المنصور العباسي مؤسس بغداد

طباعة

المنصور العباسي مؤسس بغداد

شخصية المنصور وأسرته

أبو جعفر المنصور العباسي ، أو المنصور الدوانيقي ، هو ثاني الخلفاء العباسيين وهو مؤسس الدولة العباسية ، ومؤسس المذاهب الأربعة ، ومؤسس بغداد .

إسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب . وكان جده عبد الله بن عباس من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان معه في حروبه مع عائشة وطلحة والزبير ومعاوية والخوارج ، ثم كان ضد يزيد بن معاوية ، وضد ابن الزبير ، وقد نفاه الأخير من مكة ، فسكن الطائف وتوفي فيها .

وكان ابنه الصغير علي بن عبد الله أحب أبنائه اليه ، فأوصاه أن يذهب بعد وفاته الى الشام ، لأن بني أمية خير له من آل الزبير ، فهم وبنو هاشم أولاد عبد مناف .

وسكن ابنه علي في الشام وأكرمه الأمويون ، وبعده ابنه محمد ، حتى غضب عليه الخليفة الأموي فأبعده الى الأردن ، وكان يعطيه نفقته .

وبرز ابنه إبراهيم بن محمد الذي تبناه قائد الثورة الخراسانية أبو سلمة الخلال ، فسجنه الخليفة الأموي مروان بن محمد المعروف بمروان الحمار ، ومات في السجن . وهرب إخوته السفاح والمنصور وغيرهم من بني العباس ، وكانوا يتابعون أخبار ثورة الخراسانيين على الأمويين ، لأنها كانت تحت شعار إعادة الحق الى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله .

ولما انتصرت الثورة ووصلت قوات أبي مسلم الخراساني الى الكوفة ، جاء العباسيون اليها ، لكن قائد الثورة أبا سلمة الخلال حبسهم في بيت ، وأرسل مبعوثاً الى الإمام جعفر الصادق عليه السلام يعرض عليه البيعة بالخلافة ، فلم يقبل ، فعرضها على عبد الله بن الحسن فلم يقبلها له وأرادها لابنه محمد ، فقام أبو سلمة ببيعة السفاح واسمه أيضاً عبد الله .

كان السفاح أصغر من المنصور بعشر سنين ، فقد ولد المنصور سنة 95 هجرية وولد السفاح سنة 104 ، وزعموا أن أباهما أوصى للسفاح بعد إبراهيم ، لأنه أصغر إخوته ، وأمه حارثية من آل عبد المدان ، وأم المنصور أمَةٌ فارسية .

وحكم السفاح أربع سنوات وكانت عاصمته الأنبار ، وتوفي سنة 136 فجأة وهو شاب وعمره 35 سنة ، وقالوا إنه أوصى للمنصور الذي كان عمره يومها 41 سنة ، فحكم نحو 23 ، وجعل الخلافة في أولاده ، ولم تخرج منهم .

« وكان ( المنصور ) أسمر طويلاً ، نحيف الجسم ، خفيف العارضين ، يخضب بالسواد » . ( تاريخ دمشق : 32 / 346 ) . وأمه سلامة ، وهي أمة ( التنبيه للمسعودي / 295 ) من بلدة إيذة الفارسية في الأهواز ، وقد ولدت بالبصرة ، وأخذت ابنها المنصور الى بلدها إيذة ، فقد عمل فيها جابياً ، وتزوج وولد ابنه المهدي فيها !

ولم تكن سلامة محترمة ، فقد وصفها عبد الله عم المنصور بالزانية قال : « أفَعَلَها ابن سلامة الفاعلة ، لا يكني » ! ( أنساب الأشراف / 1007 ) .

وقد كتبنا في جواهر التاريخ ترجمة وافية للمنصور ، وأبرز صفاته ، وخططه لإبادة أبناء علي وفاطمة عليهما السلام ، وقتله الإمام الصادق عليه السلام .

2 ـ نَقَّلَ المنصور العاصمة حتى استقر في بغداد

نقل المنصور عاصمته من الأنبار الى الحيرة ، ثم الى الهاشميات قرب الكوفة ، ثم بنى بغداد وسكن فيها . قال في معجم البلدان : 1 / 459 : « فأنفق المنصور على عمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار .. وذاك أن الأستاذ من الصناع كان يعمل في كل يوم بقيراط إلى خمس حبات ، والروزجاري ( العامل ) بحبتين إلى ثلاث حبات ، وكان الكبش بدرهم ، والحمل بأربعة دوانيق ، والتمر ستون رطلاً بدرهم ... وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الآخر ميل ، وفي كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنان وستون ألف لبنة من اللبن الجعفري ...

وكان المنصور كما ذكرنا بنى مدينته مدورة وجعل داره وجامعها في وسطها ، وبنى القبة الخضراء فوق إيوان ، وكان علوها ثمانين ذراعاً ، وعلى رأس القبة صنم على صورة فارس في يده رمح ... وسقط رأس هذه القبة سنة 329 ، وكان يوم مطر عظيم ورعد هائل ، وكانت هذه القبة تاج البلد وعلم بغداد ، ومأثرة من مآثر بني العباس ، وكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة ... وكان لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من شيء من الأبواب إلا راجلاً .. فقال له عمه عبد الصمد : يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير ، فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب فلم يأذن له .. ثم أقطع المنصور أصحابه القطائع فعمروها » .

وفي الطبري : 6 / 237 ، و 297 : « وبعث إلى راهب في الصومعة فقال : هل عندك علم أن يبنى هاهنا مدينة ؟ فقال له : بلغني أن رجلاً يقال له مقلاص يبنيها ! قال أنا والله مقلاص » ! « فرآه راهب كان هناك وهو يقدِّر بناءها فقال : لا تتم ! فبلغه فأتاه فقال : نعم ، نجد في كتبنا أن الذي يبنيها ملك يقال له مقلاص ! قال أبو جعفر : كانت والله أمي تلقبني في صغري مقلاصاً » ! ( تاريخ بغداد : 1 / 87 ) .

وأصل المقلاص : الناقة السمينة ( الصحاح : 3 / 1053 ) وسمي به سارق مشهور كان يسرق النوق السِّمان ! ففي هامش النهاية لابن كثير : 10 / 108 : « مقلاص : إسم لص كانت تضرب به الأمثال ، وكان أبو جعفر المنصور صبياً سرق غزلاً لعجوز كانت تخدمه وباعه لينفق على أتراب له ، فلما علمت بفعلته سمته مقلاصاً ، وغلب عليه هذا اللقب » . وتاريخ الذهبي : 9 / 33 ، والنهاية : 10 / 108 .

وسماه أمير المؤمنين عليه السلام بذلك في خطبته عن بني عباس ! قال عليه السلام : « وتبنى مدينة يقال لها الزوراء بين دجلة ودجيل والفرات ، فلو رأيتموها مشيدة بالجص والآجر مزخرفة بالذهب والفضة واللازورد المستسقى والمرموم والرخام وأبواب العاج والأبنوس .. وتوالت ملوك بني الشيبصان ( أي الشيطان ) أربعة وعشرون ملكاً على عدد سني الملك ، فيهم السفاح والمقلاص والجموح والخدوع والمظفر والمؤنث والنطار والكبش والكيسر والمهتور والعيار الخ . » . ( كفاية الأثر / 213 ، والمناقب : 2 / 108 ) .

3 ـ ظلم بني العباس أشهر من كفر إبليس !

كان السفاح أول خلفاء بني العباس ليناً أكثر من بقيتهم ! وكان شيعياً كبقية إخوته ، فقد خطب عمه داود بن علي في مراسم بيعته فقال : « أيها الناس ! الآن تقشعت حنادس الفتنة .. وأخذ القوس باريها ، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم ، أهل الرأفة بكم والرحمة لكم والتعطف عليكم .. وإنه والله أيها الناس ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولى به من علي بن أبي طالب ، وهذا القائم خلفي ، فاقبلوا عباد الله ما آتاكم بشكر » . ( اليعقوبي : 2 / 350 ) .

وحكم السفاح أربع سنوات ومات دفعة ، وتولى بعده أخوه المنصور وكان أكبر منه بعشر سنوات ، ولا يبعد أنه سمه !

وحكم المنصور نحو 23 سنة ، وأباد أعمامه وإخوته أو أخضعهم ، وحصر الخلافة في أولاده ، فلم يحكم بعده أحدٌ إلا من أولاده !

وظلم بني العباس أشهر من كفر إبليس ! فقد شكى أحد من ظلمهم فحكم عليه المنصور أن يدفن حياً ! قال سديف الشاعر :

« إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا

 

بعد التباعد والشحناء والإحن

وتنقضي دولة أحكام قادتها

 

فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فطالما قد بروا في الجور أعظمنا

 

بري الصناع قداح النبع بالسفن

فكتب المنصور إلى ( عمه حاكم المدينة ) عبد الصمد بن علي بأن يدفنه حياً ، ففعل » !

وقال أبو عطاء : يا ليت جور بني مروان دام لنا وليت عدل بني العباس في النار !

( حياة الإمام الرضا عليه السلام للسيد جعفر مرتضى / 107 ، وشرح إحقاق الحق : 3 / 421 ، عن العمدة لابن رشيق : 1 / 58 ، طبع مصر ) .

وقال المنصور لأعرابي في الشام : « أحمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت ! قال : إن الله تعالى لا يجمع علينا ولايتكم والطاعون ! فسكت ولم يزل يطلب له العلل حتى قتله ! ( تاريخ دمشق : 32 / 319 ، والنهاية : 10 / 131 ) .

وفي الإمامة والسياسة لابن قتيبة : 2 / 144 ، أن المنصور سأل ابن أبي ذؤيب ، ومالك بن أنس ، وابن سمعان ، وهم أئمة عند السنة : « أي الرجال أنا عندكم ، أمن أئمة العدل ، أم من أئمة الجور ؟ فقال مالك : فقلت يا أمير المؤمنين ، أنا متوسل إليك بالله تعالى وأتشفع إليك بمحمد وبقرابتك منه ، إلا ما أعفيتني من الكلام في هذا ! قال : قد أعفاك أمير المؤمنين ، ثم التفت إلى ابن سمعان فقال له : أيها القاضي ناشدتك الله تعالى أي الرجال أنا عندك ؟ فقال ابن سمعان : أنت والله خير الرجال يا أمير المؤمنين ، تحج بيت الله الحرام ، وتجاهد العدو ، وتؤمن السبل ويأمن الضعيف بك أن يأكله القوي ، وبك قوام الدين ، فأنت خير الرجال وأعدل الأئمة !

ثم التفت إلى ابن أبي ذؤيب فقال له : ناشدتك الله أي الرجال أنا عندك ؟ قال : أنت والله عندي شر الرجال ، استأثرت بمال الله ورسوله ، وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين ، وأهلكت الضعيف وأتعبت القوي وأمسكت أموالهم ، فما حجتك غداً بين يدي الله ؟

فقال له أبو جعفر : ويحك : ما تقول ، أتعقل ؟ أنظر ما أمامك ! قال : نعم ، قد رأيت أسيافاً ، وإنما هو الموت ولا بد منه ، عاجله خير من آجله !

ثم خرجا وجلست ، قال : إني لأجد رائحة الحنوط عليك ! قلت : أجل : لما نمى إليك عني ما نمى وجاءني رسولك في الليل ظننته القتل ، فاغتسلت وتطيبت ولبست ثياب كفنيّ ! فقال أبو جعفر : سبحان الله ما كنت لأثلم الإسلام وأسعى في نقضه ، أوَما تراني أسعى في أود الإسلام وإعزاز الدين عائذاً بالله مما قلت يا أبا عبد الله ، إنصرف إلى مصرك راشداً مهدياً ، وإن أحببت ما عندنا فنحن ممن لا يؤثر عليك أحداً ، ولا يعدل بك مخلوقاً !

فقلت : إن يجبرني أمير المؤمنين على ذلك فسمعاً وطاعة ، وإن يخيرني أمير المؤمنين اخترت العافية . فقال : ما كنت لأجبرك ولا أكرهك ، إنقلب معافى مكلوءً . قال : فبت ليلتي ، فلما أصبحنا أمر أبو جعفر بصرر دنانير ، في كل صرة خمسة آلاف دينار ، ثم دعا برجل من شرطته فقال له : تقبض هذا المال وتدفع لكل رجل منهم صرة ، أما مالك بن أنس إن أخذها فبسبيله وإن ردها لا جناح عليه فيما فعل ، وإن أخذها ابن أبي ذؤيب فأتني برأسه ! وإن ردها عليك فبسبيله لا جناح عليه . وإن يكن ابن سمعان ردها فأتني برأسه وإن أخذها فهي عافيته ! فنهض بها إلى القوم ، فأما ابن سمعان فأخذها فسلم ، وأما ابن أبي ذؤيب فردها فسلم ، وأما أنا فكنت والله محتاجاً إليها فأخذتها » !

أقول : وهذا من دهاء المنصور ، ولا بد أنه قتله سراً بالسم ونحوه !

4 ـ الثروة التي ورَّثها المنصور لابنه

قال الربيع الحاجب : « مات المنصور وفي بيت المال شيء لم يجمعه خليفة قط قبله مائة ألف ألف درهم وستون ألف ألف درهم ، فلما صارت الخلافة إلى المهدي قسم ذلك وأنفقه . وقال الربيع : نظرنا في نفقة المنصور فإذا هو ينفق في كل سنة ألفي درهم ، مما يجئ من مال الشراة » . ( تاريخ بغداد : 3 / 11 ) .

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام : 10 / 438 : « جمع من الأموال ما لا يعبر عنه ، وكان مسيكاً ( بخيلاً ) ، فذكر عن الربيع الحاجب أنه قال : مات المنصور وفي بيت المال مائة ألف ألف درهم وستون ألف ألف درهم .. وَزن ذلك المال بالقنطار الدمشقي ألف قنطار وست مائة قنطار وسبعون ، وإذا صرف بها ذهب مصري جاء أزيد من مائة قنطار وسبعين قنطاراً » .

« فتح المنصور يوماً خزانة مما قبض من خزائن مروان بن محمد فأحصى فيها اثني عشر ألف عدل خز ، فأخرج منها ثوباً وقال : يا ربيع إقطع من هذا الثوب جبتين لي واحدة ولمحمد واحدة ، فقلت : لا يجيء منه هذا . قال : فاقطع لي منه جبة وقلنسوة ، وبخل بثوب آخر يخرجه للمهدي ! فلما أفضت الخلافة إلى المهدي أمر بتلك الخزانة بعينها ففرقت على الموالي والغلمان » . ( تاريخ بغداد : 3 / 11 ) .

« قال لي المهدي : يا ربيع قم بنا حتى ندور في خزائن أمير المؤمنين ، قال فدرنا فوقفنا على بيت فيه أربع مائة حِبّ مطينة الرؤوس ، قال فقلنا : ما هذه ؟ قيل : هذه فيها أكباد مُملحة ، أعدها المنصور للحصار » . ( تاريخ دمشق : 32 / 332 ) .

5 ـ كان المنصور شيعياً قبل ثورة الحسنيين !

كان المنصور شيعياً وبايع مهدي الحسنيين الذين ثاروا على الأمويين لإعادة الخلافة لآل النبي صل~ى الله عليه وآله ، وكان شعارهم البراءة من بني تيم وعدي ، وبني أمية !

وكان المنصور يخدم محمداً « قال عمير بن الفضل الخثعمي : رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه ، وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود ، وأبو جعفر ينتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب ، ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد ! فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمدا : من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه ، وسويت عليه ثيابه ؟ قال : أوَما تعرفه ؟ قلت : لا . قال : هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، مهدينا أهل البيت » . ( مقاتل الطالبيين / 161 ) .

كما خطب عمه داود بن علي في مراسم بيعة السفاح ، فقال : « وإنه والله أيها الناس ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولى به من علي بن أبي طالب ، وهذا القائم خلفي ، فاقبلوا عباد الله ما آتاكم بشكر » . ( تاريخ اليعقوبي : 2 / 350 ) .

كما كان العديد من وزراء المنصور وأنصاره شيعة ، وقد أقطعهم إقطاعات في بغداد ، كآل يقطين وآل نوبخت .

6 ـ المنصور مهندس الخلافة ومهندس المذاهب !

بعد عشر سنوات من خلافته ، كان المنصور مشغولاً ببناء بغداد ، فواجه ثورة الحسنيين الخطيرة ، فانشغل بها عن كل شيء ، حيث أيد الحسنيين كبار فقهاء الحجاز والعراق مثل مالك بن أنس وأبي حنيفة وسفيان الثوري ، وأفتوا بوجوب الثورة معهم على المنصور ! وسماه أبو حنيفة : « لص الخلافة » !

وسيطر الحسنيون على الحجاز والبصرة والأهواز وواسط ، وهزم جيشهم الكثيف جيش المنصور ووصل الى مشارف الكوفة ، وتهيأ المنصور للهرب لولا أن قائد الحسنيين إبراهيم بن عبد الله بن الحسن المثنى ، أصابه سهم طائش فقتله ، فاستعاد المنصور النصر عليهم !

وبعد انتصاره رابط في الكوفة ، واشتغل بترتيب أوضاع الحجاز والعراق ، بل بترتيب مستقبل الدولة العباسية ، واتخذ في ذلك قرارات تاريخية هامة ، سياسية وعقائدية وفقهية ، كانت وما زالت هي الحاكمة على حياة المسلمين وثقافتهم !

وبذلك صار المنصور عمر بن الخطاب الثاني ، لأن الأول كان مهندس الخلافة الإسلامية وخطوط ثقافتهم العامة ، وكان المنصور المهندس الثاني للخلافة ومذاهبها الفقهية وعقائدها وتفاصيل ثقافتها !

وأبرز مراسيمه وقراراته ستة :

الأول : تأسيس مذاهب مقابل مرجعية الإمام الصادق عليه السلام

يعترف أئمة المذاهب بأن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أبُ المذاهب الفقهية ، وأستاذ أئمتها ، ويروون تعظيمهم له عليه السلام علمياً وفقهياً وتقوى !

لذلك قرر المنصور أن يؤسس مذاهب فقهية بإمامة تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام ليصرف مرجعية المسلمين منه اليهم !

قال الذهبي في سيره ( 8 / 111 ) وابن خلدون في مقدمته / 18 ، إن المنصور أحضر مالك بن أنس وقال له بدهائه : « لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك ! وإني قد شغلتني الخلافة ، فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به ، تجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ووطئه للناس توطئة . قال مالك : فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ » !

وقال القاضي عياض في ترتيب المدارك / 124 : « قال مالك : فقلت له : إن أهل العراق لا يرضون علمنا ( لأنهم شيعة أو متأثرون بهم ) !

قال : يُضربُ عليه عامَّتُهم بالسيف وتقطع عليه ظهورهم بالسياط » !

وشرط عليه المنصور أن لا يروي عن علي عليه السلام ! ولذلك لا تجد في الموطأ أي رواية عن علي عليه السلام ! ( مستدرك الوسائل : 1 / 20 ) .

وقد أسس مالك المذهب المالكي ، مع أنه يقول : « ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد ، فضلاً وعلماً وورعاً ، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال : إما صائماً وإما قائماً وإما ذاكراً . وكان من عظماء البلاد ، وأكابر الزهاد الذين يخشون ربهم ، وكان كثير الحديث طيب المجالسة كثير الفوائد ، فإذا قال : قال رسول الله اخْضَرَّ مرةً واصْفَرَّ أخرى حتى لينكره من لا يعرفه » . ( مناقب آل أبي طالب : 3 / 396 ) .

وقال مالك أيضاً : « اختلفتُ إلى جعفر بن محمد زماناً ، وما كنت أراه إلا على ثلاث خصال : إما مصل ، وإما صائم ، وإما يقرأ القرآن ، وما رأيته يحدِّث عن رسول الله (ص) إلا على طهارة . وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه ، وكان من العلماء العباد الزهاد الذين يخشون الله .

ولقد حججت معه سنة ، فلما أتى الشجرة أحرم ، فكلما أراد أن يُهِلَّ كاد يغشى عليه فقلت له : لا بد لك من ذلك ، وكان يكرمني وينبسط إلي ، فقال : يا ابن أبي عامر إني أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك ، فيقول : لا لبيك ولا سعديك !

ولقد أحرم جده علي بن حسين ، فلما أراد أن يقول اللهم لبيك أو قالها ، غُشِيَ عليه وسقط عن ناقته » ( التمهيد لابن عبد البر : 2 / 67 ، وبعضه تهذيب التهذيب : 2 / 88 ) .

ولو سألت مالكاً : ما دامت هذه عقيدتك في أستاذك ، فلماذا أسست مذهباً ضده ولماذا لم ترو عنه في كتابك الموطأ إلا خمسة أحاديث ؟!

فجوابه : إن المنصور العباسي أمره بذلك ، والمأمور معذور !

وكذلك حال أبي حنيفة ، فقد سئل : « من أفقه من رأيت ؟ قال : جعفر بن محمد ، لمَّا أقْدَمَهُ المنصور بعث إليَّ فقال : يا أبا حنيفة إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد ، فهيّءَ له مسائلك الشداد ، فهيأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إليَّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه ، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر ، فسلمت عليه فأومأ إليَّ فجلست ، ثم التفت إليه فقال : يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة . فقال : نعم أعرفه . ثم التفت إليَّ فقال : ألق على أبي عبد الله من مسائلك ، فجعلت ألقي عليه ويجيبني ، فيقول : أنتم تقولون وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعنا ، وربما تابعهم ، وربما خالفنا جميعاً ، حتى أتيت على الأربعين مسألة فما أخل منها بشيء ! ثم قال أبو حنيفة : أليس قد روينا : أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس » ! ( المناقب : 3 / 378 ، وتهذيب الكمال : 5 / 79 ، وسير الذهبي : 6 / 258 .. وغيره ) .

ولو سألت أبا حنيفة : ما دامت هذه عقيدتك في أستاذك ، فلماذا أسست مذهباً ضده ، وخالفت فقهه ؟ فجوابه : هكذا أمرني أبو جعفر المنصور ، والمأمور معذور !

وقال الذهبي في سيره : 6 / 257 : « عن عمرو بن أبي المقدام قال : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين ! قد رأيته واقفاً عند الجمرة يقول : سلوني ، سلوني ! وعن صالح بن أبي الأسود : سمعت جعفر بن محمد يقول سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي » !

وقال ابن حجر في الصواعق / 201 : « ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان . روى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ، ومالك ، والسفيانين ، وأبي حنيفة ، وشعبة ، وأيوب السجستاني » .

وقال الشيخ محمد أبو زهرة : « لا نستطيع في هذه العجالة أن نخوض في فقه الإمام جعفر ، فإنّ أُستاذ مالك وأبي حنيفة وسفيان بن عيينة ، لا يمكن أن يدرس فقهه في مثل هذه الإلمامة » .

وقال ابن أبي الحديد : « أما أصحاب أبي حنيفة فأخذوا عن أبي حنيفة ، وأما الشافعي فهو تلميذ تلميذ أبي حنيفة ، وأما ابن حنبل فهو تلميذ الشافعي . وأبو حنيفة قرأ على جعفر الصادق ، وعلمه ينتهي إلى علم جده علي عليه السلام » .

وقال الإيجي في المواقف : 3 / 638 : « كان أبو يزيد ( البسطامي ) مع علو طبقته سَقَّاءً في دار جعفر الصادق رضي الله عنه ، وكان معروف الكرخي بواب دار علي بن موسى الرضا ، هذا مما لا شبهة في صحته ، فإن معروفاً كان صبياً نصرانياً فأسلم على يد علي بن موسى وكان يخدمه . وأما أبو يزيد فلم يدرك جعفراً بل هو متأخر عن معروف ، ولكنه كان يستفيض من روحانية جعفر » . والطرائف / 520 .

وترجم الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء : 3 / 192 ، للإمام الصادق عليه السلام بتفصيل ، ومما قاله : « الإمام الناطق ذو الزمام السابق ، أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق ، أقبل على العبادة والخضوع ، وآثر العزلة والخشوع ، ونهى عن الرئاسة والجموع ..

أحمد بن عمرو بن المقدام الرازي قال : وقع الذباب على المنصور فذبه عنه ، فعاد فذبه حتى أضجره ، فدخل جعفر بن محمد عليه فقال له المنصور : يا أبا عبدالله لم خلق الله الذباب ؟ قال : ليُذَلَّ به الجبابرة !

وأقبل على أبي حنيفة فقال : يا نعمان حدثني أبي عن جدي أن رسول الله (ص) قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له : أسجد لآدم ، فقال : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ . فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس ، لأنه اتبعه بالقياس !

ثم قال جعفر : أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا ؟ قال قتل النفس . قال : فإن الله عز وجل قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة ! ثم قال : أيهما أعظم الصلاة أم الصوم ؟ قال : الصلاة ، قال : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فكيف ويحك يقوم لك قياسك ! إتق الله ولا تقس الدين برأيك » .

الثاني : إبادة العلويين حتى أطفالهم !

اتخذ المنصور قراراً بإبادة العلويين جميعاً حتى لو لم يقوموا بعمل ضد حكمه !

قال المفيد رحمه الله في الإرشاد : 1 / 311 : « ومن آيات الله تعالى فيه ( أمير المؤمنين عليه السلام ) أنه لم يُمْنَ أحد في ولده وذريته بما مني عليه السلام في ذريته ، وذلك أنه لم يعرف خوف شمل جماعة من ولد نبي ولا إمام ولا ملك زمان ولا بر ولا فاجر ، كالخوف الذي شمل ذرية أمير المؤمنين عليه السلام ، ولا لحق أحداً من القتل والطرد عن الديار والأوطان والإخافة والإرهاب ما لحق ذرية أمير المؤمنين عليه السلام وولده !

ولم يجر على طائفة من الناس من ضروب النكال ما جرى عليهم من ذلك ، فقتلوا بالفتك والغيلة والإحتيال ، وبني على كثير منهم وهم أحياء البنيان ، وعذبوا بالجوع والعطش حتى ذهبت أنفسهم على الهلاك ، وأحوجهم ذلك إلى التمزق في البلاد ومفارقة الديار والأهل والأوطان ، وكتمان نسبهم عن أكثر الناس ! وبلغ بهم الخوف إلى الإستخفاء من أحبائهم فضلاً عن الأعداء ، وبلغ هربهم من أوطانهم إلى أقصى الشرق والغرب والمواضع النائية في العمران ، وزهد في معرفتهم أكثر الناس ، ورغبوا عن تقريبهم والإختلاط بهم ، مخافة على أنفسهم وذراريهم من جبابرة الزمان » !!

وقال الحاكم الأنماطي النيسابوري كما في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 2 / 102 : « لما بني المنصور الأبنية ببغداد ، جعل يطلب العلوية طلباً شديداً ، ويجعل من ظفر منهم في الأسطوانات المجوفة المبنية من الجص والآجر ! فظفر ذات يوم بغلام منهم حسن الوجه ، عليه شعر أسود من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، فسلمه إلى البناء الذي كان يبني له وأمره أن يجعله في جوف أسطوانة ويبني عليه ووكل عليه من ثقاته من يراعي ذلك حتى يجعله في جوف أسطوانة بمشهده ! فجعله البناء في جوف أسطوانة فدخلته رقه عليه ورحمه له ، فترك الأسطوانة فرجه يدخل منها الروْح ، فقال للغلام : لا باس عليك فاصبر فإني سأخرجك من جوف هذه الأسطوانة إذا جن الليل ، فلما جن الليل جاء البناء في ظلمه فأخرج ذلك العلوي من جوف تلك الأسطوانة وقال له : إتق الله في دمى ودم الفعلة الذين معي وغيب شخصك فإني إنما أخرجتك ظلمة هذه الليلة من جوف هذه الأسطوانة لأني خفت إن تركتك في جوفها أن يكون جدك رسول الله صلى الله عليه وآله يوم القيامة خصمي بين يدي الله عز وجل ، ثم أخذ شعره بآلات الجصاصين كما أمكن وقال : غيب شخصك وانج بنفسك ، ولا ترجع إلى أمك . فقال الغلام : فإن كان هذا هكذا فعرِّف أمي أني قد نجوت وهربت ، لتطيب نفسها ويقل جزعها وبكاؤها وإن لم يكن لعودي إليها وجه ! فهرب الغلام ولا يدرى أين قصد من وجه أرض الله تعالى ولا إلى أي بلد وقع ؟! قال ذلك البنَّاء : وقد كان الغلام عرفني مكان أمه وأعطاني العلامة ، فأنهيت إليها في الموضع الذي دلني عليه فسمعت دوياً كدوي النحل من البكاء ، فعلمت أنها أمه فدنوت منها وعرفتها خبر ابنها وأعطيتها شعره وانصرفت » .

وقد تقدم قول الإمام الصادق عليه السلام كما في مقاتل الطالبيين / 233 : « لما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بباخمرى ، حُسرنا عن المدينة ولم يُترك فيها منا محتلم ، حتى قدمنا الكوفة ، فمكثنا فيها شهراً ، نتوقع فيها القتل .. الخ . » !

وقال الصدوق رحمه الله في عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1 / 100 : « باب ذكر من قتله الرشيد من أولاد رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد قتله لموسى بن جعفر عليهما السلام بالسم في ليله واحدة ، سوى قتل منهم في سائر الأيام والليالي !

حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن الحسن البزاز ... حدثني عبيد الله البزاز النيسابوري وكان مسناً قال : كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة فرحلت إليه في بعض الأيام فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت وعليَّ ثياب السفر لم أغيرها ، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر ، فلما دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء فسلمت عليه وجلست ، فأتيَ بطشت وإبريق فغسل يديه ، ثم أمرني فغسلت يدي وأحضرت المائدة ، وذهب عني أني صائم وأني في شهر رمضان ، ثم ذكرت فأمسكت يدي ، فقال لي حميد : ما لك لا تأكل ؟ فقلت : أيها الأمير هذا شهر رمضان ولست بمريض ولا بي علةٌ توجب الإفطار ، ولعل الأمير له عذر في ذلك أو علة توجب الإفطار ! فقال : ما بي علةٌ توجب الإفطار وإني لصحيح البدن ، ثم دمعت عيناه وبكى ! فقلت له بعد ما فرغ من طعامه : ما يبكيك أيها الأمير ؟ فقال : أنفذ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب ، فلما دخلت عليه رأيته بين يديه شمعة تتقد وسيفاً أخضر مسلولاً ، وبين يديه خادم واقف . فلما قمت يديه رفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنفس والمال ! فأطرق ثم أذن لي في الانصراف ، فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إليَّ وقال : أجب أمير المؤمنين ، فقلت في نفسي : إنا لله ، أخاف يكون قد عزم على قتلي وإنه لما رآني استحيا مني ! وقعدت إلى بين يديه فرفع رأسه إليَّ فقال : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنفس والمال والأهل والولد ! فتبسم ضاحكاً ، ثم أذن لي في الإنصراف ، فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد إليَّ الرسول فقال : أجب أمير المؤمنين ، فحضرت بين يديه وهو على حاله ، فرفع رأسه إليَّ وقال لي : كيف طاعتك لأمير المؤمنين ؟ فقلت : بالنفس والمال والأهل والولد والدين ! فضحك ثم قال لي : خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم !

قال : فتناول الخادم السيف وناولنيه وجاء بي إلى بيت بابه مغلق ففتحه ، فإذا فيه بئر في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة ، ففتح باب بيت منها فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب ، شيوخ وكهول وشبان ، مقيدون .

فقال لي : إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء وكانوا كلهم علوية من ولد علي وفاطمة ، فجعل يُخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ، حتى أتيت على آخرهم ! ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر .

ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضاً عشرون نفساً من العلوية من ولد علي وفاطمة ، مقيدون فقال لي : إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء ، فجعل يُخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ويرمى به في تلك البئر ، حتى أتيت على آخرهم !

ثم فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد علي وفاطمة مقيدون عليهم الشعور والذوائب ، فقال لي : إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضاً ، فجعل يُخرج إليَّ واحداً بعد واحد فأضرب عنقه ويرمى به في تلك البئر حتى أتيت على تسعه عشر نفساً منهم ، وبقى شيخٌ منهم عليه شعر فقال لي : تباً لك يا ميشوم ! أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت عليه جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وقد قتلت من أولاده ستين نفساً قد ولدهم عليٌّ وفاطمة ؟! فارتعشت يدي وارتعدت فرايصي فنظر إليَّ الخادم مغضباً وزبرني ! فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته ورمى به في تلك البئر !

فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله فما ينفعني صومي وصلاتي ! وانا لا أشك أني مخلد في النار !

قال مصنف هذا الكتاب : للمنصور مثل هذه الفعلة في ذريه رسول الله صلى الله عليه وآله » !

أقول : ولم يكتف المنصور بذلك حتى أوصى ابنه بمواصلة سياسته في إبادة أبناء علي وفاطمة عليهما السلام ، وابتكر لوصيته أسلوباً خاصاً لتكون مؤثرة في ابنه !

قال الطبري في تاريخه : 6 / 343 : « لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي ، وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر ، فأوصاها بما أراد وعهد إليها ودفع إليها مفاتيح الخزائن ، وتقدم إليها وأحلفها ووكد الأَيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن ، ولا تطلع عليها أحداً الا المهدي ولا هي إلا أن يصح عندها موته فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدى وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة ! فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إليها فيه ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحداً حتى يصح عندها موته ، فلما انتهى إلى المهدى موت المنصور وولي الخلافة ، فتح الباب ومعه ريطة فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم ! وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ ، عدة كثيرة ! فلما رأى ذلك ارتاع لما رأى ، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها ، وعمل عليهم دكاناً » . أي بنى عليهم بناء ، والأزج غرفة مخروطية داخل تلك الغرفة فيها جماجم القتلى العلويين رحمهم الله . ( لسان العرب : 2 / 208 ، والصحاح : 1 / 298 ) .

ويقصد المنصور من كتابة نسب كل واحد منهم في رقعة أن يقول لابنه لا تخف من النسب وكونهم أبناء النبي صلى الله عليه وآله وذريته من فاطمة وعلي عليهما السلام !

الثالث : أحيا المنصور حملة الأمويين ضد علي عليه السلام !

فقد شدد في النهي عن رواية فضائل علي عليه السلام وعاقب من يرويها ، كما أصدر مرسوماً أمر فيه بتعظيم أبي بكر وعمر على المنابر ، لأنهم خصوم علي عليه السلام .

روى الحافظ ابن المغازلي في فضائل علي عليه السلام / 226 ، والحافظ ابن حسنويه الحنفي ، بسنده عن سلمان بن الأعمش عن أبيه قال : « وجّه إليَّ المنصورُ فقلت للرسول : لما يريدني أمير المؤمنين ؟ قال : لا أعلم ، فقلت : أبلغه أني آتيه ، ثمّ تفكرتُ في نفسي فقلت : ما دعاني في هذا الوقت لخير ، ولكن عسى أن يسألني عن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فإن أخبرته قتلني !

قال : فتطهرتُ ولَبستُ أكفاني وتحنَّطتُ ثم كتبت وصيتي ، ثمّ صرت إليه فوجدت عنده عمرو بن عُبيد ، فحمدت الله تعالى على ذلك وقلت : وجدت عنده عون صدق من أهل النصرة . فقال لي : أدن يا سليمان فدنوت ، فلمّا قرُبتُ منه أقبلتُ على عمرو بن عُبيد أُسائله وفاح مِنّي ريح الحُنوط . فقال : يا سليمان ما هذه الرائحة ؟ والله لتصْدُقني وإلّا قتلتُك . فقلت : يا أمير المؤمنين أتاني رسولك في جَوف الليل فقلت في نفسي : ما بعث إليّ أمير المؤمنين في هذه السّاعة إلّا ليسألني عن فضائل عليّ فان أخبرته قتلني ، فكتبتُ وصيّتي ولبستُ كفَني وتحنَّطَتُ . فاستوى جالساً وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم . ثم قال : أتدري يا سلمان ما اسمي ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين دعنا الساعة من هذا . فقال : ما اسمي ؟ فقلت : عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب . قال : صدقت فأخبرني بالله وقرابتي من رسول الله كم رويت من حديث علي بن أبي طالب وكم من فضيلة من جميع الفقهاء ؟ قلت : شيء يسير يا أمير المؤمنين . قال : كم ؟ قلت : مقدار عشرة آلاف حديث وما يزداد . قال : يا سلمان ألا أحدثك بحديث في فضائل علي يأكل كل حديث رويته عن جميع الفقهاء ، فإن حلفت لا ترويها لأحد من الشيعة حدثتك بها ! قال : لا أحلف ولا أحدث بها . قال : إسمع . كنت هارباً من بني مروان وكنت أدور البلدان أتقرب إلى الناس بحب علي وفضائله .. الخ . » .

ولم يقتل المنصور الأعمش يومها ، لكن من الطبيعي أن يكون قتله بعدها بالسم !

الرابع : أمر بتعظيم أبي بكر وعمر لأنهما خصوم علي عليه السلام

قال البياضي في الصراط المستقيم : 3 / 204 : « لمَّا وقع بينه وبين العلوية خلاف قال : والله لأرغمن أنفي وأنوفهم ، ولأرفعن عليهم بني تيم وعدي ، وذكر الصحابة في خطبته ، واستمرت البدعة إلى الآن » !

وقال العلامة الحلي رحمه الله في منهاج الكرامة / 69 : « ابتدعوا أشياء اعترفوا بأنها بدعة ، وأن النبي صلّى الله عليه وآله قال : كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فإن مصيرها إلى النار . وقال : من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو ردٌّ عليه ! ولو رُدُّوا عنها كرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم ، كذكر الخلفاء في خطبتهم ، مع أنه بالإجماع لم يكن في زمن النبي صلّى الله عليه وآله ولا في زمن أحد من الصحابة والتابعين ، ولا في زمن بني أمية ولا في صدر ولاية العباسيين ، بل هو شيء أحدثه المنصور لما وقع بينه وبين العلوية فقال : والله لأرغمن أنفي وأنوفهم ، وأرفعن عليهم بني تيم وعدي ، وذكر الصحابة في خطبته ، واستمرت هذه البدعة إلى هذا الزمان » ! انتهى .

فالهدف الأهم عنده أن يواجه ثورات العلويين ، لذلك رأى أن يعيد الإعتبار لأبي بكر وعمر ، حتى لو ناقض بذلك نفسه ونقض مذهب بني العباس !

فقوله : لأرغمن أنفي وأنوف بني علي ، معناه : عليَّ وعلى أعدائي يا رب ! فأصدر أمره الى خطباء الجمعة في أنحاء الدولة بأن يترضوا على أبي بكر وعمر ، وأمر الفقهاء أن يفتوا به : « قال مالك : قال لي المنصور : من أفضل الناس بعد رسول الله ؟ فقلت : أبو بكر وعمر . فقال : أصبت ! وذلك رأي أمير المؤمنين » . ( النهاية لابن كثير : 10 / 130 ) .

وقد بحثنا مرسومه في الترضي عن الشيخين في كتاب : كيف رد الشيعة غزو المغول .

الخامس : تعظيم جده العباس وحصر الخلافة بأولاده

فقد وضع المنصور وأولاده أحاديث في مناقب العباس وأنه الوارث الوحيد للنبي صلّى الله عليه وآله لأنه عمه ، وأنه أولى به من ابن عمه علي عليه السلام وولديه الحسن والحسين عليهما السلام ، وبعد العباس يأتي مقام أبي بكر وعمر ، رغم أنهم أخذا الخلافة وهي حقٌّ للعباس وأولاده ! لكن رضي الله عنهما ، فهما خير من علي وأبناء علي !

ثم زعم المنصور أنه رأى النبي صلّى الله عليه وآله في منامه فعقد له لواءً وأوصاه بأمته « وعممه بعمامة من 23 دوراً ، وقال له : خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة » !

قال « ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب وتعلقوها في أعناق الصبيان » ! ( تاريخ بغداد : 1 / 85 ، وتاريخ دمشق : 32 / 301 ، وابن كثير : 10 / 129 ، وحكم بصحة المنام ) !

وكان المنصور وأولاده لا يقبلون أن يقال إن جدهم العباس قال لعلي عند وفاة النبي صلّى الله عليه وآله : « أبسط يدك أبايعك فيقال : عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله ، فلا يختلف عليك اثنان . فقال له علي : ومن يطلب هذا الأمر غيرنا » ! ( الإمامة والسياسة : 1 / 12 ، والإقتصاد / 214 ، والنزاع والتخاصم / 78 ) .

أو يقال إن الحسنين أبناء النبي صلّى الله عليه وآله لقوله تعالى : فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ..

ولا أن يذكر مذهب جدهم عبد الله بن عباس وأحاديثه ، لأنه كان تلميذاً مطيعاً لعلي عليه السلام ناطقاً بفضائله ووصية النبي صلّى الله عليه وآله له بالخلافة !

وكلها تنقض ما يريده المنصور من تمجيد جده العباس وحصر الخلافة به هو !

قال أحمد بن حنبل في العلل : 2 / 312 : « قدم بن جريج على أبي جعفر ( المنصور ) فقال له : إني قد جمعت حديث جدك عبد الله بن عباس ، وما جمعه أحد جمعي أو نحو ذا ، قال : فلم يعطه شيئاً ! فضمه إلى سليمان بن مجالد ... فأحسن إلى ابن جريج يعني أعطاه وأكرمه ، فقال له بن جريج : ما أدري ما أجزيك به ، ولكن خذ كتبي هذه فانسخوها ، فبعضها سماع وبعضها عرض » .

واسمع ما يقوله ابن جريح وهو ربيعة الرأي وأستاذ مالك بن أنس !

« أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن ، فكنا نستزيده حديث ربيعة ، فقال لنا ذات يوم : ما تصنعون بربيعة هو نائم في ذاك الطاق ! فأتينا ربيعة فأنبهناه ، فقلنا له : أنت ربيعة بن أبي عبد الرحمن ؟ قال : بلى ، قلنا : ربيعة بن فروخ ؟ قال بلى ، قلنا ربيعة الرأي ؟ قال بلى . قلنا هذا الذي يحدث عنك مالك بن أنس ؟ قال بلى ، قلنا له : كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك ؟ قال : أما علمتم أن مثقالاً من دولة خير من حِمْل علم » ! ( تاريخ بغداد : 8 / 423 ) .

7 ـ المنصور يحاول قتل الإمام الكاظم عليه السلام

عندما ارتكب المنصور قتل الإمام الصادق عليه السلام بالسم في سنة 148 ، كان عمر الإمام الكاظم عليه السلام نحو عشرين سنة ، وعاش المنصور بعدها عشر سنوات ، وقد ذكرت نصوص سياسة المنصور مع الإمام الكاظم عليه السلام ومحاولته قتله !

أولها : في إحدى المرات التي أمر بقتل الإمام الصادق عليه السلام ولم يوفق !

فقد روى في الدر النظيم / 622 ، لابن حاتم العاملي عن : « قيس بن الربيع قال : حدثنا أبي الربيع قال : دعاني المنصور يوماً وقال : أما ترى ما هو ذا يبلغني عن هذا الحبشي ؟ قلت : ومن هو يا سيدي ؟ قال : جعفر بن محمد ، والله لأستأصلن شأفته . ثم دعا بقائد من قواده فقال له : انطلق إلى المدينة في ألف رجل فاهجم على جعفر بن محمد وخذ رأسه ورأس ابنه موسى بن جعفر ! فخرج القائد من ساعته حتى قدم المدينة وأخبر جعفر بن محمد ، فأمر فأتيَ بناقتين فأوثقهما على باب البيت ، ودعا بأولاده موسى وإسماعيل ومحمد وعبيد الله ، فجمعهم وقعد في المحراب وجعل يهمهم . قال أبو نصر : فحدثني سيدي موسى بن جعفر أن القائد هجم عليه فرأيت أبي وقد همهم بالدعاء ، فأقبل القائد وكل من كان معه وقال : خذوا رأس هذين القائمين ، ففعلوا وانطلقوا إلى المنصور ، فلما دخلوا عليه أطلع المنصور في المخلاة التي كان فيها الرأسان ، فإذا هما رأسا ناقتين !

فقال المنصور : وأي شيء هذا ؟! قال : يا سيدي ما كان أسرع من أن دخلت البيت الذي فيه جعفر بن محمد فدار رأسي ولم أنظر ما بين يديَّ فرأيت شخصين قائمين خُيِّل إليَّ أنهما جعفر بن محمد وموسى ابنه ، فأخذت رأسيهما !

فقال المنصور : أكتم عليَّ ! فقال : ما حدثت به أحداً حتى مات !

قال الربيع : فسألت موسى بن جعفر عليه السلام عن الدعاء فقال : سألت أبي عن الدعاء فقال : هو دعاء الحجاب وهو : بسم الله الرحمن الرحيم : وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا . وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا . اللهم إني أسألك بالإسم الذي به تحيي وتميت وترزق وتعطي وتمنع ، يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم من أرادنا بسوء من جميع خلقك فأعم عنا عينه ، واصمم عنا سمعه واشغل عنا قلبه ، واغلل عنا يده ، واصرف عنا كيده . وخذه من بين يديه وعن يمينه وعن شماله ومن تحته ومن فوقه ، يا ذا الجلال والإكرام » .

وثانيها : عندما قتل الإمام الصادق عليه السلام بالسم أرسل الى واليه على المدينة : أنظر إن كان أوصى الى شخص فاقتله وابعث اليَّ برأسه ! وهذا ينسجم مع قرار المنصور بإبادة ذرية علي وفاطمة عليهما السلام !

قال كاتبه أبو أيوب الخوزي كما في الكافي : 1 / 311 ، وغيبة الطوسي / 198 ، واللفظ له : « بعث إلي أبو جعفر المنصور في جوف الليل فدخلت عليه وهو جالس على كرسي ، وبين يديه شمعة وفي يده كتاب ، فلما سلمت عليه رمى الكتاب إلي وهو يبكي وقال : هذا كتاب محمد بن سليمان يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ( ثلاثاً ) وأين مثل جعفر ؟! ثم قال لي : أكتب فكتبت صدر الكتاب ، ثم قال : أكتب إن كان أوصى إلى رجل بعينه فقدمه واضرب عنقه ! قال : فرجع الجواب إليه : إنه قد أوصى إلى خمسة : أحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ( واليه على المدينة ) وعبد الله وموسى ابني جعفر ، وحميدة ! فقال المنصور ليس إلى قتل هؤلاء سبيل » .

وهذا يدل على أن المنصور كان يريد مبرراً لقتل الإمام موسى الكاظم عليه السلام ، لأن أباه كان ينص عليه من صغره بأنه الإمام بعده ، وقد امتحنه أبو حنيفة وهو صبي وأجابه وأفحمه ، وظهرت منه معجزات . لذا وسع الإمام الصادق عليه السلام وصيته وجعل أوصياءه خمسة أولهم المنصور نفسه ، ثم واليه على المدينة ، ليحفظ حياة الإمام الكاظم عليه السلام ويحبط تعطش المنصور لدماء أبناء علي عليه السلام !

وفي مناقب آل أبي طالب : 3 / 434 ، أن أبا حمزة الثمالي رحمه الله لما بلغته وصية الإمام الصادق عليه السلام قال : « الحمد لله الذي هدانا إلى المهدي . بين لنا عن الكبير ، ودلنا على الصغير ، وأخفى عن أمر عظيم . فسئل عن قوله فقال : بين عيوب الكبير ودل على الصغير لإضافته إياه ، وكتم الوصية للمنصور ، لأنه لو سأل المنصور عن الوصي لقيل أنت » .

وثالثها : ورد أن الإمام الكاظم عليه السلام غادر المدينة ، وتخفَّى عن السلطة في قرى الشام ، لفترة لم يحددها الراوي . ففي مناقب آل أبي طالب : 3 / 427 : « دخل موسى بن جعفر عليه السلام بعض قرى الشام متنكراً هارباً ، فوقع في غار وفيه راهب يعظ في كل سنة يوماً ، فلما رآه الراهب دخله منه هيبة فقال : يا هذا أنت غريب ؟ قال عليه السلام : نعم . قال : منا أو علينا ؟ قال عليه السلام : لست منكم . قال : أنت من الأمة المرحومة ؟ قال عليه السلام : نعم . قال : أفمن علمائهم أنت أم من جهالهم ؟ قال عليه السلام : لست من جهالهم . فقال : كيف طوبى أصلها في دار عيسى ، وعندكم في دار محمد وأغصانها في كل دار ؟ فقال عليه السلام : الشمس قد وصل ضوؤها إلى كل مكان وكل موضع وهي في السماء . قال : وفي الجنة لا ينفد طعامها وإن أكلوا منه ولا ينقص منه شيء ؟ قال عليه السلام : السراج في الدنيا يقتبس منه ولا ينقص منه شيء .

قال : وفي الجنة ظل ممدود ؟ فقال عليه السلام : الوقت الذي قبل طلوع الشمس كلها ظل ممدود ، قاله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا .

قال : ما يؤكل ويشرب في الجنة ، لا يكون بولاً ولا غائطاً ؟

قال عليه السلام : الجنين في بطن أمه !

قال : أهل الجنة لهم خدم يأتونهم بما أرادوا بلا أمر ؟ فقال عليه السلام : إذا احتاج الإنسان إلى شيء عرفت أعضاؤه ذلك ، ويفعلون بمراده من غير أمر .

قال : مفاتيح الجنة من ذهب أو فضة ؟ قال عليه السلام : مفتاح الجنة لسان العبد لا إله إلا الله . قال : صدقت ، وأسلم والجماعة معه » .

ورابعها : يدل على أن المنصور استعمل الليونة والإحترام مع الإمام الكاظم عليه السلام وأراد أن يظهر للفرس أن علاقته به جيدة ، أو يعرف تعاطف الفرس معه عليه السلام !

ففي مناقب آل أبي طالب : 3 / 433 : « وحكي أن المنصور تقدم إلى موسى بن جعفر بالجلوس للتهنئة في يوم النيروز وقبض ما يحمل إليه فقال عليه السلام : إني قد فتشت الأخبار عن جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله فلم أجد لهذا العيد خبراً ، وإنه سنة للفرس ومحاها الإسلام ، ومعاذ الله أن نحيي ما محاه الإسلام !

فقال المنصور : إنما نفعل هذا سياسة للجند ، فسألتك بالله العظيم إلا جلست ، فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنونه ويحملون إليه الهدايا والتحف ، وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل ، فدخل في آخر الناس رجل شيخ كبير السن فقال له : يا ابن بنت رسول الله إنني رجل صعلوك لا مال لي ، أتحفك بثلاث أبيات قالها جدي في جدك الحسين بن علي :

عجبت لمصقول علاك فرنده

 

يوم الهياج وقد علاك غبار

ولا سهم نفذتك دون حرائر

 

يدعون جدك والدموع غزار

ألا تقضقضت السهام وعاقها

 

عن جسمك الإجلال والإكبار

قال : قبلت هديتك ، أجلس بارك الله فيك ، ورفع رأسه إلى الخادم وقال : إمض إلى أمير المؤمنين وعرفه بهذا المال وما يصنع به ؟ فمضى الخادم وعاد وهو يقول : كلها هبة مني له يفعل به ما أراد ، فقال موسى عليه السلام للشيخ : إقبض جميع هذا المال فهو هبة مني لك » !

أقول : قام الفرس بالثورة على بني أمية وسلموا قيادتها الى بني العباس ، وكانت سلامة أم المنصور فارسية من بلدة إيذه أو إيذج قرب الأهواز ، فكان المنصور يتكلم الفارسية ويألفها ، وسكن في إيذة وتزوج وولد فيها ابنه محمد الذي سماه المهدي . وكان يحتفل مع الفرس بعيد النوروز ، ويستقبل قادة الدولة ويقدمون له الهدايا الثمينة على رسومهم ، ولا بد أنه خطط لجلوس الإمام عليه السلام مكانه وتحجج بالمرض ، ليقول للناس إن موسى بن جعفر عليه السلام مؤيد له يُقر بشرعيته ، وأن المنصور يحترمه ويستنيبه في بعض المراسم التشريفية ، ويظهر أن ذلك كان بعد ليونة الإمام عليه السلام معه وتطمينه بأنه ليس في صدد الثورة عليه .

مقتبس من كتاب : [ الإمام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد ] / الصفحة : 61 ـ 88