خلاصة الجهاد السياسي عند الإمام السجاد عليه السلام

طباعة

خلاصة الجهاد السياسي عند الإمام السجاد عليه السلام

ينبغي القول فعلاً إنّ الجهاد بالنفس هو أفضل أنواع الجهاد ، وأن الجود بالنفس هو أغلىٰ غاية الجودِ ـ كما يقولون ـ ولكن هذه المقولات أو هذا الفهم ربما يصير كلمة حق يُراد بها باطل عند بعض الناس ، فيبخس هذا البعض علىٰ غيرهم من الناس جهادهم ( الأكبر ) وهو جهاد النفس وليس الجهاد بالنفس ـ كما نص علىٰ ذلك قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، في تعريفه للجهادين الأصغر والأكبر ، ويستكثرون علىٰ الذين لم يتسنّ لهم خوض المعارك ، جهادهم هذا وصبرهم وصمودهم وثباتهم علىٰ طريق الحق ، ويتهمونهم أنهم متخاذلون ناكصون منكفئون لا قدر لهم ولا قيمة ولاخلاق ، ناسين أو متناسين مثلاً أنّ كلمة حق أمام سلطان جائر هي أفضل الجهاد ، وأن الجهاد بالمال يتقدم في كثير من الأحيان علىٰ الجهاد بالنفس في محكم كتاب الله العزيز ... (1) وأن مطبات الجهاد السياسي أحياناً أصعب وأعقد من لحظات المواجهة الساخنة الواضحة مع الأعداء ، وخاصة إذا كان رمز هذا النوع من الجهاد مطالباً بحقن دماء شيعته أو حفظ بقيتهم أو تدبير دورهم في مواجهة طاغوت لئيم لا يعرف قلبه الرحمة ولا يهمّه أن يُجهز عليهم جميعاً دون أن يرفّ له جفن إذا ماهمسوا ضده بقول أو انبروا له بفعل أو عمل ...

هذا الخانق المؤلم بين الخيارين : خيار الاستشهاد والتضحية ، أو خيار الصبر والتقية ، هو الذي وجد الإمام السجاد نفسه مضطراً إليه بعد أن أنجاه الله تعالىٰ من موت أكيد مع إخوته وأبناء عمومته بسبب المرض الذي أقعده عن حمل السلاح في يوم الطفوف ، وهو الخيار المرّ الذي اضطرّ عليه السلام لسلوكه لاستكمال الدور الرسالي الذي انتُدب له ـ كما مرَّ ذكره ـ ولا نريد هنا تلخيص ما قدمناه في الفصل الأول من بحثنا الموجز هذا حول دور الإمام السجاد عليه السلام ، في ترسيخ القيم وكشف الشرعية المزيّفة لأدعياء الدين وفضح مدّعياتهم ، وسعيه الحثيث لتشكيل الجماعة الصالحة التي أخذت علىٰ عاتقها إتمام المهمة الرسالية التي لابدّ من وجود حيّ لإتمامها أو مواصلتها ...

نعم ، إنّ دين الله يمكن أن ينهض به المعارض الشريف حتىٰ لو لم يستلم سلطة أو يستلم حكماً ، مادام قد فهم دوره وأتقن أداءه وأجاد تأديته ، وربما يكون هذا الدور قد فهم من قراءة فصول هذا الكتاب وبعض إشاراته وتلميحاته وإثاراته.

وإذا أردنا أن نضيف شيئاً جديداً ، فإنّه لا يعدو أكثر من قراءة شبه متأنية لبعض مواقف الإمام السجاد عليه السلام من الظالمين وأعوانهم ، وكذلك مواقفه من بعض الحركات الشيعية التي تفجّرت في زمانه ، وكيف انتقل من مرحلة التقية المؤلمة إلىٰ مرحلة المواجهة الساخنة ، لا سيّما بعد أن استنفذ دوره التبليغي الصامت ، وارتأىٰ أنّه لابدّ أن ينتقل من المرحلة السلبية السرية الصامتة إلىٰ مرحلة الإعلان الاقتحامي الواضح ، خاصة وإنّه أدرك أن خصومه قاتلوه لا محالة ، وأنهم لم يعودوا يستطيعون الصبر عليه ، والتغاضي عن دوره في تأليب الاُمّة ضدهم وتحشيد غضبها وإثارة سخطها.

خيمة خارج المدينة :

لعلّ أول موقف سياسي حكيم كان علىٰ الإمام عليه السلام أن يتخذه بعد عودته إلىٰ المدينة ، وبعد أيام من مشاعر الحداد والنحيب التي أجّجها في نفوس أهلها ، والتي قدّر عليه السلام أنّها لم تتعدّ أن تكون حالات عاطفية صادقة ، تفجّرت بسبب شعورهم بالإثم جرّاء عدم خروجهم مع الحسين عليه السلام ونصرته أولاً ، وفجيعتهم بمصرع ابن بنت نبيهم ثانياً ، هو أن ينأىٰ بعيداً عن الناس الذين أدرك ضعفهم وخواءهم في لحظات المواجهة الساخنة مع الأعداء ، فاتخذ خيمةً في البادية ، واستظلّ ببيتٍ من بيوت الشعر في فيافيها مع مجموعةٍ من عياله وأهل بيته وخلص شيعته.

نعم ، اتخذ الإمام السجاد عليه السلام هذا الموقف ليعمّق الشعور بالذنب لدىٰ أهل المدينة الذين خذلوا أباه ، واكتفوا بالبكاء أو التباكي معه حين عودته أولاً ، ولكي يتحاشىٰ الاصطدام بالحكّام الأمويين الذين سيستهدفونه حتماً إذا أحسوا منه أي بادرةٍ أو همسةٍ للتحريض ضد حكمهم ثانياً ، ( فبقي خارج المدينة من سنة ٦١ هـ إلىٰ نهاية سنة ٦٣ هـ وكان يسير من البادية بمقامه إلىٰ العراق زائراً لأبيه وجده عليهما السلام ولا يُشعر بذلك من فعله ) (2).

وفعلاً ، وحين أحسّ الأمويون بتململ أهل المدينة جاءت واقعة الحرّة المعروفة التي استباح فيها مسلم بن عقبة هذه المدينة ، وأباح فيها القتل والسبي والاعتداء الوحشي ، وكأن أول ( قصاص ) غيبي حلّ بأهلها الذين لم يفعلوا شيئاً حين توديع الحسين عليه السلام ، إلّا أن رمقوه بعيون منكسرة وقلوب متألمة لا تغني ساعة الموت عن الحق شيئاً ، قد جاء علىٰ يدي من سُمّي ( مُسرف بن عقبة ) هذا أو ( مجرم بن عقبة ) ، ويؤكد الشيخ المفيد في إرشاده ، أنّ مسرف بن عقبة هذا كان في بدايته لا يريد إلّا قتل علي بن الحسين عليه السلام ، وحين لم يجد لقتله حجّة ، اكتفىٰ أن أباح المدينة ثلاثة أيام بأمر يزيد ، وقد انفضّت فيها ألف عذراء ، وولد مئات الأبناء لا يُعرف آباؤهم ، وكان من بينهن بنات ونساء صحابة ... (3).

نعم ، اتخذ الإمام السجاد عليه السلام تلك الخيمة النائية مأوىً له ، ولم يجد هذا ( المسرف ) سبباً للإجهاز علىٰ الإمام عليه السلام وأهل بيته ، بل صار الإمام ملاذاً لمن التحق به من المؤمنين هرباً من ( إسراف ) الجيش الأموي ووحشيته وبربريته. وكان ممن لاذ به من الأمويين عائلة مروان بن الحكم وزوجته عائشة بنت عثمان بن عفان ـ كما مرَّ ذكره ـ وأكثر من أربعمائة مُنافية ( من آل عبد مناف ) كان عليه السلام يعولهُنّ إلىٰ أن تفرّق الجيش ... (4).

وهذا يعني أنّ الإمام السجاد عليه السلام أيقن أن أهل المدينة كانوا لا يحملون تجاهه إلّا عواطف مفجوعة وشعور عميق بالذنب إن لم نقل مواساة كاذبة يمكن أن تتبدد في أول لحظة من لحظات الخطر أو المواجهة مع الموت ، كما حصل مع أبيه عليه السلام حين كانت قلوب الناس معه وسيوفهم عليه...

ولذلك حين جاؤوه مبايعين يقولون : ( ... فمرنا بأمرك ، فإنّا حرب لحربك ، وسلمٌ لسلمك ) وغير ذلك ، قال لهم : « هيهات .. ومسألتي إلّا تكونوا لنا ولا علينا .. » وأخذ عليهم عهداً أن يأخذوا جانب الحياد فقط ... (5).

الموقف من الحركات الثورية :

من هذا المكان النائي ، ومن هذه العزلة الهادفة ، راح الإمام السجاد عليه السلام يبني الجماعة الصالحة ، ويرصد عن كثب أنباء الطلائع التي كانت تخرج بين فترة وأُخرىٰ لتقويض الحكم الأموي ومناجزة الطغاة من ولاتهم وكشف زيفهم ، لا سيّما تلك الثورات التي رفعت شعارات الثأر للإمام الحسين عليه السلام ، وإن كان بقي بعيداً عن بعضها ؛ إذ لم يرد عليه السلام أن يتحمّل مسؤولية الدماء التي ستُراق فيها بغير حق أولاً ، ولعدم تنسيق رجالها معه ثانياً ، وعدم وضوح منطلقاتها وأهدافها ، والتمثيل الذي ينفَّذ بقتلاها ثالثاً ورابعاً ...

ولعلّ ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي ، وكذلك ثورة المختار ، كانتا أبرز الأمثلة علىٰ تعضيد الإمام سرّاً لمثل هذه الحركات ، ولو بدرجة من الدرجات ، رغم أنّه لم يعلن ارتباطه المباشر معها ، ولكنه ترك الأمر لعمّه محمد بن الحنفية لكي يتعامل مع روادها بحكمة ودقّة ، مشيراً إليه باختصار : « يا عم ، لو أن عبداً تعصّب لنا أهل البيت ، لوجب علىٰ الناس مؤازرته ، وقد أوليتُك هذا الأمر ، فاصنع ما شئت .. » (6).

ويُشير العديد من المؤرخين أنّه ( لما أرسل المختار برؤوس قتلة الإمام الحسين عليه السلام وأولاده وأصحابه إلىٰ الإمام ، خرّ الإمام ساجداً ودعا له وجزّاه خيراً ) (7).

أما ما ينقله بعض المؤرخين من سلبية موقف الإمام السجاد من المختار وثورته فإنّه يمكن أن يُقرأ من ثلاثة أبعاد :

الأول : هو محاولة هؤلاء المؤرخين تشويه تلك الثورة التي أدخلت السرور علىٰ بنات المصطفىٰ ونساء الرسالة (8) ، وإن جنحت في بعض مقاطعها انفعالاً وشططاً.

الثاني : هو قيام الإمام السجاد عليه‌السلام بأداء دور كان لابدّ له أن يؤديه ، لكي يُبعد عن أذهان الأمويين المتربصين به ارتباطه بهذا الثائر العظيم ، وبالتالي تبرير استهدافه وقتله من قبلهم ، أو السماح لهم بتسويغ هذا الفعل ، أي منحهم التبرير لذلك ، قبل إتمام أهدافه واستكمال المهمة التي يريد أن يأتي إلىٰ آخر مشوارها أو آخر شوطٍ فيها.

الثالث : عدم تحمّله عليه السلام مسؤولية الاِسراف في القتل الذي يُرافق الثورات الانتقامية أو الثأرية عادةً ، وخاصة تلك البعيدة عنه ، والتي لم ينسّق رجالها معه لا في الإعداد ولا في التنفيذ ...

ومن هنا كان موقفه المعروف من المختار حين جزّاه خيراً من جهة ، ولكنه رفض استلام أمواله أو قبول بيعته من جهة اُخرىٰ ، كما تقول الروايات التاريخية .. (9).

وهذا ما أراد تثبيته فعلاً من مواقف في ثورات اُخرىٰ ، كان لا ينبغي أن تحسب عليه مقاطع الحرق والتعذيب وقطع الرؤوس والتمثيل بالأجساد والشماتة ، وما إلىٰ ذلك.

الموقف من الظالمين :

موقفه من عبدالملك وهشام :

بعد أن رسّخ الإمام السجاد عليه السلام موقعه في قاعدته الشعبية ، وبعد أن عُرف إماماً عادلاً ورعاً تقياً نقياً ، يعرف الدين وحدوده ، وأصوله وفروعه ، ويقف وجهاً لوجه لمقارعة مغتصبي الخلافة والولاية والإمامة من الأمويين وأزلامهم .. وحين شعر أنّهم سيقتلونه لا محالة ، إثر اتساع قاعدته وشهرته وظهور أمره ، صار لزاماً عليه أن يُشهر عداءه و ( يُظهر علمه ) في مقارعتهم ومواجهتهم وكشف زيفهم وأحابيلهم .. وبكلمة اُخرىٰ ، يقلّص دائرة التقيّة التي اتّسعت له سنين طويلة للامتداد اُفقاً وعمقاً في الوسط الجماهيري ، ولم يبق أمامه إلّا اقتحام المحظور والمتهيب والمسكوت عنه في هذا الوسط المهزوم المغلوب علىٰ أمره ، المضلّل بالخطاب الإعلامي الأموي الموجّه الضاغط ...

رأىٰ الإمام عليه السلام أن الخطوة الاُولىٰ التي عليه تقحّمها رغم وعورتها وخطورتها هو كسر هيبة الحكام الأمويين وتهشيم هالتهم التي صنعوها بشراستهم وفرعونيتهم ودعاواهم العريضة بالانتساب إلىٰ الإسلام ونبي الإسلام ...

فقد روي أن عبدالملك بن مروان كان يطوف بالبيت العتيق ، وعلي بن الحسين يطوف أمامه غير ملتفت إليه ، أو لا يلتفت إليه. فقال عبد الملك من هذا الذي يطوف بين أيدينا ؟ ولا يلتفت إلينا ؟ فقيل له : إنّه علي بن الحسين.

فجلس عبدالملك مكانه غاضباً وقال : ردّوه إليَّ فردّوه ، فقال له : يا علي بن الحسين ، إنّي لستُ قاتل أبيك ! فما يمنعك من السير إلينا ؟!

فأجابه عليه السلام : « إنّ قاتل أبي أفسد ـ بما فعله ـ دنياه عليه ، وأفسد أبي عليه آخرته. فإن أحببت أن تكون هو فكن .. » (10).

ويبدو من هذه السطور أن الإمام كان مقاطعاً عبدالملك ، أو أن مقاطعته ليست مجرّد عزلة أو مقاطعة عابرة ، وإنّما مقصودة ومتعمّدة ، وتعبّر عن موقف سياسي وإعراض متعمّد مع سبق الإصرار ، ولعلّها أظهر أشكال الجهاد السياسي واتخاذ الموقف السياسي في حدود المعروف أو المسموح به في ذلك العهد ...

كما أن قول عبدالملك : ( إنّي لست قاتل أبيك ) يتضمّن الغلظة ويوحي بالتهديد والتوّعد والإرهاب. فيما كان ردّ الإمام : « إن أحببت أن تكون هو فكن » يعبّر عن تحدٍّ سافر لسلطة خليفة متجبّر لا يمنعه فعل أي شيء ، بما في ذلك القتل وسفك الدم ، وفي ذلك دليل قاطع علىٰ أنّ الإمام عليه السلام لم يكن في هذه المرحلة ذلك الوديع الموادع ، المنعزل عن الدنيا ، المشغول بالدعاء والعبادة ، البكّاء الحزين ، وإنّما المواجه ، المنازل ، الشديد ، القاطع ، المقاطع ، المتحدي ، العنيف الذي لا يخشىٰ الإرهاب ولا يرهبه استخدام الطغاة عصاهم الغليظة ، أو تلويحهم بهراوات الإهانة أو التصفية أو الموت ...

وهكذا كان موقفه عليه السلام مع عبدالملك هذا في قصة سيف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الموجود عنده ، والذي حاول عبدالملك استفزاز الإمام عليه السلام بطلب ذلك السيف أو استيهابه منه أو أخذه منه ، لما فيه من رمزية يمكن أن يوظّفها الحاكم الظالم إلىٰ شرعيته المزيفة ، فأبىٰ الإمام عليه‌السلام إعطاء السيف ، فكتب إليه عبدالملك يهدّده بأن يقطع رزقه من بيت المال ... فأجاب الإمام عليه السلام : « أما بعد .. فإنّ الله تعالىٰ ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون ، والرزق من حيث لا يحتسبون ، وقال جلّ ذكره : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) ، ثم قال : فاُنظر أيّنا أولىٰ بهذه الآية ؟ » (11).

ويظهر من رفض الإمام إعطاء السيف ، وتوظيفه لهذه الآية الكريمة ، وقوله : ( أيّنا أولىٰ بها ) ! واستصغاره لتهديد الخليفة بقطع رزقه من بيت المال واستهانته بطلبه ، أن القطيعة بالغ حدّها بين الطرفين ، وأن المواجهة في أقصاها ، وأن كلمة الحجاج الثقفي الذي كتب إلىٰ عبدالملك ما نصه ( إنّ أردت أن يثبت ملكك ، فاقتل علي بن الحسين ) (12) ، إنّما تعبّر تعبيراً دقيقاً هي الاُخرىٰ ، عن شدّة المواجهة وعمق الأزمة وخطورة الموقف.

كان هذا إذن موقف الإمام عليه السلام مع عبدالملك بن مروان أو بعض مواقفه ، وهكذا كان موقفه عليه السلام مع هشام بن عبدالملك ، في قضية الحجر الأسود المارّة الذكر ، وكيف أن الأمويين سجنوا الفرزدق علىٰ قصيدة شعرية اعتبروها إهانة لمقام الخلافة ، فيما سارع الإمام السجاد عليه السلام للاتصال بالفرزدق وهو في السجن ، ووصله بشيء رمزي من المال تعضيداً له علىٰ موقفه ، ومكافأة لموقفه الشجاع ذاك ، وتعبيراً عن مواساةٍ واضحة المقاصد والأهداف في العرف السياسي السائد ...

الموقف من أعوان الظلمة :

إن الطواغيت ليس بإمكانهم الوصول إلىٰ مآربهم إذا لم يجدوا أعواناً لهم يعينونهم علىٰ ما يقومون به من مظالم ومآثم ... ولعلَّ من السذاجة بمكان إلقاء اللوم علىٰ عاتق شخص واحد توضع علىٰ مشجبه أو شماعته كل الجرائم والجنايات التي ترتكب بحق الاُمم والشعوب ، وإغضاء الطرف عن الدائرة المحيطة به ، الملتفة حوله ، بدءاً بولاته وقادته العسكريين ، مروراً بإعلامييه وأبواقه وفقهائه ووعاظ سلطته ، وانتهاءً بهذا المطرب أو ذاك الشاعر اللذين لا ينفكان ينشدان لنظامه الظالم ويروّجان له ويخففان جرائمه ويأخذان علىٰ أيدي من يحاول التعريض به أو الحديث عن جرائمه ...

ولعلّ الزيارة الشهيرة المعروفة بزيارة « عرفة » الخاصّة بالإمام الحسين عليه السلام التي جاء نصّها : « ... فلعن الله أمةً قتلتك ، ولعن الله أمةً ظلمتك ، ولعن الله أمةً سمعت بذلك فرضت به .. » تعبّر بشكل واضح وصريح عن هذه النقطة المهمة ، أي علىٰ ضرورة تحميل الاُمّة مسؤولية حرب الحسين عليه السلام ومناهضته وتكثير سواد خصومه.

هذا الخيط الرابط بين الطاغية وبين أعوانه ، استطاع الإمام السجاد عليه السلام تشخيصه بدقّة ، وتأكيده والطرق عليه ... أي إن موالاة الجائر تعتبر كبيرة من الكبائر لما تنطوي عليه من تمكين واضح له لدرس الحق وإحياء الباطل وإظهار الظلم والجور ، وإبطال الكتب ، وقتل الأنبياء والمؤمنين ، وهدم المساجد وتبديل السُنّة وتغيير شرائع الله وتعاليم دينه ..

فكانت الخطوة الثانية هي : تنبيه الأمّة علىٰ أنّ أيّ تعامل مع الحكام وأية مساعدة لهم ، حتىٰ في أبسط الأمور وأدنى الأشياء يعتبر تقويةً لحكومتهم ، ومشاركةً لهم في جناياتهم لأنّ تقديم أيّ خدمةٍ لهم وإن كانت ضئيلة جدّاً يكون ـ بقدره ـ تمكيناً ومعاضدةً لهم ، فراح عليه السلام يؤكد علىٰ لعن ( من لاق لهم دواة ، أو قطّ لهم قلماً ، أو خاط لهم ثوباً ، أو ناولهم عصاً ) ، بل حرّم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم (13).

اعتمد الإمام السجاد عليه السلام هذه القاعدة الإسلامية ، وجعلها ركيزة مهمة في مقاومة النظام الفاسد ، وحاول تجريده من سلاح الوعّاظ المحيطين به ، أو عصابات المتزلّفين المتملّقين الذين تمرّر السلطة الظالمة مشاريعها من خلال ملقهم وتزلّفهم وتلميعهم لاجراءات هذه السلطة لدىٰ العوام والسذّج والبسطاء ...

وكان الإمام السجاد كثيراً ما يقول : « العامل بالظلم والمعين له ، والراضي به شركاء ثلاثة » (14).

وكان عليه السلام يحذّر الناس من التورّط في أعمال الظلمة ، ولو بتكثير سوادهم والتواجد في مجالسهم ومصاحبتهم ، لأنّ الظالم لا يريد من الصالح فعلاً الاستفادة من صلاحه أو الاقتداء به ، وإنّما يحاول توريطه في جرائمه وآثامه أو توظيفه لتحقيق مفاسده ومشاريعه .. فكان عليه السلام يقول « ... ولا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم ، إلّا أوشك أن يقول فيه من الشرّ ما لا يعلم ، ولا اصطحب اثنان علىٰ غير طاعة الله إلّا أوشك أن يتفرّقا علىٰ غير طاعة الله ... » (15).

قد يتصوّر بعض الناس من ذوي المكانة في المجتمع أنّ اصطحاب أولئك الحكّام الظالمين لا يضرّ شيئاً ، وإنّما يفيد خدمة أو تقديم خدمة للطرفين : للظالم بتخفيف ظلمه والحدّ من سُعاره ، ولأعوان الصالح وأصحابه ليكفيهم شرّه ويدفع عنهم وعن إخوانهم ضرره ، وما دروا ، أو غاب عنهم ، خبث الظالم باستغلال صلاحهم وأسمائهم وسمعتهم في تنفيذ ما لا يرضي الله ، وتمريره علىٰ البسطاء من الناس والتغرير بهم ... وربما راحوا يستعملون كلمات الملاطفة والتبجيل المقنّع لهذا الظالم أو ذاك ، متوهّمين أن في بعض ذلك تصحيحاً لتصرفاته وتقليص هوسه ، متناسين براءة الناس وانخداعهم به عبر إسباغ الشرعية علىٰ أفعاله من قبل هؤلاء وذلك بالتقرّب إليه أو القرب منه ، وما يجرّ ذلك من ارتجاج قيم ونسف مقاييس واهتزاز ثوابت ومعايير.

ولعلّ أكثر مواقف الإمام عليه السلام وضوحاً في مساعيه لسلخ الوعّاظ عن حاشية الحاكم الظالم هو موقفه عليه السلام من الزهري الذي أكسبه الأمويون شهرة عظيمة ، وروّجوا له كثيراً ، حيث شدّد هو والعلماء الصالحون النكير عليه لقربه من بني أمية والسكوت عن جرائمهم وشنائعهم ، ففيما كان هو يبرّر صحبته لهم بقوله : ( أنا شريك في خيرهم دون شرهم ). كان العلماء يردّون عليه بقولهم : ( ألا ترىٰ ما هم فيه فتسكت ؟! ) (16). فيسكت ولا يحير جواباً.

ومن حوارات الإمام الساخنة مع بعض أعوان الظلمة ردّه علىٰ الزهري هذا الذي قال للإمام يوماً : ( كان معاوية يُسكته الحلم ، ويُنطقه العلم ) !! فقال الإمام : « كذبت يا زهري ، كان يُسكته الحصر ، وينطقه البطَر » (17).

وأكثر من ذلك تقريعه الزهري وعروة بن الزبير وهما جالسان في مسجد المدينة ينالان من الإمام علي عليه السلام ، فبلغه ذلك ، فجاء حتى وقف عليهما ، فقال : « أما أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك الى الله ، فحكم لأبي على أبيك ! وأما أنت يا زهري فلو كنت بمكة لاَريتك كِيرَ أبيك » (18).

ولنا مع الزهري هذا وموقف الإمام منه ، الجولة الأخيرة في هذا البحث الموجز المقتضب .. فإلىٰ حين يأتي هذا المشوار ، وما أخفاه أو يخفيه في سطوره وكلماته ودقّة معانيه وعباراته ... نقف عند كلمات الإمام السجاد عليه السلام التي يوجهها من محرابه دروساً يستنير بها المظلومون ، وسهاماً في نحور الظالمين.

« اللهمّ إنّ الظَلَمة جحدوا آياتك ، وكفروا بكتابك ، وكذّبوا رسلك واستنكفوا عن عبادتك ، ورغبوا عن ملّة خليلك ، وبدّلوا ما جاء به رسولك ، وشرّعوا غير دينك ، واقتدوا بغير هداك ، واستنّوا بغير سنّتك ، وتعدّوا حدودك ، وتعاونوا علىٰ إطفاء نورك ، وصدّوا عن سبيلك ، وكفروا نعماءك ، ولم يذكروا آلاءك ، وأمنوا مكرك ، وقست قلوبهم عن ذكرك ، واجترأوا علىٰ معصيتك ، ولم يخافوا مقتك ، ولم يحذروا بأسك واغترّوا بنعمتك ... ».

ويواصل عليه السلام بيانه السياسي العبادي الغاضب هذا ، مستنهضاً متمرداً ثائراً ليقول :

« اللهمّ إنّهم اتخذوا دينك دغلاً ، ومالك دولاً ، وعبادك خولاً ... اللهمّ افتِتْ أعضادهم واقهر جبابرتهم ، واجعل الدائرة عليهم ، وأقضض بنيانهم ، وخالف بين كلمتهم ، وفرّق جمعهم ، وشتّت شملهم ، واجعل بأسهم بينهم ، وابعث عليهم عذاباً من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، واسفك بأيدي المؤمنين دماءهم ، وأورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم ... ».

إلى أن يقول عليه السلام شارحاً ، موضّحاً ، مفصّلاً :

« اللهمّ إنّهم اشتروا بآياتك ثمناً قليلاً ، وعتوا عتوّاً كبيراً ... اللهمّ إنّهم أضاعوا الصلوات واتّبعوا الشهوات .. اللهمّ ضلّل أعمالهم ، واقطع رجاءهم ، وادْحَضْ حجتهم ، واستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وآتهم بالعذاب من حيث لا يشعرون ، وأنزل بساحتهم ما يحذرون ، وحاسبهم حساباً شديداً ، وعذّبهم عذاباً نكراً ، واجعل عاقبة أمرهم خُسراً ... » (19).

وهكذا ، في كلِّ كلمة ثورة ، وفي كلِّ عبارة لوحة ، وفي كلِّ جملة بيان وإيضاح للثوار والأحرار والشرفاء.

وليس كما تقول تلك الكاتبة الجامعية التي أكّدت : « أنّ الشيعة بمصرع الحسين افتقدت الزعيم الذي يكون محوراً لجماعتهم وتنظيمهم والذي يقودهم إلىٰ تحقيق تعاليمهم ومبادئهم ، وانصرف الإمام علي زين العابدين عن السياسة إلىٰ الدين وعبادة الله عزَّ وجلّ وأصبح للشيعة زعيماً روحياً ولكنه لم يكن الثائر السياسي الذي يتزعم جماعة الشيعة .. » إلى أن تقول : « وحاول المختار بن أبي عبيدة الثقفي أن ينتزع علياً من حياة التعبّد والاشتغال بالعلم إلىٰ ميادين السياسة دون جدوىٰ ... » (20).

كتاب الإمام السجاد عليه السلام إلىٰ الزهري :

حين أوغل الزهري في دائرة الحكم الأموي الغاشم ، والتحق ببلاط السلطة بالكامل ، وحين لم يبق أمام الإمام بدّ من كشف الزيف في هذه المواقف ونفاقيتها ونفعيتها ، ورغم ما قد يكلفه هذا الكشف من ضريبة ربما تكون باهضة .. إلّا أن الإمام كتب إلىٰ الزهري كتاباً ضمّنه أدّق الخيوط سياسةً وعمقاً ، ورواه العامة والخاصة ، ونقله العديد من المؤرخين وكتّاب السير بفروق بسيطة.

قال الغزالي ما نصه : ( إنّ هذه الرسالة كُتبت إلىٰ الزهري لما خالط السلطان ) (21) ، كما رواها ابن شعبة (22) وآخرون .. وفيما يلي بعض نصوص هذه الوثيقة السياسية السجادية التاريخية الدقيقة ، نتركها بلا تعليق أولاً ، ثم نتبعها بشيء من التعليق فيما بعد :

« ... أما بعد .. كفانا الله وإياك من الفتن ، ورحمك من النار ، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك ، فقد أثقلتك نعم الله بما أصحَّ من بدنك ، وأطال من عمرك ، وقامت عليك حججه الله بما حمّلك من كتابه ، وفقّهك من دينه ، وعرّفك من سُنّة نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فرضي لك في كلِّ نعمة أنعم بها عليك ، وفي كلِّ حجّة احتج بها عليك ..

فانظر أي رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله ! فسألك عن نعمه عليك ، كيف رعيتها ؟ وعن حججه عليك ، كيف قضيتها ؟!

ولا تحسبنَّ الله قابلاً منك بالتعذير ، ولا راضياً منك بالتقصير ! هيهات .. هيهات ! ليس كذلك إنّه أخذ علىٰ العلماء في كتابه إذ قال : ( لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ) (23).

واعلم أن أدنىٰ ما كتمت ، وأخفّ ما احتملت أن آنست وحشة الظالم ، وسهلت له طريق الغيّ بدنوّك منه حين دنوت ، وإجابتك له حين دُعيت.

فما أخوفني أن تبوء بإثمك غداً مع الخونة ، وأن تُسأل عما أخذتَ بإعانتك علىٰ ظلم الظلمة ! إنّك أخذتَ ما ليس لك ممن أعطاك ، ودنوت ممن لم يردّ علىٰ أحد حقاً ، ولم تردّ باطلاً حين أدناك ، وأحببت من حادّ الله ... ».

ثم يتساءل الإمام السجاد عليه السلام مستنكراً مستفهماً دقيقاً حين يقول « أوليس بدعائهم إياك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحىٰ مظالمهم ، وجسراً يعبرون عليك إلىٰ بلاياهم ، وسلّماً إلىٰ ضلالتهم .. » لاحظ ... ويواصل عليه السلام رسالته هذه قائلاً : « داعياً إلىٰ غيّهم ، سالكاً سبيلهم ، يدخلون بك الشك علىٰ العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم ..

فما أقلَّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمّروا لك ! فكيف ماخرّبوا عليك ، فانظر لنفسك ، فإنّه لا ينظر إليها غيرك وحاسبها حساب رجل مسؤول ... انظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً ؟

فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه : ( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ) (24) !

بعدها يروح الإمام السجاد عليه السلام يحذّره الله والآخرة ، ويذكّره بما ينبغي أن يتذكّره ، أو يذكّر به فيقول : « إنّك لست في دار مقام ، أنت في دار قد آذنت برحيل ... طوبىٰ لمن كان في الدنيا علىٰ وجل ، يا بؤس من يموت وتبقىٰ ذنوبه من بعده. إحذر فقد نُبئت ، وبادر فقد اُجّلت. إنّك تُعامل من لايجهل ، وإن الذي يحفظ عليك لا يغفل. تجهّز فقد دنا منك سفر بعيد ، وداوِ دينك فقد دخله سقم شديد ...

ولا تحسب أني أردتُ توبيخك وتعنيفك وتعييرك ، لكني أردت أن يُنعش الله ما فات من رأيك ، ويردّ إليك ما عزب من دينك ، وذكرت قول الله تعالىٰ : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ).

أغفلت ذكر من مضىٰ من أسنانك وأقرانك ، وبقيت بعدهم كقرن أعضب .. اُنظر : هل إبتلوا بمثل ما ابتُليت به ؟ أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه ؟ أم هل تراهم ذكرتَ خيراً أهملوه ؟ وعلمت شيئاً جهلوه ؟

بل حظيت بما حلَّ من حالك في صدور العامّة ، وكلفهم بك ، إذ صاروا يقتدون برأيك ، ويعملون بأمرك ، إن أحللت أحلّوا ، وإن حرّمت حرّموا ، وليس ذلك عندك ، ولكن أظهرهم عليك رغبتهم فيما لديك ذهاب علمائهم ، وغلبة الجهل عليك وعليهم ، وحبّ الرئاسة ، وطلب الدنيا منك ومنهم.

أما ترىٰ ما أنت فيه من الجهل والغرّة ؟ وما الناس فيه من البلاء والفتنة ؟! قد ابتليتهم ، وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا ، فتاقت نفوسهم إلىٰ أن يبلغوا من العلم ما بلغت ، أو يدركوا به مثل الذي أدركت ، فوقعوا منك في بحر لا يُدرك عمقه وفي بلاء لا يقدر قدره ، فالله لنا ولك ، وهو المستعان ... ».

بعد ذلك يروح الإمام السجاد محذّراً منذراً ، مذكّراً منبّهاً ، ينتقل من الدنيا إلىٰ الآخرة ومن الأرض إلىٰ السماء ، ومن الغيب إلىٰ الواقع ومن الواقع إلىٰ الغيب ، لا تفوته إشارة إلّا لمّح لها ولا يترك فراغاً إلّا ملأه ، فيقول : « أما بعد ... فأعرض عن كل ما أنت فيه حتىٰ تلتحق بالصالحين الذين دُفنوا في أسمالهم ، لاصقةً بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، ولا تفتنهم الدنيا ولا يُفتنون بها.

فإن كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ ، مع كبر سنّك ورسوخ علمك ، وحضور أجلك ، فكيف يسلم الحدث في سنّه ؟ الجاهل في علمه ؟ المأفون في رأيه ؟ المدخول في عقله ؟! ... علىٰ من المعوّل ؟ وعند من المستعتب ؟ نشكو إلىٰ الله بثّنا ، وما نرىٰ فيك ! ونحتسب عند الله مصيبتنا بك ...

فاُنظر : كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً .. ! وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلاً ! وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً !! وكيف قربك أو بعدك ممن أمرك ان تكون منه قريباً ذليلاً !!

ما لك لا تنتبه من نعستك ؟ وتستقيل من عثرتك ؟ فتقول : والله ما قمت لله مقاماً واحداً أحييت به له ديناً ! أو أمّتُ له فيه باطلاً !! أفهذا شكرك من استحملك ؟! ما أخوفني أن تكون كما قال الله تعالىٰ في كتابه : ( أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) (25) استحملك كتابه ، واستودعك علمه ، فأضعتهما ! فنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به ! والسلام ... (26).

وهكذا يتّضح من سطور هذه الرسالة وحروفها وكلماتها ، أنّ الإمام السجاد عليه‌السلام دخل في مواجهة مكشوفة مع السلطة الحاكمة ، عبر تنديده العلني هذا بأحد رموزها ، المقربين من بلاطها ، أي عبر تحذيره وإنذاره وتوبيخه وتأنيبه له : « ما لك لا تنتبه من نعستك ؟ ولا تستقيل من عثرتك ؟ » ... « أما ترىٰ ما أنت فيه من الجهل والغرّة ؟ وما الناس فيه من البلاء والفتنة ؟ ».

إذن ، وبايجاز جليّ وواضح ، وكلمات ساطعة صادحة ، كشف الإمام ، من خلال هذه الرسالة ، كل الخيوط المخفية التي يتستر بها وعّاظ السلاطين عادة ، للتعتيم علىٰ نفعيتهم ووصوليتهم ولصوصيتهم (27) ..

« لقد سهّلت له طريق الغيّ بدنوّك منه ، وأنك سوف تُسأل عمّا أخذت بإعانتك علىٰ ظلم الظلمة .. » الذين « جعلوك قطباً أداروا بك رحىٰ مظالمهم ، وجسراً يعبرون عليك إلىٰ بلاياهم وسلّماً إلىٰ ضلالتهم » ! وغير ذلك مما يعدّ وثيقة سياسية دقيقة جداً ومعبّرة جداً لكلِّ من يحاول تبرير قربه من الظلمة أو إدعائه إصلاحهم بوعظه وإرشاده ونصائحه ...

ولعلّ الموقف من أعوان الظلمة هذا هو أدّق الخيوط في نسيج التعامل السياسي الذي ينبغي غزله أو السير فيه بدقّة وحذر متناهيين ...

ولذلك نرىٰ الإمام يدعو لأهل الثغور في دعائه المعروف « دعاء الثغور » تارة ، قبال عدوّ مشترك تنكمش لتحدّيه الجزئيات أمام الكليات ، فيما نراه يندّد بحكام الثغور وأعوانهم وظلمهم وتعسفهم تارة اُخرىٰ في الدائرة الأضيق ، أو ما يُسمىٰ في المصطلح الحديث « النقد داخل البيت » وبهذا الاسلوب المندد المقرع : « والله ما قمت له مقاماً واحداً أحييت به له ديناً ، أو أمتّ له فيه باطلاً » !

فمن هذه المداخلات ، إذن ، ومن هذه الخيوط الدقيقة تجب دراسة الإمام السجاد وقراءة مواقفه قبل الحكم له أو عليه عليه السلام. ومن هذه القراءة يمكن أن تُفهم منطلقات الإمام وأهدافه في سكوته أو كلامه ، وفي عزلته أو تصديه وفي صمته أو ثورته ، لا سيّما وهو القائل في ردّه علىٰ من يقول ( إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ) .. « لكلِّ واحد منهما آفات ، وإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت » وأضاف : « لأنّ الله عزَّ وجلّ ، ما بعث الأنبياء ، والأوصياء بالسكوت ، وإنما بعثهم بالكلام ، ولا استُحقت الجنة بالسكوت .. ولا استُوجبت ولاية الله بالسكوت ، ولا توقيت النار بالسكوت ! ».

وأكثر من ذلك : « إنّك تصف فضل السكوت بالكلام ، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت .. » (28) وتلك هي الحكمة البالغة والبيان البليغ ..

فسلام علىٰ الإمام السجاد ساكتاً ومتكلماً ، وسلام عليه معتزلاً ومتصدياً ، وسلام عليه داعياً لأهل الثغور ومندداً بظلمهم وجورهم وتعسفهم ، وسلام عليه مصفحاً متغافلاً عن عبد من عبيدالله سبَّه وشتمه ، ومعنّفاً مقرّعاً لواعظ من وعّاظ السلاطين جعل من نفسه جسراً لبلايا سلاطينه ، وسلّماً لضلالهم وغواياتهم ...

الهوامش

1. ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ) سورة التوبة : ٩ / ٢٠. ( لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ) سورة التوبة : ٩ / ٨٨. ( انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) سورة التوبة : ٩ / ٤١. ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) سورة الأنفال : ٧ / ٧٢.

2. راجع فرحة الغري / ابن طاووس : ٤٣. والإمام زين العابدين / المقرم : ٤٢.

3. راجع : دلائل البيهقي ٦ : ٤٧٥. والارشاد / المفيد : ٢٩٢. ويقول اليعقوبي في تاريخه : إنّ هذا المجرم ( أباح حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتىٰ ولدت الاَبكار لا يُعرف من أولدهنّ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٠.

4. أيام العرب في الإسلام : ٤٢٤ هامش رقم (1).

5. راجع : الاحتجاج / الطبرسي : ٣٠٦. واللهوف / ابن طاووس : ٦ ، ٦٧.

6. المختار الثقفي / أحمد الدجيلي : ٥٩. وراجع : مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٥٧.

7. رجال الكشي : ١٢٥ ـ ١٢٧. وشرح الاَخبار ٣ : ٢٧٠. وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٩.

8. جاء في تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥٩ ما نصّه : ( وروى بعضهم أن علي بن الحسين لم يُرَ ضاحكاً يوماً قط منذ قُتل أبوه إلّا في ذلك اليوم ، وأنّه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشام ، فلما أتىٰ برأس عبيدالله بن زياد أمر بتلك الفاكهة ، ففرّقت في أهل المدينة ، وامتشطت نساء رسول الله واختضبن ، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي ... ) ويضيف المصدر نفسه في نفس الصفحة : ( أنّ المختار تتبع قتلة الحسين ، فقتل منهم خلقاً عظيماً ، حتىٰ لم يبقَ منهم أحد ، وقُتل عمر بن سعد وغيره ، وحُرّق بالنار ، وعذّب بأصناف العذاب .. ).

9. مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٥٧. ومروج الذهب ٣ : ٨٣. ورجال الكشي : ١٢٦ رقم ٢٠٠.

10. بحار الأنوار ٤٦ : ١٢٠. وإثبات الهداة / الحر العاملي ٣ : ١٥.

11. اُنظر المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٠٢. وبحار الأنوار ٤٦ : ٩٥. والآية من سورة الحج٢٢ / ٣٨.

12. بحار الأنوار ٤٦ : ٢٨.

13. تحف العقول : ٣٣٢.

14. راجع : بلاغة علي بن الحسين عن الاثني عشرية / العاملي : ٢٢٤.

15. تاريخ دمشق ( الحديث ١٢٨ ) ومختصره لابن منظور ١٧ : ٢٤.

16. لاحظ وفيات الأعيان / ابن خلّكان ٣ : ٣٧١.

17. الاعتصام ٢ : ٢٥٧. ونزهة الناظر : ٤٣.

18. شرح نهج البلاغة ٤ : ١٠٢.

19. الاقبال / السيد بن طاووس : ٤٥. والصحيفة الخامسة السجادية : ٤٠٥.

20. د. سميرة الليثي / جهاد الشيعة : ٢٩.

21. إحياء علوم الدين / الغزالي ٢ : ١٤٣. والمحجة البيضاء في إحياء الأحياء ٣ : ٢٦٠.

22. تحف العقول : ٢٧٤. والمحجة البيضاء ٣ : ٢٦٠.

23. سورة آل عمران : ٣ / ١٨٧.

24. سورة آل عمران : ٣ / ١٦٨.

25. سورة مريم : ١٩ / ٥٩.

26. وردت الرسالة في تحف العقول : ٢٧٤ ـ ٢٧٧. ورواها الحائري في بلاغة علي بن الحسين عليه السلام : ١٢٢ ـ ١٢٦. ورواها المقرّم في الإمام زين العابدين : ١٥٤ ـ ١٥٩. ورواها الغزالي في إحياء علوم الدين ٢ : ١٤٣.

27. جاء في كتاب « الكشكول » المعروف لبهاء الدين العاملي ما نصه : ( إذا رأيت العالم يلازم السلطان فاعلم أنه لص. وإياك أن تُخدع بما يقال إنّه يردّ مظلمة أو يدافع عن مظلوم ٠ فان هذه خدعة ابليس اتخذها فخّاً والعلماء سلّما ) راجع كتاب الفقيه والسلطان / د. وجيه كوثراني : ١٥٥.

28. الإحتجاج / الطبرسي : ٣١٥.

مقتبس من كتاب : [ الإمام علي بن الحسين عليه السلام .. دراسة تحليلية ] / الصفحة : 103 ـ 124