البداء

طباعة

البداء :

البداء هو مقام المحو والإثبات ، وهو ظهور المشيئة الإلهية للناس بعد أن كانت خفيّة عنهم. أي هو الظهور منه تعالى وظهور إرادته لغيره من المخلوقين. وهذا لا يخالف اعتقادنا بالله تعالى وصفاته ، ولا يخالف القرآن وآياته ، بل إنّه لا يخالف ما يعتقده العامّة أيضاً فحقيقة البداء عند الشيعة هو قدرة الانسان على تغيير مصيره بالأعمال الصالحة والطالحة وأنّ لله سبحانه تقديراً مشترطاً موقوفاً وتقديراً مطلقاً ، والانسان إنّما يتمكن من التأثير في التقدير المشترط ، وأنّ الله عالم في الأزل بما سيقوم به الانسان ، فالله قد يجعل عُمر زيد من الناس مائة سنة لو أطاع والدته وخمسين سنة لو عصاها ، فعند طاعة الولد سيكون عمره مائة عام ، لكنّ عالم منذ الأزل بأنّه سوف يطيع والدته. فليس المعنى كما يدّعي أعداء أهل البيت بأنّه أمر لم يكن معلوماً عند الله تعالى ثمّ علمه ، أو أنّه يستلزم نسبة الجهل من الله تعالى ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ومن أهمّ ما يستدلّ عليه من القرآن الكريم على البداء آية المحو والإثبات ، وغيرها من الآيات التي سنذكر بعضها.

1 ـ قال تعالى في سورة الرعد : ( يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (1).

قال السيوطي في الدرّ المنثور : أخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن أبي الدنيا في الدعاء ، عن ابن مسعود قال : ما دعا عبد قط بهذه الدعوات ، إلا وسّع الله له في معيشته ، يا ذا المنّ ولا يمنّ عليه ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا ذا الطول ، لا إله إلا أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين ، إنْ كنت كتبتني في أمّ الكتاب شقيّاً فامح عنّي اسم الشقاء ، وأثبتني عندك سعيداً ، وإنْ كنت كتبتني عندك في أمّ الكتاب محروما مقتّراً عليّ رزقي ، فامح حرماني ، ويسرّ رزقي ، وأثبتني عندك سعيداً موفقا للخير ، فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت ( يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ). ورواه ابن جرير والطبراني (2).

وقال السيوطيّ في الدرّ المنثور : أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عمر بن الخطّاب أنّه قال وهو يطوف بالبيت : اللهمّ إنْ كنتَ كتبت عليّ شقاوة أو ذنباً فامحه ، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أمّ الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة (3).

وروى السيوطيّ في الجامع الصغير ، وأبو نعيم في الحلية ، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : الصدقة على وجهها ، واصطناع المعروف ، وبرّ الوالدين ، وصلة الرحم : تحوّل الشقاء سعادة ، وتزيد في العمر ، وتقي مصارع السوء (4).

وروى الحاكم في المستدرك عن ابن عبّاس في قول الله عزّ وجلّ ( يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) قال : من أحد الكتابين ، هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ، ويثبت ، وعنده أمّ الكتاب ، أي جملة الكتاب (5).

وروى البخاري ، ومسلم ، في صحيحيهما عن أبي هريرة ، وعن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : من سرّه أنْ يبسط له في رزقه ، أو ينسأ له في أثره ، فليصل رحمه (6).

وهذا يدلّ على أنّ الأجل محدود ، والرزق محدود ولكنّه هناك أمور إذا فعلها العبد فإنّها تزيد في رزقه ، وتطيل عمره ، وكذلك هناك أمور إذا فعلها تنقص من عمره ، وتقلّل رزقه ، وهذا ما تشير إليه الآية والأحاديث وهو البداء بمعناه الواضح.

2 ـ وقال تعالى في سورة يونس : ( فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ ) (7).

3 ـ قال تعالى في سورة المائدة : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ) (8).

4 ـ قال تعالى في سورة الصافات : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ الله مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (9).

ومن المعروف أنّ رؤيا الرسل والأنبياء هي وحي من الله تعالى يجب في حقّهم تنفيذه ، وهذا ما سعى إليه سيّدنا إبراهيم الخليل عليه السلام ، وهو ما استسلم له سيّدنا إسماعيل عليه السلام ، فكانت الإرادة الإلهية التي ظهرت أن يتمّ الذبح ، ولكنّ الله تعالى الذي يمحو ما يشاء ويثبت محا تلك الإرادة واستبدلها بالذبح العظيم فداء لإسماعيل ، لأنّ إبراهيم الخليل قد صدّق الرؤيا واستسلم للإرادة الإلهية فجازاه الله تعالى بالفداء ، ثمّ بشّرنا ربّنا أنّه من يستسلم لإرادتي ويطيع أمري ويكون محسنا فإنّني كذلك أجازيه بحسب مقام المحو والإثبات ، ولذلك وكما مرّ معنا لمعرفة الصحابة بمقام البداء ، أي المحو والإثبات ، كان عمر بن الخطاب وابن مسعود وغيرهم يدعون بالدعاء الذي مرّ في بداية البحث.

هذا هو البداء ، وهذا معناه ، وهو ما عليه الشيعة أتباع مدرسة أهل البيت عليهم ، السلام وهو رأيٌ وحكم إسلامي أصيل لا يشكّك فيه إلا من اتّبع هواه وكان أمره فرطا.

الهوامش

1. الرعد : 39.

2. الدرّ المنثور 4 : 66 ، وأنظر تفسير الطبري 13 : 219 ـ 220 ، والمعجم الكبير 9 : 171 حيث أخرجوا بعضه.

3. الدرّ المنثور 4 : 66.

4. الجامع الصغير 2 : 115 ، حلية الأولياء 6 : 145.

5. المستدرك على الصحيحين 2 : 349.

6. صحيح البخاري 3 : 8 ، 7 : 72 ، صحيح مسلم 8 : 8.

7. يونس : 98.

8. المائدة : 65 ـ 66.

9. الصافات : 102 ـ 110.

 مقتبس من كتاب : [ نهج المستنير وعصمة المستجير ] / الصفحة : 375 ـ 379