ذاتية التوحيد و ظاهرة التثليث

طباعة

ذاتية التوحيد و ظاهرة التثليث

لقد تمثّلت ظاهرة التثليث في الديانة النصرانية عصر نزول القرآن في صور مختلفة تناولها القرآن الكريم بالذكر.

فتارة يقولون المسيح هو الله.

واُخرى يصرّحون بالثالوث المقدّس ، و إنّ هناك ثلاث آلهاتٍ بإسم إله الأب ، و إله الإبن ، و روح القدس.

وثالثة إنّ المسيح ابن الله.

ولعلّ الجميع تعبيرات متنوّعة عن حقيقة واحدة أو أنّها عبارة عن نظريّات مختلفة يتبنّى كلّ واحد منها طائفة منهم وإليك التوضيح.

أ ـ المسيح هو الله :

يقول سبحانه حاكياً عنهم تلك العقيدة : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) ( المائدة / 72 ).

فالآية تعرب عن أنّ المسيح عند طائفة منهم هو الربّ الخالق ، و بعبارة اُخرى : إنّ الله اتّحد بالمسيح اتّحاد الذات ، فصارا شيئاً واحداً و صار الناسوت لاهوتا (1).

و الذين يقولون من النصارى : إنّ الله هو المسيح ابن مريم هم اليعقوبية ، واللائق بهذا القول هو إنكار التثليث ، ولكن لايخلو مذهب من مذاهب النصارى منه ، و قد ردّ القرآن على ذلك الزعم بما نقله عن المسيح بأنّه قال : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... ) فهو يدّل على أنّه عبد مثلهم كما أنّ قوله : ( إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) يدلّ على أنّ من يجعل لله شريكاً في الوهيّته ، فهو مشرك كافر ، محرّم عليه الجنّة. وفي هذا القول مزيد عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية وأنّه ( عليه السلام ) باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم ، فهم مغفور لهم ، مرفوع عنهم التكاليف الإلهية ، و مصيرهم إلى الجنّة ولايمسّون ناراً.

كيف يقولون ذلك مع أنّه ( عليه السلام ) كان يقول : ( مَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) (2).

ب ـ الله ثالث ثلاثة أو الثالوث المقدّس :

وكان هناك قسم آخر من الانحراف عن خط التوحيد يتجسّد في القول بأنّ الله ثالث ثلاثة كما يحكيه قوله سبحانه : ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( المائدة / 73 ) والقائل بهذه المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية ، والنسطورية والمقصود أنّه أحد الثلاثة : الأب و الإبن و روح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم : إنّ الأب إله ، والإبن إله ، والروح إله ، وهو ثلاثة وهو واحد ، ويمثّلون لذلك بقولهم : إنّ زيد بن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد ، وابن عمرو والإنسان ، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت.

ويلاحظ عليه : أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة ، وإنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة اعتباريّة غير حقيقيّة ، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقّله.

ولأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف وهي لاتخضع للموازين العلميّة (3).

وقد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله : ( وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ... ) ببيان أنّ الله سبحانه لايقبل بذاته المتعالية ، الكثرة بوجه من الوجوه ، فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً ، ولا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة وتعدّداً ، فهو تعالى أحديّ الذات لاينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل.

ويستفاد من قوله : ( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض ـ ، إنّ هناك طائفة لايعتقدون بالتثليث ولايقولون في المسيح إلّا إنّه عبد الله ورسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.

الهوامش

1. مجمع البيان : ج 2 ص 228.

2. التبيان : ج 3 ص 587.

3. الميزان : ج 4 ص 70.

مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 7 / الصفحة : 239 ـ 241