ظاهرتا العبادة والدعاء عند الإمام السجّاد عليه السلام

طباعة

ظاهرتا العبادة والدعاء عند الإمام عليه السلام

التفسير المبتور للظاهرتين :

لم يكن تفسير المؤرّخين لظاهرتي العبادة والدعاء للإمام زين العابدين عليه السلام بأوفر حظّاً من تفسيرهم لظاهرة البكاء المارّة الذكر .. ؛ إذ اقتصر بعضهم علىٰ تفسيرهما بكونهما حالة من الاعتزال والانكسار النفسي الذي يحلُّ عادة بالمصدومين والمفجوعين بسبب هول الصدمة أو الفجيعة التي مرّوا بها أو مرّت بهم ..

ويفسّرها آخرون بأنّها نوع من العزاء والسلوىٰ والتصوّف ، حيث ينكفىء أصحابها علىٰ أنفسهم في طقوس خاصة وانزواء واعتكاف لا علاقة له بالناس والمجتمع وهمومهم وآلامهم ..

وبين هذين التفسيرين المتيسّرين اللذين يمران علىٰ الاُمور بظواهرها ولا يغوصان في أعماقها ، يأتي تفسير مبتور ثالث يؤكّد أنّ دعاء الإمام وعبادته لم يكونا يتعديان مناقبية مثالية علوية عظيمة ، وفضيلة وكرامة من فضائل وكرامات أهل هذا البيت الطاهر ، وحيث ينظر إلىٰ المنقبة والكرامة علىٰ أنّها أسمىٰ ما يمكن أن يوصف بها الإنسان المغيّر في زمن التداعيات السياسيّة والصراع الفكري والحضاري ..

ولئن كان في هذا التفسير بعض حقّ ولكنّه ليس الحقّ كلّه ، لاسيّما وإن ما ينتظر من أمثال الإمام السجاد عليه السلام هو أكبر من المناقبية والفضيلة والكرامة ، وإنّما العمل والجهاد والكفاح لمواصلة مشروع تغييري يكون أهل البيت عليهم السلام أجدر الناس وأولاهم بتبنّيه وتنفيذه في ظلمة ذلك الواقع الفاسد ..

نعود ونذكّر بالأسباب والظروف التي أملت علىٰ الإمام السجاد هذا النوع من السلوك في فترة كان المجتمع الإسلامي الممزّق أحوج ما يكون إلىٰ التأمل والمراجعة وإعادة النظر بعيداً عن ضجيج السياسة الصاخب وأزلامها المسطحين المستهترين.

فماذا ترىٰ الإمام فاعلاً وهو يعيش أجواء كابوس خانق من الظلم والتعسف والاضطهاد يحمل لواءه عبدالملك بن مروان ، وخلفه ولاة قساة غلاظ كالحجاج وخالد القسري وبشير بن مروان ، يتوّجهم طاغية جبّار مستهتر لا يتردّد أن يمسك بالقرآن الكريم ويمزّقه ويخاطبه مهدداً :

تهدّدني بجبّارٍ عنيد

 

وها أنا ذاك جبّار عنيدُ

إذا لاقيت ربّك يوم حشرٍ

 

فقل يا ربّ مزّقني الوليدُ

وهذا يعني أنّ الإمام عليه السلام عاصر الفترة الاُولىٰ من حكم يزيد الأموي بكامل عنفها واستهتارها ، أعقبتها تسع سنين من الاضطرابات والفوضىٰ والصراع علىٰ السلطة بين الأمويين والزبيريين ، وما رافقها من ثورات شيعيّة وقتل وقتال لم تترك أحداً إلّا وناشته رذاذة أو شظية من شظايا تلك المرحلة الفظّة وصراعاتها ودمويتها وارتجاج المقاييس والقيم في فضائها العابث الصاخب ..

طريقان لا ثالث لهما :

ومن هنا كان أمام الإمام عليه السلام أحد طريقين : إمّا الاحتراق بهوس تلك الصراعات والضياع في خضمّ اصطكاك سيوف رجالها المتنافسين المتصارعين علىٰ الجاه والسلطة والمال.

وإمّا الابتعاد عن ذلك الهوس السياسي والصخب الدموي لحين انجلاء الغبرة ، والنأي بعيداً عن ذلك بالانشغال ببلورة الفكر الإسلامي المغيّر وإعداد النخبة الصالحة التي تذكّر بالصفوة المجزّرة من آل بيت المصطفىٰ صلّى الله عليه وآله وسلّم التي لم يبقَ منها أحد سوىٰ هذا العبد الصالح المقصي البكّاء الحزين ..

اختار الإمام الطريق الثاني بالتأكيد ، وراح يعدّ العدّة لإعداد المجموعة الصالحة المؤهّلة لحمل رسالة جدّه المصطفىٰ صلّى الله عليه وآله وسلّم في تلك الأجواء العابثة الملبّدة ، وكان عليه أن يُشعر السلطة الظالمة قبل غيرها ، أنّه ابتعد عن معترك الصراع السياسي ، واعتزل الحياة العامّة ، منشغلاً بعبادة ربّه ، منصرفاً عن مشاغل الدنيا ومتاعبها .. فكان « أن ضربَ له بيتاً من الشعر خارج المدينة وتفرّغ فيه للعبادة والابتهال » (1).

الهدف الحقيقي :

ومن ذلك المكان النائي ، ومن تلك الخيمة المتواضعة وبهذا السلوك أو المنهج استطاع الإمام تحقيق الأهداف التالية :

1 ـ إشعار الناس والمجتمع أن العمل السياسي ليس هو وحده الكفيل بتشكيل النخبة المغيّرة القادرة علىٰ قيادة المشروع الإسلامي المغيّب من قبل السلطات الظالمة ، وخاصّة في زمن ارتجاج المقاييس واهتزاز الثوابت لدىٰ القاعدة الجماهيرية الشعبيّة التي يعوّل عليها تنفيذ عمليّة التغيير المطلوبة هذه ..

2 ـ ترسيخ أو بناء مفهوم جديد للعلاقة مع الله تعالىٰ عبر الدعاء والمناجاة ، وإملاء الفراغ الروحي الناشئ عن حالات الإحباط وخيبة الأمل التي خلّفتها سياسة دموية عابثة تلفّعت بشعارات الإسلام ، ولكنّها لم تنتج إلّا الهوس والسعار ، والركض وراء الشهوات والملذّات وزوايا المتعة والمجون ، إذ نسمعه يناجي ربّه قائلاً : « الهي ، كم من نعمة انعمت بها عليّ قلّ لك عندها شكري ، وكم من بليّة ابتليتني بها قلّ لك عندها صبري ، وكم من معصيةٍ أتيتها فسترتها ولم تفضحني ، فيا من قلَّ شكري عند نعمه فلم يحرمني ، ويا من قلّ صبري عند بلائه فلم يخذلني ، ويا من رآني علىٰ المعاصي فلم يفضحني .. » (2).

وليس تعبيره باصفراره عليه السلام عند وضوئه وحين يقف بين يدي ربّه وقوله : « أتدرون بين يدي من سأقف ومن سأناجي » إلّا إشارة دقيقة وصادقة علىٰ هذا التواصل ، أو تعبيراً متيناً عن هذا الشدّ الرسالي العظيم ..

ومثل ذلك قوله وهو متعلّق بأستار الكعبة ليلاً : « إلهي نامت العيون ، وعلت النجوم ، وأنت الملك الحيّ القيوم ، غلقت الملوك أبوابها ، وأقامت عليها حراسها ، وبابك مفتوح للسائلين .. إلىٰ أن ينشد قائلاً :

يا من يجيب دعا المضطرِّ في الظُلم

 

يا كاشف الضرّ والبلوىٰ مع السقمِ

قد نام وفدك حول البيت قاطبةً

 

وأنت وحدك يا قيّوم لم تنمِ

أدعوك ربّ دعاءً قد أمرت به

 

فارحم بكائي بحقّ البيت والحرمِ

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف

 

فمن يجود علىٰ العاصين بالنعمِ (3)

3 ـ تذكير الناس بالله تعالىٰ واليوم الآخر ، وإيجاد بدائل لسعادة روحية غيّبها الصراع المادي والسياسي للسلطة الحاكمة ، وخلق أجواء حميمة لعلاقات صادقة وصفاء روحي قائم علىٰ الحبّ في الله والبغض في الله ..

فنجده يجسّد ذلك الشعور في دعائه لجيرانه ومواليه ، وإخوانه العارفين بحقّه فيقول : « اللهمّ صلِّ علىٰ محمّد وآله .. واجعلني اللهمّ أجزي بالإحسان مسيئهم ، وأعرض بالتجاوز عن ظالمهم ، واستعمل حسن الظن في كافّتهم ، وأتولّىٰ بالبرّ عامتهم ، وأغض بصري عنهم عفة ، وألين جانبي لهم تواضعاً ، وأرقّ علىٰ أهل البلاء منهم رحمة ، وأسرّ لهم بالغيب مودة ، وأحبُّ بقاء النعمة عندهم نصحاً ، وأوجب لهم ما أوجب لحامّتي وأرعىٰ لهم ما أرعىٰ لخاصتي » (4).

وهذا يعني أنّ السعادة الروحية يمكن أن تكون أعمق من السعادة المادّية ، وأن التنافس المحموم علىٰ المادّة يمكن تعويضه بسعادة روحية حميمة تقوم علىٰ العلاقات الدافئة الحبيبة بين الإخوان المتحابين في الله والمتآخين في حبّ الله ، وبعيداً عن مخالب التنافس المادي وأنيابه وسُعاره ..

4 ـ تسفيه أحلام الحكام الأمويين والتنديد بتكالبهم وتسابقهم علىٰ ملذّات الدنيا ، عبر إشعارهم بأن السعادة والكرامة لا يتأتّيان دائماً عبر المال والجاه والسلطة ، وإنّما عبر الزهد والسموّ والترفّع علىٰ الدنيا وحطامها ، بل إنّ السعادة الروحية أركز وأمتن ، وأجلّ في نفوس أهلها من السعادة المادية المعروفة.

سأل عبدالملك يوماً الإمام عليه السلام عن تواصل عبادته وكثرة انشغاله بها ، فأجابه عليه السلام قائلاً : « .. ولولا أن لأهلي عليّ حقاً ، ولسائر الناس من خاصتهم وعامتهم عليّ حقوقاً ، لا يسعني إلّا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتّىٰ أؤديها ، لرميتُ بطرفي إلىٰ السماء ، وبقلبي إلىٰ الله ، ثمّ لا أردّهما حتّىٰ يقضي الله علىٰ نفسي وهو خير الحاكمين .. » مذكّراً بحديث جدّه المصطفىٰ صلّى الله عليه وآله وسلم حين سُئل عن كثرة عبادته وقد غفر الله له من ذنبه ما تقدّم منه وما تأخّر ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ » ! وقيل : إنّ عبدالملك بكىٰ وأبكىٰ من كان معه ..

فضلاً عن إشعار أزلام السلطة أو إيهامهم بأنّه لا يعارضهم ولا يبغي غائلة بهم ، علّهم يخففون عنه عيون الشرطة والمرتزقة والمأجورين ..

ولا نرىٰ أنفسنا مبالغين حين نقول : إنّ « زبور آل محمّد » جاء مجموعة متماسكة من ذرىٰ رفيعة ينتقل عبرها الداعي من عالم مادي رمادي مظلم إلىٰ عالم معنوي مشرق نوراني شفاف ، يستلهم القارئ من كلماتها وألفاظها ومعانيها ونصوصها آفاقاً جديدة في المعرفة والعرفان ، حتّىٰ ليُخيل للمرء أنّها كتلةً نورانيّة مشعّة تنبعث عنها طاقة هائلة من معانٍ وإشراقات يفجّرها الإمام ببيانه وبلاغته وصدق مناجاته ، ويحشدها حشداً علىٰ امتداد أدعية الصحيفة وكلماتها .. وهو يقول : « إلهي اسكنتنا داراً حفرتَ لنا فيها حُفَر مكْرِها ، وعلّقتنا بأيدي المنايا في حبائل غدرها ، فإليك نلتجئ من مكائد خدعها ، وبك نعتصم من الاغترار بزخارف زينتها ، فإنّها المهلكة طلّابها ، المُتلفة حُلّالها ، المحشوّة بالآفات ، المشحونة بالنكبات .. إلهي فزهّدنا فيها وسلّمنا منها بتوفيقك وعصمتك ، وانزع عنّا جلابيب مخالفتك ، وتولّ أمورنا بحسن كفايتك .. ».

5 ـ كان لابدّ للإمام وهو يرىٰ انتشار وباء التكالب علىٰ الدنيا وشهواتها ، وانتشار ظواهر التحلّل والميوعة والفساد ، أن يبحث عن لقاح مضاد نافع لكبح تيار الانحلال هذا ، وتعليم الناس أنّ الدنيا ليست كلّ شيء وإنّما وراءها يوم آخر غيّبته السياسة ، وأنّ ذلك اليوم هو خير وأبقىٰ لمن ألقىٰ السمع وهو شهيد ، فكان عليه السلام يقتنص الفرصة تلو الفرصة لتأكيد هذا المعنىٰ في نفوس الناس.

روي عن الإمام الباقر عليه السلام واصفاً عبادة أبيه أنّه قال :

« لم يذكر أبي نعمة لله إلّا سجد ، ولا قرأ آية فيها سجدة إلّا سجد ، ولا دفع الله عنه سوء إلّا سجد ، ولا فرغ من صلاة إلّا سجد ، ولا وفّق لاصلاح بين اثنين إلّا سجد .. » (5).

ويُروىٰ عنه عليه السلام أنّه حين كان يخرج مع الناس في بعض المنازل كان يصلّي ويسبّح في سجوده ، ويبكي حتّىٰ تبتلّ لحيته بدموع عينيه وهو يقول : « يا من تُحلُّ به عُقد المكاره ، ويا من يُفتأ به حدّ الشدائد ، ويا من يُلتمس منه المخرج إلىٰ روح الفرج. ذلّت لقدرتك الصعاب ، وتسبّبت بلطفك الأسباب ، وجرىٰ بقدرتك القضاء ، ومضت علىٰ إرادتك الأشياء ، فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة ، وبإرادتك دون نهيك منزجرة ، أنت المدعو للمهمّات ، وأنت المفزع في الملمّات ، لا يندفع منها إلّا ما دفعت ، ولا ينكشف منها إلّا ما كشفت .. » (6).

وغير ذلك من تضرّع ومناجاة وتبتّل ، كانت لها أكبر الآثار في شدّ الناس بالله تعالىٰ وتذكيرهم بعظمته وجبروته ، وتحذيرهم من الكفر به وتجاوز حدوده .. خاصّة إذا كان مثالها مصداقاً عمليّاً للدعاء الصادق أو التبتّل الطاهر الذي لا يرجو صاحبه بدعائه وتبتّله ومناجاته إلّا رضا الله تعالىٰ وتحكيم دينه في دنيا الناس ، رأفةً بهم وحبّاً لهم ، وامتثالاً لقوله عزَّ من قائل : ( فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (7).

مضامين دعائه عليه السلام :

وحتّىٰ دعائه عليه السلام لم يسلم هو الآخر من النقد والتجريح من قبل السفهاء والمسطّحين ، فبعد أن اعتبره بعضهم إعتزالاً سلبيّاً ، وانكفاءً وابتعاداً عن هموم الناس وآلامهم ، راح آخرون يؤكّدون علىٰ الجانب العرفاني فيه فقط ، ناسين أو متناسين أن دعاءه عليه السلام كان في معظمه رسالة مفتوحة ، إلىٰ الناس كلّ الناس ، بثّ لهم فيها شجونه وأهدافه ورسالته وعلىٰ كلِّ الأطر والأصعدة ، وعلىٰ طريقة « إيّاك أعني واسمعي يا جارة » ..

ولعلّنا من قراءة سريعة لسطور وكلمات أدعيته المأثورة نكتشف سِفراً خالداً ـ سنأتي علىٰ ذكر بعض تفاصيله لاحقاً ـ من التربية والتهذيب والتصدّي والدعوة إلىٰ الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حدود الله واستحضار قيم الدين وتفعيل مضامينه وبثّ الروح في مواعظه وإرشاداته.

ولم يُخطئ من وصف « الصحيفة السجاديّة » للإمام زين العابدين عليه السلام بأنّها « زبور آل محمّد » ، ولم يُجانب الصواب كثيراً من قرأ الإمام السجاد من زاوية التهجّد والعرفان وعلاقته عليه السلام مع السماء فقط ، فلعلّه عليه السلام أراد بتلك الأدعية ـ كما قلنا ـ كبح الانجرار الهابط إلىٰ وحل الأرض وطينها ، والوقوف أمام التيار المادي الجارف الذي روّجه وعزف عليه وأشاعه الإعلام الأموي المتلفّع بشعارات الدين زوراً وإفكاً ..

ومن قراءة سريعة في هذه « الصحيفة الخالدة » يكتشف المرء عمق العلاقة بين الإمام زين العابدين وربّه ، وكيف انّه غاص في أعماق النفس الإنسانية ، وراح يشدّ حبلها بحبل السماء الذي قطعته السياسة الأمويّة ، ومزّقت أوصاله تداعياتها ، وانحطاط رجالها وتهافتهم علىٰ الدنيا وحطامها ..

نعم ، استطاع الإمام السجاد عليه السلام بهذا الاتّجاه وبسبب الأجواء الخانقة التي أشرنا إليها تلميحاً أن يترك لنا سفراً خالداً في المناجاة والتبتّل والابتهال ، فأعاد موازنة العقل مع القلب ، والفكر مع الروح ، واستطاع بصدقه ودموعه وشجونه ولوعته أن يرسم لنا لوحةً صادقةً عن العرفان الهادف ، والتصوف الصادق ، والاتّصال المسؤول الذي يهفو إلىٰ السماء ولا ينسىٰ الأرض ، ويسأل الله سعادة أهل الآخرة ، ولا ينسىٰ شقاء أهل الدنيا ، ويطلب رضا الخالق فيما يناشد ضمائر المخلوقين ..

نعم ، جاءت أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام لمواجهة موجات الرخاء والهبوط التي تعرّض لها المجتمع الإسلامي في بداية الحكم الأموي ، فقام عليه السلام بما امتلكه من بلاغة فريدة وقدرة فائقة علىٰ استخدام اللغة ، وذهنيّة ربانيّة تفتّقت عن أعذب المعاني وأروعها في تصوير صلة الإنسان بخالقه وهيامه به ، وانشداده بالمبدأ والمعاد ، فأوجد من خلال الدعاء فضاءً روحياً عظيماً لابناء المجتمع الإسلامي استطاع بواسطته تثبيت الإنسان المسلم وشدّه بالسماء وخاصّة حين تعصف به المغريات وتجرّه إلىٰ الأرض.

فكان عليه السلام يخطب الناس في مجلسه كلّ جمعة ، يعضهم ويزهّدهم في الدنيا ، وهو سيّد الزاهدين ، ويُرغّبهم في الآخرة وهو أشدّ الراغبين ، ويقرع أسماعهم بتلك اللوحات الفنيّة البالغة التأثير التي مثّلت بحقّ العبوديّة الخالصة لله تعالىٰ ، فضلاً عن كونها عملاً اجتماعيّاً عظيماً فرضته ضرورة المرحلة التي كان يمرّ بها ، حتّىٰ أضحت تلك الأدعية تراثاً ربانياً فريداً للسالكين طريق الله ، ومصدر عطاء وهداية لكلِّ من ينشد الحقّ ويرغب في معرفة الله حقّ معرفته ، إضافة إلىٰ كونها دروس أخلاق وتهذيب ، سيظلّ أهل الدنيا ينهلون من معينها العذب ما دام هناك صراع بين قوىٰ الخير وقوىٰ الشرّ ، أو بين مثابات الهدىٰ ومعسكرات الضلال ..

وهكذا نسمعه عليه السلام في فصاحته وبيانه وبلاغته ، له في كلّ صباح ومساء دعاء ، وله في المهمّات دعاء ، وفي الاعترافات والظلامات دعاء ، وعند المرض والعافية دعاء ، وعند الشدّة والفزع دعاء ، وعند ذكر الموت وسماع الرعد والرهبة دعاء ، وفي استقبال شهر رمضان المبارك وتوديعه دعاء ، وعند ختم القرآن ويوم عرفة وأيّام الأسبوع دعاء ودعاء ، وهكذا في كلّ موقف وموطن وفي كلِّ نبضة قلب ورمشة جفن ، وكأنّه قطعة من كيانٍ وجزءٍ من كلِّ ، لا ينقطع ولا يكلّ ولا يملّ ، حتّىٰ يقول :

« يا إلهي لو بكيت إليك حتّىٰ تسقط أشفار عيني ، وانتحبتُ حتّىٰ ينقطع صوتي ، وقمت لك حتّىٰ تنتثر قدماي ، وركعتُ لك حتّىٰ ينخلع صلبي ، وسجدتُ لك حتّىٰ تتفقأ حدقتاي ، وأكلتُ تراب الأرض طول عمري ، وشربتُ ماء الرماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال ذلك حتّىٰ يكلُّ لساني ، ثمّ لم أرفع طرفي إلىٰ آفاق السماء استحياءً منك ، ما استوجبت بذلك محو سيّئة واحدة من سيئاتي ..

فارحم يا ربِّ طول تضرّعي وشدّة مسكنتي وسوء موقفي ، واستعملني بالطاعة ، وارزقني حُسن الإنابة ، وطهّرني بالتوبة ، وأيّدني بالعصمة ، واستصلحني بالعافية ، وأذقني حلاوة المغفرة ، واجعلني طليق عفوك ، وعتيق رحمتك ، واكتب لي أماناً من سخطك ، وبشّرني بذلك في العاجل دون الآجل ، إنّك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد ، وإنّك علىٰ كلِّ شيء قدير .. ».

إذن ، وباختصار شديد وبكلمات أكثر تفصيلاً يمكن القول انّ الصحيفة السجاديّة التي تركها الإمام زين العابدين عليه السلام جاءت لتشكّل مساحة منهجيّة رائدة وكبيرة ، بكبر القضيّة التي انتُدب لها أوّلاً ، وبحجم دوره عليه السلام في ريادة هذه القضيّة وتوجيهها وتعميقها في نفوس الناس ثانياً.

نعم ، جاءت هذه الصحيفة لتكون شوطاً آخر من أشواط الجهاد الذي قطع مشواره المرّ الطويل هذا الإمام العظيم في تبيئة المفهوم الإسلامي ـ كما يقولون اليوم ـ وتأصيل جذوره في الاُمّة والمجتمع بعدما انكمش دوره في دائرة القوالب المشوّهة التي صاغها الأمويّون ، وداسوا القيم العظيمة التي جاء من أجلها بل لأجلها النبي المصطفىٰ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، واستشهد لأجلها سيّد الشهداء عليه السلام.

جاء الإمام السجّاد في صحيفته هذه ليمزج العاطفة بالوجدان ، والقلب بالعقل ، ويحمل الجميع إلىٰ الحقيقة الإلهيّة المتعالية بلا رتوش أو أصباغ أو قوالب يتماهىٰ معها أدعياء هذه الحقيقة فيستغرقون ويُغرقون الناس معهم في مفاهيم غائمة لا مصاديق لها ، أو يغوصون في عبارات سائبة عائمة لا تستقرّ في قعر ولا تركن إلىٰ حصنٍ منيع.

ونكتفي بالإشارة ، والإشارة فقط إلىٰ بعض مضامين دعائه التي لم تحلّق في السماء فقط ، وإنّما نزلت إلىٰ الأرض تقارع الظالمين وتنتصر للمظلومين ، تستنهض الهمم وتدعو لتحكيم دين الله ، ولم تكتفِ ، بل لم تجنح إلىٰ « التهويمات » التي يطير فيها بعض المتصوّفين ممّن لا علاقة لهم بالناس ، ولا وشيجة لهم مع أُمّة أو مجتمع ..

وسنتناول فيما يلي ثلاثة مضامين تناولها الإمام عليه السلام وسعىٰ إلىٰ ترسيخها في أذهان الاُمّة ، وقد تمثّلت في العقائد والأخلاق وأخيراً المضمون العبادي الذي يعطي العبادة دورها الفعّال والحيوي في إحياء المجتمع وتزكيته ، وهذه تُعدُّ من أهمّ ركائز المجتمع الإسلامي :

1 ـ المضامين العقائدية :

ولعلَّ أوّل ما يطالعنا في هذا السفر الخالد هو قدرة الإمام زين العابدين عليه‌السلام الفائقة علىٰ تجسيد العلاقة بين العبد وربّه ، أو بين الخالق والمخلوق ، وباسلوب أدبي رفيع ومناجاة عذبة صادقة يصدق أن يُقال فيها ما قيل في أقوال جدّه علي بن أبي طالب عليه السلام أنّها تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق فعلاً ..

لنستمع قليلاً إلىٰ بعض ما جاء في هذه الأدعية : « الحمدُ لله الذي خلق الليل والنهار بقوّته ، وميّز بينهما بقدرته ، وجعل لكلِّ واحدٍ منهما حدّاً محدوداً وأمداً ممدوداً .. اللهمَّ فلك الحمدُ علىٰ ما فلقت لنا من الإصباح ، ومتّعتنا به من ضوء النهار ، وبصّرتنا فيه من مطالب الأقوات ، ووقيتنا فيه من طوارق الآفات .. ».

ويرسم الإمام لنا لوحةً اُخرىٰ عن عظمة الخالق سبحانه ، وكيف أنّه جلَّ وعلا أكبر ، ولكنّه أكبر من كلِّ كبير ، وليس أكبر من كلِّ صغير ، وأنّه عزَّ وجلَّ أعلىٰ ، ولكنّه أعلىٰ من كلِّ عالٍ أو متعال وليس أعلىٰ من كلِّ مسكين واطىء ضعيف ..

فيقول عليه السلام : « الحمدُ لله الذي تجلّىٰ للقلوب بالعظمة ، واحتجب عن الأبصار بالعزّة ، واقتدر علىٰ الأشياء بالقدرة ، فلا الأبصار تثبُت لرؤيته ، ولا الأوهام تبلغ كنه عظمته. تجبّر بالعظمة والكبرياء ، وتعطّف بالعزّ والبرّ والجلال ، وتقدّس بالحُسن والجمال ، وتمجّد بالفخر والبهاء ، وتهلل بالمجد والآلاء ، واستخلص بالنور والضياء. خالق لا نظير له ، وواحد لا ندّ له ، وماجد لا ضدّ له ، وصمد لا كفو له ، وإله لا ثاني له ، وفاطر لا شريك له ورازق لا معين له ، والأوّل بلا زوال ، والدائم بلا فناء ، والقائم بلا عناء والباقي بلا نهاية ، والمبدئ بلا أمد ، والصانع بلا ظهير ، والربّ بلا شريك .. ليس له حدّ في مكان ، ولا غاية في زمان ، لم يزل ولا يزول ولن يزال ، كذلك أبداً هو الإله الحيّ القيوم الدائم القديم .. » (8).

أمّا توحيد الباري جلّ وعلا فإنّ الإمام عليه السلام يصبّه في قالب دعاء يوجّه من خلاله الإنسان بهدوء وبساطة إلىٰ وحدانيّة الله تبارك وتعالىٰ من خلال استقراء ظواهر طبيعيّة حسيّة هي مع الإنسان في وجوده ، يحملها معه في كلِّ آن ، ولا يستغني عنها لحظة ..

فيقول في ذلك : « إلهي بدت قدرتك ولم تبدُ هيئة جلالك ، فجهلوك وقدّروك بالتقدير علىٰ غير ما أنت به ، شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء إلهي ولم يدركوك ، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك ، وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن ينالوك بل ساووك بخلقك ، فمن ثمَّ لم يعرفوك ، واتّخذوا بعض آياتك ربّاً ، فبذلك وصفوك ، فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبّهون نعتوك » (9).

2 ـ المضامين الأخلاقيّة :

لا شكّ أن المتدبّر في أدعية الصحيفة السجاديّة سوف يجد آثاراً واضحة تتركها مجمل أدعيته عليه السلام علىٰ طبيعة سلوكه بشكل عام. فإنّه عليه السلام قد ضرب أروع الأمثلة في الخلق الإسلامي الرفيع ، وجسّد الشخصيّة الإسلاميّة المثالية ..

وهكذا سعىٰ عليه السلام إلىٰ الارتفاع بالنفس المؤمنة في مدارج الكمال عبر بلورة المفاهيم الأخلاقيّة التربويّة من خلال نسجهما بشكل دعاء فيه من الضراعة والخشوع لله تعالىٰ واستمداد العون منه في شحذ النفس بالتعلق بأخلاق السماء ، والتعالي عن كلّ وضيع ، والارتفاع عن كلِّ دنيء.

ولقد أرسىٰ الإمام عليه السلام عبر أدعيته في مختلف مظانها مناهج التغيير الذاتي ، بمحاكاته العقل والوجدان الإنساني وتربيتهما رسالياً ، وهذه مهمّة الأنبياء والمصلحين الإلهيين الكبار ، فهي إلىٰ جانب شدّ الإنسان وربطه بالسماء ، تجعله في الأرض بؤرة خير ورحمة ، شديد البأس في ذات الله لا يرضىٰ بظلم ، ولا يرضخ إلىٰ باطل ، قوي العزيمة ، وإنّك لتلمس هذا المنهج بين ثنايا دعائه عليه السلام في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال ..

ففي هذا الدعاء ـ مثلاً ـ نلتقي بقوله عليه السلام وهو ينشدُّ إلىٰ أعماق الأرض ، بقدر انشداده إلىٰ آفاق السماء ، ويغوص في عمق الإنسان فيما هو غارق في عمق العرفان ، فنسمعه يقول : « وأجرِ للناس علىٰ يدي الخير ، ولا تمحقه بالمنّ ، وهب لي معالي الأخلاق ، واعصمني من الفخر. اللهمَّ صلِّ علىٰ محمّد وآل محمّد ولا ترفعني في الناس درجة إلّا حططتني عند نفسي مثلها ، ولا تُحدث لي عزّاً ظاهراً إلّا أحدثت لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها .. ».

فالكلمات التي يعرضها الإمام السجاد عليه السلام هنا ـ كما في غيرها ـ تعبّر تعبيراً دقيقاً عن منهج سلوكي عظيم غارقٍ في الشفافيّة والروح من جهة ، ومستغرقٍ في الفكر والواقع من جهة اُخرىٰ ، فكما أنّه ارتباط عاطفي شديد الصلة متين الانشداد بربِّ العزّة تبارك وتعالىٰ ، ولكنّه من زاوية اُخرىٰ عميق الغوص في الجانب التربوي والأخلاقي والمعرفي الذي لا يكتفي صاحبه خلاله بالعرفان المجرّد و « تهويماته » الجميلة ، بل يسحبه إلىٰ الواقع المعاش بكلِّ تفاصيله وخيوطه ونسيجه المعقّد.

« ولا ترفعني في الناس درجة إلّا حططتني عند نفسي مثلها » وهذه أسمىٰ وأرفع سبل تربية الذات ، ودحض الأنا ، وتجاوز الكبر ، والإجهاز علىٰ كلّ أشكال الغرور والهوىٰ والغطرسة الذاتية.

وبكلمة اُخرىٰ استطاع الإمام السجّاد عليه السلام بهذه العبارة أن يواجه بُعدين ، كلّ منهما سيف ذو حدّين : بُعد الذات التي هي ألدُّ أعداء المرء (10) من جهة ، وهي كرامته وكبرياؤه وعزّته من جهة اُخرىٰ ، وبُعدُ الناس الذين هم ميزان العلاقة ومعيار إنسانيّة الإنسان من جانبٍ ، وهم الهمج الرعاع الذين يصعب إرضاؤهم وربّما يستحيل (11) من جانب آخر ..

وهذا يعني أنّه لم يختفِ أو يحاول الاختفاء ، وراء النصّ ، كما يفعل الكثيرون ، ولم يحاول التخلّق بأخلاقٍ عالية ربّما يكون شعارها النص ومضمونها المخاتلة به والتماهي معه ، وإنّما أراد أن يكون شعاره وخلقه ، نصّه ومضمونه ، متوازنين لا تطغىٰ فيه كفّة علىٰ اُخرىٰ ، ولا زعم علىٰ واقع ، أو واقع علىٰ ادّعاء.

وهكذا ، ومن هذا النصّ وغيره ، وكما يقول بعض المحللين لشخصيّة الإمام السجّاد عليه السلام ، إنّه استطاع في الظروف العصيبة التي عاشها عليه السلام أن يوظّف كل الجهود الممكنة وفي منهج إحيائي حركي لتعميم الثقافة الإسلاميّة المطلوبة ، وإشاعة التفكير الإسلامي السليم ، أيّ عبر الدعوة للتفكير الصحيح من خلال الدعاء الذي ورد في هذه الصحيفة التي تنوّعت أبعاده وتعددت آفاقه ليشكل بمجموعه منهجاً كاملاً يأخذ طابع المدرسة الشاملة والثقافة الشموليّة المتكاملة التي تملأ كلّ الفراغات وتغطي كلّ الثغرات في جسم المجتمع الإسلامي والنموذج المسلم.

فهو ، من جانب ، يغوص في أعماق النفس الإنسانيّة مدغدغاً أدقّ نوازعها محلحلاً بواطنها ومكنوناتها ، كابحاً لشططها وطيشها وشطحاتها « لا ترفعني .. إلّا حططتني .. » وهو من جانب آخر يسعىٰ إلىٰ توضيح وتيسير المفاهيم الإسلاميّة العامّة ، وبالتالي استيعاب حاجات الفرد المؤمن المادية والروحية ، وصولاً لاحتواء متطلبات المجتمع المسلم المادية والروحية أيضاً ، وبدون ابتسار أو تعسف أو اختزال ..

وهكذا في العشرات بل المئات من المقطوعات المأثورة والبيانات الصريحة التي تعبّر عن اندكاكه بهموم الاُمّة ولوعته في مناشدة الضمائر الحيّة لمقارعة أهل الظلم والجور أيّاً كانوا وحيثما وجدوا.

فمما روي عنه عليه السلام قوله : « يا من اتّقيتم سلطان الأرض ، ألا تتّقون سلطان السماء ؟ يا من أرهبكم عذاب الدنيا ، ألا ترهبون عذاب الآخرة ، إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ؟ ».

« أتخشون ملكاً تعصونه مرّة ولا تخشون ملك الملوك ، وأنتم في كلِّ يوم له عاصون ؟ ».

« اللهمَّ من تهيّأ وتعبأ واستعد لوفادة إلىٰ مخلوق رجاء رفده ونوافله وطلب نيله وجائزته ، فإليك يا مولاي كانت اليوم تهيئتي وتعبئتي وإعدادي واستعدادي رجاء عفوك ورفدك وطلب نيلك وجائزتك .. » (12).

3 ـ المضمون العبادي :

وممّا يؤكّد حرص الإمام علىٰ إنزال الدعاء من السماء إلىٰ الأرض ، وشدّه بين واجبات الإنسان علىٰ الأرض وتطلّعه نحو السماء ، إنّه لم ينفكّ يدعو إلىٰ التواصل والجمع بينهما من أجل توفير الحالة الدينيّة المسؤولة ، وتعبئة الاُمّة لحفظ هذا التواصل وإذكاء جذوته وإبقائه في نفوس الناس ..

فلا يكاد المرء يستمع إلىٰ مواعظه إلّا ويستشعر نكهتها التربويّة والاجتماعيّة والسياسيّة ، ودورها في تهذيب النفوس وتنقيتها ، فهي من جانب تدعو إلىٰ التسامي والترفّع ، ومن جانب آخر إلىٰ التصدّي للظالمين والثورة عليهم ، وتؤكّد كذلك علىٰ مسؤوليّة الإنسان في هذه الحياة الدنيا ودوره فيها.. الأمر الذي يعطي العبادة دورها في إحياء المجتمع والفرد من خلال فتح الأبواب إلىٰ مضامينها وأهدافها التي قد لا يدركها إلّا القليل ممّن تذوّق روح الشريعة الإسلاميّة وأبصر أبعادها.

يقول عليه السلام وعلىٰ سبيل المثال لا الحصر :

1 ـ « أصبحت مطلوباً بثمان : الله يطالبني بالفرائض ، والنبي بالسُنّة ، والعيال بالقوت ، والنفس بالشهوة ، والشيطان باتّباعه ، والحافظان بصدق العمل ، وملك الموت بالروح ، والقبر بالجسد .. فأنا بين هذه الخصال مطلوب .. » (13).

2 ـ « أيُّها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا ، المائلون إليها ، المفتونون بها ، المقبلون عليها ، احذروا ما حذّركم الله منها ، وازهدوا في ما زهّدكم الله فيه منها ، ولا تركنوا إلىٰ ما في هذه الدنيا ركون من أعدّها داراً وتوهّمها قراراً .. » (14).

3 ـ وقال عليه السلام واصفاً أهل الدنيا ، مصنّفاً لهم : « الناس في زماننا ستّ طبقات : أُسد وذئاب وثعالب وكلاب وخنازير وشياه : فأمّا الاُسد فملوك أهل الدنيا ، يحبّ كلّ واحدٍ منهم أن يَغلِب ولا يُغلَب ، وأمّا الذئاب فتُجّاركم يذمّون إذا اشتروا ، ويمدحون إذا باعوا ، وأمّا الثعالب فهؤلاء الذين يأكلون بأديانهم ، ولا يكون في قلوبهم ما يصفون بألسنتهم ، وأمّا الكلاب فيهرّون علىٰ الناس بألسنتهم ، فيكرمهم الناس من شرّها ، وأمّا الخنازير فهؤلاء المخنّثون وأشباههم لا يُدعون إلىٰ فاحشةٍ إلّا أجابوا .. ، أمّا الشياه فهم المؤمنون الذين تجزّ شعورهم ، وتؤكل لحومهم ، وتُكسر عظامهم .. ».

ثمّ يتساءل متوجّعاً متألّماً مشفقاً علىٰ المؤمنين : « فكيف تصنع الشاة بين أسد وذئب وثعلب وكلب وخنزير .. » (15).

ويقول مخاطباً أصحابه وشيعته :

4 ـ « .. أيُّها الناس ، اتقوا الله ، واعلموا أنّكم إليه راجعون ، فتجد كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً .. ويحذّركم الله نفسه .. ويحك ابن آدم ، إن أجلك أسرع شيء إليك ، ويوشك أن يدركك ، فكأنّك قد أوفيت أجلك ، وقد قبض الملك روحك ، وصُيّرت إلىٰ قبرك وحيداً .. فان كنت عارفاً بدينك متّبعاً للصادقين ، موالياً لأولياء الله ، لقّنك الله حجّتك ، وأنطق لسانك بالصواب ، فأحسنت الجواب ، وبُشّرت بالجنّة والرضوان من الله ، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان ، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ، ودُحضت حجتك ، وعييت عن الجواب وبُشرت بالنار ، واستقبلتك ملائكة العذاب بنُزُلٍ من حميم ، وتصلية جحيم .. » (16).

ولعلّ أروع ما دوّنه الإمام السجاد في معرفة النفس الإنسانيّة وسبره أغوارها وتفريقه بين زيفها وصدقها ، وكشفه الفاصلة بين الواقع والادعاء ، والظاهر والباطن ، هو المقطوعة البليغة التالية :

5 ـ « إذا رأيتم الرجل قد حسُنَ سمتُه وهديه ، وتمادىٰ في منطقه وتخاضع في حركاته ، فرويداً لا يغرنّكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام فيها ، لضعف بنيته ومهانته وجبن قلبه ، فنصبَ الدين فخاً له ، فهو لا يزال يُختل الناس بظاهره ، فإنّ تمكن من حرام اقتحمه ، وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّنّكم ، فإنّ شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من يتأبّىٰ من الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه علىٰ شوهاء قبيحة ، فيأتي منها محرماً ، فإذا رأيتموه كذلك ، فرويداً حتىٰ لا يغرّنّكم عقده وعقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثمّ لا يرجع إلىٰ عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر ممّا يصلحه بعقله .. فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم حتّىٰ تنظروا أيكون هواه علىٰ عقله ، أم يكون عقله علىٰ هواه ؟ وكيف محبته للرياسة الباطلة وزهده فيها ؟ فإنّ في الناس من يترك الدنيا للدنيا ، ويرىٰ لذّة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة ، حتّىٰ إذا قيل له اتق الله أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد .. فهو يحلّ ما حرم الله ، ويحرم ما أحلَّ الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرياسة التي قد شقي من أجلها ، فاولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً أليما .. » (17).

هكذا كان الإمام عليه السلام في تشخيصه لنوازع وزوايا النفس البشريّة المعتمة .. وهكذا كان دعاؤه وعبادته ومواعظه .. غوص بارع في العمق ، وتضميد هادئ للجرح ، اشارة دقيقة مركّزة هنا ، واسترسال هادف هناك ، ينتزع أدقّ الأشواك ، ويداعب أغلظ الأوتار ، ويقطع الطريق علىٰ أكثر المرائين قدرةً علىٰ التمثيل والتنطّع والرياء ..

الهوامش

1. الإمام زين العابدين / عبد الرزاق المقرّم : 42.

2. مناقب آل أبي طالب 4 : 178.

3. مناقب آل أبي طالب 4 : 163 عن الاصمعي اللغوي النحوي صاحب النوادر والملح ، عن الكنىٰ والألقاب 2 : 37 ـ 40.

4. الصحيفة السجادية الجامعة : 131 دعاء رقم 65.

5. معاني الأخبار / الصدوق : 24.

6. الصحيفة السجادية / الإمام زين العابدين دعاء 7.

7. سورة النور : 24 / 62.

8. الصحيفة السجاديّة الجامعة : 21 و 25 / الدعاء 2 و 7.

9. الصحيفة السجاديّة الجامعة : 22 دعاء 3.

10. كما روي في الحديث الشريف : « ألدُّ أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه ».

11. « رضا الناس غايةٌ لا تدرك ».

12. الصحيفة السجاديّة الكاملة ، دعاؤه يوم الأضحىٰ ويوم الجمعة.

13. أمالي ابن الشيخ : 410.

14. تحف العقول : 252.

15. الخصال للشيخ محمّد بن علي الصدوق : أبواب السنّة ، الحديث الأخير فيها.

16. تحف العقول : 249 ـ 252. وأمالي الطوسي : 301. وروضة الكافي : 160. وأمالي الصدوق : 356.

17. تنبيه الخواطر : 316. والاحتجاج 2 : 175.

مقتبس من كتاب : [ الإمام علي بن الحسين عليه السلام .. دراسة تحليلية ] / الصفحة : 51 ـ 71