جدّ أمير المؤمنين عليه السلام وأبوه

طباعة

جدُّه وأبوه

جدّه عبدالمطَّلب ، الملقَّب بشيبة الحمد ؛ لشيبة كانت في رأسه (1) ، وقيل : « اسمه شيبة » (2) ، وكنيته : أبو البطحاء ، لأنَّهم استسقوا به سقياً فكنَّوه به (3) .. وقد بلغ من الشرف في قومه ما لم يبلغه أحد من قبل.

وكان عبدالمطَّلب جدُّ رسول الله يكفله ، وعبدالمطَّلب يومئذٍ سيِّد قريش غير مدافَع ، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعطِ أحداً ، وسقاه زمزم وذا الهُدُم ، وحكَّمته قريش في أموالها ، وأطعم في الُمحل حتّىٰ أطعم الطير والوحوش في الجبال.

قال أبو طالب :

     

ونُطعمُ حتىٰ تأكُلَ الطيرُ فضلَنا

 

إذا جَعَلَتْ أيدي المُفيضينَ تَرْعَدُ

وكان علىٰ ملَّة إبراهيم الخليل ؛ فرفض عبادة الأصنام ووحَّد الله عزَّوجلَّ ، وسنَّ سنناً نزل القرآن بأكثرها ، وجاءت السُنَّة من رسول الله بها وهي : الوفاء بالنذور ، ومائة من الإبل في الديّة ، وألَّا تنكح ذات محرم ، ولا تؤتىٰ البيوت من ظهورها ، وقطع يد السارق ، والنهي عن قتل الموؤدة ، والمباهلة ، وتحريم الخمر ، وتحريم الزنا ، والحدُّ عليه ، والقرعة ، وألَّا يطوف أحدٌ بالبيت عرياناً ، وإضافة الضيف ، وألَّا ينفقوا إذا حجَّوا إلَّا من طيِّب أموالهم ، وتعظيم الأشهر الحُرم ، ونفي ذوات الرايات (4).

هكذا كان مجاهراً بدينه ، داعياً إلىٰ الخلق الكريم والمبادئ السامية التي جاءت بها الأديان ، وكان له في هذه الخصال دور لا يشاركه فيه أحد ، حتّىٰ أنَّ قريشاً كانت تسميه إبراهيم الثاني.

وكان يفرش له بفناء الكعبة والناس من حوله يهابونه ، فلا يقرب فراشه أحد ، إلَّا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد كان يتخطَّىٰ رقاب عمومته ، ويجلس علىٰ فراش جدِّه ، ولما حاولوا منعه قال لهم : دعوا ابني ، إنَّ لابني هذا شأناً ..

وتوفِّي عبدالمطَّلب ولرسول الله ثماني سنين ، وكانت قد أتت علىٰ عبدالمطَّلب مائة وعشرون سنة ، وقيل : مائة وأربعون سنة (5).

وعن أمِّ أيمن قالت : أنا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يمشي تحت سريره وهو يبكي ، وقيل : كان لعبدالمطَّلب يوم مات ثمانون سنة (6).

وأعظمت قريش موته ، وغُسل بالماء والسدر ودُفن بالحجون ، وقيل : إنَّه حُمل علىٰ أيدي الرجال عدَّة أيَّام إعظاماً وإكراماً وإكباراً لتغييبه في التراب.

وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّه قال : « إنَّ الله يبعث جدِّي عبدالمطَّلب أُمَّة واحدة في هيئة الأنبياء وزيِّ الملوك » (7).

وورث أبو طالب ـ والد عليٍّ أمير المؤمنين عليه السلام ـ زعامة أبيه عبدالمطَّلب ، وكفالته رسول الله ، فكان خير كافل ومعين ، وقد كان كأبيه سيِّداً شريفاً مهيباً.

قال عليُّ بن أبي طالب : « أبي ساد فقيراً ، وما ساد فقيرٌ قبله » (8) ، وخرج برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلىٰ بُصرىٰ من أرض الشام وهو ابن تسع سنين ، وقال : « والله لا أكِلك إلىٰ غيري » (9).

وتولَّىٰ العناية برسول الله والقيام بشؤونه من سنة ثمان من مولده الشريف ، وحتّىٰ العاشرة من النبوَّة ، وذلك اثنان وأربعون سنة ، وظل يدافع عن النبي ورسالته حتّىٰ آخر نفس من حياته ، وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلَّى موقفه هذا في كثير من أشعاره ، منها قوله :

     

ليعلم خيار الناس أنَّ محمداً

 

نبيٌّ كموسىٰ والمسيح ابن مريم

وقوله :

     

ألم تعلموا أنَّا وجدنا محمداً

 

رسولاً كموسىٰ خطَّ في أوَّل الكتبِ

وقوله في لاميَّته الشهيرة :

     

لقد علموا أنَّ ابننا لا مكذَّبٌ

 

لدينا ولا يُعنَىٰ بقولِ الأباطلِ

فأصبح فينا أحمد في اُرومةٍ

 

تُقصِّر عنه سَورَة المتطاوِلِ

حَدِبْتُ بنفسي دونه وحميتُه

 

ودافعت عنه بالذُّرا والكلاكلِ

فأيَّده ربُّ العباد بنصره

 

وأظهرَ ديناً حَقُّهُ غيرُ باطلِ (10)

وتوفِّي أبو طالب بعد وفاة خديجة بثلاثة أيَّام ـ أيّ قبل هجرة الرسول من مكَّة إلىٰ المدينة بثلاث سنين ـ في شوال أو في ذي القعدة ، وله ستّ وثمانون سنة ، وقيل بل تسعون (11) ، وسمَّىٰ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا العام بعام الحزن ، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ما نالت قريش شيئاً أكرهه حتّىٰ مات أبو طالب » (12).

وقال السدي : مات أبو طالب وهو ابن بضع وثمانين سنة ، ودُفن بالحجون عند عبدالمطَّلب.

ولمَّا قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنَّ أبا طالب قد مات ، عظُم ذلك في قلبه ، واشتدَّ له جزعه ، ثُمَّ دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرَّات ، وجبينه الأيسر ثلاث مرَّات ، ثُمَّ قال : « يا عمّ ربّيت صغيراً ، وكفلت يتيماً ، ونصرت كبيراً ، فجزاك الله عنِّي خيراً » ومشىٰ بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول : « وصلتك رحم وجُزيتَ خيراً » ، وقال : « اجتمعت علىٰ هذه الأُمَّة في هذه الأيَّام مصيبتان لا أدري بأيِّهما أنا أشدُّ جزعاً » يعني : مصيبة خديجة وأبي طالب رضي الله عنهما (13).

وسُئل الإمام السجَّاد عليه السلام عن إيمان أبي طالب ، فقال : « واعجباً ، إنَّ الله نهىٰ رسوله أن يقرَّ مسلمة علىٰ نكاح كافر ؛ وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلىٰ الإسلام ، ولم تزل تحت أبي طالب حتَّىٰ مات » (14).

وهو من أوضح البراهين علىٰ إيمان أبي طالب رضي الله عنه.

الهوامش

1. تذكرة الخواص : ١٤.

2. البداية والنهاية ٧ : ٢٢٣.

3. انظر تفاصيل ذكره في تذكرة الخواص : ١٤.

4. تاريخ اليعقوبي / أحمد بن أبي يعقوب ٢ : ١٠ ـ ١١ دار صادر.

5. انظر تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣.

6. انظر تذكرة الخواص : ١٨.

7 ـ 8. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤.

9. أنظر تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤.

10. أنظر : السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ٢٢٩ ـ ٢٣٥، دار الفكر ، ١٤١٥ هـ.

11. تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥.

12. البداية والنهاية ٣ : ١٣.

13. تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥.

14. الصحيح من سيرة النبيِّ الأعظم ٣ : ٢٣٨.

مقتبس من كتاب : [ الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ ] / الصفحة : 10 ـ 14