التكتّف في الصلاة

طباعة

التكتّف في الصلاة

من المسائل البارزة في مذهب أهل البيت عليهم السلام إسبال اليدين في الصلاة ، فلا يجوز التكتّف ، بل إنّه من المبطلات لها إذا صار جزءاً منها.

وإسبال اليدين في الصلاة من القضايا التي يعاني منها المستبصرون ، خصوصاً إذا رآهم أحد العامّة ، مع أنّ إسبال اليدين هو الواجب في المذهب المالكيّ ، ولكنّ العامّة لا يعجبهم هذا الأمر ، ويبدؤون بالطعن والتشكيك فيمن يطبّق حكم الله تعالى في الصلاة.

والحقيقة أنّ قضيّة التكفير ، وهي وضع اليدين على الصدر ، ليس لها أصل في الشريعة ، بل إنّها مستحدثة في خلافة عمر بن الخطاب عندما زاره وفد من العجم ، فلمّا وقفوا أمامه ليؤدّوا له التحيّة ، وضعوا أيديهم على صدورهم احتراما ، فأعجبه ذلك الفعل ، فأمر الناس بعدها بتلك الكيفيّة ؛ ولذلك فإنّ من دقّق في الروايات يتبيّن له أنّ الأمر بالتكفير جاء مستحدثاً بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فقد روى البخاري في صحيحه ، في كتاب صفة الصلاة ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : كان الناس يؤمرون أنْ يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم : لا أعلمه ، إلا ينمي ذلك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (1).

والحديث معلول ؛ لأنّه ظنّ من أبي حازم ، وليس من كلام رسول الله ، وهذا ما ذكره العديد من علماء العامّة.

ولمّا أنْ جاء عصر وضع الحديث في العصر الأمويّ ، حتّى قام الوضّاعون بتثبيت تلك الهيئة من خلال إسناد الفعل إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والدليل على ذلك كثرة ، الاختلاف في تلك المسألة بين المذاهب الإسلاميّة ، وحتّى بين علماء المذهب الواحد عند العامّة ، فمسألة التكفير ـ أي وضع اليدين على الصدر ـ لها في كتب الفقه أحكام كثيرة ، وهيئات متعدّدة ، وكلّ صاحب هيئة من تلك الهيئات يطعن في روايات أصحاب الهيئات الأخرى ، فمن قال بأنّ وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت السرّة مثلاً ، فإنّه يضعّف كلّ ما ورد من روايات تأمر بوضع اليدين على السرّة ، أو فوقها ، أو بشدّهما على الصدر ، وكذلك بالنسبة للآخرين ، فإنّهم يطعنون بروايات بعضهم ، ويختلفون بهيئات وضع اليدين كثيراً ، وهذا الاختلاف بحدّ ذاته دليل على أنّ تلك الهيئة لم ترد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فما كان من الوحي ، ومن نبع النبوّة والرسالة ، فإنّه لا يختلف ولا يتناقض.

وعلاوة على كلّ ذلك ، فإنّ حكم التكفير عندهم ، أنّه سنة ، فلماذا الاختلاف في تلك المسألة بشكل يخرج عن حدود المعقول ؟ والجواب : كما ذكرت في عدّة أبحاث ، أنّ كلّ مسألة تبرز في مذهب أهل البيت عليهم السلام ، هي التي تكون غالبا عرضة للطعن والتشكيك والتأويل دوما من قبل خصوم أهل البيت وأتباعهم ، وأيضاً فإنّ كلّ مسألة تمّ اختراعها بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم تكن من سنّته قاموا بتثبيتها ووضع الأحاديث ، ممّا يحوّلها من قول أو فعل مستحدث إلى سنّة نبويّة ، وهذه المسألة هي من نوعيّة ما ذكرنا ، ولذلك كثر الاختلاف فيها.

ولكنّ الحقّ دائماً لابدّ وأنْ ينتصر ، ولابدّ أنْ يكون هناك آراء فقهيّة عند العامّة تعترف وتقرّر ما كانت عليه الهيئة المطلوبة للصلاة وغيرها ، فكما بيّنا وسنبين أنّ العديد من علماء العامّة ، كالإمام مالك وأصحابه وغيرهم ، قالوا بإسبال اليدين ، وإنّ التكفير منهيٌّ عنه ، وأنّه ليس من سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وإليكم بعض من آراء العلماء واختلافهم ، ثمّ نلحق بعد ذلك مجموعة من الروايات من عند العامّة ، حتّى يتبيّن لك الحقّ ، وأنّ ماعليه الشيعة الإماميّة هو الحقّ الثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال في تحفة الأحوذي : وقال المالكيّة بإرسال اليدين في الصلاة. قال الحافظ ابن القيّم في الأعلام بعد ذكر أحاديث وضع اليدين في الصلاة ما لفظه : فهذه الآثار قد وردت برواية القاسم عن مالك قال : تركُه أحبّ إليّ ، ولا أعلم شيئاً قد ردّت به سواه انتهى. والعجب من المالكيّة أنّهم كيف آثروا رواية القاسم عن مالك ، مع أنّه ليس في إرسال اليدين حديث صحيح ، وتركوا أحاديث وضع اليدين في الصلاة ، وقد أخرج مالك حديث سهل بن سعد المذكور ، وقد عقد له باباً بلفظ : وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة ، فذكر أولاً : أثر عبد الكريم بن أبي المخارق أنّه قال : من كلام النبوّة : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة ، يضع اليمنى على اليسرى وتعجيل الفطر والاستيناس بالسحور. ثمّ ذكر حديث سهل بن سعد المذكور ( ورأى بعضهم أن يضعهما فوق السرّة ، ورأى بعضهم أن يضع تحت السرّة ) قد أجمل الترمذي الكلام في هذا المقام ، فلنا أنْ نفصله.

فاعلم أنّ مذهب الإمام أبي حنيفة : أنّ الرجل يضع اليدين في الصلاة تحت السرّة ، والمرأة تضعهما على الصدر ، ولم يرو عنه ولا عن أصحابه شيء خلاف ذلك ، وأمّا الإمام مالك فعنه ثلاث روايات : إحداها وهي المشهورة عنه ، أنّه يرسل يديه كما نقله صاحب الهداية ، والسرخسي في محيطه ، وغيرهما ، عن مالك. وقد ذكر العلّامة أبو محمّد عبد الله الشاسي المالكيّ في كتابة المسمّى بعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة ، والزرقاني في شرح الموطّأ : أنّ إرسال اليد رواية ابن القاسم عن مالك وزاد الزرقاني أنّ هذا هو الذي صار إليه أكثر أصحابه. الثانية : أنْ يضع يديه تحت الصدر فوق السرّة ، كذا ذكره العيني في شرح الهداية عن مالك ، وفي عقد الجواهر أنّ هذه رواية مطرف والماجشون عن مالك. الثالثة : أنّه تخيّر بين الموضع والإرسال ، وذكر في عقد الجواهر وشرح الموطّأ أنّه قول أصحاب مالك المدنيين.

وأمّا الإمام الشافعيّ فعنه أيضاً ثلاث روايات : إحداها : أنّه يضعهما تحت الصدر فوق السرّة ، وهي التي ذكرها الشافعي في الأمّ ، وهي المختارة المشهورة عند أصحابه المذكورة في أكثر متونهم وشروحهم. الثانية : وضعهما على الصدر ، وهي الرواية التي نقلها صاحب الهداية من الشافعي ، وقال العيني : إنّها المذكورة في الحاوي من كتبهم. الثالثة : وضعهما تحت السرّة ، وقد ذكر هذه الرواية في شرح المنهاج بلفظ : قيل : وقال في المواهب اللدنيّة : إنّها رواية عن بعض أصحاب الشافعي.

وأمّا الإمام أحمد فعنه أيضاً ثلاث روايات : إحداها : وضعهما تحت السرّة ، والثانية : وضعهما تحت الصدر ، والثالثة : التخيير بينهما ، وأشهر الروايات عنه الرواية الأولى ، وعليه جماهير الحنابلة ، هذا كلّه مأخوذ من فوز الكرام للشيخ محمد قائم السنديّ ، ودراهم الصرّة لمحمّد هاشم السندي (2).

وقال في بداية المجتهد ونهاية المقتصد : اختلف العلماء في وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة ، فكره ذلك مالك في الفرض ، وأجازه في النفل. ورأى قوم أنّ هذا الفعل من سنن الصلاة ، وهم الجمهور. والسبب في اختلافهم أنّه قد جاءت آثار ثابتة نقلت فيها صفة صلاته عليه الصلاة والسلام ، ولم ينقل فيها أنّه كان يضع يده اليمنى على اليسرى ، وثبت أيضا أنّ الناس كانوا يؤمرون بذلك. وورد ذلك أيضاً من صفة صلاته عليه الصلاة والسلام في حديث أبي حميد ، فرأى قوم أنّ الآثار التي أثبتت ذلك اقتضت زيادة على الآثار التي لم تنقل فيها هذه الزيادة ، وأنّ الزيادة يجب أنْ يصار إليها. ورأى قوم أنّ الأوجب المصير إلى الآثار التي ليس فيها هذه الزيادة ، لأنّها أكثر ، ولكون هذه ليست مناسبة لأفعال الصلاة ، وإنّما هي من باب الاستعانة ، ولذلك أجازها مالك في النفل ولم يجزها في الفرض (3).

وممّا يؤكّد على أنّ التكفير في الصلاة منهيٌّ عنه وأنّه أمر مستحدث ، وأنّ الإسبال هو الصحيح ، ما سأذكره من روايات قرّر علماء العامّة صحّتها ، وإنْ حاولوا تأويلها كعادتهم بما يتلاءم مع آرائهم وأحكامهم.

فقد روى في نصب الراية أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نهى عن التكفير في الصلاة ، ورواه ابن خزيمة.

وممّا يدلّ على أنّ التكفير والتكتّف في الصلاة كان أمراً غير موجود في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكان مستهجناً أيضا من قبل العديد من الصحابة ، الروايات التالية ، ولكنّها ومع وضوحها ، فإنّهم حاولوا صرفها عن معناها بمعان أخرى ، حتّى لا يطعنوا بما كانوا يؤمرون به بوضع اليد اليمنى على اليسرى.

فقد أورد السيوطي في الجامع الصغير عن ابن عبّاس قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : إنّما مثل الذي يصلّي ورأسه معقوص مثل الذي يصلّي وهو مكتوف. رواه أحمد والطبراني وغيرهم (4).

وروى مسلم في صحيحه أنّ عبد الله بنَ عَبّاسٍ رَأى عَبْدَالله بنَ الحَارِثِ يُصَلّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ ، فَقَامَ فَجَعَلَ يَحُلهُ ، فَلمّا انْصَرَفَ ، أَقْبَلَ إِلَى ابنِ عَبّاسٍ فقال : مَالَكَ وَرَأْسِي ؟ فقال : إِنّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقولُ : إِنّمَا مَثَلُ هَذَا مَثَلُ الّذِي يُصَلّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ. والنسائي وأبو داوود وغيرهمُ (5).

هذه الروايات واضحة في مفهومها ، وصريحة في منطوق معنى كلمة مكتوف ، وليقل المؤوّلون ما يقولون ، وليفسّروها بما يشاؤون ، فهذا ديدنهم في كلّ ما يخالف فتاواهم وتفسيراتهم.

ولكنّ المهمّ هو أنّ ما يقوله الشيعة ، أتباع أهل البيت عليهم السلام ، هو حكم إسلاميّ ، وله أدلّة قويّة عند كلّ مذاهب المسلمين.

الهوامش

1. صحيح البخاري 1 : 180.

2. تحفة الأحوذي 2 : 73 ـ 74.

3. بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1 : 112.

4. الجامع الصغير 1 : 398 ، مسند أحمد 1 : 316 ، المعجم الكبير 11 : 334.

5. صحيح مسلم 2 : 53 ، سنن النسائي 2 : 215 ـ 216 ، سنن أبي داود 1 : 153.

مقتبس من كتاب : [ نهج المستنير وعصمة المستجير ] / الصفحة : 428 ـ 433