والكرسي ولم يحتج إلى مكان ، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه ، وقالت المعتزلة : يده يد قدرة ونعمة ، وجهه وجه وجود ؛ وقالت الحشوية : يده يد جارحة ، ووجهه وجه صورة. فسلك طريقة بينهما فقال : يده يد صفة ، ووجهه وجه صفة ، كالسمع والبصر.

وكذلك قالت المعتزلة : النزول : نزول بعض آياته وملائكته ، والاستواء بمعنى الاستيلاء. وقالت المشبهة والحشوية : النزول : نزول ذاته بحركة ، وانتقال من مكان ، إلى مكان ، والاستواء : جلوس على العرش وحلول فيه. فسلك طريقة بينهما فقال : النزول صفة من صفاته ، والاستواء صفة من صفاته وفعل من أفعاله في العرش يسمّى الاستواء (39).

إلى غير ذلك من الموارد التي تصرّف فيها في المذاهب والمناهج وكوّن منها مذهباً.

وقال « زهدي حسن جار الله » المصري :

« لقد كان المستقبل ، بعد الحركة الرجعيّة ، يلوح سيّئاً قاتماً ، وكان يبدو أنّ العناصر الرجعية ، ستدوس كلّ ماعداها ، وأنّ كلّ حركة ترمي إلى التقدم العلمي ، والتحرّر الفكري ، ستخمد أنفاسها ... لولا أن قام « أبو الحسن الأشعري » المتوفّى٣٣٠ هـ ، فأنقذ ما أمكن إنقاذه من الموقف ... كان الأشعري معتزلياً صميماً ، ولكنّه أدرك ببصره النافذ وعقله الراجح ، حقيقة الوضع. رأى الهوة بين أهل السنّة وبين أهل الاعتزال في اتّساع وازدياد ، ووجد الحركة الرجعيّة تقوى وتشتدّ ، فعلم أنّ الاعتزال صائر لا محالة إلى زوال.

فأزعجته هذه الحقيقة المروعة وأقضّت مضجعه ، ولذلك تقدم إلى العمل ... فتنكّر للمعتزلة ، وأعلن انفصاله عنهم ورجوعه إلى حظيرة السنّة (40) غير أنّه لم يرجع إليها فعلاً كما أعلن للملأ ، بل اتّخذ طريقاً وسطاً بينها وبين مذهب المعتزلة (41) ، وقد صادف هذا العمل قبولاً لدى الناس ، ماعدا الحنابلة ، ولاقى استحساناً ، ولا عجب فإنّ الجمود على التقليد ، ما كان ليروق للكثيرين بسبب تقدم الأُمّة في الحضارة واقتباسها العلوم العقليّة ، واطّلاعها على فلسفة الأقدمين ، وفي الوقت نفسه أصبح الناس لا يرتاحون إلى المعتزلة بعد أن تطرّفوا في عقائدهم ، وأساءوا التصرّف مع غيرهم. فكانت الحاجة تدعو إلى من يؤلّف بين وجهتي نظر السنّة والاعتزال ، وهذا هو ما بدأه الأشعري ، وأكمله من بعده أتباعه الكثيرون الذين اعتنقوا مذهبه ، وساروا على طريقه ، وهم صفوة علماء الإسلام في وقتهم ، وخيرة رجاله ، كالقاضي أبي بكر الباقلاني (42) المتوفّى٤٠٣ هـ ، وابن فورك ـ المت (43) وفّى ٤٠٦ هـ ـ ، وأبي إسحاق الإسفرائيني المتوفّى ٤١٨ هـ (44) ، وعبد القاهر البغدادي المتوفّى ٤٢٩ هـ (45) والقاضي أبي الطيب الطبري المتوفّى ٤٥٠ هـ (46) ، وأبي بكر البيهقي المتوفّى ٤٥٨ هـ (47) ، وأبي القاسم القشيري المتوفّى ٤٦٥ هـ (48) ، وأبي إسحاق الشيرازي المتوفّى ٤٧٦ هـ رئيس المدرسة النظاميّة ببغداد (49) ، وإمام الحرمين أبي المعالي الجوينيالمتوفّى ٤٧٨ هـ. (50)

والإمام الغزالي المتوفّى ٥٠٥ هـ (51) ، الذي أصبحت الأشعرية بجهوده كلاماً مقبولاً في الإسلام ، وابن تومرت المتوفّى ٥٢٤ هـ المغربي ، تلميذ الغزالي الذي نشر الأشعرية في بلاد المغرب (52) ، والشهرستاني المتوفّى ٥٤٨ هـ (53) ، وغيرهم كثير ، شرحوا عقائد الأشعري ونظّموها وزادوا عليها ودافعوا عنها بالأدلّة والبراهين العقليّة ، فكان لهم أكبر الفضل وأعظم الأثر في نجاح المذهب الأشعري وانتشاره.

وممّا يدلّ دلالة واضحة على أنّ هذه الحركة التي قام بها الأشعري كانت ضروريّة ، ويظهر لنا بجلاء أنّ الناس كانوا يشعرون بوجوب وضع حدّ لذلك النزاع المستحكم بين أهل السنّة وبين المعتزلة باتّباع طريق وسط بين قوليهما ، أنّ اثنين من كبار علماء المسلمين المعاصرين للأشعري قاما ـ على بعدهما عنه ـ بنفس المحاولة التي قام الأشعري بها في البصرة ، وهما أبوجعفر الطحاوي المتوفّى ٣٣١ هـ (54) ، الحنفي في مصر ، وأبو منصور الماتريدي المتوفّى ٣٣٣ هـ الحنفي في سمرقند.

يلاحظ عليه : بالرغم ممّا ذكره هذا الكاتب المصري ، فإنّ الأشعري لم يتّخذ موقفاً محايداً ، بل استعمل سلاح العقل ضد المعتزلة ، فهو بدل أن يستعمله في نصرة الدين ، استعمله في هدم الاعتزال ، ولأجل ذلك خدم الرجعيّة خدمة عظيمة وأنقذها من الهلاك والدمار ؛ ترى أنّه دعا إلى رؤية الله سبحانه يوم القيامة الذي لا ينفك عن القول بالتجسيم والتشبيه ، وإن أضاف إليه بأنّ الرؤية بلا إثبات جهة وكيف ؛ وإلى القول بالخلق والقدر الذي يجعل الإنسان كالريشة في مهب الرياح ، وإن أضاف إليه بأنّ العبد كاسب والله خالق ـ ولم يُفهم معنى الكسب إلى يومنا هذا ، بل صار شيئاً معقّداً فسره كلّ حسب ذوقه ـ والى إنكار التحسين والتقبيح العقلييّن اللّذين يبتنى عليهما لزوم تصديق الأنبياء عند التحدي بالمعاجز ، إلى غير ذلك من الأُصول التي كانت عليها عقيدة أهل الحديث.

والله سبحانه هو العالم بالضمائر والمقاصد ، وإنّ الشيخ الأشعري لماذا استخدم سلاح المنطق ضدّ دعاة الحريّة والاختيار ، وهل كان هذا مجاراة للرأي العام وطمعاً في كسب عواطف الحنابلة ، أو كان هناك غاية أُخرى لا نعرفها ، ولكن الله من وراء القصد.

وقد وقف الكاتب على سوء قضائه ، فاستدركه في موضع آخر من كلامه ، وقال :

استمرّت الحركة الرجعيّة في الدولة الإسلاميّة بعد ظهور الأشعريّة قويّة ، وقد قلت : إنّ الأشعريّة نفسها بالنسبة إلى الاعتزال ، السابق لها ، كانت حركة رجعيّة ، وكانت رجعيّة أيضاً بمعنى آخر ، وذلك أنّها استخدمت سلاح العقل والمنطق الذي أخذته عن المعتزلة ، لا في نصرة الدين فحسب ، بل في مقاومة الاعتزال وهدمه ، وقد يكون الأشاعرة فعلوا ذلك مجاراة للرأي العام ، وطمعاً في كسب عطفه وتأييده ، ومهما يكن فجدير بنا أن نلاحظ أنّ الأشاعرة خضعوا للقوى الرجعيّة إلى حدّ كبير ، فإنّهم وصلوا في تقدّمهم الفكري إلى درجة لم يقدروا أن يتجاوزوها كما تجاوزها المعتزلة ، ولذلك فقد استولى عليهم الجمود ، وصاروا إلى ركود ، ومن أدلّة سيطرة الرجعيّة على الموقف ما يذكره « مسكويه » : أنّ عضد الدولة البويهي أفرد في داره موضعاً خاصاً للحكماء والفلاسفة يجتمعون فيه للمفاوضة ، آمنين من السفهاء ورعاع العامة. (55)

ولهذا فإنّ الحركات الفكريّة التي ظهرت بعد نكبة المعتزلة ، كإخوان الصفا ، لم تجسر أن تعلن عن نفسها خشية طغيان العامة عليها ، فاضطرّت إلى أن تعمل في الخفاء ، فكان من أسوأ النتائج التي ترتّبت على ذلك ، شيوع عادة تأليف الفرق والجمعيّات السرية كالقرامطة والحشّاشين الذين كان لهم أثر كبير في إضعاف الإسلام وتأخيره ، أمّا الذين وجدوا في أنفسهم الجرأة ليتابعوا دروسهم وأبحاثهم على رؤوس الأشهاد ، وهم جماعة الفلاسفة كالفارابي ، وابن سينا ، وابن رشد ، فقد كانوا مكروهين ، وظلوا طوال الوقت يحيون في جوّ ناء منفصل عن الجو الذي تعيش فيه سائر الأُمّة. (56)

٣ ـ انتشار المذهب الأشعري في البلاد

ثمّ إنّ الظاهر ممّن ترجموه هو أنّ المذهب الأشعري انتشر من فوره ، يقول الكوثري : وفّقه الله لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم ، وقمع المعاندين وكسر تطرّفهم ، وتواردت عليه المسائل من أقطار العالم فأجاب عنها ، فطبق ذكره الآفاق ، وملأ العالم بكتبه وكتب أصحابه في السنّة ، والرد على أصناف المبتدعة والملاحدة وأهل الكتاب.

وتفرق أصحابه في بلاد العراق وخراسان والشام وبلاد المغرب ، ومضى لسبيله ، وبعد وفاته بيسير استعاد المعتزلة بعض قوّتهم في عهد بني بويه ، لكن الإمام ناصر السنّة أبا بكر بن الباقلاني قام في وجههم ، وقمعهم بحججه ، ودان للسنّة على الطريقة الأشعريّة أهل البسيطة إلى أقصى بلاد أفريقيّة. (57)

وقد جعله ابن عساكر أحد من يقيّضه الله سبحانه في رأس كلّ مائة سنة ، يعلّم الناس دينهم ، فيعدّ في المائة الأُولى عمر بن عبد العزيز ، وفي المائة الثانية الشافعي ، وفي المائة الثالثة أبا الحسن الأشعري ، وعلى رأس المائة الرابعة ابن الباقلاني. (58)

أقول : مضافاً إلى أنّ أصل الحديث غير ثابت ، وأنّ جعل هؤلاء من مجدّدي المذهب ـ خصوصاً عمر بن عبد العزيز ، مع كونه معاصراً للإمام الباقر عليه السلام الذي لا يشكّ في إمامته في العلوم من له إلمام بالتاريخ ـ من الغرائب ، إنّ ما ذكره ابن عساكر هنا يضادُّ ما ذكره في موضع آخر من أنّ عامة المسلمين وجمهورهم كانوا لا يأتمون بمذهبه في عصر ابن عساكر ، حيث قال :

إن قيل : إنّ الجم الغفير في سائر الأزمان ، وأكثر العامة في جميع البلدان ، لا يقتدون بالأشعري ولا يقلّدونه ولا يرون مذهبه ولا يعتقدونه ، وهم السواد الأعظم ، وسبيلهم السبيل الأقوم.

قيل : لا عبرة بكثرة العوام ولا الالتفات إلى الجهّال ، وإنّما الاعتبار بأرباب العلم ، والاقتداء بأصحاب البصيرة والفهم ، وأُولئك في أصحابه أكثر ممّن سواهم ، ولهم الفضل والتقدّم على من عداهم ، على أنّ الله عزّوجلّ قال : ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) (59).

على أنّ ابن النديم لا يذكر من أصحابه إلّا شخصين : الدمياني وحمويه من أهل سيراف قال : وكان الأشعري يستعين بهما على المهاترة والمشاغبة ، وقد كان فيهما علم بمذهبه ، ولا كتاب لهما يعرف. (60)

ولأجل عدم انتشار مذهبه في عصره بل بعد مدّة من وفاته ، نجد الحنابلة لا يترجمونه في طبقاتهم ، ولا يعدونه منهم ، وتمقته الحشوية منهم فوق مقت المعتزلة ، مع أنّه صرح في بعض كلماته بأنّه على مذهب أحمد. (61)

نعم ، لا شكّ في انتشار مذهبه بعد القرن السادس إلى أن صار مذهباً رسميّاً للسنّة في جميع الأقطار ، وقلّ من يتخلّف عنه ، وهو مستمر إلى العصر الحاضر.

يقول تقي الدين أبو العبّاس المقريزي المتوفى عام ٨٤٥ هـ بعد سرد عقائده إجمالاً : فهذه جملة في أُصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلاميّة ، والتي من جهر بخلافها أُريق دمه. (62)

ولأجل هذه الشهرة نرى أصحاب المذاهب يتجاذبونه إلى مذاهبهم. فالشافعيّة تقول : إنّه كان شافعياً ، والمالكيّة تقول : إنّه كان مالكيّاً. وبما أنّه نشأ في العراق فالظاهر أنّه نشأ على مذهب أبي حنيفة ، وإنّما هو رجع عن الاعتزال الذي هو مذهب كلامي ، ولم يرجع عن مذهب فقهي. ولكن الظاهر من مقدّمة كتاب هـ الإبانة ـ أنّه كان على مذهب إمام الحنابلة. وقال الكوثري : إنّ الغاية من هذه المظاهرة هو النفوذ في الحشويّة ليتدرج بهم إلى معتقد أهل السنّة.

وعلى كلّ تقدير فلم يعلم مذهبه الفقهي على وجه التحقيق.

هذا والخدمة التي قام بها الأشعري في مقابلة المجسّمة والمشبّهة وأصحاب البدع واليهوديّة والمسيحيّة خدمة نسبيّة لا تنكر ، غير أنّ الذي يؤسف المسلم الغيور هو : أن نرى متزمتة الوهابيّة وبعض رجال الإصلاح في هذا العصر داعين إلى مذهب الحشويّة باسم السلفيّة مقلّدين في كلّ ما يذكره شيخهم ابن تيميّة الذي يقول عند الكلام في الاستواء : ولو شاء الله لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على عرش عظيم (63) وتلميذه المعروف بابن القيم الذي يفسر المقام المحمود في قوله تعالى : ( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) (64) بإقعاد الرسول على العرش. (65)

٤ ـ مؤلّفاته

وقد فهرس الشيخ نفسه كتبه في كتاب سمّاه « العمدة » كما فهرس غيره. فقد أخرج ابن عساكر أسماء كتبه التي صنّفها إلى سنّة ٣٢٠ هـ ، وبلغت أسماء كتبه إلى ثمانية وتسعين كتاباً ، غير أنّ أكثر هذه الكتب عصفت بها عواصف الدهر فأهلكتها ، فلم يصل إلينا منها إلّا القليل. ولعلّ في مكتبات العالم المعمورة بالمخطوطات الشرقيّة ، بعضاً منها. وإليك دراسة الكتب الموجودة المطبوعة :

١ ـ « الإبانة عن أُصول الديانة » : طبع كراراً ، والطبعة الأخيرة طبعة مكتبة دار البيان بدمشق عام ١٤٠١ هـ ، وعبر عنه ابن النديم في فهرسته بـ « التبيين عن أُصول الدين ». (66)

يقول ابن عساكر : إنّ الحنابلة لم يقبلوا منه ما أظهره في كتاب « الإبانة » وهجروه ، ويضيف أيضاً : إنّ الشيخ إسماعيل الصابوني النيسابوري ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلّا وبِيَده كتاب الإبانة. (67)

وقد نقل ابن عساكر الفصلين الأوّلين من الكتاب في « التبيين ». وما جاء في مقدّمتها فقد أورده في « مقالات الإسلاميّين » عند البحث عن عقائد أهل الحديث باختلاف يسير ، وما جاء به الأشعري في ذينك الكتابين يوافق ما ذكره إمام الحنابلة في عقائد أهل الحديث في كتابه « السنّة » غير أنّ تعبيرات الأشعري إلى التنزيه أقرب من كتاب « السنّة » ، وكلمات « الإمام » إلى التجسيم أميل.

مثلاً : يقول إمام الحنابلة : والله تعالى سميع لا يشك ، بصير لا يرتاب ، عليم لا يجهل ، يقظان لا يسهو ، قريب لا يغفل ، يتكلّم ويسمع وينظر ويبصر ، ويضحك ويفرح ، ويحب ويكره ويبغض ، ويرضى ويغضب ، ويسخط ويرحم ، ويعطي ويمنع ، وينزل تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الربّ عزّوجلّ ، يقلّبها كيف يشاء ويوعيها ما أراد. وخلق الله عزّ وجلّ آدم بيده ، السماوات والأرض يوم القيامة في كفّه ، ويخرج قوماً من النار بيده ، وينظر أهل الجنّة إلى وجهه ، ويرونه فيكرمهم ، ويتجلّى لهم فيعطيهم ، ويعرض عليه العباد يوم الفصل والدين ، ويتولّى حسابهم بنفسه لا يولي ذلك غيره عزّ وجلّ.

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق ، فهو جهمي كافر ؛ ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ، فلم يقل مخلوق ولا غير مخلوق ، فهو أخبث من الأوّل ؛ ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة ، والقرآن كلام الله فهو جهمي ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (68)

٢ ـ « مقالات الإسلاميّين » ، والكتاب يتناول البحث عن الفرق الإسلاميّة ، وطبع في جزءين في مجلّد واحد عام ١٣٦٩ هـ بتحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد.

٣ ـ « اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع » طبع غير مرّة ، وهذا خاصة أنضج كتبه ، تجد مستواه فوق كتاب « الإبانة » ، وهو خير مصور لعرض آرائه ونظرياته الكلاميّة ، ولأجل ذلك نعرض آراءه ونظرياته على ضوء هذا الكتاب.

المقارنة بين الكتابين : «الإبانة » و « اللمع »

إنّ الناظر في أحوال الشيخ أبي الحسن الأشعري يظن بادئ ذي بدء ، أنّه ألّف كلّا من الكتابين لنصرة السنّة ، والدفاع عن عقيدة أهل الحديث التي كانت تتمثّل يوم ذاك ـ يوم أعلن انفصاله عن المعتزلة وانخراطه في سلك أهل السنّة والحديث ـ في الآراء والعقائد الموروثة عن إمام الحنابلة ، ولكنّه إذا قام بعمل المقايسة والمقارنة بين الكتابين سرعان ما يعدل عن تلك العقيدة ، ويخرج من البحث بنتيجة تتباعد عنها بكثير ، ويقضي بأنّ « الإبانة » أُلِّفت لنصرة عقيدة أهل الحديث وكسر صولة المعتزلة دون « اللمع » ، لأنّه في الثاني أعمق تفكيراً ، وأشدّ عناية بالأدلّة العقليّة ، ولا يظهر منه أيّة عناية بابن حنبل ومنهجه العقائدي ، بل يظهر له جليّاً أنّ الشيخ في الكتاب الأخير بصدد طرح أُصول يعتقد بها هو ، سواء أكانت موافقة لعقائد الحنابلة أم لا ، وسواء أكان لهم فيها نفي أم لا ، وسواء أوصلت إليها فكرتهم أم لا.

وهذه النتيجة تنعكس على ذهنيّة القارئ عن طريق طرح الأُصول الموجودة في الكتابين وإليك بيانها إجمالاً :

١ ـ إنّ الشيخ في « الإبانة » : بعد ما طرح في الباب الأوّل عقيدة أهل الزيغ ـ وهم حسب عقيدته عبارة عن المعتزلة والقدرية والجهمية والمرجئة والحرورية والرافضة ـ طرح في الباب الثاني قول أهل الحقّ والسنّة بادئاً كلامه بقوله :

قولنا الذي نقول به ، وديانتنا التي ندين بها : التمسّك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ ، وبسنّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمّة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل ـ نضّر الله وجهه ، ورفع درجته ، وأجزل مثوبته ـ قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون. لأنّه الإمام الفاضل ، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحقّ ، ودفع به الضلال ، وأفصح به المنهاج ، فقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين ، وشكّ الشاكّين ، فرحمة الله عليه من إمام مقدّم ، وجليل معظّم ، وكبير مفخّم ، وعلى جميع أئمّة المسلمين.

ترى أنّه يجعل عقيدة إمام الحنابلة عدلاً لما روي عن الصحابة والتابعين ، ويعرفه كإمام متمسّك بالحق ومعتصم به ، على وجه يبلغ به مقام العصمة في القول والرأي ، ولكنّه في « اللمع » لا يتحدّث عنه أبداً ، ولا يذكر عنه شيئاً ، بل يتفرّد بطرح المسائل على ما يتبّناه هو ، وإقامة الدلائل العقليّة عليها.

٢ ـ إنّ الأشعري لا يتحدّث في كتاب « الإبانة » عن تنزيه الحقّ جلّ وعلا عن الجسم والجسمانيّة بحماس وأسلوب صريح ، بل يحاول إثبات الصفات الخبريّة ، كالوجه واليدين له سبحانه ، كما يحاول إثبات استوائه على عرشه تعالى ويقول : « وإنّ الله استوى على عرشه » كما قال : ( الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) (69) ، وإنّ له وجهاً بلا كيفكما قال : ( وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) (70) ، وانّ له يدين بلا كيف كما قال : ( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (71) ، وكما قال : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (72) وإنّ له عيناً بلا كيف كما قال : ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) (73) (74).

ترى أنّه اكتفى في التنزيه بلفظ مجمل وهو قوله : « بلا كيف » مع أنّ اللفظ المجمل لا يفيد الناظر شيئاً ولا يصونه من أن يقع في ورطة التشبيه والتجسيم. ولكنّه في « اللمع » لم يتعرض للوجه واليدين والاستواء على العرش ، بل أهمل ذلك إهمالاً تاماً ، وزاد على ذلك التصريح القاطع بتنزيه الله عن الجسميّة ، وعلوِّه أن يكون مشابهاً للحوادث.

٣ ـ ترى بوادر التجسيم في « الإبانة » بوضوح ، ونأتي بنماذج من ذلك :

أ. ما ذكره تأييداً لقوله : إنّ الله عزّوجلّ مستو على عرشه ، أنّه روى نافع بن جبير عن أبيه : ينزل الله عزّوجلّ كلّ ليلة إلى سماء الدنيا فيقول : هل من سائل فأعطيه ، هل من مستغفر فأغفر له ، حتّى يطلع الفجر. (75)

ب. إنّه يصرّ على البينونة التامّة بين الخالق والمخلوق ، ويقول : إنّه ليس في خلقه ، ولا خلقُهُ فيه ، وإنّه مستو على عرشه بلا كيف ولا استقرار. (76)

ومع ذلك لم يتفطن لظاهر قوله سبحانه : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (77) وقوله : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ) (78) والآيتان تنافيان البينونة الكاملة التي يدّعيها الأشعري.

ج. ويستدلّ على أنّ الله في السماء بما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه سأل جارية فقال لها : أين الله ؟ قالت : في السماء. فقال : فمن أنا ؟ قالت : أنت رسول الله. فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم للرجل الذي كان بصدد عتقها : أعتقها فإنّها مؤمنة. (79)

د. ويقول : إنّه سبحانه يضع السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من غير تكييف (80) ويكتفي في نفي التجسيم بكلمة مجملة ، أعني قوله : « من غير تكييف ».

٤ ـ إنّ الشيخ في « الإبانة » يصرّح بأنّه لا خالق إلّا الله ، وأنّ أعمال العبيد مخلوقة لله مقدورة ، كما قال : ( وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (81) ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقُون. (82)

ومن المعلوم أنّ القول بأنّ فعل العبد مخلوق لله لا ينفكّ عن الجبر وسلب الاختيار عن الفاعل ، لأنّ الفعل إذا كان مخلوقاً له سبحانه ، وكان هو الموجد والمحقّق ، فما معنى كون العبد مسؤولاً عن فعله ـ خيره وشره ـ ؟

ولمّا كان أهل الحديث معتقدين بهذا ـ مع كونه نفس الجبر ـ أبقاه بحاله ، ولم يشر في كتاب « الإبانة » إلى شيء يعالج تلك المسألة العويصة.

وهذا بخلاف ما في « اللمع » فإنّه أضاف فيه إلى خالقيّة الربّ ، كاسبيّة العبد وقال : « إن الله هو الخالق ، والعبد هو الكاسب » وبذلك عالج مشكلة الجبر وخرج من مغبته ، وصحّح مسؤوليّة العبد لأجل الكسب.

هذه مميّزات كتاب « الإبانة » وخصوصيّاته ، وماجاء فيه من الأُصول ، وجميعها يؤيّد أنّه قد أُلّف لغاية نصرة مذهب أحمد بن حنبل ، والذي كان يمثل نظريّة أهل الحديث والمحدّثين جميعاً.

وأمّا « اللمع » فقد طرح فيه مسائل ، أهملها في « الإبانة » نشير إلى بعضها :

١ ـ مسألة التعديل والتجويز

إنّ لتلك المسألة دوراً عظيماً في تمييز المنهج الأشعري عن المعتزلي ، ولبّ المسألة يرجع إلى إثبات التحسين والتقبيح العقليين وإنكارهما ، فالمعتزلة على الأوّل والأشعري وأشياعه على الثاني ، و ـ لأجل ذلك ـ أنكروا توصيفه سبحانه بالعدل بالمفهوم المحدّد عند العقل ، بل قالوا إنّ كلّ ما يفعله فهو عدل سواء أكان عند العقل عدلاً أم جوراً ، وقد ركّز على ذلك الأشعري في « اللمع » حتّى قال : يصحّ لله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة. وهو عادل إن فعله. وكذلك كلّ ما يفعله حتّى تعذيب المؤمنين وإدخال الكافرين الجنان ، وإنّما نقول لا يفعل ذلك ، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين. وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره. (83)

ولكنّه لم يُعلَم إلى الآن أنّ الشيخ من أين علم أنّه لا يجوز عليه تعالى الكذب ؟ فإن علم ذلك من إخباره سبحانه بأنّه لا يكذب ، فننقل الكلام إلى إخباره هذا ، فمن أين نعلم أنّه سبحانه لا يكذب في إخباره هذا « إنّه لا يكذب » فإنّه كما يحتمل الكذب في سائر إخباره ، يحتمل حتّى في نفس هذا الإخبار ؛ وإن علم من حكم العقل بأنّ الكذب قبيح ، والقبيح لا يجوز عليه ، فهو عين الاعتراف بالتقبيح العقلي ، ولو في مورد واحد.

ولأجل ذلك قلنا في الأبحاث الكلاميّة إنّ إثبات الحسن والتقبيح الشرعيّين يتوقّف على قبول حكم العقل بقبح الكذب على الشارع ، حتّى يثبت بقبوله سائر إخباره بالحسن والقبح. وقبوله في مورد ، يوجب انهدام القاعدة وبطلانها ، أعني كون التحسين والتقبيح شرعيين لا عقليين.

٢ ـ مسألة الاستطاعة والقدرة

لقد فصَّل الإمام الأشعري الكلام في الاستطاعة والقدرة وركَّز على أنّها غير متقدّمة على الفعل بل معه دائماً ـ ومع ذلك ـ اعترف بأنّ قدرة الله قديمة متقدّمة على فعله ، ولم يعلم وجه التفريق بينهما.

هذا مع أنّ كون إحدى القدرتين واجبة والأُخرى ممكنة ، لا يكون فارقاً في وجوب تقدّم إحداهما على الفعل ، وتقارن الأُخرى معه. ومع أنّ رأيه هذا يخالف الفطرة الإنسانيّة ، فإنّ كلّ إنسان يرى بالوجدان قدرته على القيام حال القعود ، وعلى المشي حال القيام.

٣ ـ ما هو حدّ الإيمان ؟

بحث عن حدّ الإيمان فقال : الإيمان بمعنى التصديق ، وإنّ مرتكب الكبيرة من أهل القبلة مؤمن بإيمانه ، فاسق بفسقه وكبيرته ، لا كافر كما عليه الخوارج ، ولا هو برزخ بين الإيمان والكفر ، كما عليه المعتزلة.

٤ ـ الآيات الواردة حول الوعد والوعيد

طرح الآيات الواردة حول الوعد والوعيد ، وعالج التعارض المتوهَّم بينهما ، حيث إنّ ظاهر بعض آيات الوعيد ، هو تعذيب كلّ فاجر وإن كان موحداً مسلماً ، مثل قوله : ( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) (84) ، وظاهر بعض الآيات أنّ المسلم الجائي بالحسنة في الجنّة ، مثل قوله : ( مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) (85) ، فعالج ذلك التعارض الابتدائي بوجه خاص.

والسير في الكتابين والمقارنة بين فصولهما والأُصول المطروحة فيهما ، وكيفيّة البرهنة عليها ، يعرب للباحث أنّ هناك هوة سحيقة بين مذهب الأشعري في « الإبانة » ، ومذهبه في « اللمع » ، وأنّ تلامذة مدرسته استثمروا ماجاء به الشيخ في « اللمع » ، دون ما في « الإبانة » ، وجعلوه هو الأصل ، وأشادوا بنيانه ، وأكبّوا على دراسته ، ولأجل ذلك أصرُّوا على التنزيه ، وركّزوا على الكسب ، وأسّسوا منهجاً كلاميّاً ، بين مذهب الحشويّة من أهل الحديث والمعتزلة من المتكلّمين.

ما هو الداعي إلى التصويرين المختلفين ؟

إنّ هنا سؤالاً يطرح نفسه : إذا كان ما يعتقده الأشعري من الأُصول هو ما جاء به في « الإبانة » ، فما هو الداعي للتصويرين المختلفين في مذهب الحقّ ؟

والإجابة عن هذا السؤال مشكلة جداً ، وعلى ضوء ما ذكرناه حول الدوافع التي دعت الشيخ الأشعري إلى الانخراط في سلك أهل الحديث ، يمكن أن يقال : إنّ الهدف الأسمى للشيخ كان هو تعديل عقائد الحشوية ، من أهل الحديث الذين كانوا يتعبّدون بكلّ حديث من دون معالجة أسناده ، أو مضمونه ، وتقييمه في سوق الاعتبار ، وكان تحقّق ذلك الهدف رهن الانخراط في سلكهم ، والرجوع عن أعدائهم ومخالفيهم ، ولذلك أعلن الشيخ التوبة عن الاعتزال ونصرة مذهب إمام الحديث ومقدامه.

ولكن لمّا لم يكن ذلك كافياً في الأخذ بمجامع قلوبهم ، وصرف نفوسهم وأهوائهم إلى نفسه ، عمل كتاب « الإبانة » حتّى يرضي قلوبهم ويملأ عيونهم مع إقحام بعض الكلمات التي تناسب التنزيه وتخالف التجسيم فيها.

ولمّا تربّع على سدَّة الحكم وآمنت أصناف من الحشوية به ، أخذ بالتعديل والإصلاح ، وبيّن ما يعتقد به من المذهب الحقّ ، الذي هو منهج وسط ين العقيدة الحنبليّة والمعتزلة ؛ فألّف كتاب « اللمع » ، وبذلك يمكن أن يقال إنّ « الإبانة » أسبق تأليفاً من « اللمع ».

إنّ ما بين الباحثين عن منهج الإمام الأشعري من يوافقنا في النتيجة ، وقد وصل إليها من طريق غير ما سلكناه ، وإليك نصّه : « إنّ الصورة العقليّة التي يصوّرها في « الإبانة » قد صوّرت أوّلاً ، والصورة العقليّة التي يصوّرها في « اللمع » قد صوّرت أخيراً ، وإنّها كانت تجديداً لمذهب الأشعري في وضعه النهائي الذي مات صاحبه وهو يعتنقه ، ويعتقد صحّته ، ويدافع عنه ، ويرضاه لأتباعه ، وأسباب هذا الترجيح ـ كون اللمع أُلِّف بعد الإبانة ـ كثيرة ، فمنها ما هو نفسي ، ومنها ما هو علمي.

وممّا يعود إلى الأسباب النفسية أنّنا نرى الأشعري في كتاب « الإبانة » أشرق أسلوباً ، وأكثر تحمّساً ، وأعظم تحاملاً على المعتزلة ، وأكثر بعداً عن آرائهم ، وهذه مظاهر نفسية يجدها المرء في نفسه تجاه رأيه الذي يتركه إبّان تركه أو بُعَيْدَ التنازل عنه ، أمّا من الناحية العلميّة فحسب القارئ أن يراجع باباً مشتركاً في الكتابين ليرى أنّ كتاب « اللمع » في ذلك الباب أحاط بمسائل ، وأجاد في عرض أدلّتها ، وأفاض في بيان اعتراضات خصومه ، وأحسن في الردّ عليها ، وذاك ممّا يدلّ على أنّ كتاب « اللمع » لم يكتب إلّا في الوقت الذي نضج فيه المذهب في نفس صاحبه ، وأنّه لم يصوّره في هذا الكتاب إلّا بعد أن أصبح واضحاً عنده. (86)

والفرق بين التحليلين واضح ، فعلى ما ذكرناه نحن لم يكن للإمام الأشعري بعد الرجوع عن الاعتزال إلّا مذهب واحد وفكرة خاصّة ، وقد عرضها بعد ما اصطنع الصورة الأُولى ليكسب بها رضى الحنابلة أو يتجنّب شرّهم.

وعلى ما ذكره ذلك الباحث تكون الصورتان لمرحلتين مختلفتين في تطوّره الفكري بعد تحوّله عن مذهب المعتزلة ، فالصورة الأُولى صورة غير ناضجة ، وربّما أعان عليها حنقه على الاعتزال وخصومته معهم ، والصورة الثانية صورة ناضجة أبدتها فاكرته بعد ملاءمة الظروف ورجوع الهدوء إلى ذهنه وفكره.

ثمّ إنّ بين الباحثين الغربيين من يرجّح العكس ، وأنّ الصورة العقليّة عنده بعد الرجوع عن الاعتزال ، يعطيها كتاب « اللمع » ، لكنّه لما رحل من البصرة إلى بغداد في أُخريات حياته ووقع تحت نفوذ الحنابلة ألّف كتاب « الإبانة » ، وأثبت الوجه واليدين لله سبحانه. والله أعلم.

٥ ـ رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام

قد أثبت في ذلك الكتاب استحسان الخوض في المسائل الكلاميّة واستدلّ بالآيات ، وبذلك قضى على فكرة أهل الحديث الذين يحرّمون الخوض في المباحث العقليّة ، ويستندون في عقائدهم بظواهر الكتاب والسنّة ، وقد طبع للمرة الثالثة في حيدر آباد الدكن ـ الهند ـ ، عام ١٤٠٠ هـ ـ ١٩٧٩ م ، وطبع أيضاً في ذيل كتاب « اللمع » الآنف ذكره ، وهو بكتابه هذا خالف السنّة المتبعة بين أهل الحديث ، كما أثارهم على نفسه ، وبما أنّ تلك الرسالة ـ على اختصارها ـ لا تخلو من نكات وتعرب عن مبلغ وروده بالكتاب وكيفيّة استنباطه منه ، نأتي بنصّ الرسالة هنا تماماً. قال بعد التسمية والحمد والتسليم :

أمّا بعد فإنّ طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم ، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين ، ومالوا إلى التخفيف والتقليد ، وطعنوا على من فتش عن أُصول الدين ونسبوه إلى الضلال ، وزعموا أنّ الكلام في الحركة والسكون والجسم والعرض والألوان والأكوان والجزء والطفرة وصفات الباري عزّوجلّ بدعة وضلالة ، وقالوا : لو كان هدى ورشاداً لتكلّم فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخلفاؤه وأصحابه ! قالوا : ولأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يمت حتّى تكلّم في كلّ ما يحتاج إليه من أُمور الدين ، وبيّنه بياناً شافياً ، ولم يترك بعده لأحد مقالاً فيما للمسلمين إليه حاجة من أُمور دينهم ، وما يقربهم إلى الله عزّوجلّ ويباعدهم عن سخطه ؛ فلمّا لم يرووا عنه الكلام في شيء ممّا ذكرناه ، علمنا أنّ الكلام فيه بدعة ، والبحث عنه ضلالة ، لأنّه لو كان خيراً لما فات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولتكلَّموا فيه ، قالوا : ولأنّه ليس يخلو ذلك من وجهين : إمّا أن يكونوا علموه فسكتوا عنه ، أو لم يعلموه بل جهلوه ؛ فإن كانوا علموه ولم يتكلّموا فيه وسعنا أيضاً نحن السكوت عنه ، كما وسعهم السكوت عنه ، ووسعنا ترك الخوض كما وسعهم ترك الخوض فيه ، ولأنّه لو كان من الدِّين ما وسعهم السكوت عنه ، وإن كانوا لم يعلموه وسعنا جهله كما وسع أُولئك جهله ، لأنّه لو كان من الدين لم يجهلوه ، فعلى كلا الوجهين الكلام فيه بدعة ، والخوض فيه ضلالة ؛ فهذه جملة ما احتجّوا به في ترك النظر في الأُصول.

قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : الجواب عنه من ثلاثة أوجه :

أحدها قلب السؤال عليهم بأن يقال : النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقل أيضاً إنّه من بحث عن ذلك وتكلّم فيه فاجعلوه مبتدعاً ضالاً ، فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضُلّالاً إذ قد تكلّمتم في شيء لم يتكلّم فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وضلّلتم من لم يضلّله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

الجواب الثاني أن يقال لهم : إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يجهل شيئاً ممّا ذكرتموه من الكلام في الجسم والعرض ، والحركة والسكون ، والجزء والطفرة ، وإن لم يتكلّم في كلّ واحد من ذلك معيّناً ، وكذلك الفقهاء والعلماء من الصحابة ، غير أنّ هذه الأشياء التي ذكرتموها معينة ، أُصولها موجودة في القرآن والسنّة جملة غير منفصلة.

فأمّا الحركة والسكون والكلام فيهما فأصلهما موجود في القرآن ، وهما يدلّان على التوحيد ، وكذلك الاجتماع والافتراق ، قال الله تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم صلوات عليه وسلامه في قصّة أُفول الكوكب الشمس والقمر (87) وتحريكها من مكان إلى مكان ، ما دلّ على أنّ ربّه عزّوجلّ لا يجوز عليه شيء من ذلك ، وأنّ من جاز عليه الأُفول والانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله.

وأمّا الكلام في أُصول التوحيد فمأخوذ أيضاً من الكتاب ، قال الله تعالى : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا ) (88) ، وهذا الكلام موجز منبه على الحجّة بأنّه واحد لا شريك له ، وكلام المتكلّمين في الحجاج في التوحيد بالتمانع والتغالب فإنّما مرجعه إلى هذه الآية ، وقوله عزّوجلّ : ( مَا اتَّخَذَ اللَّـهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) (89) إلى قوله عزّوجلّ : ( أَمْ جَعَلُوا لِلَّـهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ ) (90).

وكلام المتكلّمين في الحجاج في توحيد الله إنّما مرجعه إلى هذه الآيات التي ذكرناها ، وكذلك سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد والعدل إنّما هو مأخوذ من القرآن ، فكذلك الكلام في جواز البعث واستحالته الذي قد اختلف عقلاء العرب ومن قبلهم من غيرهم فيه حتّى تعجبوا من جواز ذلك فقالوا : ( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) (91) وقولهم : ( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) (92) ، وقولهم : ( مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (93) وقوله تعالى : ( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ) (94) ، وفي نحو هذا الكلام منهم إنّما ورد بالحجاج في جواز البعث بعد الموت في القرآن تأكيداً لجواز ذلك في العقول ، وعلم نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولقّنه الحجاج عليهم في إنكارهم البعث من وجهين على طائفتين : منه طائفة أقرّت بالخلق الأوّل وأنكرت الثاني ، وطائفة جحدت ذلك بقدم العالم فاحتجّ على المقِر منها بالخلق الأوّل بقوله : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) (95) ، وبقوله : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (96) وبقوله : ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (97) ، فنبّههم بهذه الآيات على أنّ من قدر أن يفعل فعلاً على غير مثال سابق فهو أقدر أن يفعل فعلاً محدثاً ، فهو أهون عليه فيما بينكم وتعارفكم ، وأمّا الباري جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه فليس خلقُ شيء بأهون عليه من الآخر ، وقد قيل : إنّ الهاء في « عليه » إنّما هي كناية للخلق بقدرته ، إنّ البعث والإعادة أهون على أحدكم وأخف عليه من ابتداء خلقه ، لأنّ ابتداء خلقه إنّما يكون بالولادة والتربية وقطع السرة والقماط وخروج الأسنان ، وغير ذلك من الآيات الموجعة المؤلمة ، وإعادته إنّما تكون دفعة واحدة ليس فيها من ذلك شيء ، فهي أهون عليه من ابتدائه ، فهذا ما احتج به على الطائفة المقرّة بالخلق.

وأمّا الطائفة التي أنكرت الخلق الأوّل والثاني ، وقالت بقدم العالم فإنّما دخلت عليهم شبهة بأن قالوا : وجدنا الحياة رطبة حارة ، والموت بارداً يابساً ، وهو من طبع التراب ، فكيف يجوز أن يجمع بين الحياة والتراب والعظام النخرة فيصير خلقاً سويّاً ، والضدّان لا يجتمعان ، فأنكروا البعث من هذه الجهة.

ولعمري إنّ الضدّين لا يجتمعان في محلّ واحد ، ولا في جهة واحدة ، ولا في الموجود في المحلّ ، ولكنّه يصحّ وجودهما في محلين على سبيل المجاورة ، فاحتج الله تعالى عليهم بأن قال : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) (98) ، فردّهم الله عزّ وجلّ في ذلك إلى ما يعرفونه ويشاهدونه من خروج النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على برده ورطوبته ، فجعل جواز النشأة الأُولى دليلاً على جواز النشأة الآخرة ، لأنّها دليل على جواز مجاورة الحياة التراب والعظام النخرة ، فجعلها خلقاً سوياً وقال : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) (99).

وأمّا ما يتكلّم به المتكلّمون من أنّ الحوادث أوّلاً (100) وردّهم على الدهريّة أنّه لا حركة إلّا وقبلها حركة ، ولا يوم إلّا وقبلها يوم ، والكلام على من قال : ما من جزء إلّا وله نصف لا إلى غاية ، فقد وجدنا أصل ذلك في سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قال : « لا عدوى ولا طيرة » فقال أعرابي : فما بال الإبل كأنّها الظباء تدخل في الإبل الجَربى فتجرب ؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : « فمن أعدى الأوّل ؟ » فسكت الأعرابي لمّا أفحمه بالحجّة المعقولة.

وكذلك نقول لمن زعم أنّه لا حركة إلّا وقبلها حركة : لو كان الأمر هكذا لم تحدث منها واحدة ، لأنّ ما لا نهاية له لا حدث له ، وكذلك لما قال الرجل : يا نبي الله ! إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود وعرض بنفيه ، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : هل لك من إبل ؟ فقال : نعم ! قال : فما ألوانها ، قال : حمر ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « هل فيها من أورق ؟ » قال : نعم ! إنّ فيها أورق ، قال : « فأنّى ذلك ؟ » قال : لعلّ عرقاً نزعه ، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ولعلّ ولدك نزعه عرق ». فهذا ما علم الله نبيّه من ردّ الشيء إلى شكله ونظيره ، وهو أصل لنا في سائر ما نحكم به من الشبيه والنظير.

وبذلك نحتجّ على من قال : إنّ الله تعالى وتقدّس يشبه المخلوقات ، وهو جسم ، بأن نقول له : لو كان يشبه شيئاً من الأشياء لكان لا يخلو من أن يكون يشبهه من كلّ جهاته ، أو يشبهه من بعض جهاته ؛ فإن كان يشبهه من كلّ جهاته وجب أن يكون محدثاً من كلّ جهاته ، وإن كان يشبهه من بعض جهاته وجب أن يكون محدثاً مثله من حيث أشبهه ، لأنّ كلّ مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها له ، ويستحيل أن يكون المحدث قديماً والقديم محدثاً ، وقد قال تعالى وتقّدس : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (101) وقال تعالى وتقدّس : ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (102).

وأمّا الأصل بأنّ للجسم نهاية وأنّ الجزء لا ينقسم فقوله عزّوجلّ اسمه : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) (103) ومحال إحصاء ما لا نهاية له ، ومحال أن يكون الشيء الواحد ينقسم (104) ، لأنّ هذا يوجب أن يكونا شيئين ، وقد أخبر أنّ العدد وقع عليهما.

وأمّا الأصل في أنّ المحدث للعالم يجب أن يتأتى له الفعل نحو قصده واختياره وتنتفي عنه كراهيّته ، فقوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ) (105) ، فلميستطيعوا أن يقولوا بحجّة أنّهم يخلقون مع تمنّيهم الولد ، فلا يكون مع كراهيّته له ، فنبّههم أنّ الخالق هو من يتأتى منه المخلوقات على قصده.

وأمّا أصلنا في المناقضة على الخصم في النظر فمأخوذ من سنّة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وذلك تعليم الله عزّوجلّ إيّاه حين لقي الحبر السمين ، فقال له : نشدتك بالله هل تجد فيما أنزل الله تعالى من التوراة أنّ الله تعالى يبغض الحبر السمين ؟ فغضب الحبر حين عيّره بذلك ، فقال : « ما أنزل الله على بشر من شيء » ، فقال الله تعالى : ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا ) (106). فناقضه عن قرب ، لأنّ التوراة شيء ، وموسى بشر ، وقد كان الحبر مقرّاً بأنّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى.

وكذلك ناقض الذين زعموا أنّ الله تعالى عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان تأكله النار ، فقال تعالى : ( قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (107) فناقضهم بذلك وحاجهم.

وأمّا أصلنا في استدراكنا مغالطة الخصوم فمأخوذ من قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ـ إلى قوله ـ لَا يَسْمَعُونَ ) (108) فإنّها لمّا نزلت هذه الآية بلغ ذلك عبد الله بن الزبعري ـ وكان جدلاً خصماً ـ فقال : خصمت محمّداً وربّ الكعبة ، فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال : يا محمّد ! ألست تزعم أنّ عيسى وعزيراً والملائكة عبدوا ؟ فسكت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا سكوت عي ولا منقطع ، تعجّباً من جهله ، لأنّه ليس في الآية ما يوجب دخول عيسى وعزير والملائكة فيها ، لأنّه قال : ما تَعبدون ولم يقل وكلّ ما تعبدون من دون الله ، وإنّما أراد ابن الزبعري مغالطة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليوهم قومه أنّه قد حاجّه ، فأنزل الله عزّوجلّ : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ ) يعني من المعبودين ( أُولَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) (109) ، فقرأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك ، فضجّوا عند ذلك لئلّا يتبيّن انقطاعهم وغلطهم ، فقالوا : ( أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) يعنون عيسى ، فأنزل الله تعالى : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) إلى قوله ( خَصِمُونَ ) (110) ، وكلّ ما ذكرناه من الآي أو لم نذكره أصل ، وحجّة لنا في الكلام فيما نذكره من تفصيل ، وإن لم تكن مسألة معيّنة في الكتاب والسنّة ، لأنّ ما حدث تعيينها من المسائل العقليّات في أيّام النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والصحابة قد تكلّموا فيه على نحو ما ذكرناه.

والجواب الثالث : إنّ هذه المسائل التي سألوا عنها قد علمها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يجهل منها شيئاً مفصلاً ، غير أنّها لم تحدث في أيّام معينة فيتكلّم فيها ، أو لا يتكلّم فيها ، وإن كانت أُصولها موجودة في القرآن والسنّة ، وما حدث من شيء فيما له تعلّق بالدين من جهة الشريعة فقد تكلّموا فيه وبحثوا عنه وناظروا فيه وجادلوا وحاجّوا ، كمسائل العول والجدات من مسائل الفرائض ، وغير ذلك من الأحكام ، وكالحرام والبائن والبتة وحبلك على غاربك. وكالمسائل في الحدود والطلاق ممّا يكثر ذكرها ، ممّا قد حدثت في أيّامهم ، ولم يجئ في كلّ واحدة منها نصّ عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لأنّه لو نصّ على جميع ذلك ما اختلفوا فيها ، وما بقي الخلاف إلى الآن.

 وهذه المسائل ـ وان لم يكن في كلّ واحدة منها نصّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنّهم ردّوها وقاسوها على ما فيه نصّ من كتاب الله تعالى والسنّة واجتهادهم ، فهذه أحكام حوادث الفروع ، ردّوها إلى أحكام الشريعة التي هي فروع لا تستدرك أحكامها إلّا من جهة السمع والرسل ، فأمّا حوادث تحدث في الأُصول في تعيين مسائل فينبغي لكلّ عاقل مسلم أن يرد حكمها إلى جملة الأُصول المتّفق عليها بالعقل والحس والبديهة وغير ذلك ، لأنّ حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع أن تكون مردودة إلى أُصول الشرع الذي طريقه السمع ، وحكم مسائل العقليّات والمحسوسات أن يرد كلّ شيء من ذلك إلى بابه ، ولا يخلط العقليّات بالسمعيّات ولا السمعيّات بالعقليّات ، فلو حدث في أيّام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الكلام في خلق القرآن وفي الجزء والطفرة بهذه الألفاظ لتكلّم فيه وبيّنه ، كما بيّن سائر ما حدث في أيّامه من تعيين المسائل ، وتكلّم فيها.

ثمّ يقال : النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يصحّ عنه حديث في أنّ القرآن غير مخلوق أو هو مخلوق ، فلم قلتم : إنّه غير مخلوق ؟

فإن قالوا : قد قاله بعض الصحابة وبعض التابعين.

قيل لهم : يلزم الصحابي والتابعي مثل ما يلزمكم من أن يكون مبتدعاً ضالاً إذ قال ما لم يقله الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فإن قال قائل : فأنا أتوقّف في ذلك فلا أقول : مخلوق ولا غير مخلوق.

قيل له : فأنت في توقّفك في ذلك مبتدع ضالّ ، لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقل : إن حدثت هذه الحادثة بعدي توقّفوا فيها ولا تقولوا فيها شيئاً ، ولا قال : ضلّلوا وكفّروا من قال بخلقه أو من قال بنفي خلقه.

وخبرونا ، لو قال قائل : إن علم الله مخلوق ، أكنتم تتوقّفون فيه أم لا ؟

فإن قالوا : لا ، قيل لهم : لم يقل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا أصحابه في ذلك شيئاً ؛ وكذلك لو قال قائل : هذا ربّكم شبعان أو ريان ، أو مكتس أو عريان ، أو مقرور أو صفراوي أو مرطوب ، أو جسم أو عرض ، أو يشم الريح أو لا يشمّها ، أو هل له أنف وقلب وكبد وطحال ، وهل يحجّ في كلّ سنة ، وهل يركب الخيل أو لا يركبها ، وهل يغتمّ أم لا ؟ ونحو ذلك من المسائل ، لكان ينبغي أن تسكت عنه ، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يتكلّم في شيء من ذلك ولا أصحابه ، أو كنت لا تسكت ، فكنت تبيّن بكلامك أنّ شيئاً من ذلك لا يجوز على الله عزّوجلّ ، وتقدس كذا وكذا بحجّة كذا وكذا.

فإن قال قائل : أسكت عنه ولا أُجيبه بشيء ، أو أهجره ، أو أقوم عنه ، أو لا أسلم عليه ، أو لا أعوده إذا مرض ، أو لا أشهد جنازته إذا مات.

قيل له : فيلزمك أن تكون في جميع هذه الصيغ التي ذكرتها مبتدعاً ضالاً ، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقل : من سأل عن شيء من ذلك فاسكتوا عنه ، ولا قال : لا تسلّموا عليه ، ولا : قوموا عنه ، ولا قال شيئاً من ذلك ، فأنتم مبتدعة إذا فعلتم ذلك ، ولم لم تسكتوا عمّن قال بخلق القرآن ، ولمَ كفرتموه ، ولم يرد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حديث صحيح في نفي خلقه ، وتكفير من قال بخلقه.

فإن قالوا : إنّ أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، قال بنفي خلقه ، وتكفير من قال بخلقه.

قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أحمد عن ذلك بل تكلّم فيه ؟

فإن قالوا : لأنّ العبّاس العنبري ووكيعاً وعبد الرحمن بن مهدي وفلاناً وفلاناً قالوا إنّه غير مخلوق ، ومن قال بأنّه مخلوق فهو كافر.

قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أُولئك عمّا سكت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟

فإن قالوا : لأنّ عمرو بن دينار وسفيان بن عيينة وجعفر بن محمّد رضي الله عنهم وفلاناً وفلاناً قالوا : ليس بخالق ولا مخلوق.

قيل لهم : ولِمَ لم يسكت أولئك عن هذه المقالة ، ولم يقلها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟

فإن أحالوا ذلك على الصحابة أو جماعة منهم كان ذلك مكابرة. فإنّه يقال لهم : فلم لم يسكتوا عن ذلك ، ولم يتكلّم فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولا قال : كفروا قائله.

وإن قالوا : لابدّ للعلماء من الكلام في الحادثة ليعلم الجاهل حكمها.

قيل لهم : هذا الذي أردناه منكم ، فلم منعتم الكلام ، فأنتم إن شئتم تكلّمتم ، حتّى إذا انقطعتم قلتم : نهينا عن الكلام ؛ وإن شئتم قلدتم من كان قبلكم بلا حجّة ولا بيان ، وهذه شهوة وتحكّم.

ثمّ يقال لهم : فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يتكلّم في النذور والوصايا ، ولا في العتق ، ولا في حساب المناسخات ، ولا صنف فيها كتاباً كما صنعه مالك والثوري والشافعي وأبو حنيفة ، فيلزمكم أن يكونوا مبتدعة ضلّالاً إذ فعلوا ما لم يفعله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقالوا ما لم يقله نصّاً بعينه ، وصّنفوا ما لم يصنّفه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقالوا بتكفير القائلين بخلق القرآن ولم يقله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. وفيما ذكرنا كفاية لكلّ عاقل غير معاند.

أنجز والحمد لله ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلم.

وجه تسمية علم الكلام ، بالكلام

قال في المواقف : إنّما سمّي كلاماً إمّا لأنّه بازاء المنطق للفلاسفة ، أو لأنّ أبوابه عنونت أوّلاً بالكلام في كذا ، أو لأنّ مسألة الكلام أشهر أجزائه حتّى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه ، أو لأنّه يورث قدرة على الكلام في الشرعيّات ومع الخصم. (111)

قد ذكر التفتازاني في « شرح العقائد النسفيّة » في وجه تسمية علم العقائد بعلم الكلام وجوهاً ستّة ، وكلّها مرجوحة ، وإليك نصّه :

١ ـ إنّ عنوان مباحث ذلك العلم كان قولهم : الكلام في كذا.

٢ ـ لأنّه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم ، كالمنطق للفلسفة.

٣ ـ لأنّه أوّل ما يجب من العلوم التي تُتعلّم بالكلام.

٤ ـ لأنّه إنّما يتحقّق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين.

٥ ـ لأنّه أكثر العلوم خلافاً ونزاعاً ، فيشتدّ افتقاره إلى الكلام.

٦ ـ لأنّه لقوّة أدلّته صار كأنّه هو الكلام دون ما عداه. (112)

إنّ واحداً من هذه الوجوه لا يقبله الذوق ، لأنّ جميعها أو أكثرها مشترك بين علم العقائد وغيره من العلوم ، فلماذا اختصّ ذاك العلم به ولم يطلق على سائر العلوم ؟

والظاهر أنّ تسميته به لأحد وجهين تاليين :

١ ـ إنّ أوّل خلاف وقع في الدين كان في كلام الله عزّوجلّ ، وأنّه أمخلوق هو أو غير مخلوق ؟ فتكلّم الناس فيه ، فسمّي هذا النوع من العلم كلاماً واختص به. (113)

يلاحظ عليه : أنّ حدوث القرآن وقدمه لم يكن أوّل خلاف وقع في الدين ، بل سبقته عدّة خلافات.

منها : كون صيغة الخلافة هي التنصيص أو اختيار الأُمّة ، وبعبارة أُخرى : هل الخليفة بعد رسول الله أبو بكر أو عليّ ؟

ومنها : أنّ مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن فاسق ، أو لا مؤمن ولا كافر بل منزلة بين المنزلتين ، أو كافر ؟ فقد أثار أمر التحكيم في « صفّين » هذه المسألة.

طرحت هذه المسألة في الأوساط الإسلاميّة قبل أن يطرح قدم القرآن أو حدوثه.

ومنها : أنّ الإيمان إذعان وقول وعمل ، أو إذعان فقط ، أو إذعان بشرط الإظهار ، إلى غير ذلك من الوجوه.

ومنها : مسألة الجبر والاختيار ، وسيادة القدر على حريّة الإنسان بل على قدرة الربّ فلا يغيّر ولا يبدّل المقدر ، أو غير ذلك.

فهذه المسائل متقدّمة على البحث عن قدم القرآن وحدوثه.

وإنّما طرحت هذه المسألة في أوائل الخلافة العباسيّة بين الأوساط.

نعم ، ينسب القول بالحدوث إلى آخر الخلفاء من المروانيّين ، وأنّه أخذ حدوث القرآن عن الجعد بن درهم ، ولم يوجد القول بالقدم والحدوث في أواخر المروانيّين دوياً بين الناس.

٢ ـ إنّ تسمية علم العقائد بالكلام لأجل أنّ ذاك العلم بالصورة العقليّة كان مهنة للمعتزلة وحرفة لهم ، وبما أنّ هؤلاء كانوا أرباب الفصاحة والبلاغة وكانوا يدافعون عن عقيدتهم بأفصح العبارات وأبلغها وأوكدها ، فلذلك اشتهروا بأصحاب الكلام ، وسمِّي من لصق بذلك وتمهّر فيه متكلماً ، والله العالم.

الهوامش

1. وفيات الأعيان : ٣ / ٢٨٤ نقلاً عن ابن الهمداني في ذيل تاريخ الطبري.

2. التبيين : ١٤٦.

3. فهرست ابن النديم : ٢٥٦.

4. التبيين : ٣٨.

5. وفيات الأعيان : ٤ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨ رقم الترجمة ٦٠٧ ، ونقله السبكي في طبقات الشافعية : ٢ / ٢٥٠ ـ ٢٥١ مع اختلاف يسير ، كما نقله في الروضات : ٥ / ٢٠٩ عن صلاح الدين الصفدي في كتابه : الوافي بالوفيات.

6. السجدة : ٧.

7. المؤمنون : ١١٥.

8. الإسراء : ٨٥.

9. الروم : ٧.

10. طبقات الشافعية : ٢ / ٢٥١ ـ ٢٥٢ بتلخيص منّا.

11. مريم : ١٢.

12. لسان العرب : ١٢ / ١٤٠ ، ط بيروت ، مادة حكم.

13. النساء : ١٧١.

14. ربيع الأبرار للزمخشري ؛ وفي نهج البلاغة قسم الحكم ، الرقم ١٠٩ ، ما يماثله : « نحن النمرقة الوسطى ـ بضمّ النون وسكون الميم وضم الراء ـ بها يلحق التالي وإليها يرجع الغالي ».

15. التبيين : ١٤١ ؛ تاريخ بغداد : ١١ / ٣٤٧.

16. يونس : ٦٧.

17. في المصدر : « الشروي » وهو لحن.

18. مقدمة الإبانة : ١٦ ، بقلم أبي الحسن الندوي.

19. التبيين : ١٤٢.

20. الخطط المقريزية : ٢ / ٣٥٩.

21. مذاهب الإسلاميين : ٥٠٣ ـ ٥٠٤.

22. وفيات الأعيان : ٣ / ٣٨٢.

23. البداية والنهاية : ١١ / ١٨٧ حوادث عام ٢٢٤ هـ.

24. فهرست ابن النديم : ٢٧١ ووفيات الأعيان : ٣ / ٢٨٥.

25. التبيين : ٣٨ ـ ٤١.

26. التبيين : ٣٩ ـ ٤٠.

27. بحوث مع أهل السنة : ١٥٧.

28. مقدّمة التبيين : ١٤ ـ ١٥.

29. الفصل في الملل والنحل : ٣ / ٢٢.

30. الفصل في الملل والنحل : ٤ / ٢٠٤.

31. مات الباقلاني سنة ٤٠٣ هـ.

32. ابن تيمية عصره وحياته : ١٩٢ ـ ١٩٣.

33. بدائع الفوائد : ٤ / ٣٩.

34. لاحظ تعليقة تبيين كذب المفتري : ٣٩٣.

35. تبيين كذب المفتري ، قسم التعليقة : ٣٩١.

36. طبعت الرسالة لأوّل مرّة مع اللمع في بيروت عام ١٩٥٣ م ، ومستقلة في حيدر آباد الدكن في الهند عام ١٣٤٤ هـ ، وسيوافيك نصها.

37. الإبانة : ١٧.

38. مقالات الإسلاميين : ٣١٥.

39. التبيين : ١٤٩ ـ ١٥٠.

40. الإبانة ، ٨ ؛ والوفيات : ١ / ٤٦٤.

41. مقدّمة ابن خلدون : ٤٠٦ ؛ الخطط : ٤ / ١٨٤.

42. الوفيات : ١ / ٦٨٦.

43. طبقات الشافعية : ٣ / ٥٢ ـ ٥٤.

44. طبقات الشافعية : ٣ / ١١١ ـ ١١٤.

45. طبقات الشافعية : ٣ / ٢٣٨.

46. طبقات الشافعية : ٣ / ١٧٦.

47. طبقات الشافعية : ٣ / ٤.

48. الوفيات : ١ / ٤٢٥.

49. طبقات الشافعية : ٣ / ٨٩ ـ ٩٩.

50. طبقات الشافعية : ٣ / ٢٥٠.

51. الوفيات : ١ / ٦٦١ ؛ طبقات الشافعية : ٤ / ١٠٣.

52. طبقات الشافعية : ٤ / ٧١ ـ ٧٤.

53. الوفيات : ١ / ٦٨٨ ؛ طبقات الشافعية : ٤ / ٧٩.

54. بل توفّي عام ٣٢١ هـ.

55. تجارب الأُمم : ٦ / ٤٠٨.

56. المعتزلة : ٢٦٤.

57. مقدّمة التبيين : ١٥.

58. التبيين : ٥٢.

59. التبيين : ٣٣١.

60. فهرست ابن النديم : ٢٧١.

61. مقدّمة التبيين بقلم الكوثري : ١٦.

62. الخطط المقريزية : ٢ / ٣٦٠ ، ط مصر.

63. لاحظ تعليقة التبيين : ٣٩٣.

64. الإسراء : ٧٩.

65. بدائع الفوائد : ٤ / ٣٩.

66. هرست ابن النديم : ٢٧١.

67. التبيين : ٥٨٩.

68. كتاب السنّة لإمام الحنابلة : ٤٩.

69. طه : ٥.

70. الرحمن : ٢٧.

71. ص : ٧٥.

72. المائدة : ٦٤.

73. القمر : ١٤.

74. الإبانة : ١٨ الأُصول برقم ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩.

75. الإبانة : ٨٨ ؛ أخرجه أحمد في المسند : ٤ / ٨١ من حديث جبير.

76. الإبانة : ٩٢٢.

77. الحديد : ٤.

78. المجادلة : ٧.

79. الإبانة : ٩٣ والحديث أخرجه مسلم باب تحريم الكلام في الصلاة : ٢ / ٧١ ، ط مصر.

80. الإبانة : ٢٢ أخرجه البخاري : ٩ / ١٢٣ في تفسير قوله : لماخلقت بيدي.

81. الصافات : ٩٦.

82. الإبانة : ٢٠ الأصل ١٧.

83. اللمع : ١١٦.

84. الانفطار : ١٤.

85. النمل : ٨٩.

86. مقدّمة اللمع للدكتور « حمودة غرابة » : ٧ نقله عن الباحث الغربي « فنسنك » وغيره.

87. الأنعام : ٧٥ ـ ٧٩.

88. الأنبياء : ٢٢.

89. المؤمنون : ٩١.

90. الرعد : ١٦.

91. ق : ٣.

92. المؤمنون : ٣٦.

93. يس : ٧٨.

94. المؤمنون : ٣٥.

95. يس : ٧٩.

96. الروم : ٢٧.

97. الأعراف : ٢٩.

98. يس : ٨٠.

99. الأنبياء : ١٠٤.

100. بياض في الأصل.

101. الشورى : ١٠.

102. الإخلاص : ٤.

103. يس : ١٢.

104. بياض في الأصل.

105. الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩.

106. الأنعام : ٩١.

107. آل عمران : ١٨٣.

108. الأنبياء : ٩٨ ـ ١٠٠.

109. الأنبياء : ١٠١.

110. الزخرف : ٥٧ ـ ٥٨.

111. المواقف : ٨ ـ ٩.

112. شرح العقائد النسفية : ١٥ ، طبع بغداد سنة ١٣٢٦ هـ.

113. الوفيات : ١ / ٦٧٧.

مقتبس من كتاب : [ بحوث في الملل والنحل ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 15 ـ 62