الشريعة التي كان يتعبّد بها النبي صلّى الله عليه وآله قبل البعثة

طباعة

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة

أمّا الشريعة التي كان يطبقها في أعماله فقد اختلفت الأنظار فيه وانتهت إلى أقوال وإحتمالات :

1 ـ إنّه لم يكن يتعبّد بشريعة من الشرائع وإنّما يكتفي في أعماله الفردية والإجتماعية بما يوحي إليه عقله.

وهذا القول لا يُعرَّج عليه ، إذ لم تكن أعماله منحصرة في المستقلّات العقليّة كالاجتناب عن البغي والظلم والتحنّن على اليتيم ، والعطف على المسكين ، بل كانت له أعمال عبادية لاتصحّ بدون الركون إلى شريعة لأنّه كان يخرج في شهر رمضان إلى « حراء » فيعتكف فيه وهل يمكن الاعتكاف بدون الاعتماد على شريعة ، وقد رويت عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) إنّه حجّ عشرين حجّة مستتراً (1) ولم يكن البيع والربا ولا الخل والخمر ولا المذكّى والميتة ولا النكاح والسفاح عنده سواسية ، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون عارفاً بأحكام عباداته وأفعاله.

2 ـ إنّه كان يعمل بشريعة إبراهيم وسننه وطقوسه المعروفة وهذا هو الذي كان السيّد العلّامة الطباطبائي يستظهره كأحقّ الأقوال بشهادة أنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية كانوا على دين إبراهيم ، ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

ويتوجّه على هذا القول : إنّ لازم ذلك كونه عاملاً بالشريعة المنسوخة فإنّ الشريعتين اللاحقتين كشريعة الكليم و المسيح نسختا تلك الشريعة ، إلّا أن يقال : إنّ سنن إبراهيم (عليه السلام) وطقوسه كانت باقية على ما هي عليها في الشرائع اللاحقة لها ، وإنّما انقضت نبوّته ، ولكن شريعته كانت باقية في غضون الشرائع اللاحقة ، ولأجل ذلك صارت الشريعة الإبراهيمية هي الأساس للشرائع اللاحقة وإنّما زيد عليها في الفترات اللاحقة أحكام وأُصول أُخر جاء بها الكليم ، أو المسيح أو النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

نعم يبقى على هذا القول إشكال آخر وهو أنّه لازم هذا القول أن يكون النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جزء من أُمّة إبراهيم (عليه السلام) تابعاً له ، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ولم يخصّ أحد تفضيله على سائر الأنبياء بوقت دون وقت ، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات فلاحظ وتأمّل.

3 ـ أن يكون تابعاً للشريعة الأخيرة وهي شريعة المسيح ، وإمّا شريعة الكليم فلا شك انّها كانت منسوخة بالشريعة اللاحقة ، ولكن هذا الاحتمال مبني على أن يكون النبي واقفاً بشريعة المسيح ولم يكن له طريق إلّا مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم ، وحياته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لاتنسجم مع هذا الإحتمال ، إذ لم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

4 ـ إنّه كان يعمل حسب ما يُلهم ويوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً ، وسواء أكان مطابقاً لما بعث عليه من الشريعة فيما بعد أم لا ؟ وهذا هو أظهر الأقوال ، ويؤيّد ذلك ما نقل عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال :

« لَقَدْ قَرَنَ الله بِهِ مِنْ لَدُنْ اَنْ كَانَ فَطيماً اَعْظَمَ مَلك مِنْ مَلائِكتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَريقَ المَكَارِم ومحَاسِنَ اَخْلاَقِ العَالم لَيْلِهِ وَنَهارِهِ وَلَقَدْ كنْتُ اَتَّبَعهُ اتِّباعَ الفَصِيلِ اثرَ أُمِّهِ ، يَرْفَعُ لِي في كُلِّ يوْمٍ منْ أخْلاَقِهِ علماً فاَراه وَلا يَرَاه غَيرِي » (2).

وعلى ذلك لا جدوى من البحث بعد ما كان العمل على ضوء ما يلهم ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه أنعم على المسيح ويحيى بالنبوّة أيام صغرهما قال سبحانه حاكياً عن المسيح :

(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (مريم / 30).

وقال سبحانه مخاطباً يحيى :

(يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم / 12).

ولازم ذلك ، إنّ النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يُلْهم منذ صباه إلى أن بعثه الله سبحانه نبيّاً وهادياً للبشر وليس ذلك أمراً غريباً ، وتؤيّد ذلك المأثورات المتضافرات في بدء نزول الوحي عليه فكان له الرؤية الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح ، ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه ـ وهو التعبّد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء ، فجاءه الملك وقال : « اقرأ » (3).

الهوامش

1. الوسائل ج 8 ، الباب 45 ص 87 ـ 88.

2. نهج البلاغة الخطبة رقم 187 طبعة عبده.

3. صحيح البخاري ج 1 ص 3 ، باب بدء الوحي إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، و السيرة النبوية ج 1 ص 234.

مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 7 / الصفحة : 84 ـ 86