عبدالله بن عبّاس مع عمر في أسفاره

طباعة

الحبر مع عمر في أسفاره

والآن إلى معرفة شيء عن صحبتهما في السفر ، لأنّ السفر محكّ أخلاق الرجال ، فربّ أخوين متقاربَين حَضَرا يصطحبان في السفر يختلفان فيعودان متباعدَين. وربّ بعيدَين حَضَرا جمع بينهما السفر فاصطحبا وأئتلفا فعادا متآخيَين ، وكلّما طال السفر ظهرت دخائل النفوس أكثر ، ومهما تكرّر السفر تبيّن حال المتصاحبَين أظهر.

وإنّ صحبة ابن عبّاس لعمر في السفر طالت وتكرّرت ، لكثرة أسفار عمر للحجّ وللشام ، وخلال قراءة ما جرى بينهما في تلك الأسفار ، لم نجد تغييراً في الطباع فهما في السفر كما هما في الحضر. فربّما أشتدّ أحدهما على الآخر حتّى يُظنّ أن لا تلاقي بعده. وربّما لان وأطمأنّ أحدهما للآخر فباح له بسرّه وبثـّه ما يجده في نفسه.

أمّا أسفار عمر إلى الحجّ فانّه حجّ بالناس جميع سنيّ خلافته إلّا السنة الأولى فقد حجّ بالناس عبد الرحمن بن عوف بأمره. ولا يصحّ ما في الرياض النضرة من انّه حجّ جميع سنيّه إلّا سنتين متواليتين (1). كما لا يصحّ ما في نور الأبصار عن ابن عبّاس قال : « حججت مع عمر احدى عشرة حجّة ، إلّا أن يكون قد حجّ واحدة معه قبل ولايته » (2).

قال ابن عمر : استعمل عمر على الحجّ عبد الرحمن بن عوف في السنة الّتي ولّي فيها فحجّ بالناس ، ثمّ حجّ سنيّه كلّها بعد ذلك بنفسه (3) ، وكانت تلك عشر حجج من سنة 14 هـ حتّى سنة 23 هـ وهي سنة مقتله كما أنّه أعتمر في خلافته ثلاث مرّات في رجب سنة 20 هـ و 21 هـ و 22 هـ (4).

وفي إحدى سفرات الحجّ الأوائل كان سؤال ابن عبّاس عن المرأتين اللتين تظاهرا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التفسير « سورة المتحرم » بسنده عن ابن عبّاس رضي الله عنه يحدث أنه قال : « مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتّى خرج حاجاً فخرجت معه فلمّا رجعت وكنّا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له فوقفت له حتّى فرغ ثمّ سرت معه فقلت يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة ، فقلت والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك ، قال : فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فاسألني فان كان لي علم خبرتُك به » (5). ثمّ استمرّ عمر يحدّثه عن حالة المرأة في الجاهليّة وما أنعم الله به عليها في الإسلام والحديث طويل فيه قصّة حفصة وعائشة بالتفصيل (6).

أمّا عن سفراته إلى الشام فقد سافر مع عمر أربع مرّات ، وهي كما يلي :

قال الطبري : « وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرّات ، فأمّا الأولى فعلى فرس ، وأمّا الثانية فعلى بعير ، وأمّا الثالثة فقصّر عنها لأن الطاعون مستعر ، وأمّا الرابعة فدخلها على حمار ، فاستخلف عليها وخرج » (7).

أمّا الأولى : فكانت سنة 15 هـ وذلك لفتح بيت المقدس ، فخرج معه كثير من المهاجرين والأنصار حتّى انتهى إلى الجابية ، وكان قد كتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بها ليوم سمّاه لهم ، فتلقّوه وقد ظهرت عليهم الإثرة فلبسوا الديباج والحرير ، فلمّا رآهم عمر نزل عن فرسه ورماهم بالحجارة وقال : سرَع ما لـُفتـّم عن رأيكم ، إيّاي تستقبلون في هذا الزيّ ، وإنّما شبعتم منذ سنتين ، سرَع ما ندّت بكم البطنة ...

وفي هذه المرّة طلب ابن عبّاس ليلة فأتي به فشكا إليه تخلّف عليّ بن أبي طالب عنه. قال ابن عبّاس : فقلت له : أو لم يعتذر إليك ؟ قال : بلى ، قلت : هو ما أعتذر به.

قال ـ ابن عبّاس ـ ثم أنشأ يحدثني فقال : إنّ أول من راثكم (8) عن هذا أبو بكر ، إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوّة.

قال أبو الفرج الأصبهاني : « ثمّ ذكر قصّة طويلة ليس من هذا الباب فكرهت ذكرها » (؟) (9). ولا غرابة من أبي فرج الأموي الهوى والولاء الخائن المائن أن يحذف ما له مساسٌ بالخلافة تتمّة لما جرى من كلام بين عمر وابن عبّاس ، ظنّاً منه أنّه بتركه ذكر تمام القصّة الطويلة ـ على حدّ تعبيره ـ ستر ما جرى ، ولم يفطن إلى أنّ ما ذكره من قول عمر : أوّل من راثكم عن هذا ـ أمر الخلافة ـ أبو بكر ، هو كاف في الدلالة على مضمون الحذف لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وأمّا الثانية : فكانت سنة 17 هـ خرج عمر مغيثاً لأبي عبيدة بن الجراح حيث قصده الروم ومعه المسلمون بحمص فكتب إلى عمر يستنجده ، فخرج ومعه جمع من المسلمين وكان راكباً على بعير ـ كما قاله الطبري في تاريخه وزيني دحلان في سيرته ـ ولمّا وصل الجابية أتاه الخبر بالفتح وقدوم المدد عليهم (10).

وفي هذه المرّة كان حديث ابن عبّاس قال : خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته ، فانفرد يوماً يسير على بعيره فاتبعته ، فقال لي يا بن عبّاس أشكو إليك ابن عمّك سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجداً فيم تظن موجدته ؟ قلت : يا أمير المؤمنين إنّك لتعلم. قال : أظنّه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة ، قلت : هو ذاك إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أراد الأمر له. فقال : يا بن عبّاس وأراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ؟

إنّ رسول الله أراد ذلك وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله ، أو كلّ ما أراد رسول الله كان ؟

وهذه المحاورة مرّ شرح هذا القسم منها في حديث الكتف والدواة ، كما ستأتي بتمامها في صفحة احتجاجاته في الحلقة الثانية مع ذكر مصادرها.

وأمّا الثالثة : فكانت سنة 18 هـ خرج إلى الشام غازياً وكان راكباً على بغل وكان معه ابن عبّاس أيضاً حتّى إذا وصل إلى سرغ ـ موضع في طريق الشام بين المغيثة وتبوك ـ لقيه أمراء الأجناد وفيهم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة فأخبروه بالوباء وشدّته.

فدعا عمر بابن عبّاس وقال : اجمع لي المهاجرين الأوّلين. قال ابن عبّاس : فجمعتهم له فاستشارهم فاختلفوا عليه ـ وذكر شيئاً من أقوالهم ـ فلمّا رأى عمر اختلافهم قال : قوموا عنّي. ثمّ قال : اجمع لي الأنصار فجمعتهم له فاستشارهم فسلكوا طريق المهاجرين ، فكأنّما سمعوا ما قالوا فقالوا مثله. فلمّا اختلفوا عليه ، قال : قوموا عنّي ، ثمّ قال : اجمع لي مهاجرة الفتح من قريش فجمعتهم له فاستشارهم فلم يختلف عليه منهم اثنان وقالوا : ارجع بالناس فإنّه بلاء وفناء.

فقال عمر : يا بن عبّاس اخرج في الناس فقل : إنّ أمير المؤمنين يقول لكم إنّي مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. فأصبح عمر على ظهر وأصبح الناس عليه ، فلمّا اجتمعوا عليه قال : أيّها الناس إنّي راجع فارجعوا ، ثمّ رجع إلى المدينة (11).

وفي هذه المرّة ـ فيما أظنّ قويّاً ـ كان حديث ابن عبّاس مع عمر حيث يقول : كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على فرس. فقرأ عمر آية فيها ذكر عليّ بن أبي طالب ، فقال : أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر.

فقال ابن عبّاس : فقلت في نفسي لا أقالني الله إن أقلته ، فقلت : أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين وأنت وصاحبك اللذان وثبتما وانتزعتما وأفرغتما الأمر منّا دون الناس ؟!

فقال : إليكم يا بني عبد المطلب ، أمّا إنّكم أصحاب عمر بن الخطاب ، فتأخّرت وتقدم هنيهة فقال : سر لا سرتَ ، وقال : أعد عليّ كلامكَ. فقلت : إنّما ذكرت شيئاً فرددت عليه ولو سكتّ سكتنا. وستأتي المحاورة بتمامها في صفحة احتجاجاته في الحلقة الثانية مع ذكر مصادرها.

وأمّا الرابعة : فقد كانت بعد شهور من الطاعون الّذي أهلك خلقاً كثيراً ، ولمّا أرتفع الوباء والبلاء كتب أمراء الأجناد إلى عمر فيما بأيدهم من الأسلاب والمواريث فخرج ومعه ابن عبّاس أيضاً ، فدخل الشام على حمار له فقسّم المواريث والأرزاق وسدّ فروج الشام ورجع إلى المدينة في ذي القعدة (12) وقيل في ذي الحجّة. وفي هذه السفرة كان العبّاس أيضاً قد خرج معه وله وصيّة يوصي بها عمر تنبئ عن غمز في سلوكية الحاكم قال له : أربعٌ من عمل بهنّ استوجب العدل : الأمانة في المال ، والتسوية في القِسمَ ، والوفاء بالعدة ، والخروج من العيوب ، نظـّف نفسك وأهلك (13) فهذه الوصيّة لا تخلو من أيماءة غمز ونقد لتصرّفات عمر.

ولابن عبّاس محاورة مع عمر في بعض أسفاره ـ ولعلّها في أحدى سفرات الشام أيضاً ـ أخرجها الطبري عن ابن عبّاس قال : « خرجتُ مع عمر في بعض أسفاره فإنّا لنسير ليلة وقد دنوت منه إذ ضرب مقدّم رحله بسوطه وقال :

كذبتم وبيت الله يُقتَل أحمدٌ

 

ولما نطاعِن دونه ونناضل

ونُسلمهُ حتى نصرَعَ حولَه

 

ونَذهَل عن أبنائنا الحلائل (14)

ثم قال : استغفر الله ، ثمّ سار فلم يتكلّم قليلاً ، ثمّ قال :

وما حملت من ناقة فوق رحلها

 

أبرّ وأوفى ذمةً من محمّد

وأكسى لبُرد الخال قبل ابتذاله

 

وأعطى لرأس السابق المتجرّد (15)

ثمّ قال : استغفر الله يا بن عبّاس ما منع عليّاً من الخروج معنا ؟

قلت لا أدري ، قال : يا بن عبّاس أبوك عمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنت ابن عمّه فما منع قومكم منكم ؟ قلت لا أدري ، قال : لكنّي أدري ، يكرهون ولايتكم (!) قلت : لِم ؟ ونحن لهم كالخير ، قال : اللّهمّ غفراً يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة ، فيكون بجحا بجحا (16) لعلّكم تقولون : أنّ أبا بكر فعل ذلك ، لا والله ولكن أبا بكر أتى أحزم ما حضره ، ولو جعلها لكم ما نفعكم مع قربكم ، انشدني لشاعر الشعراء زهير قوله :

إذا ابتدرت قيس بن عيلان غايةً

 

من المجد من يسبق إليها يسوّد (17)

فأنشدته وطلع الفجر فقال : اقرأ « الواقعة » فقرأتها ، ثمّ نزل فصلّى وقرأ بالواقعة » (18).

والآن وقد تبيّن بعد هذه القراءة فيما مرّ من النصوص أنّ العلاقة بين الرجلين كانت علاقة قويّة ، دلّت على قوّة الحضور الفاعل والمؤثّر لشخصيّة حبر الأمّة لدى عمر بن الخطاب ، فهو عنده ومعه في الحضر والسفر ، بدءاً من مجلس الشورى الّذي يضمّ أشياخ الصحابة ومعهم ابن عبّاس وهو في سنّ أبنائهم ، ومروراً بحضوره المتكرّر في بيته ، فتارة يدخل عليه وقد ألقي له صاع من تمر يأكل منه كما مرّت الإشارة إليه ، وأخرى يسهر عنده ليلاً ، وثالثة يستدعيه عمر ليلاً يصطحبه لبعض نواحي المدينة لحراستها ، وطوراً يأخذ معه إلى العالية ، أو مماشاته في سكك المدينة ، وانتهاءً بيوم مقتل عمر وقوّة العلاقة لا تغيّر الثوابت.

الهوامش

1. الرياض النضرة 2 / 77.

2. نور الأبصار للشبلنجي / 60 ط الميمنية سنة 1312 هـ.

3. تاريخ الطبري 3 / 479 ط دار المعارف ، وقارن طبقات ابن سعد 3 ق 1 / 503 ط ليدن.

4. أنظر الطبقات لابن سعد 3 ق 1 / 203 ـ 204.

5. صحيح البخاري 6 / 156 ط بولاق وقد سمى البخاري « سورة التحريم » سورة المتحرم كما ذكرنا أعلاه.

6. سيأتي مزيد تحقيق حول هذا الحديث في الحلقة الثانية « تاريخه العلمي » هل أخذ ابن عبّاس في التفسير من عمر ؟ قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية : « وفي ضمن هذين التمثيلين تعريض باُمي المؤمنين وهما حفصة وعائشة لما فرط منهما واتخذا بدلهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكر الكفر » تفسير الرازي 30 / 49 ونحوه في روح المعاني للألوسي 28 / 163.

7. تاريخ الطبري 4 / 158 ط الحسينية ، 3 / 607 ط دار المعارف محقّقة.

8. راث بالأمر أبطأ به من التريث.

9. الأغاني 9 / 39 ط الساسي ، وشرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 497 ط مصر الأولى.

10. تاريخ الطبري 4 / 199 ط الحسينية حوادث سنة 17. وفي الفتوحات الاسلامية لزيني دحلان 1 / 45 في حوادث سنة 18.

11, نفس المصدر.

12. نفس المصدر.

13. تاريخ الطبري 4 / 203 ط الحسينية ، و 4 / 64 ط محققة.

14. ديوان أبي طالب / 110 بتفاوت.

15. نسب الشعر إلى عدة شعراء قاربوا العشرة سيأتي ذكرهم مع المصادر في الحلقة الثالثة في احتجاجات ابن عبّاس مع عمر ، وقد قيل في البيت الأوّل هـو أصدق بيت قالته العرب.

16. البجح التعاظم والفخر.

17. ديوان زهير بشرح ثعلب / 234 ط مصر.

18. تاريخ الطبري 4 / 222 ط محقّقة.

مقتبس من كتاب : [ موسوعة عبدالله بن عبّاس ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 101 ـ 108