حقيقة التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية

طباعة

حقيقة التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية

لما انتشر الإسلام في الجزيرة العربيّة ، ودخل الناس في الإسلام زرافات ووحدانا ، لم يجد اليهود والنصارى المتواجدون فيها محيصاً إلّا الإستسلام ، فدخلوا فيه متظاهرين به ، غير معتقدين غالباً إلّا من شملتهم العناية الإلهيّة منهم وكانوا قليلين ، ولكن الأغلبيّة الساحقة منهم خصوصاً الأحبار والرهبان بقوا على ما كانوا عليه من العقائد السابقة.

وبما أنّهم كانوا من أهل الكتاب عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والأصول والعقائد ، عمدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاصّ ، وبطريقة تعليميّة ، ولما كانت السذاجة تغلب على عامّة المسلمين لذا تلقوهم كعلماء ربانيّين ، يحملون العلم ، فأخذوا ما يلقونه إليهم بقلب واع ونية صادقة ، وبالتالي نشر هؤلاء في هذا الجوّ المساعد كلّ ما عندهم من القصص الانحرافيّة والعقائد الباطلة ، خصوصاً فيما يرجع إلى التجسيم والتشبيه وتصغير شأن الأنبياء في أنظار المسلمين ، بإسناد المعاصي الموبقة إليهم ، والتركيز على القدر وسيادته في الكون على كلّ شيء ، حتّى على إرادة الله سبحانه ومشيئته.

ولم تكن رؤية الله بأقلّ ممّا سبق في تركيزهم عليها.

فما ترى في كتب الحديث قديماً وحديثاً من الأخبار الكثيرة حول التجسيم ، والتشبيه ، والقدر السالب للإختيار والرؤية ونسبة المعاصي إلى الأنبياء ، فكلّ ذلك من آفات المستسلمة من اليهود والنصارى. فقد حسبها المسلمون حقائق راهنة وقصصاً صادقة فتلقّوها بقبول حسن نشرها السلف بين الخلف ، ودام الأمر على ذلك.

ومن العوامل التي فسحت المجال للأحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين ، النهي عن تدوين حديث الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ ونشره ونقله والتحدّث به أكثر من مائة سنة ، فأوجد الفراغ الذي خلفه هذا العمل أرضيّة مناسبة لظهور بدع يهوديّة ونصرانيّة وسخافات مسيحيّة وأساطير يهوديّة ، خصوصاً من قبل الكهنة والرهبان.

فقد كان التحدّث بحديث الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ أمراً مكروهاً ، بل محظوراً من قبل الخلفاء إلى عصر عمر بن عبد العزيز « ١٠١ ـ ١٩ هـ » ، بل إلى عصر المنصور العبّاسي « ٣٤١ هـ » ، ولكن كان المجال للتحدّث بالأساطير من قبل هؤلاء أمراً مسموحاً به ، فهذا هو تميم بن أوس الداري من رواة الأساطير ، وقد أسلم سنة تسع للهجرة ، وهو أوّل من قصّ بين المسلمين واستأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً ، فأذن له ، وكان يسكن المدينة ثمّ انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان (1).

ولما سمحت الظروف لمثل هذا الكتابي أن يتحدّث بما تعلم في حياته السابقة ومنع من أراد التحدّث بحديث الرسول ، لذا كان المجال خصبا لنشر الأساطير والعقائد الخرافيّة.

يقول الشهرستاني : وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث متعدّدة في مسائل التجسيم والتشبيه وكلّها مستمدة من التوراة (2).

وهذا هو المقدسي يتكلّم عن وجود هذه العقائد بين عرب الجاهليّة ، يقول :

وكان فيهم من كلّ ملّة ودين ، وكانت الزندقة والتعطيل في قريش ، والمزدكيّة والمجوسيّة في تميم ، واليهوديّة والنصرانيّة في غسان ، وعبادة الأوثان في سائرهم (3).

قال ابن خلدون : إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأميّة ، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوق إليه النفوس البشريّة في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى ، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم ، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسّرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها كلّها كما قلنا من التوراة أو ممّا كانوا يفترون (4).

ولو أردنا أن ننقل كلمات المحقّقين حول الخسارة التي أحدثها اليهود والنصارى لطال بنا الكلام وطال مقالنا مع القراء.

ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام هو كعب الأحبار ، حيث خدع عقول المسلمين وحتّى الخلفاء والمترجمين عنه من علماء الرجال ، وقد أسلم في زمن أبي بكر وقدم من اليمن في خلافة عمر ، فانخدع به الصحابة وغيرهم.

قال الذهبي : العلامة الحبر الذي كان يهوديّاً فأسلم بعد وفاة النبي ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر ـ رض ـ ، وجالس أصحاب محمّد ، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيليّة ويحفظ عجائب ، ـ إلى أن قال : ـ حدث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عبّاس ، وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي ، وهو نادر عزيز ، وحدث عنه أيضا أسلم مولى عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب ، وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً ، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي (5).

وعرفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه بأنّه من أوعية العلم (6).

فقد وجد الحبر الماكر جواً ملائماً لنشر الأساطير والقصص الوهميّة ، وبذلك بثّ سمومه القاتلة بين الصحابة والتابعين ، وقد تبعوه وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.

وقد تنبّه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر لفيف من القدماء ، منهم ابن كثير في تفسيره ، حيث أنّه بعدما أورد طائفة من الأخبار في قصّة ملكة سبأ مع سليمان ، قال : والأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقاة عن أهل الكتاب ممّا وجد في صحفهم ، كروايات كعب ووهب ـ سامحهما الله تعالى ـ في ما نقلاه إلى هذه الأمّة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن ، وممّا حرف وبدل وفسخ ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنفع وأوضح وأبلغ (7).

والذي يدلّ على عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنّه ربّما ينقل شيئاً من العهدين ، وفي الوقت ذاته نرى أن بعض الصحابة الذين تتلمذوا على يديه وأخذوا منه ينسب نفس ما نقله إلى الرسول ! والذي يبرر ذلك العمل حسن ظنّهم وثقتهم به ، فحسبوا المنقول أمراً واقعيّاً ، فنسبوه إلى النبي زاعمين أنّه إذا كان كعب الأحبار عالماً به فالنبي أولى بالعلم منه.

فإن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ نصّين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تاريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر الشمس والقمر يوم القيامة ، والآخر للإمام ابن كثير صاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبي الأكرم ، ومضمون الحديث ينادي بأعلى صوته بأنّه موضوع مجعول على لسان الوحي ، نشره الحبر الخادع وقبله الساذج من المسلمين.

١ ـ قال الطبري : عن عكرمة ، قال : بينا ابن عبّاس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال : يا ابن عبّاس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر ، قال : وكان متكئاً فاحتفز ثمّ قال : وما ذاك ؟ قال : زعم يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنّم ، قال عكرمة : فطارت من ابن عبّاس شفة ووقعت أخرى غضباً ، ثمّ قال : كذب كعب ، كذب كعب ، كذب كعب ، ثلاث مرّات ، بل هذه يهوديّة يريد إدخالها في الإسلام ، الله أجلّ وأكرم من أن يعذب على طاعته ، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى ( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ) ، إنّما يعني دؤوبهما في الطاعة ، فكيف يعذب عبدين يثني عليهما أنّهما دائبان في طاعته ؟ قاتل الله هذا الحبر وقبح حبريّته ، ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله ، قال : ثمّ استرجع مراراً (8).

٢ ـ قال ابن كثير: روى البزار ، عن عبد العزيز بن المختار ، قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد ـ مسجد الكوفة ـ ، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث ، قال : حدّثنا أبو هريرة أن رسول الله (ص) قال : إن الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة فقال الحسن : وما ذنبهما ؟ فقال : أحدثك عن رسول الله (ص) وتقول - أحسبه قال - : وما ذنبهما ، ثمّ قال : لا يروى عن أبي هريرة إلّا من هذا الوجه (9).

ولما كان إسلام كعب الأحبار بعد رحيل الرسول ، لذلك تعذر عليه إسناد ما رواه من أساطير إلى النبي الأكرم ، ولو أنّه أدرك شيئاً من حياته ـ صلّى الله عليه وآله ـ وإن كان قليلاً لنسب تلك الأساطير إليه ، ولكن حالت المشيئة الإلهيّة دون أمانيه الباطلة ، ولكن أبا هريرة لما صحب النبي واستحسن الظنّ بكعب الأحبار ، وكان أستاذه في الأساطير نسب الرواية إلى النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

هذا نموذج قدمته إلى القرّاء لكي يقفوا على دور الأحبار والرهبان في نشر البدع اليهوديّة والنصرانيّة بين المسلمين ، وأن لا يحسنوا الظنّ بمجرّد النقل من دون التأكّد من صحّته.

هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا لعب به مستسلمة اليهود والنصارى في أحاديثنا وأصولنا ، ولولا أنّه سبحانه قيض في كلّ آونة رجالاً مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات ، لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام وصفائه وجلاله.

كعب الأحبار وتركيزه على التجسيم والرؤية :

إنّ المتفحص فيما نقل عن ذلك الحبر يقف على أنّه كان يركز على فكرتين يهوديّتين : الأولى فكرة التجسيم ، والثانية رؤية الله تعالى.

يقول عن الفكرة الأولى : أنّ الله تعالى نظر إلى الأرض فقال : إنّي واطئ على بعضك ، فاستعلت إليه الجبال ، وتضعضعت له الصخرة ، فشكر لها ذلك ، فوضع عليها قدمه فقال : هذا مقامي ومحشر خلقي ، وهذه جنّتي وهذه ناري ، وهذا موضع ميزاني ، وأنا ديّان الدين (10).

ففي هذه الكلمة الصادرة عن هذا الحبر تصريح على تجسيمه تعالى أولا ، وتركيز على أن الجنّة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض ، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة ، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرف.

كما أنّه ركز على الرؤية ، حيث أشاع فكرة التقسيم ، فقال : إنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمّد (ص) (11) ، وعنه انتشرت هذه الفكرة ، أيّ فكرة التقسيم بين المسلمين.

ومن أعظم الدواهي أن الرجل تزلف إلى الخلفاء في خلافة عمر وعثمان وتحدث عن الكثير من القصص الخرافيّة ، وبعدما توفّي عثمان تزلف إلى معاوية ونشر في عهده ما يؤيّد به ملكه ودولته ، ومن كلماته في حقّ الدولة الأمويّة ، يقول : مولد النبي بمكّة ، وهجرته بطيبة ، وملكه بالشام (12).

وبذلك أضفى على الدولة الأمويّة صبغة شرعيّة وجعل ملكهم وسلطتهم امتداداً لملك النبي وسلطته.

الرؤية في كتب العهدين :

إذا كان كعب الأحبار وزملاؤه يحملون فكرة الرؤيّة ، فلا غرو ولا عجب في أنّهم اتبعوا في نشر الفكرة في العهد القديم ، وإليك بعض ما ورد فيه من تصريح برؤية الربّ :

١ ـ وقال « الرب » : لا تقدر أن ترى وجهي ; لأنّ الإنسان لا يراني ويعيش.

وقال الربّ : هو ذا عندي مكان فتقف على الصخرة ، ويكون من اجتاز مجدي أنّي أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتّى اجتاز ثمّ أرفع يدي فتنظر ورائي ، وأمّا وجهي فلا يرى (13).

وعلى هذا فالربّ يرى قفاه ولا يرى وجهه !

٢ ـ رأيت السيّد جالساً على كرسي عال .. فقلت : ويل لي لأن عيني قد رأتا الملك ربّ الجنود (14).

والمقصود من السيّد هو الله جلّ ذكره.

٣ ـ كنت أرى أنّه وضعت عروش ، وجلس القديم الأيّام ، لباسه أبيض كالثلج ، وشعر رأسه كالصوف النقي ، وعرشه لهيب نار (15).

٤ ـ أما أنا فبالبرّ أنظر وجهك (16).

٥ ـ فقال منوح لامرأته : نموت موتاً لأنّنا قد رأينا الله (17).

٦ ـ فغضب الربّ على سليمان ، لأن قلبه مال عن الربّ ، إله إسرائيل الذي تراءى له مرّتين (18).

٧ ـ وقد رأيت الربّ جالساً على كرسيّه ، وكلّ جند البحار وقوف لديه (19).

٨ ـ كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر ، وأنا بين المسبيين عند نهر خابور ، أن السماوات انفتحت فرأيت رؤى الله - إلى أن قال :

هذا منظر شبه مجد الربّ ، ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلّم (20).

إن فكرة الرؤية تسربت إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام ، كالأحبار والرهبان ، وصار ذلك سببا لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن العقيدة الإسلاميّة ، بحيث يكفر منكرها أحياناً أو يفسق ، ولما صارت تلك العقيدة راسخة في القرنين الثاني والثالث بين المسلمين ، عاد المتكلّمون الذين تربوا بين أحضانهم للبرهنة والاستدلال على تلك الفكرة من الكتاب أولاً والسنّة ثانياً ، ولولا رسوخها بينهم لما تحملوا عبء الإستدلال وجهد البرهنة ، وسوف يوافيك أن الكتاب يرد فكرة الرؤية ويستعظم أمرها وينكرها بشدّة ، وما استدلّ به على جواز الرؤية من الكتاب فلا يمت إلى الموضوع بصلة.

إن مسألة رؤية الله تعالى قد طرحت على صعيد البحث والجدال في القرن الثاني ، عندما حيكت العقائد على نسق الأحاديث ، ووردت فيها رؤيته سبحانه يوم القيامة ، فلأجل ذلك عدت من العقائد الإسلاميّة ، حتّى أن الإمام الأشعري عندما تاب عن الاعتزال ولحق بأهل الحديث رقى يوم الجمعة كرسيّاً ونادى بأعلى صوته :

من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي ، أنا فلان بن فلان كنت قلت بخلق القرآن وأن الله لا يرى بالأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها ، وأنّي تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة (21).

وقال في الإبانة : وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون ، كما جاءت الروايات عن رسول الله (22).

وقال في كتابه الآخر : بسم الله ، إن قال قائل : لم قلتم إن رؤية الله بالأبصار جائزة من باب القياس ؟ قيل له : قلنا ذلك لأن ما لا يجوز أن يوصف به تعالى ويستحيل عليه لا يلزم في القول بجواز الرؤية (23).

وهذا النصّ يعرب عن أن الرؤية كانت في ذلك العصر وفي عصر الإمام أحمد جزء من العقائد الإسلاميّة ، ولذلك لا تجد كتاباً كلاميّاً إلّا ويذكر رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة ، ويقرّرها جزءاً من العقائد الإسلاميّة ، حتّى أن الإمام الغزالي مع ما أوتي من مواهب كبيرة وكان من المصرين على التنزيه ـ فوق ما يوجد في كتب الأشاعرة ـ لم يستطع أن يخرج عن إطار العقيدة ، وقال : العلم بأنّه تعالى مع كونه منزها عن الصورة والمقدار ، مقدّساً عن الجهات والأنظار ، يرى بالأعين والأبصار (24).

ثمّ إنّهم اختلفوا في الدليل على الرؤية ، ففرقة منهم اعتمدوا على الأدلّة العقليّة دون السمعيّة ، كسيف الدين الآمدي أحد مشايخ الأشاعرة في القرن السابع « ٣١٦ ـ ١٥٥ هـ » يقول : لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي ، إذ ما سواه لا يخرج عن المظاهر السمعيّة ، وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين ، فلا يذكر إلّا على سبيل » التقريب (25).

وفرقة أخرى كالرازي وغيره قالوا : العمدة في جواز الرؤية ووقوعها هو جواز السمع ، وعليه الشيخ الشهرستاني في نهاية الأقدام (26).

الرؤية بالأبصار لا بالقلب ولا بالرؤيا :

محلّ النزاع بين الأشاعرة ومن قبلهم الحنابلة وأصحاب الحديث ، وبين غيرهم من أهل التنزيه ، هو رؤية الله سبحانه بالأبصار التي هي نعمة من نعم الله سبحانه وطريق إلى وقوف الإنسان على الخارج.

يقول سبحانه : ( وَاللَّـهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ النحل : ٧٨ ].

فالمثبت للرؤية والنافي لها يركز على موضوع واحد هو الرؤية بالأبصار ، وأن الخارج عن هذا الموضوع خارج عن إطار العقيدة.

وبذلك يظهر أن الرؤية بغير الأبصار تأويل للعقيدة التي أصرّ عليها أصحاب أحمد ، بل الملتحق به الإمام الأشعري ، ولا يمت إلى موضوع البحث بصلة ، فقد نقل عن ضرار وحفص الفرد : إن الله لا يرى بالأبصار ، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا فندركه بها (27).

يقول ابن حزم : إن الرؤية السعيدة ليست بالقوّة الموضوعة بالعين ، بل بقوّة أخرى موهوبة من الله (28).

إلى غير ذلك من الكلمات التي حرفت النقطة الرئيسيّة في البحث ، ومعتقد أهل الحديث الأشاعرة ، ونحن نركز في البحث على الرؤية بالأبصار ، وأمّا الرؤية بغيرها فخارجة عن مجاله.

فإذا كانت الحنابلة والأشاعرة مصرين على جواز الرؤية ، فأئمّة أهل البيت ومن تبعهم من الإماميّة والمعتزلة والزيديّة قائلون بامتناعها في الدنيا والآخرة.

فالبيت الأموي والمنتمون إليه من أهل الحديث كانوا من دعاة التجسيم والتشبيه والجبر وإثبات الجهة ، والرؤية لله سبحانه ، وأمّا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وبيته الطاهر وشيعتهم فكانوا من دعاة التنزيه والاختيار ، ومن الرافضين لهذه البدع المستوردة من اليهود بحماس.

وقد نجم في ظلّ العراك الفكري بين العلويين والأمويين منهجان في مجال المعارف كلّ يحمل شعاراً ، فشيعة الإمام وأهل بيته يحملون شعار التنزيه والإختيار ، والأمويّون وشيعتهم يحملون شعار التشبيه والجبر ، وقد اشتهر منذ قرون ، القول بأن : التنزيه والإختيار علويان ، والتشبيه والجبر أمويان.

فصارت النتيجة في النهاية أن كلّ محدّث متزلف إلى البيت الأموي يحشد أخبار التجسيم والجبر ، بلا مبالاة واكتراث ، لكن الواعين من أمّة محمّد الموالين لأهل بيته كانوا يتجنبون نقل تلك الآثار.

قال الرازي في تفسير قوله ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) : احتجّ علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الآية على نفي كونه جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء ، حاصلاً في المكان والجهة.

قالوا : لو كان جسماً لكان مثلاً لسائر الأجسام ، فيلزم حصول الأمثال والأشباه ، وذلك باطل بصريح قوله تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ـ إلى أن قال : ـ واعلم إن محمّد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه بالتوحيد ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك ، واعترض عليها ، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات ، لأنّه كان رجلاً مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل ، فقال : نحن نثبت لله وجها ونقول : إن لوجه ربّنا من النور والضياء والبهاء ، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كلّ شيء أدركه بصره ، ووجه ربّنا منفي عنه الهلاك والفناء ، ونقول : إنّ لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك والفناء ، ونفى عنها الجلال والإكرام ، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء ، ولو كان مجرّد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوها وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً ، لكان قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب. ثمّ قال : ولا شكّ إنّه اعتقاد الجهمية ; لأنّه لو قيل له : وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء ، فعلمنا أنّه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه.

إلى أن قال : وأقول هذا المسكين الجاهل إنّما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنّه لم يعرف حقيقة المثلين ، وعلماء التوحيد حقّقوا الكلام في المثلين ثمّ فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية (29).

وليس ابن خزيمة أوّل أو آخر محدث تأثر بهذه البدع ، بل كانت الفكرة تتغلغل بين أكثر أهل الحديث الذين منهم :

١ ـ عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد التميمي الدارمي السجستاني ، صاحب المسند المتوفى عام ٢٨٠ هـ صاحب النقض ، يقول فيه : إن الله فوق عرشه وسماواته.

٢ ـ حشيش بن أصرم ، مؤلّف كتاب الاستقامة ، يعرفه الذهبي : بأنّه يرد فيه على أهل البدع ، ويريد به أهل التنزيه الذين يرفضون أخبار التشبيه ، توفي عام ٣٥٢ هـ.

٣ ـ أحمد بن محمّد بن الأزهر بن حريث السجستاني السجزي ، نقل الذهبي في ميزان الإعتدال عن السلمي قال : سألت الدارقطني عن الأزهري ، فقال : هو أحمد بن محمّد بن الأزهر بن حريث ، سجستاني منكر الحديث ، لكن بلغني أن ابن خزيمة حسن الرأي فيه ، وكفى بهذا فخراً (30).

يلاحظ عليه أنه : كفى بهذا ضعفا ، لأن ابن خزيمة هذا رئيس المجسّمة والمشبّهة ، ومنه يعلم حال السجستاني. توفّي سنة ٣١٢ هـ (31).

٤ ـ محمّد بن إسحاق بن خزيمة ، ولد عام ٣١١ هـ وقد ألّف التوحيد وإثبات صفات الربّ ، وكتابه هذا مصدر المشبّهة والمجسّمة في العصور الأخيرة ، وقد اهتمّت به الحنابلة ، وخصوصاً الوهابيّة ، فقاموا بنشره على نطاق وسيع ، وسيأتي الحديث عنه.

٥ ـ عبد الله بن أحمد بن حنبل ، ولد عام ٢١٣ هـ وتوفي عام ٢٩٠ هـ ، يروي أحاديث أبيه « الإمام أحمد بن حنبل » ، وكتابه السنة المطبوع لأوّل مرّة بالمطبعة السلفية ومكتبتها عام ٩٤١٣ هـ ، وهو كتاب مشحون بروايات التجسيم والتشبيه ، يروي فيه ضحك الربّ ، وتكلّمه ، وإصبعه ، ويده ، ورجله ، وذراعيه ، وصدره ، وغير ذلك ممّا سيمرّ عليك بعضه.

وهذه الكتب الحديثيّة الطافحة بالإسرائيليّات والمسيحيّات جرت الويل على الأمّة وخدع بها المغفلون من الحنابلة والحشويّة وهم يظنّون أنّهم يحسنون صنعاً.

الرؤية في كلمات الإمام علي ـ عليه السلام ـ :

من يرجع إلى خطب الإمام علي ـ عليه السلام ـ في التوحيد وما أثر عن أئمّة العترة الطاهرة يقف على أن مذهبهم في ذلك هو امتناع الرؤية ، وأنّه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب ، فكيف بأبصار العيون ، وإليك نزراً يسيراً ممّا ورد في هذا الباب :

١ ـ قال الإمام علي ـ عليه السلام ـ في خطبة الأشباح : الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله ، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده ، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه (32).

٢ ـ وقد سأله ذعلب اليماني فقال : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين ؟ فقال ـ عليه السلام ـ : أفأعبد ما لا أرى ؟ فقال : وكيف تراه ؟ فقال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملابس ، بعيد منها غير مبائن (33).

٣ ـ وقال ـ عليه السلام ـ : الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر (34).

إلى غير ذلك من خطبه ـ عليه السلام ـ الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة القلوب والأبصار به (35).

وأمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في كتابه الكافي باباً خاصّاً للموضوع روى فيه ثمان روايات (36) ، كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد باباً لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية ، يرجع قسم منها إلى نفي الرؤية الحسيّة البصريّة ، وقسم منها يثبت رؤية معنويّة قلبيّة سنشير إليه في محلّه (37).

ثمّ إنّ للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا احتجاجاً في المقام على مقال المحدّث أبي قرة ، حيث ذكر الحديث الموروث عن الحبر الماكر كعب الأحبار : من أنّه سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيّين ، كما تقدّم.

فقال أبو قرة : فإنّا روينا : أنّ الله قسم الرؤية والكلام بين نبيّين ، فقسم لموسى ـ عليه السلام ـ الكلام ، ولمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ الرؤية.

فقال أبو الحسن ـ عليه السلام ـ : فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين الجنّ والإنس أنّه لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شيء ، أليس محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ ؟ قال : بلى.

قال أبو الحسن ـ عليه السلام ـ : فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله ، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول : إنّه لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شيء ، ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر ، أما تستحيون ؟ أما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ، أن يكون أتى عن الله بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر.

فقال أبو قرة : إنّه يقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ) [ النجم : ١٣ ].

فقال أبو الحسن ـ عليه السلام ـ : إن بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) [ النجم : ١١ ] يقول : ما كذب فؤاد محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأت عيناه فقال : ( لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) [ النجم : ١٨ ] فآيات الله غير الله ، وقال : ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) [ طه : ١١٠ ] فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة.

فقال أبو قرة : فتكذب بالرواية ؟

فقال أبو الحسن ـ عليه السلام ـ : إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء (38).

الهوامش

1. ابن عبد البر ، الإستيعاب ، في هامش الإصابة ; وابن حجر ، الإصابة ١ : ١٨٩ ; والجزري ، أسد الغابة ٢١٥ : ١ ; والمتقي الهندي ، كنز العمال ٢٨١ : ١ برقم ٢٩٤٤٨.

2. الشهرستاني ، الملل والنحل ١١٧ : ١.

3. المقدسي ، البدء والتاريخ ٣١ : ٤.

4. ابن خلدون ، المقدمة : ٤٣٩.

5. الذهبي ، سير أعلام النبلاء ٤٨٩ : ٣.

6. الذهبي ، تذكرة الحفاظ ٥٢ : ١.

7. ابن كثير ، التفسير ، قسم سورة النمل ٣٣٩ : ٣.

8. الطبري ، التاريخ ٤٤ :١ ط بيروت.

9. تفسير ابن كثير ٤٧٥ : ٤ ط دار الإحياء.

10. أبو تميم الأصفهاني ، حلية الأولياء ٢٠ : ٦.

11. ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ٢٣٧ : ٣.

12. الدارمي ، السنن : 5 : 1.

13. سفر الخروج ، آخر الإصحاح الثالث والثلاثون.

14. أشعيا 6 : 1 ـ 6.

15. دانيال 7 : 9.

16. مزامير داود 17 : 15.

17. القضاة 13 : 23.

18. الملوك الأول 11 : 9.

19. الملوك الأول 22 : 19.

20. حزقيال 1 : 1 و 28.

21. ابن النديم ، الفهرس : ٢٧١ ; ابن خلكان ، وفيات الأعيان ٢٨٥ : ٣.

22. الإمام الأشعري ، الإبانة : ٢١.

23. الإمام الأشعري ، اللمع : ٦١ بتلخيص.

24. الغزالي ، قواعد العقائد : ١٦٩.

25. الآمدي ، غاية المرام في علم الكلام : ١٧٤.

26. الرازي ، معالم الدين : ٣٧ ; والأربعون : ١٤٨ ; والمحصل : ١٣٨ ; والشهرستاني ، نهاية الأقدام : ٣٦٩.

27. الإمام الأشعري ، مقالات الإسلاميين : ٢٦١.

28. ابن حزم ، الفصل ٢ : ٣.

29. الرازي ، مفاتيح الغيب 27 : 150 ـ 151.

30. ميزان الاعتدال 1 : 132.

31. سير أعلام النبلاء ٣٩٦ : ١٤.

32. نهج البلاغة ، الخطبة ٨٧ طبعة مصر المعروف بطبعة عبده. والأناسي جمع إنسان ، وإنسان البصر هو ما يرى وسط الحدقة ممتاز عنها في لونها.

33. نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٤.

34. نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٠.

35. لاحظ الخطبتين ٤٨ و ٨١ من الطبعة المذكورة.

36. الكافي ٩٥ : ١ باب إبطال الرؤية.

37. التوحيد 107 ـ 122 باب 8.

38. الطبرسي ، الإحتجاج 2 : 375 ـ 376.

مقتبس من كتاب : [ رؤية الله في ضوء الكتاب والسنة والعقل ] / الصفحة : 10 ـ 26