مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث

طباعة

مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث :

إنّ المسيحيين يعتبرون أنفسهم موّحدين وإنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية ، ومن جانب آخر يعتقدون بالتثليث اعتقاداً جازماً ، وهذان لايجتمعان إلّا أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً والآخر مجازيّاً ولكنّهم يا للأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين ، ولأجل ذلك أصبحت عندهم : 1 = 3 وهو محال ببداهة العقل.

والقرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح والمسيحيّة وهؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك ، ولعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة : « برهما » : « الموجد » ، و « فيشفو » : « الحافظ » ، و « سيفا » : « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماداً متطاولة ، ولمّا جاء المتأخّرون منهم ورأوا أنّ الوحدة الحقيقية لاتخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين :

الأوّل : تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة و أنّ الدين فوق العلم وأن مسألة 1 = 3 وإن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة ولكنّ الدين قبلها ونحن نعتقد بها. ولكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات وأبده البديهيّات.

الثاني : إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة وذلك لوجود نظائرها في الخارج ، فإنّ الشمس لها جرم ولها نور ولها حرارة ومع ذلك فهي شيء واحد.

وهذا الاستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقّه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقّه هو الوحدة الحقيقية التي لاكثرة فيها لاخارجاً ولاذهناً ولا وهماً وأين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة اعتبارية لاحقيقية حيث تتركّب من جرم ونور وحرارة وكل منها ينقسم إلى انقسامات.

وعلى كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) وفي الوقت نفسه ثلاثة ، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة ومتشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلّي على الأفراد ؟

أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء وليس لكل واحد منها استقلال ولاتشخّص وإنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟

فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً وهو لايجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.

والفرض الثاني لايخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة ، فعلى الأوّل تلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) وهم يدّعون الفرار منه.

وعلى الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه وتشخّصه إلى أجزاء ممكنة وهو كما ترى.

ولأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّـهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ وَكِيلًا ) ( النساء / 171 ).

إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الالوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكري المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه ونفوا عنه مقام الالوهية.

و الآية تصف المسيح بالصفات الخمس :

1 ـ عيسى ابن مريم 2 ـ رسول الله 3 ـ كلمته 4 ـ ألقاها إلى مريم 5 ـ روح منه. إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حقّ المسيح تشهد بعبوديّته و تنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها :

1 ـ عيسى ابن مريم : وقد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات وبنوّته لمريم التي لاتنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و ... لدليل واضح على بشريّته.

2 ـ رسول الله : ومعناه مبعوثه ومرسله وليس نفسه.

3 ـ كلمة الله : وقد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية وقال : ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) ( الكهف / 109 ).

وأمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة والموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة ، وخلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم وقدرة وسِيعَين وكمال لامتناه يكمن في ذاته سبحانه ولأجل ذلك يعد القرآن المسيح وجميع العوالم الإمكانية كلمات الله سبحانه.

4 ـ ألقاها إلى مريم : إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً وقد ذكر تفصيله في سورة مريم ، الآية 16 إلى 36 واختتمها بقوله : ( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم / 34 ).

5 ـ وروح منه : إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الالوهيّة في حقّ المسيح وهم يتخيّلون إنّ ( منه ) تبعيضية ولكنّها ابتدائية مثل قوله سبحانه : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) ( الجاثية / 13 ) والمعنى انّ السموات وما في الأرض جميعاً ناشئ منه وحاصل من عنده ، ومبتدأ منه ، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصّها وآثارها. قال تعالى : ( اللَّـهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم / 11 ).

أضف إلى ذلك انّ ذلك التعبير لايفوق في حق آدم حيث قال : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر / 29 ).

فقد وصف آدم ( عليه السلام ) بلفظة « من روحي » ولم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.

ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله : ( فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ).

مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 7 / الصفحة : 242 ـ 245