مراحل الدعوة الثلاث للنبي محمّد صلّى الله عليه وآله

البريد الإلكتروني طباعة

مراحل الدعوة الثلاث

نزل الأمين جبرئيل مبشّراً النبي الأكرم بالنبوّة والرسالة ، وألقى على عاتقه مقاليد مهامّها هداية الاُمّة ، التي يصوّرها قوله سبحانه : ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) ( المزّمّل / 5 ).

وقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) ( المدّثّر / 1 ـ 3 ) وأيّ مسؤولية أثقل من مسؤولية هداية الاُمّة الغارقة في ظلمات الجهل وأوحال عبادة الأصنام والأوثان ، المنغمسة في الدنيا ، المعرضة عن الآخرة ، فقام الرسول مؤدّياً رسالته مستضيئاً بهدى الوحي قد قطعت رسالته مراحل ثلاث حتّى تكلّلت بالنجاح وبلغت الغاية المنشودة ، و إليك تبيين هذه المراحل التي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع متفرّقة.

المرحلة الاُولى : السرّية في الدعوة

إتّخذ الرسول الدعوة السرّية خطوة اُولى خطاها في سبيل تحقيق إنجاح الدعوة الإلهيّة ، و لم يكن الغرض من التركيز على السرّيّة في الدعوة الخوف على نفسه وصيانتها من كيد الأعداء ، بل هذه هي الخطّة الرائجة بين الدعاة المخلصين ، فلايجهرون بالدعوة ، و لايعلنونها بادئ بدء ، بل يبدأون بعرض الدعوة سرّاً على الأفراد الذين يطمئنّون لهم ـ و لأجل ذلك ـ بدأ الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالدعوة السرّية إلى الاسلام فدخل تحتها عدّة من الشباب ، فتعلّموا الفرائض والسنن سرّاً وكانوا يذهبون إلى شعاب مكّة فيقيمون الفرائض فيها.

وهذه الثلّة القليلة الّتي تشرّفت باعتناق الإسلام ، هم الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم بقوله : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) ( الواقعة / 10 و 11 ).

فكان النبي الأكرم يعرض دعوته على من يتفرّس فيه علائم قبول الإسلام ولذلك لمّا هبط من غار حراء عرضه على زوجته خديجة وابن عمّه علي ، وقد تمكّن الإسلام بذلك في قلوب عدّة سجّلت أسماؤهم في التاريخ (1) مثل زيد بن حارثة وعثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون وغيرهم. يقول ابن هشام في تفسير قوله : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) أي بما جاءك من الله من نعمته وكرامته ، من النبوّة فحدّث أي اذكرها ، فادع إليها ، فجعل رسول الله يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوّة سرّاً إلى من يطمئنّ إليه من أهله (2).

وليس في الذكر الحكيم آية تكشف عن أحداث هذه المرحلة غير ما ذكرنا من الآيتين ، فمن أراد التفصيل فيجب عليه أن يرجع إلى كتب السيرة النبويّة ، ولنكتف ببعض ما جاء في المقام :

1 ـ روى ابن هشام عن ابن إسحاق أنّه ذكر بعض أهل العلم : انّ رسول الله كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه فإذا أمسيا رجعا ومكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا .... ثم أسلم زيد بن حارثة وكان أوّل ذكرٍ أسلم وصلّى بعد علي بن أبي طالب (3).

2 ـ روى الطبري عن جابر قال : بعث النبي يوم الاثنين وصلّى علي يوم الثلاثاء ، وروي عن زيد بن أرقم قال : أوّل من أسلم مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) علي بن أبي طالب ، ويقول علي : أنا عبد الله وأخو رسوله أنا الصّدّيق الأكبر لا يقولها بعدي إلّا كاذب مفترٍ صلّيتُ مع رسول الله قبل الناس بسبع سنين (4).

ولعلّ بعض هذه السنين يرجع إلى ما قبل البعثة حيث إنّ الرسول كان يتعبّد لله سبحانه في غار حراء في كل سنة.

3 ـ يقول ابن إسحاق : وكان أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إذا صلّوا ذهبوا في الشعاب فاستخْفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقّاص في نفر من أصحاب رسول الله في شعب من شعاب مكّة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقّاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحى بعير ، فشجَّه ، فكان أوّل دم أهريق في الإسلام (5).

اتّخاذ النبي دار الأرقم مركزاً لنشر الدعوة.

كان النبي يؤدّي رسالته مستخفياً من قريش بمكّة و يعرض الإسلام لمن يطمئن إليه ، وقد ألجأته الظروف إلى اتّخاذ بيت لتبليغ تعاليمه ، وإقامة المؤمنين فيها فرائضهم ، وقد وقع الإختيار على دار الأرقم بمكّة على الصفا (6) مركزاً لهذه المهمّة فدخل ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأصحابه مستخفين فيها بعد وقوع الصدام بين سعد ابن أبي وقّاص وبعض المشركين ، فكان ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأصحابه يقيمون الصلاة بها ويعبدون الله فيها إلى أن أمره الله تعالى بالإعلان عنها ، فامتثل صادعاً بما اُمر ، وقد اختلفت كلمة أصحاب السيرة في مدّة هذه المرحلة بين ثلاث سنين إلى خمس سنين ، كما اختلفوا في مدّة اقامتهم في دار زيد بن الأرقم بين كونه شهراً أو أزيد ، كما اختلفت كلمتهم في عدد المؤمنين بالنبي في تلك المرحلة فقد أنهاه ابن هشام في سيرته معتمداً على سيرة ابن إسحاق بما يربو على خمسين بينرجل وامرأة و إن كان الأكثر هم الرجال ، ولأجل أن يقف القارئ على هؤلاء الأشخاص وأسمائهم نستعرض ذكرهم إجمالاً على النحو التالي.

1 ـ خديجة بنت خويلد ( زوجة النبي ). 2 ـ علي بن أبي طالب. 3 ـ زيد بن حارثة. 4 ـ أبو بكر. 5 ـ عثمان بن عفّان . 6 ـ عبد الرحمن بن عوف. 7 ـ الزبير بن العوّام. 8 ـ سعد بن أبي وقّاص. 9 ـ طلحة بن عبيد الله. 10 ـ أبو عبيدة. 11 ـ أبوسلمة. 12 ـ أرقم. 13 ـ قدامة بن مظعون. 14 ـ عبد الله بن مظعون. 15 ـ عبيدة بن الحارث. 16 ـ سعيد بن زيد. 17 ـ امرأته ( فاطمة بنت الخطاب ). 18 ـ أسماء بنت أبي بكر. 19 ـ خباب بن الأرت. 20 ـ عمير بن أبي وقاص. 21 ـ عبد الله بن مسعود. 22 ـ مسعود بن القارئ. 23 ـ سليط بن عمرو. 24 ـ حاطب بن عمرو. 25 ـ عيّاش بن أبي ربيعة. 26 ـ أسماء بنت سلامة. 27 ـ خنيس بن حذافة. 28 ـ عامر بن ربيعة. 29 ـ عبد الله بن جحش. 30 ـ أبو أحمد بن جحش. 31 ـ جعفر بن أبي طالب. 32 ـ أسماء بنت عميس. 33 ـ حاطب بن الحارث. 34 ـ حطّاب بن الحارث 35 ـ معمّر بن الحارث. 36 ـ سائب بن عثمان بن مظعون. 37 ـ مطلب بن أزهر. 38 ـ زوجته ( رملة بنت أبي عوف ). 39 ـ نعيم بن عبد الله. 40 ـ عامر بن فهيرة. 41 ـ خالد بن سعيد. 42 ـ اُميّة بنت خلف. 43 ـ أبو حذيفة. 44 ـ واقد بن عبد الله. 45 ـ خالد بن بكير. 46 ـ عامر بن بكير. 47 ـ عاقل بن بكير. 48 ـ اياس بن بكير. 49 ـ عمّار بن ياسر 50 ـ صهيب بن سنان (7).

هذا ما ذكره ابن هشام ، وقد ذكر في ثنايا كلامه ممّن آمن في تلك الفترة عائشة بنت أبي بكر ، وهو غير صحيح جدّاً لأنّها ولدت في السنة الرابعة من البعثة ، وقد عقد عليها النبي في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين وهي بنت ست سنين ، وبنى بها رسول الله وهي بنت تسع بالمدينة في شوال في السنة الاُولى من الهجرة ، فكيف تكون من المؤمنات في المرحلة السرّية ؟ (8).

أضف إلى ذلك انّ أبا ذر من السابقين إلى الإسلام وقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن طريق أبي ذر ، قال : كنت في الإسلام خامساً ، وفي لفظ أبي عمرو وابن الاثير : « أسلم بعد أربعة » ، وفي لفظ آخر يقال : « أسلم بعد ثلاثة » ، ويقال : « بعد أربعة » ، وفي لفظ الحاكم : « كنت رابع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع » ، وفي لفظ أبي نعيم : « كنت رابع الإسلام ، أسلم قبلي ثلاثة وأنا الرابع » ، وفي لفظ المناوي : « أنا رابع الإسلام » ، وفي لفظ ابن سعد من طريق ابن أبي وضّاح البصري : « كان إسلام أبي ذر رابعاً أو خامساً » (9).

وقد ذكر الشيخان في الصحيحين وابن سعد في طبقاته كيفيّة إسلامه ومن أراد فليرجع إليهما.

المرحلة الثانية : دعوة الأقربين

إجتازت الدعوة المحمّدية المرحلة السرّية إلى مرحلة ثانية بعد ما آمن به جماعة من قريش وغيرهم ودخل الناس في الإسلام آحاد من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكّة ، فتحدّث به القريب والنائي ، فعندئذٍ أمر سبحانه بدعوة الأقربين ، بقوله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) ( الشعراء / 214 ـ 216 ).

إنّ المعاجلة والمسارعة لدعوة العشيرة الأقربين قبل البدء بإعلان الدعوة العامّة يمكن أن يكون فيها سرّ إجتماعي وتوضيحه بما يلي :

أوّلاً : إنّ النبي الأكرم كان مطّلعاً على أنّ قومه سوف يجابهونه بالعنف والشدّة ويتآمرون للقضاء عليه قبل تمكّنه من تحقيق اُمنيته ، فصيانة الدعوة من مكائد الأعداء مرهونة بوجود قوّة داخلية تحصّنها من غوائلهم ولا يمكن تصوّرها إلّا في قومه وعشيرته من آل هاشم.

وثانياً : إنّ إنقياد قومه لدعوته وعشيرته لدعوته لدليل واضح على قداسته ونزاهته وصدق كلامه وانّهم ما رأوا منه إلا الصدق والصلاح طيلة أربعين سنة ، فأجابوا دعوته وصدّقوا كلامه. فإنّ الإنسان مهما كان فطناً مهتمّاً بستر عيوبه وزلّاته لا يتمكّن من سترها عن بطانته وخاصّته ، فإيمان البطانة وقبولهم دعوته دليل واضح على صفاء سريرته ، فلأجل ذلك بدأ بدعوة العشيرة قبل إعلان الدعوة العامّة ، وهذا بطبيعة الحال يكون مؤثّراً في إعداد الأرضية الصالحة لقبول المرحلة الاُخرى. وبعبارة ثانية : إنّ ضمان نجاح المصلحين في الدعوة العامّة يكمن في نجاحهم في دعوة اسرتهم ، فلو افترضنا أنّ الداعي لم ينجح في دعوة اسرته ، يكون حظّ نجاحه في الدعوة العامّة طفيفاً لأنّ رفض الاُسرة لدعوة المصلح وعدم إيمانها به ، سوف يتّخذ ذريعة إلى تقوّل الآخرين وسخريتهم بأنّه لو كان الصادع محقّاً في كلامه فاسرته أولى بقبول دعوته.

وقد نقل المفسّرون وأهل السير في تفسير قوله سبحانه : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) كيفيّة دعوة الاُسرة ، و إليك نصّ ما ذكره الطبري في تاريخه عن عليّ ( عليه السلام ) : لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله فقال لي : يا علي ! إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقت بذلك ذرعاً و عرفت أنّي متى أبدأهم بهذا الأمر أرىٰ منهم ما أكره ، فصمّمت عليه حتى جاءني جبرئيل ، فقال : يا محمد إنّك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك ، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عِسّاً من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب (10) ، حتى اُكلّمهم و اُبلّغهم ما اُمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له و هم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبوطالب وحمزة والعبّاس وأبولهب ، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم ، فجئت به ، فلمّا وضعته تناول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حذية من اللحم فشقّها بأسنانه ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال : خذوا باسم الله ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم ، ثمّ قال : اسق القوم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً ، و أيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلمّا أراد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكلّمهم بدره أبولهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم ، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقال في الغد : يا علي إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن اُكلّمهم ، فعد لنا بمثل ما صنعت ثمّ اجمعهم ـ إلى أن قال ـ : ففعلت ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ، ثمّ قال : اسقهم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، ثمّ تكلّم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقال : يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت ـ وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمضهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً ـ : أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه ؟ فأخذ برقبتي ثمّ قال : إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (11).

هذا هو النصّ الذي رواه الطبري حول حادثة بدء الدعوة وقد ذكره غيره ، فمن أراد الوقوف على مصادر الحديث فليرجع إلى كتاب الغدير (12).

إنّ الحديث يستفاد منه اُمور عن تاريخ بدء الدعوة نشير إليها بالنقاط التالية :

1 ـ إنّ الخلافة تتمشّى مع النبوّة جنباً إلى جنب وإنّهما لايفترقان أبداً لأنّ النبيّ يوم صدع بالرسالة أعلن خلافة عليّ ( عليه السلام ) وكانت الخلافة تعدّ إكمالاً لوظائف الرسالة وإنّ الخليفة يقوم بتكميل وظائف النبي حيث يبيّن ما أجمله ويفصّل ما أوجزه.

2 ـ إنّ عليّاً في ذاك اليوم وإن كان صغيراً لايتجاوز عمره الحلم لكنّه كان في القوّة والمقدرة على حدّ قام بتضييف مجموعة كبيرة تربو على أربعين نفراً فقد صنع لهم طعاماً ودعاهم إلى الضيافة ، وهذا العمل كما يكشف عن مرحلة من النضوج البدني يكشف عن تفتّح عقله و شعوره حيث قام بأمر لايقوم بأعبائه إلّا الرجال الكبار.

3 ـ إنّ الطبري في تاريخه نقل القصّة كما مرّ ولكنّه جنى على الحقيقة في تفسيره ، فذكر القصة و لكنّه عندما وصل إلى قوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي حرّفه وجاء مكانه بقوله : « فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا » (13).

فما معنى هذا التحريف أهكذا تصان الأمانة التاريخية و يتحفّظ في نقل الحديث ؟!

وإن تعجب فعجب عمل ابن كثير فإنّه وضع تاريخه على غرار تاريخ الطبري حذو النعل بالنعل ، ولكنّه لمّا وصل إلى هذا المقام من تاريخه أعرض عن نقل نصّ الطبري في تاريخه واعتمد على النصّ الذي ذكره الطبري في تفسيره ، وما هذا إلّا لأنّه رآه دليلاً قاطعاً على خلافة علي ووصايته ، وأعجب منه عمل محمد حسين هيكل في تاريخه فإنّه ارتكب جناية مفضوحة وأثبت الحديث في الطبعة الاُولى من كتابه واكتفى منه بسؤال النبي بقوله : « فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم » وأغفل ذكر جواب النبي لعلي عندما قام ، ولم يذكر منه شيئاً ، لكنّه في الطبعة الثانية أسقط جميع ما يرجع إلى أمير المؤمنين من كلام النبي (14).

4 ـ إنّ ابن تيميّة لمّا رأى دلالة الحديث على خلافة الإمام علي ( عليه السلام ) عكف على المناقشة في سند الحديث ، و انّه يشتمل في رواية الطبري على أبي مريم الكوفي ، و هو مجمع على تركه ، و قال أحمد : ليس بثقة ، و اتّهمه ابن المديني بوضع الحديث (15).

ولكنّه ترك توثيق الآخرين لأبي مريم ، فقد قال ابن عدي : سمعت ابن عقدة يثني على أبي مريم ويطريه وتجاوز الحدّ في مدحه ، واثنى عليه شعبة ، وقال الذهبي : كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال (16).

وأظنّ إنّ تضعيف الرجل لغاية تشيّعه وحبّه للوصي ، فإنّ التشيّع بالمعنى العام ( من يحب عليّاً ويبغض أعدائه الذين خرجوا عليه في حروبه الثلاثة ) أحد المضعّفات عند القوم ، ومع ذلك فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن الشيعة كثيراً ، وقد قام العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين بوضع قائمة لأسماء ، من روى عنهم الشيخان وغيرهما في صحيحيهما من الشيعة (17).

على أنّ أحمد قد روى الحديث بسند آخر وجميع رجاله رجال صحاح بلاكلام ، وهم عفّان بن مسلم ، عن أبي عوانه ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ( مسلم الكوفي ) ، عن ربيعة بن ناجذ (18) وبهذا السند والمتن أخرجه الطبري في تاريخه وغيره (19).

5 ـ و هناك مناقشات أو مشاغبات لابن تيميّة حول الحديث نبعت من مَوقفه تجاه فضائل الإمام أمير المؤمنين ، فإنّه يردّ كثيراً من فضائل علي ( عليه السلام ) ويضعّفه جزافاً وممّا قال في حق الحديث :

« إنّ مجرّد الإجابة للمعاونة على هذا الأمر لايوجب أن يكون المجيب وصيّاً وخليفة بعده ، فإنّ جميع المؤمنين أجابوه إلى الإسلام وأعانوه على هذا الأمر ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيله ، كما أنّه لو أجابه الأربعون أو جماعة منهم فهل يمكن أن يكون الكل خليفة له ؟ » (20).

إنّ هذا الإشكال يرجع إلى أمرين :

الأوّل : إنّ مجرّد الإجابة للمعاونة لايلازم أن يكون المجيب وصيّاً ، ولكنّه غفلة عن التدبّر في الرواية ، فإنّه لم يجعل مطلق الإجابة دليلاً على كون المجيب وصيّاً حتى يقال : إنّ جميع المؤمنين أجابوا إلى الإسلام بل جعل الإجابة من العشيرة فقط علّة للوصاية ، فلايشمل المؤمنين الخارجين عن دائرة إطارهم.

الثاني : لو افترضنا انّ الكل أجابوه ، فهل يكون الكل خليفة ؟

والجواب : انّ النبي الأكرم كان مطّلعاً على أنّه لايجيبه غير علي ، لأنّهم لم يكونوا مطّلعين على مبادئ رسالته ، و خصوصيّات شريعته ، فلايبادرون بالإجابة بخلاف عليّ ( عليه السلام ) فإنّه قد نشأ وتربّى في أحضان النبي وتغذّى بلبانه ، وقد صلّى مع النبي قبل الناس بسنين ، فكان سبقه أمراً طبيعيّاً بالنسبة له.

إنّ كتب السيرة تذكر أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خاطبهم في هذا الإجتماع بقوله : « إنّ الرائد لايكذب أهله ، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم ، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم ، والله الذي لا إله إلّا هو ، إنّي لرسول الله إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة ، والله لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبنّ بما تعملون ، ولتجزونّ بالإحسان إحساناً ، وبالسوء سوءاً ، فإنّها الجنّة أبداً والنار أبداً. يا بني عبد المطلب ما أعلم شابّاً جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة » ، فتكلّم القوم كلاماً ليّناً غير أبي لهب ، فإنّه قال : « يا بني عبد المطلب هذه والله لسوأة خذوا على يديه وامنعوه عن هذا الأمر بحبس أو غيره قبل أن يأخذ على يده غيركم ، فإن التمسوه حينئذ ذلّلتم و إن منعتموه قتلتم » ، فقالت اُخته صفيّة عمّة رسول الله اُمّ الزبير : « أي أخي ! أيحسن بك خذلان ابن أخيك ؟ فو الله ما زال العلماء يخبرون أنّه يخرج من ضئضئ ( الأصل ) عبد المطلب نبي فهو هو » قال أبولهب : « هذا و الله الباطل والأماني ، وكلام النساء في الحجال ، فإذا قامت بطون قريش وقامت العرب معها بالكلاب فما قوّتنا بهم ؟ فو الله ما نحن عندهم إلّا أكلة رأس » ، فقال أبوطالب : « والله لنمنعنّه ما بقينا » (21).

وهل النبي خطب بهذه الخطبة في الدعوة الاُولى أو الثانية ؟ فلو صحّت فهي بالدعوة الاُولى ألصق لما تضافر أنّ أبالهب لم يكن مدعوّاً في الدعوة الثانية ، و يظهر من سيرة زيني دحلان أنّه خطب بها في الدعوة الاُولى ، فلمّا أصبح رسول الله بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب ، فلمّا أخبرهم بما أنزل الله عليه ، أسمعه أبولهب ما يكره وقال : تبّاً لك ، ألهذا جمعتنا ؟ وأخذ حجراً ليرمي به ، وقال : ما رأيت أحداً جاء بني أبيه و قومه بأشرّ ممّا جئتهم به ، فسكت رسول الله ولم يتكلّم في ذلك المجلس.

الدعوة العامة وكسح العراقيل الماثلة أمامه

كان للدعوة السرية أوّلاً ودعوة الاُسرة ثانياً دور خاص في استقطاب لفيف من الناس واستمالة قلوب طائفة منهم إلى الإسلام ، وقد أوجد هذا الإقبال أرضيةً صالحةً لمرحلة ثالثة من الدعوة وهي التي يصحّ وصفها بالدعوة العامّة ، وكانت تهدف إلى توسيع نطاقها ، فقام النبي الأكرم بها امتثالاً لقوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) ( الحج / 94 ).

إنّ هذه الآية تناسب الدعوة العامّة بقرينة قوله : ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) ( الحجر / 95 ).

نقل الطبري عن سعيد بن جبير أسماء المستهزئين برسول الله وهم خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وأبو زمعة ، والحرث بن عيطلة ، والأسود بن قيس ، وكلّهم هلكوا قبل بدر (22).

وقد حكى أصحاب السير خطبة النبي في بدء تلك المرحلة ، قالوا :

1 ـ دعا النبي جميع قريش وهو قائم على الصفا وقال : إن أخبرتكم انّ خيلاً تخرج من صفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذّبوني ؟ قالوا : و الله ما جرّبنا عليك كذباً ، فقال : « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار فإنّي لاأغني عنكم من الله شيئاً إنّي لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد ».

2 ـ و في رواية : « إنّ مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف : يا صباحاه ! يا صباحاه ! أتيتم أتيتم أنا النذير العريان (23) الذي ظهر صدقه » (24).

3 ـ و في رواية : دعا قريشاً فخصّ وعمّ وقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني زهرة أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ، يا صفيّة عمّة محمد أنقذي نفسك من النار ، فإنّي لاأملك لكم من الله شيئاً (25).

ولو كان المراد من فاطمة هي فاطمة بنت النبي فالرواية بأجمعها أو خصوص هذه الجملة موضوعة لأنّها ولدت في السنة الخامسة من الهجرة ، وقد جاء في تاريخ الخميس توصيفها بـ ( بنت محمد ) حيث قال : « يا صفيّة بنت عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنكم من الله شيئاً ، سلاني من مالي ما شئتم » .

ولذلك احتمل زيني دحلان أنّ فاطمة من خلط الرواة وانّما ذكرت في حديث آخر وقع بالمدينة جاء فيه الزوجات والبنات وقال لهن : « لا أغني عنكنّ من الله شيئاً » حثّاً لهنّ على صالح الأعمال.

الهوامش

1. السيرة النبوية ج 1 ص 247 ـ 262.

2. السيرة النبويّة ج 1 ص 243.

3. السيرة النبويّة ج 1 ص 246.

4. تاريخ الطبري ج 2 ص 56 ، وفيه نصوص اُخرى على أنّه عليه السلام أوّل من آمن برسول الله.

5. السيرة النبويّة ج 1 ، ص 262.

6. هي المعروفه الآن بدار الخيزران عند الصفا ، اشتراها الخليفة المنصور و أعطاها ولده المهدي ، ثمّ أعطاها المهدي للخيزران اُمّ ولديه : موسى الهادي و هارون الرشيد. لاحظ : السيرة الحلبيّة ج 1 ، ص 283.

7. السيرة النبويّة ، ج 1 ، ص 262.

8. لاحظ : أعلام النساء ج 3 ص 11 نقلاً عن طبقات ابن سعد و سنن النسائي وصحيح البخاري وشرح الزرقاني على المواهب والسمط الثمين.

9. الغدير ج 8 ص 308 ـ 309.

10. وفي البداية والنهاية ج 3 ص 40 « بني هاشم » وهو الأصح.

11. تاريخ الطبري ج 1 ص 63.

12. الغدير ج 2 ص 278 ـ 284.

13. تفسير الطبري ج 19 ص 74 ، وقد رواه العلّامة الأميني في غديره : 2 / 279 ـ 284. والعلّامة السيد جعفر مرتضى في كتابه : الصحيح من سيرة النبي ج 2 ص 12 عن مصادر كثيرة تعرب عن تضافر الرواية وتواترها.

14. لاحظ حياة محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الطبعة الاُولى : ص 104 ـ والطبعات الاُخر : ص 142.

15. منهاج السنّة ج 4 ص 81.

16. الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 2 ص 14.

17. المراجعات : ص 42 ـ 105 ، وما جاء فيها يشكّل رسالة أسماها شيخ الأزهر سليم البشري : « أسناد الشيعة في أسناد السنة ».

18. مسند أحمد ج 1 ص 159.

19. تاريخ الطبري ج 2 ص 63.

20. منهاج السنة : ص 83.

21. سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبيّة ج 1 ص 194.

22. تفسير الطبري ج 14 ص 49.

23. العريان : الذي أقبل عرياناً ينذر بالعدو. إنّه لايتّهم بخلاف الذي لم يجرّد فإنّه قد يتّهم والمعنى أنا النذير الذي لا اتّهم.

24. سيرة زيني دحلان ، على هامش السيرة الحلبيّة ج 1 ص 194 ـ 195 ، والبداية والنهاية ج 3 ص 38 ، وتاريخ الخميس ج 1 ص 288.

25. تاريخ الخميس ج 1 ص 288 ، و سيرة زيني دحلان على هامش السيرة الحلبية ج 1 ص 193.

مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 7 / الصفحة : 122 ـ 134

 

أضف تعليق

النبي محمّد صلّى الله عليه وآله

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية