البعد السياسي للنهضة الحسينية

طباعة

البعد السياسي للنهضة الحسينيّة

هناك من يدرس القضيّة الحسينيّة مجرّدة عن إطارها التاريخي ، فيصدر أحكاماً مسبقة عنها ، والبعض من هؤلاء يتصوّر أن الحسين عليه السلام قام بخروجه على يزيد بمغامرة غير محسوبة النتائج ، وأن نهضته عبارة عن عمل انتحاري ، ومن هؤلاء محمّد الغزالي الذي ندد بنهضة الحسين عليه السلام ووصفها بأنّها « مجازفة لا أثر فيها لحسن السياسة ، وقد كان المتعيّن على الحسين ـ حسب ما يراه الغزالي ـ أن يبايع ليزيد ، ويخضع لقيادة هذا الخليع الماجن الذي لا يملك أيّة كفاءة لقيادة الأمّة » (1).

وأحمد الشبلي ، هو الآخر وقع أسرّ ضيق النَّظرة ، فقال : « نجيء إلى الحسين لنقر ـ مع الأسف ـ أن تصرفاته كانت في بعض نواحي هذه المشكلة غير مقبولة ؛ هو أولاً لم يقبل نصح الناصحين وخاصّة عبد الله بن عباس ، واستبدّ رأيه ، وثانياً نسي أو تجاهل خلق أهل الكوفة وما فعلوه مع أبيه وأخيه ، وهو ثالثاً يخرج بنسائه وأطفاله كأنّه ذاهب إلى نزهة خلوية أو زيارة قريب ويعرف في الطريق غدر أهل الكوفة ، ومع هذا يواصل السير إليهم وينقاد لرأي بني عقيل ، ويذهب بجماعة من الأطفال والنساء وقليل من الرجال ليأخذ بثأر مسلم ، يالله قد تكون ولاية العهد ليزيد عملاً خاطئاً ، ولكن هل هذا هو الطريق لمحاربة الخطأ والعودة إلى الصواب » (2).

وفات هؤلاء الذين لم يخرجوا بوعيهم من قفص النصّ ، أنّ هذه النهضة يقودها إمام معصوم ، وهي مدروسة ومخطط لها وليس على نحو عَرَضي. صحيح أن الواقع الذي واجهه الحسين عليه السلام صعب ومعقد ، ولكن الصحيح أيضاً أن قوى التغيير لا تعترف بالأمر الواقع. والحسين عليه السلام كان مصمّماً على التغيير مهما واجه من مخاطر ، قال منذ البداية للناس وبدون أيّ لبس : « أيّها الناس ، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول اللّه صلّى الله عليه وآله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرَّحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، أحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحق من غيّر .. » (3).

انطلاقاً من هذه المعطيات علينا أن ندرك بأن ثورة الحسين عليه السلام كانت أعظم وأقوى في دوافعها وأسبابها من أن يؤثّر في اندفاعها غدر الناس ، أو أن يقف في طريقها خيانة الأعوان وانقلاب الأنصار. لقد صمّم الحسين عليه السلام من البداية على أن يمضي في نهضته وإن بقي وحده ؛ لأنّه إن كان يوجد في عهد معاوية ما يتطلّب السكوت عليه أو المهادنة معه ، فان عهد يزيد لم يكن يوجد فيه شيء من هذا مطلقاً. فقد بلغ السيل الزبا ، ولم يبق أمام الحسين عليه السلام مع يزيد إلّا طريق الصراع المسلّح حتّى النصر أو الاستشهاد.

ويكشف لنا عن هذا التصميم قوله عليه السلام لما تقدّم عمر بن سعد فرمى نحو عسكر الحسين عليه السلام بسهم وقال : اشهدوا لي عند الأمير أني أوّل من رمى ، وأقبلت السهام من القوم كأنّها المطر ، فقال عليه السلام : لأصحابه « قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابدّ منه ، فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم ... أما والله لا أُجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله تعالى وأنا مخضّب بدمي » (4).

ويدلنا على حتميّة الصراع والكفاح ضد حكم يزيد في أيّ حال كان عليه ، قوله عليه السلام أيضاً في مجلس والي المدينة الذي طلب منه المسالمة مع يزيد وإعطائه البيعة والاعتراف له بالخلافة فقال عليه السلام : « يزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله » (5).

وهناك من وقع في أسر ضيق النَّظرة أيضاً ، وتصوّر بأنّ حركة الحسين عليه السلام كانت حركة قبليّة عشائريّة تُعبّر عن الصراع المحتدم بين قبيلتين قرشيتين ، كانتا تتصارعان على السلطة والهيمنة قبل الإسلام ، واستمرّ هذا الصراع بينهما إلى ما بعد الإسلام ، ذلك هو الصراع بين بني هاشم وبني أميّة. هذا التفسير تبنّاه أعداء الحسين عليه السلام ، ولعلّهم انطلقوا في هذا التفسير من العداء التاريخي المستحكم بين القبيلتين ، ذلك العداء الذي عبّرت عنه جويرية بنت أبي جهل التي كشفت عن الوضع النفسي لبطون قريش ، فعندما صعد بلال على ظهر الكعبة وأذَّن وسمعت الأذان ، قالت بعفوية : قد لعمري رفع لك ذكرك ، أمّا الصلاة فسنصلّي ، لكن والله لا نحبّ من قتل « الأحبّة أبداً » (6).

لقد عاش البطن الأموي رهيناً لسلسلة من العقد ؛ لماذا يكون النبي من بني هاشم ؟ كيف يثأرون من الهاشميين وبالذات آل محمّد وأهل بيته لقتلاهم في بدر ؟ وقد نبّه النبي صلّى الله عليه وآله الأمّة إلى حقيقة المشاعر الأمويّة ، فقال : « إنّ أهل بيتي سيلقون من بعد أمّتي قتلاً وتشريداً ، وإن أشدّ قومنا لنا بُغضاً بنو أميّة ، وبنو المغيرة ، وبنو مخزوم » (7).

ويبدو أن أصحاب هذا التفسير انطلقوا كذلك من دوافع يزيد بن معاوية التي عبّر عنها أكثر من مرّة ، حيث قال (8) عندما سمع عويل سبايا الحسين عليه السلام :

     

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا

 

جزع الخَزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحا

 

ثمّ قالوا يا يزيد لاتُشَل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

 

وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا

 

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

 

من بني أحمد ما كان فعل

كان حاقداً على النبي محمّد صلّى الله عليه وآله وعلى أهل بيته خاصّة وعلى الهاشميين عامّة بعد أن أدرك طبيعة الصراع الدامي الذي جرى بين رسول الله وآله والهاشميين من جهة ، وبين أبيه وجدّه وآل أبي سفيان والبيت الأموي من جهة أخرى ، وبعد أن أدرك أن عليّاً عليه السلام وحمزة والهاشميين قتلوا أعمامه وأجداده وأقاربه ، يقول العلّامة المجلسي : « ووجدت بخطّ بعض الأفاضل نقلاً من خطّ الشهيد قدّس سرّه ، قال : لما جيء برؤوس الشهداء والسبايا من آل محمّد عليهم السلام أنشد يزيد لعنه الله :

     

لما بدت تلك الرؤوس وأشرقت

 

تلك الشموس على ربى جيرون

صاح الغراب فقلت قل أو لا تَقُلْ

 

فقد قضيت من النبي ديوني » (9)

وتبنّى هذا التفسير مجموعة من المستشرقين حاولوا أن يفسّروا القضيّة على أساس الصراع بين قبيلتين ، بل وحاولوا أن يفسروا الصراع الذي احتدم بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وبين أبي سفيان على أنّه امتداد لذلك الصراع القبلي والعشائري.

وأقلّ ما يمكن أن يقال عن تلك التفسيرات بأنها نتائج هزيلة وغير ناضجة ، فمن يدرس ظاهرة أصحاب الحسين عليه السلام ـ على سبيل المثال ـ يلاحظ أن قضيّة الحسين عليه السلام لا يمكن أن تكون صراعاً بين عشيرتين أو قبيلتين ، لأن أصحاب الحسين سواءً كانوا من حيث الانتماء القبلي أو من حيث الانتماء القومي والشعوبي ، أو من حيث الانتماء لمستوى الثقافة أو مستوى الوضع الاجتماعي ، بل وحتّى من حيث الانتماء المذهبي ، يمثلون نماذج وعينات متعدّدة ومختلفة. حيث نلاحظ أنّ هناك اختلافاً عظيماً بين هؤلاء ، ولا يمكن أن تجمع كلّ هؤلاء أو توحّدهم قضيّة الصراع القبلي. فإن قضيّة الصراع القبلي لا يمكن أن توحّد بين جون العبد الأسود مولى أبي ذر ، وبين حبيب بن مظاهر الأسدي سيّد العشيرة العربي ، كما أنّه لا يمكن أن توحّد بين أولئك الذين كانوا بالأمس أعداءً للحسين ، كالحرّ بن يزيد الرياحي وزهير بن القين وغيرهما ممّن انضمّ إلى الحسين عليه السلام أثناء المعركة عندما سمعوا حديثه أو استغاثته ، وبين من كان موالياً للحسين منذ اليوم الأول.

ثمّ ما هو الشيء الذي جعل زهير بن القين يتحوّل عن عثمانيّته ، وعن اعتقاده بخطّ العثمانيّة ، الخطّ الذي أسّسه معاوية لتبرير موقفه المعارض لعلي عليه السلام ؟ وكان زهير بن القين إلى حين لقاء الحسين عليه السلام يتبنّى هذا الخطّ العثماني. وكذلك موقف الحرّ بن يزيد الرياحي الذي كان إلى آخر لحظات المواجهة قائداً عسكرياً كبيراً يقود جيش عمر بن سعد ، ثم تحوّل إلى جانب الحسين عليه السلام ليستشهد معه ، لأنّه كان يخيّر نفسه بين الجنّة والنار ، فاختار الجنّة في اللحظة الأخيرة.

وهناك تفسير آخر يسقط أصحابه تحت حوافر الفكر السياسي بمعناه البرغماتي ـ المصلحي ـ السائد ، انطلاقاً من مقولة : ان السياسة هي فن الممكن. فيذهب هؤلاء إلى أن هدف الحسين عليه السلام كان هو الوصول إلى السلطة وإقامة الحكم الإلهي ، إلّا أن هذا الإنسان الذي سعى إلى هذا الهدف لم تؤاته الظروف ولم يتمكّن من تحقيق هذا الهدف ، وكان فشله في تحقيق هذا الهدف بسبب خذلان أهل الكوفة له ، ونتيجة لخذلان شيعته له وتردّدهم في اتّخاذ الموقف المناسب معه.

ولكن يرد على هذا الرأي أنّ الحسين عليه السلام لم يكن هدفه الوصول إلى السلطة كغاية ليستخدمها من أجل الوصول إلى الرئاسة وتحصيل المكانة المرموقة له ولأسرته. صحيح أنّ الوصول إلى السلطة واستخدامها وسيلة لتطبيق مبادىء الإسلام الحقَّة أمر محمود ويقرّه الشرع ، بل ويحثّ عليه ، ولكن الصحيح أيضاً أنّ الحسين عليه السلام كان عالماً ومدركاً بأنّه لا يتمكّن من الوصول إلى دفّة الحكم بسبب وعيه لطبيعة الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والنفسيّة المحيطة به والضاغطة عليه التي تحول دون ذلك. فهو مع اتّصاله بالغيب ـ كما أسلفنا ـ إنسان واقعي يدرك بأنّ الشروط الواقعيّة أو العمليّة لم تتهيّأ بعد ، وقد صرّح أكثر من مرّة لكلِّ من نصحه أو استشاره بأنّه مقتول لا محالة. ومع هذه القناعة الراسخة في نفسه لا يمكن القول بأنّ هدفه السياسي كان يتثمّل بالسعي لاستلام السلطة. لأنّ معنى ذلك أنّه عليه السلام كان يسعى نحو هدف غير واقعي مع تقديره للوضع السياسي ويكون تحرّكه في مثل هذه الحالة أقرب إلى عملٍ انتحاري.

وممّا يعزز هذا الرأي ما ذهب إليه الشيخ محمّد مهدي شمس الدّين من أن الحسين عليه السلام « كان يعلم بأنّ ثورته انتحاريّة لا تقوده إلى نصر سياسي آني ، وإنما تنبِّه الأمّة إلى الخطر ، وتضعها في مواجهته ، وتفجِّر فيها طاقة الثورة وروح الرَّفض ، وتحمل الحكم على أن يحافظ على الحدّ الأدنى من رعاية مبادئ الإسلام في سياساته » (10).

إذن فأصحاب هذا التفسير لم تتّسع آفاق تفكيرهم ، فتصوّروا القضيّة وكأنّها نزاع وصراع على السلطة ، ولكن لا من أجل الهيمنة والسيطرة فحسب ، وإنّما من أجل إحقاق الحقّ وإقامة العدل الإلهي ، ولكن الحسين لم تؤاته الظروف رغم أن أهل الكوفة أرسلوا له آلاف الكتب ووعدوه بالنصرة والوقوف إلى جانبه ، ولكنّهم خذلوه في اللحظة الأخيرة.

وفات هؤلاء ضرورة وضع كلّ فكرة وكلّ نظريّة في إطارها التاريخي الذي صدرت فيه ؛ أيّ في الظرف الزمني. وهؤلاء لم يضعوا فكرتهم هذه لتنسجم مع الجوّ العام الذي كان يعيشه الحسين عليه السلام ، وعليه لا يمكن أن نفترض أن الحسين عليه السلام غير مدرك للحقيقة التي أدركها هؤلاء المستشارون ، وهؤلاء المخلصون في نصحهم كابن عبّاس وأمّ سلمة وعبد الله بن جعفر وغيرهم الذين أشاروا عليه بعدم الخروج ، وأكّدوا له النتائج التي وقعت ، وذكروا له أنّه لا يمكن في مثل هذه الظروف السياسيّة أن يحقّق الإنتصار ويصل إلى الحكم.

ولم يكن الحسين عليه السلام يستهدف الوصول إلى الحكم ، كان يعرف أنّه لا يصل إلى الحكم ، إلّا أنّه كان يريد أن يحرّك الناس ويهزّ ضمائرهم ويوقظ وجدانهم فيتحرّكوا. كان عليه أن يقدم دمه الغالي رخيصاً في سبيل هذا الهدف ، وكان عليه أن يُقتل ويُذبح عطشاناً وبهذه الطريقة المأساويّة التي شملت الشيوخ والغلمان والنساء والأطفال ، حتّى تتحرّك هذه الضمائر والقلوب وتهتزّ المشاعر والعواطف.

إذن لم « تكن دوافعه عشائريّة أو عاطفيّة نابعة من بغضاء الهاشميين للأمويين ، ولا مصلحيّة ـ براغماتية ـ نابعة من الصراع على الحكم بما هو تسلُّط دنيوي. فإنّ التاريخ الثابت لأئمّة أهل البيت عليهم السلام ينفي عنهم هذا الزعم ، ويثبت أنّ حياتهم كانت سلسلة من التضحيات في سبيل الصالح العام ، وأنّهم إنما غُلبوا أمام خصومهم الأمويين في معارك السياسة لأنّهم كانوا يتبعون في تعاملهم مع الأمّة ومع خصومهم ومع أنصارهم مبادئ ومقاييس أخلاقيّة ومبدئيّة تنبع من شعورهم بمسؤوليّتهم الإسلاميّة في الدرجة الأولى.

ويكفي هنا أن نذكر إضافة إلى التاريخ الثابت أن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام الذي شهد بنفسه فاجعة كربلاء ، وعاشها ساعة بعد ساعة بكلّ آلامها وأحزانها ، كان يدعو لأهل الثغور ، وما ذلك الدعاء من الإمام زين العابدين إلّا وعيا منه لدور جيوش الثغور في حفظ المجتمع الإسلامي من أعدائه ، وإن كان هذا الجيش يحمي أيضاً نظام الأمويين » (11).

إذن فهي ـ أيّ الثورة ـ لم تكن حركة قبليّة أو إقليميّة أو مذهبيّة ، ومن هنا فلا يجوز اعتبارها تراثاً مذهبيّاً للشيعة ، لأن صبغتها المذهبيّة جاءت نتيجة لعوامل تاريخيّة ليس هنا مجال بحثها.

هي ثورة دفعت إلى القيام بها مبادئ الإسلام وأحكامه لغاية تنبيه الأمّة على واقعها السيء ، وحملها على تحسينه عن طريق إثبات شخصيّتها الإسلاميّة في وجه الحاكم المنحرف ، وذلك بتصحيح نهج الحاكم.

وفي مقابل أولئك الذين وقعوا أسر ضيق النظرة والتحيُّز غير المشروع ، أو الذين لم يسلكوا سبيل الإنصاف فنظروا بمنظار الحقد الأسود ، أو الذين نظروا بمنظار سياسي نفعي ـ براغماتي ـ ، نجد هناك نظرة منصفة تنظر للقضيّة من زاوية أخرى ، فقد أدرك البعض الآخر بثاقب بصرهم أن القضيّة أبعد من ذلك بكثير ، نظروا إليها على أنّها كانت من أجل تثبيت الموقف الشرعي والحكم الإسلامي تجاه ظاهرة الطغيان اليزيدي ، والحكم الكسروي الجديد الذي كان يجسده هذا الحاكم المستهتر بالقيم والشعائر الإسلاميّة ، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى المحافظة على وجود الرسالة الإسلاميّة واستمرارها من خلال تثبيت هذا الموقف وما يمكن أن يحدث عنه من تفاعلات في الأمّة. ومن ناحية ثالثة إيقاظ ضمير الأمّة وهزّ مشاعرها وأحاسيسها وتحريك وجدانها ، من أجل العمل على مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة ـ ظاهرة سيطرة الحكام المنحرفين ـ في حياتها.

فالدوافع الحقيقية لثورة الحسين عليه السلام ـ إذن ـ كانت تتمثّل بهدف ثلاثي الأبعاد ؛ يركّز البعد الأوّل منه على تحديد الموقف الشرعي من أُناس تسلّقوا إلى قمّة الهرم السلطوي الإسلامي بدون أهليّة أو كفاءة ولم يتّصفوا بالشرعيّة ، وبعُد آخر مستقبلي يتمثّل بحركة الإسلام المستقبليّة التي يراد لها أن ترتكز على قواعد الحقّ والعدم ، أمّا البُعد الثالث فيتعّلق بالأمّة ومسارها الحقيقي وأوضاعها المختلفة التي تدهورت بفعل سيطرة وسطوة حكّام الجور والطغيان.

وفي هذا الصدد يقول الاستاذ خالد محمّد خالد : « إن القضيّة التي خرج البطل حاملاً لواءها لم تكن قضيّة شخصيّة تتعلّق بحقّ في الخلافة .. أو ترجع إلى عداوة شخصيّة يضمرها ليزيد ، كما أنّها لم تكن قضيّة طموح يستحوذ على صاحبه ، ويدفعه إلى المغامرة التي يستوي فيها احتمال الربح والخسران. كانت القضيّة أجلّ وأسمى وأعظم. كانت قضيّة الإسلام ومصيره والمسلمين ومصيرهم ، وإذا صمت المسلمون جميعهم تجاه هذا الباطل الذي أنكره البعض بلسانه ، وأنكره الجميع بقلوبهم ، فمعنى ذلك أن الإسلام قد كفّ عن إنجاب الرجال. معناه أن المسلمين قد فقدوا أهليّة الانتماء لهذا الدين العظيم. ومعناه أيضاً أن مصير الإسلام والمسلمين معاً قد أمسى معلقاً بالقوّة الباطشة ؛ فمن غلب ركب ، ولم يعد للقرآن ولا للحقيقة سلطان .. تلك هي القضيّة في روع الحسين ، وبهذا المنطق أصرّ على الخروج » (12).

موقف الحسين عليه السلام من صلح الحسن عليه السلام

وهناك سؤال تردّد ويتردّد على الألسن على امتداد الزمن ، وهو سبب سكوت الحسين عليه السلام عن معاوية بن أبي سفيان ، مع كونه وابنه يزيد وجهين لعملة واحدة.

وكمحاولة للإجابة على ذلك لابدَّ من إلقاء نظرة تاريخيّة مجملة ، لكي تنضبط عدسة الرؤية لدينا على منظور سليم ، وسوف نجد أنه « لما مضى الإمام الحسن بن علي عليه السلام شهيداً نتيجة غدر خصمه معاوية ، قضى الإمام الحسين عليه السلام فترة طويلة في عهد معاوية لم يحرّك ساكناً ولم يدع إلى الثورة ، التزاماً منه بشروط صلح الحسن عليه السلام وتقيّده به حتّى بعد وفاة أخيه وطيلة حياة معاوية بعد رحيل الحسن عليه السلام رغم إلحاح الشيعة عليه بالثورة على معاوية لأنّه نقض من جانبه كلّ شروط الصلح ولم يف بشرط واحد منها.

لقد عانى المسلم الشيعي منذ عهد معاوية بن أبي سفيان ألواناً شتَّى من الاضطهاد والملاحقة والترويع ؛ كان مطارداً من قبل السلطة ، فقلما شعر بالأمن ، وكانت هذه السلطة تحاربه في مصادر عيشه إذا لم تقض عليه ولم تصادر حرّيته ، وكان في أحسن الحالات مواطناً من الدرجة الثانية ، كلّ هذا بسبب بعض مواقفه العقيدية ، وبسبب اتّجاهه الفقهي ، حيث إنّه تبع أئمّة أهل البيت ، فكانوا مرجعه في فقه الشريعة الإسلاميّة » (13).

مع كلّ ذلك كان الحسين عليه السلام يرفض طلبهم بشدّة ويذكر : « أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوزُ له نقضه حتّى تمضي المدّةُ ، فإن مات معاوية نظر في ذلك » (14). حرصاً منه على وحدة المسلمين ، مع أنّه كان قادراً على أن يُثير جمهوراً كبيراً من المسلمين ضدّ حكم معاوية البغيض ، لا سيّما وأنّه تفنّن في التنكيل بشيعته.

على أن الحسين عليه السلام لم يكن ملجوم اللّسان ، مختوم الشفتين ، فالشواهد التاريخيّة تدلّ على أنّه لم يكفّ عن نقد سياسات معاوية وتجاوزاته.

وقد بلغت أنباء تردّد الشيعة على الحسين عليه السلام واستنهاضهم له وإلحاحهم عليه للقيام بالثورة على معاوية إلى دمشق ، فأقلقت معاوية وأفزعته ، وخشي من أن يستجيب الحسين عليه السلام لطلبهم ويلبي نداءهم ، فكتب إليه كتاباً يحذره غدر أهل العراق ، ويذكره بالعهد والميثاق الذي سبق منه ، وكتب فيه : « أمّا بعد ، فقد انتهت إليَّ منك أمور ، لم أكن أظنّك بها ، رغبة عنها ، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع إلى قطيعتك ، واتّق الله ، ولا تردنّ هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمّد ، ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون » (15).

وجاء في تاريخ دمشق أنّ الحسين عليه السلام كتب إليه : « أتاني كتابك ، وأنا بغير الذي بلغك عنّي جدير ، والحسنات لا يهدي لها إلّا الله ، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافاً ، وما أظنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك ، ولا أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمّة » (16).

وفي رواية الطبرسي أنّه أجابه : « أما بعد : فقد بلغني كتابك ... وقلت فيما تقول انظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد صلّى الله عليه وآله ، واتّق شقّ عصا هذه الأمّة ، وإن تردهم في فتنة ، فلا أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها ، ولا أعلم نظراً لنفسي وولدي وأمّة جدّي أفضل من جهادك ، فإن فعلته فهو قربة إلى الله عزّ وجلّ ، وإن تركته فأستغفر الله لذنبي ، وأسأله توفيقي لإرشاد أموري ، وقلت فيما تقول إن أنكرك تنكرني وإن أكدك تكدني ، وهل رأيك إلّا كيد الصالحين ، منذ خلقت ؟! فكدني ما بدا لك إن شئت ، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك ، على أنّك تكيد فتوقظ عدوّك ، وتوبق نفسك ، كفعلك بهؤلاء الذين قتلتهم ومثّلت بهم بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلّا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا » (17).

هذه بعض الفقرات من كتاب الحسين عليه السلام إلى معاوية ، وهو بمثابة وثيقة تاريخيّة خالدة تكشف عن حقيقة معاوية وطبيعة حكمه الفاسد الجائر. كما تُثبت ـ بما لا يدع مجالاً للشكّ ـ أنّ الحسين عليه السلام كسر قاعدة الصمت التي فرضها معاوية على المسلمين ، بعد أن انتقلت الأمور إلى مستوى خطير لم يعد ممكناً السكوت عليه.

مؤتمر سياسي عام

ومن مصاديق عدم سكوت الإمام على انحرافات معاوية ، أنّه عليه السلام عقد في مكّة مؤتمراً سياسياً عاماً دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ من المهاجرين والأنصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين ، فانبرى عليه السلام خطيباً فيهم ، وتحدّث ببليغ بيانه بما ألمّ بعترة النبي صلّى الله عليه وآله وشيعتهم من المحن والخطوب التي صبها عليهم معاوية ، وما اتّخذه من الاجراءات المشدّدة من إخفاء فضائلهم ، وستر ما أُثر عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله في حقهم ، وألزم حضار مؤتمره بإذاعة ذلك على المسلمين.

وفيما يلي نصّ حديثه فيما رواه سليم بن قيس ، قال : « ولما كان قبل موت معاوية بسنتين حجّ الحسين بن علي عليهما السلام ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ، ومن حجّ من الأنصار ممّن يعرفهم الحسين وأهل بيته ، ثمّ أرسل رسلاً ، وقال لهم : لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله المعروفين بالصلاح والنسك الا اجمعوهم لي ، فاجتمع إليه بمنى أكثر من ألف رجل وهم في سرادق ، عامتهم من التابعين ، فقام فيهم خطيباً فحمد الله واثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد : فان هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتهم ورأيتم وشهدتم وبلغكم ، وإنّي أُريد أن أسألكم عن أشياء فان صدقت فصدقوني ، وإن كذبت فكذبوني ، اسمعوا مقالتي ، واكتموا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، من أمنتموه ووثقتم به من الناس ، فادعوهم إلى ما تعلمون ، فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون » (18).

وكان هذا المؤتمر أوّل مؤتمر اسلامي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، وقد شجب فيه الإمام سياسة معاوية ، ودعا المسلمين لإشاعة فضائل أهل البيت عليهم السلام وإذاعة مآثرهم التي حاولت السلطة حجبها عن المسلمين.

ضرورة النهضة

إن انحراف سلطة معاوية عن مسار الإسلام الصحيح ، يستدعي النهضة لتصحيح المسار ، ولعلّ أبرز مظاهر الإنحراف في عهد معاوية يتمثّل بالنقاط التالية :

١ ـ تحريف مبادئ الإسلام ، وايجاد البدع بغية القضاء على الإسلام.

٢ ـ إشاعة ثقافة الجبر والخنوع والإستسلام.

٣ ـ نهب بيت المال وانفاقه في الأهواء والمصالح الذاتيّة.

٤ ـ افساد الأخلاق واشاعة الشراب والمجون والقمار.

٥ ـ إحياء العصبيّة القبليّة والقوميّة ، والقيم الجاهليّة.

٦ ـ تعيين العناصر الفاسدة وغير المؤهلة لمجرّد انتمائهم للأمويين.

٧ ـ التزييف والاعلام الكاذب.

٨ ـ اعتقال وسجن وقتل الشخصيّات الإسلاميّة البارزة والثوريّة التي تناصر أهل البيت.

٩ ـ أخذ البيعة بالإكراه ليزيد من الناس ومن رؤساء القبائل.

ونتيجة لكلّ ذلك نجد أنّ الحسين عليه السلام كان يشعر بضرورة الخروج والثورة على سلطان معاوية والحكم الأموي المنحرف عن خطّ الإسلام ونواميس الحقّ والعدل ، لولا التزامه وتقيّده بتنفيذ صلح أخيه الحسن عليه السلام ، ورعايته للعهد الذي أعطاه أخوه الحسن عليه السلام لمعاوية ضمن شروط منها أن لا يخرج عليه لا هو ولا أحد من أهل بيته مادام حيّاً ، وفي نفس الوقت كان ينتظر تفاقم النقمة العامّة على معاوية وعلى الأمويين بصورة عامّة لتكون الثورة أكثر شمولاً وأقرب إلى فرص النجاح ، وهكذا كان.

فان نبأ هلاك معاوية كان أعظم بشارة تلقاها العالم الإسلامي بالفرح والسرور ، وشعروا بأن كابوساً خانقاً قد زال عن صدورهم حتّى قال يزيد ابن مسعود مبشراً بموته « إن معاوية مات فأهون به والله هالكاً ومفقوداً ، ألا وإنّه قد انكسر باب الجور والإثم ، وتضعضعت أركان الجور ... » (19). وقال الحسن البصري : « أربع خصال كنّ في معاوية ، لو لم يكن فيه منهنّ إلّا واحدة لكانت مُوبقة : انتزاؤه على هذه الأمّة بالسفهاء حتّى ابتزّها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصّحابة وذو الفضيلة ، واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خمّيراً ، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وادّعاؤه زياداً ، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : الولد للفراش ، وللعاهر الحجَرُ ، وقتلهُ حُجْراً ، ويْلاً له من حُجْر ! مرّتين » (20).

يتّضح ممّا تقدّم أن الحسين عليه السلام قد تريث بالثورة إلى أن هلك معاوية بن أبي سفيان التزاماً منه بعهده ، واحتراماً لموقف أخيه الحسن عليه السلام ، ولأسباب ومصالح أخرى أيضاً. ولكنّه في خلال ذلك كان يصارح الرأي العام بسخطه وامتعاضه واستيائه من الوضع القائم ، إتماماً للحجّة على الناس ، وإظهارا للحقّ ، وإيضاحاً للواقع ، لكي يحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة ، ولذلك فبمجرّد أن هلك معاوية في أوّل رجب سنة ستّين للهجرة أعلن الحسين عليه السلام ثورته على خلفه يزيد ، ودعا العالم الإسلامي لنصرته ومؤازرته على استئصال جرثومة الشرّ والفساد من جسم الأمّة الإسلاميّة ، معلناً للرأي العام الإسلامي دوافع نهضته ، قال لهم : « إنّي لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت أطلب الصلاح في أُمّة جدّي محمّد ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، أسير بسيرة جدّي وسيرة أبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، وهو أحكم الحاكمين » (21).

وينبغي الإشارة هنا إلى أنّه لما ثار في النهاية على الحكم الأموي متمثلاً في يزيد بن معاوية ونظامه ، لم تكن نهضته رعاية لمصلحته وعاطفته ، فتاريخه الشخصي وتاريخ أبيه وأخيه يشهد بأن مواقفهم تقوم دائماً على رعاية مصالح الإسلام العليا ، ومصالح المسلمين من جميع الجهات.

كان عليه السلام يرى ـ مع غيره من قادة الرأي في المسلمين ـ أن تسنُّم يزيد ابن معاوية ذروة السلطة ، إذا نال الشرعيّة ولو بالسكوت عنه ، فإنّه يشكل خطراً على الإسلام كدعوة ودين ، وكان واضحاً منذ البداية أن نظام يزيد لا يكتفي من الحسين عليه السلام وغيره من قادة الرأي بمجرّد السكوت عنه ، لقد كان يريد اعترافاً رسميّاً واضحاً بشرعيّته ، كان يريد منهم البيعة ليزيد.

والحسين عليه السلام كما كان يعرف معاوية وأساليبه « كان يعرف أنّ خليفته الجديد محدود في تفكيره ينساق مع عواطفه وشهواته وتلبية رغباته إلى أبعد الحدود بإرتكاب المحارم والآثام والتحلّل من التقاليد الإسلاميّة ، ويندفع مع نزقه فيما يعترضه من الصعاب من غير تقدير لما وراءها من المخاطر ، ومن أجل ذلك وقف من بيعته موقف الرافض ، واعتبر البيعة ليزيد من أخطر الأحداث على مصير الاُمّة ومقدراتها ، ولم يجد بدّا من مقاومتها ، وهو يعلم بأن وراء مقاومته الشهادة ، وانّ شهادته ستؤدّي دورها الكامل وتصنع الإنتفاضة تلوّ الأخرى حتّى النصر ، ولم يكن باستطاعة يزيد مواجهتها بالأساليب التي اعتاد أبوه تغطية جرائمه بها ، لأنّه كما وصفه بعض المؤرّخين من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروي ، صغير العقل متهوّر ، سطحي التفكير ، لا يهمّ بشيء إلّا ركبه. ومن كان بهذه الصفات لابدَّ وأن يواجه الأحداث بالأسلوب الذي يتّفق مع شخصيّته ، وهو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها من المشاكل التي واجهته خلال السنين الخمس التي حكم فيها بعد أبيه » (22).

إشكاليات واهنة

وقد يزعم البعض أنّ الحسين عليه السلام لو استعمل التقيّة وصافح يزيد لاتقى ببيعته شرّ أُمية ، ونجا من مكرها ، وصان حرمته ، وحفظ مهجته. لكن ذلك وهم ، فان يزيد المتجاهر بالفسوق لا يقاس بمعاوية الداهية المتحفظ ، فبيعة مثل الحسين عليه السلام لمثل يزيد غير جائزة بظاهر الشريعة ، ولذلك تخلّف عن بيعته سعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير وغيرهم ، فأنكروا على معاوية استخلاف يزيد ، وامتنعوا عن بيعته حتّى فارقوا الحياة ، وكان إمامنا الحسين عليه السلام أولى بهذا الإمتناع والإنكار.

كما أثار البعض إشكالية اُخرى مفادها أن خروجه يمثل شقا لعصا الطاعة ، ويُعرّض الوحدة الإسلاميّة إلى الخطر. وقد بدا واضحاً لذوي البصائر أن المحافظة على الوحدة السياسيّة للمسلمين كانت تعني التفريط بالمحتوى العقيدي والتشريعي للمؤسّسة السياسيّة الإسلاميّة ، لذا قد يغدو التضحية بالوحدة السياسيّة للمسلمين واجباً في سبيل حفظ الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجاً بعد أن غدا الحكم الأموي يشكل خطراً ، لا على المسلمين كوحدة سياسيّة فحسب ، بل على الإسلام نفسه (23).

ويرى إمام الأزهر السابق محمّد عبده أنّه : « إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع ، وحكومة جائرة تعطّله ، وجب على كلّ مسلم نصر الأولى .. ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول صلّى الله عليه وآله على إمام الجور والبغي الذي وليَ أمر المسلمين بالقوَّة والمكر يزيد بن معاوية خذله الله وخذل من انتصر له من الكرامية والنواصب » (24).

على هذا الصعيد فانّ البعض أشار على الحسين عليه السلام بضرورة الإنحناء أمام عاصفة التحوّل السياسي ، فدعا إلى مهادنة وموادعة يزيد ، ولكنّه آثر الوقوف في خط المواجهة الساخن ، لكونه يتبع منهجاً في التفكير والسلوك لا يجامل فيه على حساب الحقّ والقيم. ثمّ أن يزيد يريد منه الاستسلام الكامل والخضوع الأعمى ، وعليه فالفجوة القائمة بينهما واسعة لا يمكن رتقها ، لقد « قدر بأن بيعته ليزيد تتناقض تماماً مع الشرع ومع الحقيقة ومع معتقداته وخطّ الكمال الإسلامي الذي يمثله ، وأن بيعته ليزيد ستكون بمثابة اعتراف بشرعيّة خلافة غير شرعيّة ، وفتوى ضمنيّة بأهليّة يزيد للخلافة ، وهو الرجل الذي يجاهر بفسقه ومجونه وحتّى بكفره » (25).

ونتيجة لكلّ ذلك اتّخذ الإمام قراره النهائي بالإمتناع عن بيعة يزيد ، وأعلن هذا القرار بكلّ وسائل الإعلان المعروفة في زمانه ، وهذا القرار لم يكن اعتباطياً ، وإنّما بني على قناعات دينيّة يقينيّة ، وحقائق تاريخيّة وعقليّة وفطريّة معلومة بالضرورة .. رأى أن مبايعته ليزيد بن معاوية جريمة كبرى وبكلّ المعايير الدينيّة والتاريخيّة والمنطقيّة ، لذلك امتنع عن البيعة ، وأعلن هذا الإمتناع بكلّ وسائل الإعلان. الإمتناع عن البيعة في عرف الخلفاء وأركان دولتهم ، يعتبر خروجاً على طاعة الخليفة الغالب ، وعدم القبول بخلافته.

ويدلنا على مدى احتقار الحسين عليه السلام ليزيد وسقوط الأخير عن أدنى مستويات الانسانيّة ، قوله عليه السلام لمروان بن الحكم لما أشار عليه بالبيعة ليزيد ، فقال : « إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، وعلى الإسلام السلام ، إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد » (26).

الفتح المبين

ولكن هل حقّق الحسين عليه السلام هدفه المطلوب بتلك التضحية الفريدة ؟

المراد من هدف الإمام الحسين عليه السلام هي الغاية التي كان يبتغي بلوغها أو تحقيقها ، والتي بادر بثورته تلك من أجلها واستشهد في سبيلها. وتتلخّص في ما يلي :

١ ـ إحياء الإسلام.

٢ ـ توعية المسلمين وكشف ماهيّة الأمويين.

٣ ـ إحياء السنّة النبويّة والسيرة العلويّة.

٤ ـ اصلاح المجتمع واستنهاض الأمّة. وفي هذا الصدد قال : « إنّما خرجت لطلب الاصلاح في اُمّة جدّي ، اُريد أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب » (27).

٥ ـ انهاء استبداد بني اُميّة على المسلمين.

٦ ـ تحرير إرادة الاُمّة من حكم القهر والتسلّط. وفي هذا الصدد يقول السيّد الشهرستاني : « ولم تزل ولن تزال في الاُمم نهضات أئمّة هدى تجاه أئمّة جور. ونهضة الحسين من بين النهضات قد استحقّت من النفوس إعجاباً أكثر ، لا لمجرّد ما فيها من مظاهر الفضائل وإقدام معارضيه على الرذائل ، بل لأن الحسين عليه السلام في إنكاره على يزيد كان يمثل شعور شعب حيّ ويجهر بما تضمره أُمّة مكتوفة اليد ، مكمومة الفم ، مرهقة بتأثير اُمراء ظالمين ، فقام الحسين عليه السلام مقامهم في اثبات مراميهم ، وفدى بكلّ غال ورخيص لديه باذلاً في سبيل تحقيق أُمنيته وأُمّته من الجهود ما لا يطيقه غيره ، فكانت نهضته المظهر الأتمّ للحق » (28).

٧ ـ إقامة الحقّ وتقوية أهله ، فقد خطب بأنصاره في كربلاء قائلاً : « ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً ، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلّا برماً » (29).

٨ ـ توفير القسط والعدالة الاجتماعيّة وتطبيق حكم الشريعة.

٩ ـ إزالة البدع والإنحرافات. فقد كتب إلى وجوه أهل البصرة ، قائلاً : « أنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله ، فإنَّ السنّة قد أُميتت ، وإنّ البدعة قد أُحييت ، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد » (30).

وقد حقّق الحسين عليه السلام أهدافه على الرغم من استشهاده ، فقد بقي الإسلام محفوظاً ومصاناً من العبث والزوال ، وبقيت الأمّة الإسلاميّة محتفظة وملتزمة بالإسلام عقيدة وعملاً ، وان كان ذلك على الصعيد الفردي والشخصي. « لقد انتصر الحسين عليه السلام باستشهاده انتصاراً لم يسجل التاريخ انتصارا أوسع منه ، ولا فتحاً كان أرضى لله منه ، كان واثقاً من هذا الانتصار ومن هذا الفتح ، كما كان واثقاً من هزيمته عسكرياً ، كما يبدو ذلك من كتابه الذي كتبه إلى الهاشميين وهو في طريقه إلى العراق ، فقد قال فيه : « أما بعد فانّه من لحق بي منكم استشهد معي ، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح » (31). فالفتح الذي يعنيه من كتابه إلى الهاشميين ، هو ما أحدثته ثورته من النقمة العامّة على الأمويين ، وما رافقها من الإنتفاضات التي أطاحت بدولتهم » (32).

والذي يثير العجب ويبعث على الاستغراب أن الخصم المتمثل بيزيد وأزلامه يطلقون مصطلح « الفتح » على جريمتهم الكبرى التي اقترفوها بقتل الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه ! فعندما تمّت مذبحة كربلاء أقبل زحر بن قيس حتّى دخل على يزيد بن معاوية ، فقال له يزيد الذي كان يترقّب أنباء مذبحة كربلاء بلهفة : ويلك ما وراءك وما عندك ؟ قال : أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره ، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستّين من شيعته ، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حكم الأمير عُبيد الله بن زياد أو القتال ، فاختاروا القتال على الاستسلام ، فغدونا عليهم مع شروق الشمس ، فأحطنا بهم من كلّ ناحية ... حتّى أتينا على آخرهم .. (33). فزحر هذا يُسمّي قتل آل محمّد وأهل بيت النبوة وذوي قربى النبي نصر الله والفتح !!

فمن ردود الفعل الّتي أحدثتها الثورة ، ما روي أنّ زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله لمّا رأى ابن زياد في قصر الإمارة أخذ يضرب بالقضيب ثنايا أبي عبد الله الحسين عليه السلام قال له : « ارفع قضيبك عن هاتين الشّفتين ، فوالله الّذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلّى الله عليه وآله عليهما ما لا أحصيه كثرة تُقبِّلُهما ، ثمّ انتحب باكياً. فقال له ابن زياد : أبكى الله عينيك ، أتبكي لفتح الله ؟ والله لولا أنّك شيخٌ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك » (34). وهكذا يرتدي أزلام بني أميّة رداء الإسلام ويتبجّحون بمصطلحاته.

ومن الفتوحات السياسيّة الأخرى التي أفرزتها واقعة الطف ، هي عزل الحكام عن المجتمع ؛ إذ صار الناس ينظرون إليهم كحكّام استبداديين وسلاطين جور ، يحكمون بالقهر والقوّة ، ولا يمت سلوكهم إلى الإسلام بصلة مطلقاً ، ولا يمثلون من الإسلام قليلاً ولا كثيراً. هذا بالإضافة إلى أن الحسين عليه السلام قد بذر بتضحيته المباركة بذور الثورة ضد أولئك الحكّام وأمثالهم في نفوس الأمّة الإسلاميّة ، ونمت تلك البذرة بسرعة وأثمرت ثورات تحررية وانتفاضات شعبيّة عديدة في العالم الإسلامي عبر التاريخ وحتّى اليوم.

يقول أحمد محمود صبحي : « وإن كان الحسين بن علي عليه السلام قد هزم على الصعيد السياسي والعسكري ، إلّا أنّ التاريخ لم يشهد قط هزيمة انتهت لصالح المهزومين مثل دم الحسين. فدم الحسين تبعته ثورة ابن الزبير ، وخروج المختار ، وغير ذلك من الثورات الاُخرى إلى أن سقطت الدولة الاُمويّة ، وتحوّل صوت المطالبة بدم الحسين إلى نداء هزّ تلك العروش والحكومات » (35).

وصار الحسين عليه السلام شعار كلّ ثورة إصلاحيّة ورمز كلّ حركة ترفض الخضوع للظلم والاستعباد والاضطهاد. يقول المستشرق الألماني « ماربين » : « قدّم الحسين للعالم درساً في التضحية والفداء من خلال التضحية بأعزّ الناس لديه ومن خلال إثبات مظلوميّته وأحقيّته ، وأدخل الإسلام والمسلمين إلى سجلّ التاريخ ورفع صيتهما. لقد أثبت هذا الجندي الباسل في العالم الإسلامي لجميع البشر أن الظلم والجور لا دوام له. وانّ صرح الظلم مهما بدا راسخاً وهائلاً في الظاهر إلّا انّه لا يعدو أن يكون أمام الحقّ والحقيقة إلّا كريشة في مهب الريح » (36).

وأثبت الحسين عليه السلام بثورته المباركة أن لا حرمة ولا قدسيّة للحكام والأمراء إلّا مع التزامهم الدقيق بالإسلام كعقيدة ونظام.

وعليه لم يكن هذا البذل والعطاء من قبل الحسين عليه السلام خالياً من الهدف ، بل تحقّق الهدف ، وإن لم يتمكّن الحسين عليه السلام من الوصول إلى السلطة ، فضلاً عن أنّه لم يبقَ على قيد الحياة ، فهي ثورة ناجحة ومنتصرة ، بل هي فتح إلهي ، كما عبّر عنها زعيمها حينما قال : « ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح » (37).

وهنا نريد أن نؤكّد على « أن الهدف هو إحداث هزّة عنيفة في نفوس الناس ، وقد تحقّق هذا الهدف ؛ لأن الأمّة في زمنه كانت قد تخلصت وشفيت من مرض الشكّ والارتياب بعد انكشاف واقع الاُمويين وافتضاح حكومة معاوية ، وشعور الأُمّة بأنّ تجربة معاوية في الحكم ما هي إلّا امتداد للجاهليّة ، رغم ما يرفعه من شعارات الإسلام ، وغدت تجربة الإمام علي عليه السلام في الحكم أملاً وحلماً في نظر الجماهير ، وأخذت تدرك وتعي بأن الإمام علي عليه السلام كان يحارب في زمن معاوية بن أبي سفيان جاهليّة الأصنام والأوثان ، ولم يحاربه لأجل صراع قبلي أو لغرض شخصي. فالأمّة قد شفيت من مرض الشكّ ، ولكنّها منيت بمرض آخر وهو مرض فقدان الإرادة ، فأصبحت لا تملك إرادتها في الرفض والإحتجاج ، بل أصبحت يدها ولسانها ملكاً لشهواتها ، وقد فقدت إرادة التغيير لأوضاعها الفاسدة ، كانت قلوبهم مع الإمام ولكن سيوفهم عليه كما قال ، الشاعر الفرزدق » (38).

وجد الحسين عليه السلام أن الأمّة تحتاج إلى صهر قوي لتتخلّص من الشوائب ، كما أراد لها أن تستيقظ من سباتها ، لكي تدرك عظم التحديات التي تنوء تحت ثقلها ، وبعد شهادته عليه السلام أسقط القناعات الفارغة التي تنظر للحاكم ـ وإن بغى وظلم ـ نظرة التقديس.

وعموماً أحدثت ثورة الحسين عليه السلام هزّةً عميقة في نفوس وقناعات قطاعات واسعة من الناس ، فمن جهة موقف شيعة أهل البيت ، فقد استقبلوا النهاية الفاجعة بالحزن ، والندم ، والغضب. قال ابن سعد : أخبرنا علي بن محمّد ، عن حباب بن موسى ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن علي بن حسين ، قال : « حُملنا من الكوفة إلى يزيد بن معاوية فغصّت طرق الكوفة بالناس يبكون ، فذهب عامّة الليل ما يقدرون أن يجوزوا بنا لكثرة الناس ، فقلت : هؤلاء الذين قتلونا وهم الآن يبكون » (39).

حزنوا بسبب فظاعة ما حدث بكربلاء ، وندموا لأنّهم قصَّروا في النصرة والمساندة ، وغضبوا على النظام الأموي لأنّه ارتكب الجريمة البشعة. وقد تفاعل الندم مع الحزن فولَّد عندهم مزيداً من الغضب ، وولَّد عندهم رغبةً حارةً في التكفير عبَّروا عنها بمواقفهم من النظام ورجاله شعرا ، وخُطبا ، وثورات استمرت أجيالاً ، وجعلت من شعار « يا لثارات الحسين » شعاراً لكلّ الثائرين على الأمويين.

ومن الشواهد على تلك الهزّة التي أحدثتها هذه النهضة في كيان الأمّة ، أنّه لما لقي عبيد الله بن الحرّ الجعفي الحسين عليه السلام فدعاه إلى نصرته والقتال معه فأبى .. قال الحسين عليه السلام : « فإذا أبيت أن تفعل فلا تسمع الصيحة علينا ، فوالله لا يسمعها أحد ثمّ لا ينصرنا فيرى بعدها خيرا أبداً ». قال عبيد الله : فوالله لهبت كلمته تلك ، فخرجت هارباً من عبيد الله بن زياد مخافة أن يوجّهني إليه ، فلم أزل في الخوف حتّى انقضى الأمر. فندم عبيد الله على تركه نصرة الحسين عليه السلام ، فقال (40) :

     

فيا لك حسرة ما دمت حيا

 

تردد بين حلقي والتراقي

حسينا حين يطلب بذل نصر

 

على أهل العداوة والشقاق

ولو أنّي اُواسيه بنفسي

 

لنلت كرامة يوم التلاقِ

مع ابن المصطفى نفسي فداه

 

فولى ثم ودع بالفراق

غداة يقول لي بالقصر قولاً

 

أتتركنا وتزمع بانطلاق

فلو فلق التلهّف قلب حي

 

لهم اليوم قلبي بانفلاق

فقد فاز الاُولى نصروا حسينا

 

وخاب الآخرون اُولو النفاق

ولم يكتفِ عبيد الله بن الحرّ بالندم وحده ، بل سعى هو وغيره ممّن تخلفّ عن الحسين عليه السلام إلى بلورة حالة الندم إلى الانتقام ، فلمّا قتل الحسين عليه السلام ندم عبيد الله بن الحرّ والمسيّب بن نجبة الفزاري وجميع من خذل الحسين عليه السلام ولم يقاتل معه ، فقالوا : ما المخرج والتوبة ممّا صنعنا ؟ فخرجوا فأتوا عين الوردة وهي بناحية قرقيسيا ، فلقيهم جمع أهل الشام وهم عشرون ألفاً عليهم الحصين بن نمير ، فقاتلوهم ، فترجّل سليمان بن صرد وقاتل حتّى قُتِل وقُتِل عامة أصحابه ورجع من بقي منهم إلى الكوفة (41).

وأمّا موقف عامّة المسلمين غير الملتزمين بالخطّ السياسي للشيعة وأئمّة أهل البيت عليهم السلام ، فقد واجه هؤلاء الكارثة بالدهشة والإستنكار ، وقد هالهم ما كشفت عنه عمليّة قمع الثورة من أسلوب معاملة الأمويين لخصومهم السياسيين ، هذا الأسلوب الذي لا يحترم شريعةً ولا أخلاقاً ، ولا يقيم وزنا حتّى للأعراف الإجتماعيّة ، حتّى انّ البعض من الناس أخذ يقابل قاتل الحسين بالإزدراء والإحتقار ، ولم يرد عليه السلام ، قال ابن سعد : « أخبرنا مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي ، قال : حدّثني عبد الرحمن بن حميد الرواسي ، قال : مرّ عمر بن سعد ـ يعني ابن أبي وقاص ـ بمجلس بني نهد حين قتل الحسين ، فسلّم عليهم فلم يردّوا عليه السلام » (42).

وقد وجدوا اللّوم والتقريع والتوبيخ على فعلتهم الشنيعة هذه حتّى من أقرب المقربين منهم ، قال ابن سعد : « أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حدّثنا شريك ، عن مغيرة ، قال : قالت مرجانة لابنها عبيد الله بن زياد : يا خبيث ، قتلت ابن رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ؟! لا ترى الجنّة أبداً » (43).

ولا شكّ في أن هذا الإكتشاف لهول الجريمة اليزيديّة ، قد دفع بكثير من الناس العاديين إلى إعادة النظر في مواقفهم من النظام الأموي وولائهم له.

وحتّى أولئك الذين استقبلوا العزم على الثورة بفتور ، وقدّموا نصائحهم بالكفِّ عنها ، لم يستطيعوا أن يثبتوا على موقفهم الأول السلبي بالنسبة إلى الثورة ، فاضطرّوا إلى مجاراة الرأي العام في الدهشة والاستنكار ، فقد كان زيد بن أرقم أحد الحاضرين في مجلس عبيد الله بن زياد في الكوفة لما أدخلت عليه السبايا ورؤوس الشهداء ، فبكى لما رأى ابن زياد يضرب بقضيب في يده ثنايا الإمام الحسين عليه السلام ، ولما زجره ابن زياد لبكائه وهدَّده ، قال : « أنتم ـ يا معشر العرب ـ العبيد بعد اليوم ، قتلتم ابن فاطمة ، وأمَّرتم ابن مرجانة ، فهو يقتل خياركم ، ويستعبد أشراركم ، فرضيتم بالذلّ ، فبعدا لمن رضي بالذُّل » (44).

تجدر الإشارة إلى أن قتل الحسين عليه السلام وأهله وأصحابه بهذه الطريقة الوحشية قد أثار استنكار بعض رجالات أهل الأديان الأخرى ، عن أبي الأسود محمّد بن عبد الرحمن ، قال : « لقيني رأس الجالوت فقال : والله إنّ بيني وبين داود لسبعين أبا ، وإن اليهود لتلقاني فتعظّمني ، وأنتم ليس بينكم وبين نبيّكم إلّا أب واحد فقتلتم ولده !! » (45).

ثمّ « إنّ الثورة ولَّدت أخطاراً كبرى على النظام الأموي ما كانت في الحسبان ، وذلك بعد ان تفجَّر الموقف كلّه ، واندفع شيعة أهل البيت إلى التصلُّب في مواقفهم بعد أن كانوا طيلة عهد معاوية أميل إلى المهادنة والتسامح ، كما أحدثت تصفية الثورة ـ بالطريقة الدموية الفضيعة التي حدثت وتسامع بها المسلمون ـ تغييراً كبيراً في مواقف جماعات كبيرة من المسلمين بالنسبة إلى الأمويين ودولتهم ، ونقدِّر أن هذا التغيّر جعل هذه الجماعات مؤهَّلة لاتّخاذ مواقف سلبية عمليّة ضدّ النظام الأموي بعد أن تغير موقفها منه » (46).

صفوة القول حقّقت ملحمة عاشوراء جملة من النتائج القيمة ، يمكن حصرها بالنقاط التالية :

١ ـ إنهاء الهيمنة الفكريّة لبني اُميّة على أذهان الناس.

٢ ـ شعور المجتمع بالذنب والتقصير لعدم مناصرة الحقّ وأداء التكليف.

٣ ـ هدم مشاعر الخوف والهلع من النهوض ومقارعة الظلم.

٤ ـ إيقاظ روح المقاومة لدى الناس ، فقد أوجدت نهجاً تحررياً ظلّ على مدى التاريخ يؤرق عيون الجبابرة والمتكبّرين ويقضّ مضاجعهم ، وقدم الحسين عليه السلام درساً في الحريّة والمروءة حتّى لغير المسلمين.

يقول نيكلسون ، المستشرق المعروف : « كان بنو اُميّة طغاة مستبدين ، تجاهلوا أحكام الإسلام واستهانوا بالمسلمين ، ولو درسنا التاريخ لوجدنا أن الدين قام ضد الطغيان والتسلّط ، وأن الدولة الدينيّة قد واجهت النظم الامبراطوريّة. وعلى هذا فالتاريخ يقضي بالإنصاف في أن دم الحسين عليه السلام في رقبة بني اُميّة » (47).

٥ ـ ظهور مفاهيم جديدة مستمدة من عاشوراء.

٦ ـ قيام ثورات عديدة وانتفاضات مستلهمة من ملحمة كربلاء.

٧ ـ ازدهار الطاقات الأدبيّة وظهور أدب عاشوراء.

٨ ـ انتشار منابر الوعظ والإرشاد كأداة لتوعية الناس.

٩ ـ بعثت ثورة الحسين من جديد جميع القيم والمفاهيم الدينيّة التي طمست وطواها النسيان بفعل المؤامرات والخطط المدروسة التي وضعها بنو اُميّة. واعيد إلى الواجهة رأي الدين في الحكومة والحاكم وبيت المال وحقوق الاُمّة. وسرت في بناء الإيمان والعقيدة روح جديدة ، وكشف النقاب عن التحريف ، وغدت النفوس الذليلة عزيزة وقادرة على الوقوف بوجه الطاغوت.

١٠ ـ إحياء رسالة الإسلام وإعادة الروح الإسلاميّة إلى الجسد الإسلامي ، وفي هذا الصدد يقول الكاتب المصري عبد الرحمن الشرقاوي : « فلست أعلم حقّاً أصرح ولا عدلاً أوضح من قومة الإمام الحسين عليه السلام ومن ثورته ونهضته. لقد كانت قومته لإحياء رسالة الإسلام ، بعد أن كادت تقضي على يد أعدائها ومناوئيها ، ولبعث الروح الإسلاميّة وهي تكاد تقترب من الإحتضار. وكانت ثورته لإعادة الحقّ الضائع إلى أهله المضَيَّعين ، وإنصاف المظلوم من الظالم ، ورعاية حقوق الضعفاء من جور المستكبرين. وكانت نهضته لإعلاء كلمة الحقّ ورفع راية الحقيقة ، كانت هذه المعاني كلّها في قيام الإمام الحسين بن علي ، بل كان الإسلام كلّه في ثورته ، وكان الحقُّ كلّه في نهضته » (48).

وذهب لياقة علي خان ، أوّل رئيس وزراء باكستاني ، أبعد من ذلك ، فقد اعتبر شهادة الإمام الحسين عليه السلام مع ما فيها من الحزن مؤشر ظفر نهائي للروح الاسلاميّة الحقيقيّة ، لأنّها كانت بمثابة التسليم الكامل للإرادة الإلهيّة. وأضاف قائلاً : « علينا أن نتعلّم منها وجوب عدم الخوف والإنحراف عن طريق الحقّ والعدالة مهما كان حجم المشاكل والأخطار » (49).

الهوامش

1. انظر : حياة الامام الحسين عليه السلام / باقر شريف القرشي ٣ : ٣٩ ، انتشارات مدرسة الإيرواني ، عن من معالم الحق / الغزالي : ١٣١. ط ٤ ـ ١٤١٣ هـ.

2. حياة الإمام الحسين عليه السلام / باقر شريف القرشي ٣ : ٤٠.

3. تاريخ الطبري ٦ : ٢١٥ ، حوادث سنة إحدى وستّين.

4. اللهوف : ٦٠ ـ ٦١.

5. اللهوف : ١٧.

6. شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٧ : ٢٨٣ ، دار إحياء الكتب العربيّة.

7. كنز العمال ١١ : ١٦٩ / ٣١٠٧٤ ، مؤسّسة الرسالة ، بيروت.

8. اللهوف : ١٠٥.

9. بحار الأنوار ٤٥ : ١٩٩.

10. ثورة الحسين عليه السلام في الوجدان الشعبي / محمّد مهدي شمس الدّين : ٣٩ ، الدار الإسلاميّة ، بيروت ، ط ١ ـ ١٤٠٠ هـ.

11. انظر : ثورة الحسين في الوجدان الشعبي : ٣٩.

12. حياة الحسين / القرشي ٣ : ٣٤ ، عن كتاب : أبناء الرسول في كربلاء / خالد محمّد خالد : ١٢٣ ـ ١٢٤.

13. انظر : ثورة الحسين في الوجدان الشعبي : ٤٤.

14. الإرشاد ٢ : ٣٢.

15. الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٧٩ ، منشورات الشريف الرضي ، قم ، ١٣٨٨ هـ.

16. تاريخ ابن عساكر ١٤ : ٢٠٦ ، طبعة دار الفكر ـ ١٤١٥ هـ.

17. الاحتجاج ٢ : ٢٠ ـ ٢١.

18. الاحتجاج ٢ : ١٨ ـ ١٩ ، دار النعمان.

19. مثير الأحزان : ١٧ ، لواعج الأشجان : ٤٠ ، اللهوف : ٢٦.

20. تاريخ الطبري ٦ : ١٤٠ ، حوادث سنة إحدى وخمسين.

21. مناقب آل أبي طالب ٤ : ٨٩.

22. من وحي الثورة الحسينيّة / هاشم معروف الحسني : ٢١ ، دار القلم ، بيروت.

23. ثورة الحسين في الوجدان الشعبي : ٣٨.

24. حياة الإمام الحسين / القرشي ٢ : ٢٧١.

25. كربلاء ـ الثورة والمأساة / المحامي أحمد حسين يعقوب : ٦٧ ، مركز الغدير ، بيروت ، ط ١ ـ ١٤١٨ هـ.

26. اللهوف : ١٨.

27. مناقب آل أبي طالب ٤ : ٨٩.

28. نهضة الحسين / هبة الدّين الشهرستاني : ١٠ ، منشورات الرضي ـ ١٣٦٣ هـ. ش.

29. اللهوف : ٤٨.

30. تاريخ الطبري ٦ : ١٨٦ ، حوادث سنة إحدى وستين.

31. اللهوف : ٤١.

32. من وحي الثورة الحسينيّة / هاشم معروف الحسني : ٤٥ ، دار القلم ، بيروت.

33. الإرشاد ٢ : ١١٨.

34. الإرشاد ٢ : ١١٤ ـ ١١٥.

35. موسوعة عاشوراء / جواد محدثي : ٢٩٣.

36. موسوعة عاشوراء / جواد محدثي : ٢٩٢.

37. اللهوف : ٤١.

38. دور أئمّة أهل البيت في الحياة السياسيّة / عادل الأديب : ٢٠٠ ، دار التعارف ، بيروت ، ١٤٠٨ هـ.

39. انظر : سلسلة ذخائر « تراثنا » (١) ، ترجمة الإمام الحسين ومقتله من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد ، تحقيق السيد عبد العزيز الطباطبائي : ٨٩ ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث.

40. انظر : سلسلة ذخائر « تراثنا » (١) ، مصدر سابق : ص ٩٣ ، وتاريخ الطبري ٦ : ٢١٧ ، حوادث سنة إحدى وستّين.

41. انظر : سلسلة « تراثنا » (١) : ٩٢.

42. سلسلة « تراثنا » (١) : ٨٨.

43. سلسلة « تراثنا » (١) : ٨٨.

44. تاريخ الطبري ٦ : ٢٤٨ ، حوادث سنة إحدى وستين.

45. سلسلة « تراثنا » (١) ، المصدر السابق : ٨٧ ـ ٨٨.

46. انظر : ثورة الحسين في الوجدان الشعبي : ٢٤.

47. موسوعة عاشوراء : ٢٩٤.

48. الحسين ، ثائراً. شهيداً / عبد الرحمن الشرقاوي : ١١ ، الدار العالميّة ، بيروت ، ط ٣ ـ ١٤١٥ هـ.

49. انظر : موسوعة عاشوراء : ٢٩٢.

مقتبس من كتاب : [ أبعاد النهضة الحسينية ] / الصفحة : 66 ـ 99