اليهود ونقض المواثيق والعهود مع النبي محمّد صلّى الله عليه وآله

طباعة

اليهود ونقض المواثيق والعهود

حطّ النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) رحاله بالمدينة ، والتفّ حوله الأوس والخزرج ، ففشىٰ أمر الإسلام وشاع خبره وذكره بين الناس والقبائل القاطنة بأطراف المدينة ، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لليهود ينبئ عن إقتراب اُفول شوكتهم في المدينة وماوالاها بل في شبه الجزيرة العربية برمّتها.

وكانت اليهود في سابق عهدها تفتخر على سائر الاُمم بأنّها تقتفي أثر التوحيد وأنّ لهم كتاباً سماويّاً يجمع بين دفّتيه الأحكام الإلهية ، ولكنّ تلك المفخرة أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بدعوة النبيّ الأكرم الناس كافّة إلى التوحيد الأصيل ونزول القرآن عليه ، فما كانت لهم بعد إذ ذاك ميزة يمتازون بها على العرب.

وكانت اليهود لفرط حبّهم للدنيا وزبرجها تمكّنوا من السيطرة على مقاليد أزمّة إدارة التجارة ، وكان وجود الشقّة السحيقة بين الأوس والخزرج ، والنزاعات القبلية بينهما ، خير معين للإنفراد بإدارة دفّة القوافل التجارية ، غير أنّ تلك الأرضية التي فسحت لهم المجال لتسلّم زمام التجارة فيما مضىٰ كادت تنعدم بالاُخوّة الإسلامية التي جاء بها الإسلام ، فصار المتصارعان متصافيين متآخيين متآلفين في مقابل اليهود وأطماعهم.

كلّ ذلك صار سبباً لتحفيز اليهود لإثارة الشبهات حول رسالة الرسول الأكرم وبثّ السموم وتشوية معالم الرسالة الجديدة ليضعضعوا أركان الإيمان الفتي في قلوب المؤمنين بالإسلام ، وقد غاب عن خلدهم أنّ سنّة الله الحكيمة تتكفّل بنصر رسله. قال سبحانه :

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) ( غافر / 51 ).

وإليك نماذج من أسئلتهم وشبهاتهم التي أثاروها حول الرسالة النبويّة :

1 ـ إفشاء علائم النبوّة :

إنّ أوّل خطوة خطوها لأجل إيقاف مدّ الصحوة الدينية والإيمان برسالة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو إصدار مرسوم يقضي بكتمان علائم نبوّته التي وردت في التوراة حتى لاتقع للمسلمين ذريعة يتمسّكون بها ضدّهم في عزوفهم عن قبول الدعوة ، وهذا ما يحكي عنه الذكر الحكيم بقوله :

1 ـ ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّـهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة / 76 ).

وروي عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنّه قال : كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين ، إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا : لاتخبروهم بما في التوراة من صفة محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيحاجّوكم به عند ربّكم (1).

وردّ سبحانه عليهم بقوله : ( أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( البقرة / 77 ) فالله سبحانه يحتجّ بكتابهم عليهم سواء تفوّهوا بسمات النبيّ الأكرم المذكورة في التوراة أم لم يتفوّهوا بها ، على الرغم من أنّهم كانوا يستفتحون ويستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قبل مبعثه فلمّا بعثه الله من بين العرب ولم يكن من بني إسرائيل ، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور : يا معشر اليهود اتّقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك ، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث ، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم ، فأنزل الله تعالى قوله :

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 89 ).

2 ـ السؤال عن الروح الأمين :

إنّ نفراً من أحبار اليهود جاءوا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقالوا : يا محمداً أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ ، فإن فعلت ذلك اتّبعناك وصدّقناك وآمنّا بك ، فقال لهم رسول الله : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدّقنّني ؟ قالوا : نعم ، قال : فسألوا عمّا بدا لكم ... وممّا سألوا عنه نوم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ فقالوا : كيف نومك ؟ فقال : تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا : فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه ؟ قال : حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ، فصدّقوه في الإجابة عن هٰذين السؤالين ، ثمّ قالوا له : فأخبرنا عن الروح ، قال : أنشدكم بالله وبأيّامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبرئيل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا : اللّهمّ نعم ، ولكنّه يا محمد لنا عدوّ وهو ملك إنّما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتّبعناك ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّـهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّـهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 97 و 98 ) (2).

وما ذكرنا من شأن النزول يؤيّد ما ذكرناه سابقاً من أنّ المقصود من الروح في قوله سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) ( الإسراء / 85 ) هو الروح الأمين لا الروح الإنسانية ، وأنّ ما اُثير حولها في التفاسير المختلفة مبني على تفسير الروح بالروح الإنسانية وهو غير صحيح.

وعلى أي تقدير فنصب العداء لجبرئيل نصب للعداء له سبحانه ، لأنّ جبرئيل مأمور من جانبه ومبلّغ عنه هو وجميع الملائكة : ( لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم / 6 ).

3 ـ إنكار نبوّة سليمان ( عليه السلام ) :

إنّ رسول الله لمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين ، قال بعض أحبارهم : ألا تعجبون من محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيّاً ، والله ما كان إلّا ساحراً ، فأنزل الله تعالى في ذلك : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ( البقرة / 102 ) (3).

4 ـ كتابه إلى يهود خيبر :

كتب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى يهود خيبر بكتاب جاء فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدّق لما جاء به موسى على أنّ الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة ، وأنّكم لتجدون ذلك في كتابكم : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ).

وإنّي انشدكم بالله ، وانشدكم بما أنزل عليكم وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى ، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني : هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد ؟ فإن كنتم لاتجدوني ذلك في كتابكم فلاكره عليكم ( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فأدعوكم إلى الله وإلى نبيّه (4).

5 ـ إنكار أخذ الميثاق منهم :

إنّ أحد أحبار اليهود قال لرسول الله : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها ، وقد كانوا ينكرون العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الاُمّي.

فأنزل الله سبحانه في ردّهم : ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة / 99 و 100 ).

ولفظة « كلّما » تفيد التكرّر فيقتضي تكرّر النقض منهم (5).

6 ـ الاقتراحات التعجيزيّة :

وقد كان اليهود قد تقدّموا باقتراحات تعجيزيّة على غرار ما بدر من المشركين فقد سألت العرب محمداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يأتيهم بالله فيروه جهرة ، فنزل قوله سبحانه : ( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ( البقرة / 108 ).

وقال رافع بن حريملة لرسول الله : يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلّمنا حتى نسمع كلامه ، فنزل قوله سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (6).

7 ـ تنازع اليهود والنصارى عند الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم :

لمّا قدم أهل نجران من النصارى على رسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقال رافع بن حريملة : ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسىٰ وبالإنجيل ، فقال رجل من أهل نجران من النصارىٰ لليهود : ما أنتم على شيء ، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة ، فأنزل الله في ذلك قوله :

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّـهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( البقرة / 113 ).

فقوله سبحانه : ( وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) إشارة إلى أنّ كلّاً من الفريقين يتلو في كتابه تصديق ما كفر به ، أي كفر اليهود بعيسى بن مريم وعندهم التوراة فيما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسىٰ ( عليه السلام ) من تصديق موسى ( عليه السلام ) وما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد صاحبه.

وقوله سبحانه : ( كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) إشارة إلى أنّ مشركي العرب الذين هم جهّال وليس لهم كتاب ، هكذا قالوا لمحمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأصحابه : إنّهم ليسوا على شيء من الدين مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض (7).

وربمّا بلغ تجاسرهم بساحة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فطلبوا منه أن يقتدي بإحدى الشريعتين ، قال ابن عباس : إنّ جماعة من اليهود ونصارى نجران ذمّوا أهل الإسلام ، كل فرقة تزعم أنّها أحق بدين الله من غيرها ، فقالت اليهود : نبيّنا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وقالت النصارىٰ : نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وكل فريق منهما قالوا للمؤمنين كونوا على ديننا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقيل : إنّ ابن صوريا قال لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ما الهدى إلّا ما نحن عليه فاتّبعنا تهتدِ ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل الله هذه الآية. ( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ).

فرّد الله عليهم بقوله : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( البقرة / 135 ).

8 ـ التشبّث بالكلمات المتشابهة :

كان اليهود لايألون جهداً في إثارة القلاقل والفتن والاستهزاء بالنبيّ إلى حدّ يصرّون على استعمال الكلمات المشتركة بين المعنى الحسن والمعنى القبيح.

فعلى سبيل المثال عندما كان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يتحدّث ، كان المسلمون يطلبون منه التأنّي في التحدّث فيقولون : « راعنا » ، بمعنى أمهلنا مشتق من مادّة « رعى » ، فحرّفت اليهود هذه اللفظة ، فقالوا : يا محمد راعنا ، وهم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة والوقيعة ومعناه « حمّقنا » ، ولأجل ذلك وافى الوحي وأمر أن يتركوا هذه الكلمة ويستعملوا مكانه « انظرنا » قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة / 104 ).

وقال العلّامة الطباطبائي في الآية نهي شديد عن قول : « راعنا » ، وهذه الكلمة ذكرتها آية اُخرى وبيّنت معناها في الجملة وهي قوله تعالى : ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) ( النساء / 46 ).

ومنه يعلم أنّ اليهود كانوا يريدون بقولهم للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : راعنا ، نحواً من معنى قوله : ( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) ، ولذلك ورد النهي عن خطاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذلك وحينئذ ينطبق على ما نقل : إنّ المسلمين كانوا يخاطبون النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذلك إذا ألقى إليهم كلاماً يقولون : « رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللهِ » ، يريدون : أمهلنا وانظرنا حتّى نفهم ما تقول ، وكانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم ، فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بذلك ، يظهرون التأدّب معه وهم يريدون الشتم ، ومعناه عندهم : اسمع لاأسمعت ، فنزل : ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ... ) ونهى الله المؤمنين عن الكلمة وأمرهم أن يقولوا ما في معناه وهو : انظرنا ، فقال : ( لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا ) (8).

9 ـ كتمان الحقائق :

سأل معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وخارجة بن زيد ، نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم وأبوا أن يخبروهم عنه ، فأنزل الله تعالى فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) ( البقرة / 159 ) (9).

ولو أنّ أحبار اليهود مثل كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وابن صوريا وغيرهم من علماء النصارى بيّنوا للناس ما ورد في التوراة والإنجيل من أوصافه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لعمّ الإسلام شرق العالم وغربه ويا للأسف رجّحوا الاحتفاظ بمناصبهم على ثواب الآخرة.

10 ـ النبيّ الأكرم وبيت المدارس :

دخل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بيت المدارس (10) على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله ، فقال لهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ قال : على ملّة إبراهيم ودينه ، قال : فإنّ إبراهيم كان يهوديّاً. فقال لهما رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : فهلمّا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم. فأبيا عليه ، فأنزل الله تعالى فيهما : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّـهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( آل عمران / 23 و 24 ).

وقد رووا أنّ أحبار اليهود ونصارى نجران إجتمعوا عند رسول الله ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلّا يهوديّاً ، وقالت النصارى من أهل نجران : ما كان إبراهيم إلّا نصرانيّاً ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ  هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ  مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّـهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 65 ـ 68 ) (11).

إنّ ادّعاءهم بأنّ إبراهيم ( عليه السلام ) كان يهوديّاً أو نصرانيّاً نابع عن جهلهم المطبق بحياة إبراهيم ، فكيف يكون إبراهيم يهوديّاً أو نصرانيّاً وهو والد إسحاق الّذي هو والد يعقوب المعروف بيهودا فما ظنّك بكونه نصرانيّاً ؟

11 ـ الإيمان غدوة والكفر عشيّة :

لمّا رأت اليهود أنّ الإسلام ينتشر شيئاً فشيئاً ، فحاولوا تشويه سمعته بالتظاهر بالإنتماء إلى الإسلام صباحاً والخروج عنه عشيّة حتّى يلبسوا على المسلمين دينهم ويصيروا مثلهم ، فقال جماعة منهم : تعالوا نؤمن بما اُنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتّى نلبس عليهم دينهم لعلّهم يصنعون كما نصنع ويرجعون عن دينه ، فأنزل الله تعالى فيهم : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّـهِ أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران / 71 ـ 73 ).

12 ـ إتّهام النبيّ بأنّه يُؤَلِّهُ نفسه :

اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فدعاهم إلى الإسلام ، فقالوا : أتريد منّا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ وقال رجل من أهل نجران : أو ذاك تريد منّا يا محمد ؟ وإليه تدعونا ؟ فقال رسول الله : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره فما بذلك بعثني الله ولا أمرني. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّـهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّـهِ وَلَـٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ  وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( آل عمران / 79 و 80 ).

ومحصّل ما يستفاد من الآية إنّ البشر الذي آتاه الله تعالى الكتاب والحكم والنبوّة كائناً من كان ـ عيسى كان أم محمد ـ إنّما يدعوكم إلى التلبّس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلّمونه وتدرسونه من اُصول المعارف الإلهيّة والإتّصاف بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها والعمل بالصالحات حتى تنقطعوا بذلك إلى ربّكم وتكونوا به علماء ربّانيين.

ثمّ إنّ الربّاني منسوب إلى الرب ، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال « لحياني » لكثير اللحية ونحو ذلك ، فمعنى الربّاني شديد الإختصاص بالرب وكثير الإشتغال بعبوديّته وعبادته (12).

13 ـ سعيهم للوقيعة بين الأنصار :

نزل النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مدينة يثرب فوجد الأوس والخزرج في شقاق ، فآخى بينهما وجعل الجميع صفّاً واحداً في وجه اليهود ، فشقّ ذلك على الكافرين فحاولوا جاهدين أن يشقّوا عرى وحدتهم بوسائل مختلفة ، فمرّ شاس بن قيس ـ وكان شيخاً عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد عليهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه فغاظه ما رأى من ألفهم وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، وقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذا البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتىً شابّاً من اليهود كان معهم ، فقال : أعمد إليهم ، فاجلس معهم ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقوّلوا فيه من الأشعار ، ففعل ذلك الشاب ، فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين ... فبلغ ذلك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين ! الله الله ! أبدعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم ، فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدوّهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ثمّ انصرفوا مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شاس بن قيس ، فأنزل الله تعالى في شاس بن قيس وما صنع : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / 98 و 99 ) (13).

14 ـ الحط من شأن مَنْ آمن من اليهود :

قد سبق وأن عرفت أنّ اليهود كانوا ـ ومازالوا ـ أكثر تعصّباً لقوميتهم ودينهم ولأجل ذلك لم يدخل منهم في الإسلام إلّا الأقل القليل مثل عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود معهم ، فخاف الملأ من اليهود أن يدخل الإسلام في سائر البيوت ، فنشروا بينهم : ما آمن بمحمد ولااتّبعه إلّا شرارنا ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله تعالى في ذلك : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّـهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) ( آل عمران / 113 ).

15 ـ دعوة المسلمين إلى البخل :

كان الإسلام ينتشر صيته في الربوع والآفاق بفضل ما كان يمتلكه من مبادئ سامية وقيم مثالية وإيثار معتنقيه النفس والنفيس ، فشق ذلك على اليهود فحاولوا خداع المسلمين حتّى يصدّوهم عن البذل في سبيل نصرة الدعوة المحمدية وخوّفوهم بحلول القحط.

قال ابن هشام : كان رجال من اليهود يأتون رجالاً من الأنصار يخالطونهم ينتصحون لهم من أصحاب رسول الله ، فيقولون لهم : لاتنفقوا أموالكم فإنّنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولاتسارعوا في النفقة فإنّكم لاتدرون على ما يكون ، فأنزل الله فيهم : ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) ( النساء / 37 ).

16 ـ تفضيلهم الوثنية على الإسلام :

كانت فكرة تأليب العرب هي الفكرة التي إختمرت في نفوس يهود المدينة خصوصاً بعد غزوة بدر وأُحد ، فخرجوا من المدينة نازلين بمكة ، فقالت قريش لليهود : يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الأوّل وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفَديننا خير أم دينه ؟ قالت اليهود : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه ، فنزل القرآن ردّاً عليهم بقوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَـٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّـهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّـهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ) ( النساء / 51 و 52 ).

وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيّتهم على توحيد محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) :

« كان من واجب هؤلاء ألّا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وألّا يصرّحوا أمام زعماء قريش بأنّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم لأنّ بني إسرائيل الّذين كانوا مدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الاُمم الوثنية بإسم الآباء الأقدمين والذين نكبوا بنكبات لاتحصى من تقتيل وإضطهاد بسبب إيمانهم بالٰه واحد في عصور شتّى من الأدوار التاريخية ، كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين ، هذا فضلاً عن أنّهم بإلتجائهم إلى عبدة الأصنام إنّما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام وبالوقوف منهم موقف الخصومة » (14).

17 ـ إدّعاؤهم أنّهم أحبّاء الله وأصفياؤه :

أتى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) جماعة من اليهود فكلّموه وكلّمهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته ، فأنزل الله تعالى فيهم : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّـهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) ( المائدة / 18 ).

18 ـ إنكارهم نزول كتاب بعد موسى :

دعا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) اليهود إلى الإسلام ورغّبهم فيه ، وحذّرهم غِيرَ الله وعقوبته ، فأبوا عليه وكفروا بما جاءهم به ، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر اليهود إتّقو الله فوالله إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته ، فقال بعضهم : ما قلنا لكم هذا قط وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولاأرسل بشيراً ولانذيراً بعده ، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما :

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( المائدة / 19 ) (15).

19 ـ رجوعهم إلى النبيّ في حكم الرجم :

إنّ أحبار اليهود إجتمعوا في بيت المدارس ، حين قدم رسول الله المدينة وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من اليهود قد أحصنت ، فقالوا : إبعثوا بهذا الرّجل وهذه المرأة إلى محمد فسلوه كيف الحكم فيهما ، وولّوه الحكم عليهما فإن عمل فيهما بعمل من التجْبية فاتّبعوه فإنّما هو ملك وصدّقوه ، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنّه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه ، فأتوه فقالوا : يا محمد ! هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما ، فقد ولّيناك الحكم فيهما ، فمشى رسول الله حتّى أتى أحبارهم في بيت المدارس ، فقال : يا معشر اليهود ! أخرجوا إليّ علماؤكم ، فاُخرج له عبد الله بن صوريا وغيره ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا ، وقالوا : إنّ عبدالله ابن صوريا أعلم من بقى بالتوراة ، فخلي به رسول الله وكان غلاماً شابّاً من أحدثهم سنّاً ، فألحّ رسول الله عليه المسألة وقال له : أنشدك الله واُذكّرك بأيّامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أنّ الله حكم في من زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟

قال : اللّهم نعم ! أما والله يا أبا القاسم إنّه ليعرفونك أنّك لنبيّ مرسل ولكنّهم يحسدونك ، فخرج رسول الله فأمر بهما فرجما في باب مسجده ، ثمّ كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوّة رسول الله ، فأنزل الله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّـهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّـهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ( المائدة / 41 و 42 ).

ونقل ابن هشام عن ابن إسحاق : إنّه لما حكّموا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيهما ، دعاهم بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها وقد وضع يده على آية الرجم ، فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر ثمّ قال : هذه يا نبيّ الله آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك ، فقال لهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ويحكم يا معشر يهود ! ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم ؟ قال : « فقالوا أما والله أنّه قد كان فينا يعمل به ، حتّى زنى رجل منّا بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف فمنعه الملك من الرّجم ثمّ زنى رجل بعده فأراد أن يرجمه فقالوا : لا والله حتّى ترجم فلاناً ! فلمّا قالوا له ذلك إجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية وأماتوا ذكر الرجم ، والعمل به ». قال : فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : فأنا أوّل من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به ، ثمّ أمر بهما فرجما عند باب مسجده ، قال عبد الله بن عمر : فكنت فيمن رجمهما (17).

20 ـ ظلمهم في الديّة :

كانت قبيلة بني النضير يؤدّون الديّة كاملة وبنو قريظة كانوا يؤدّون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله ، فنزل قوله سبحانه : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ( المائدة / 42 ).

فحملهم رسول الله على الحق ذلك وجعل الديّة سواء.

21 ـ قصدهم الفتنة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم :

قال جماعة من اليهود : اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فإنّما هو بشر ، فأتوه فقالوا له : « يا محمد إنّك قد عرفت انّا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وإنّا إن إتّبعناك إتّبعتك اليهود ولم يخالفنا وإنّ بيننا وبين بعض قومنا خصومة أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدّقك ؟ » فأبى ذلك رسول الله ، فأنزل الله فيهم : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ  أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ( المائدة / 49 و 50 ).

22 ـ إنكار نبوّة المسيح :

مناصبة اليهود العداء للمسيحيين لها جذور متأصّلة في التاريخ فمذ أعلن المسيح بنبوّته ورسالته قامت اليهود في وجهه وأنكروا رسالته ، يقول سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الصف / 6 ).

نعم نرى اليوم تحالف اليهود مع المسيحيين لضمان المصالح المشتركة التي على رأسها وأهمّها القضاء على الإسلام وإبعاده عن المجتمع والحياة ، ولأجل ذلك نرى أنّ البابا قام مؤخّراً بزيارة الكنيست اليهودي في روما وأعلن خلال زيارته له براءة اليهود من دم المسيح من أجل توحيد الصف ودعم الجهود الكفيلة بالقضاء على المسلمين ودينهم ، ولكنّهم في الواقع والحقيقة لازالوا يكنّون نفس العداء التاريخي المتأصّل في نفوسهم.

روي أنّ نفراً من اليهود أتوا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فسألوه عمّن يؤمن به من الرّسل ؟ فقال : اُؤمن بالله ، فعند ذاك جحدوا نبوّة المسيح وقالوا والله ما نعلم أهل دين قطّ أخطأ في الدّنيا والآخرة منكم ولاديناً شرّاً من دينكم ، فأنزل الله : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) ( المائدة / 59 ) (18).

23 ـ إشراكهم بالله عزّ وجلّ :

إنّ العصبية العمياء ربّما تبلغ بالإنسان حدّاً ينكر ما كان يدين به هو وقومه طيلة قرون إنصرمت ، فهؤلاء اليهود المعاصرون كانوا يفتخرون ويتمجّدون بدين التوحيد ، وأنّهم ضحّوا في سبيله نفسهم ونفيسهم ، ولكنّهم لمّا رأوا أنّ النبيّ الأكرم يدعو إلى هذا المبدأ ، ويتّخد منه الحجر الأساس لدعوته ، عادوا ينكرونه ويروّجون الشرك تشفّياً لغيظهم وحنقهم.

أتى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) جماعة من اليهود فقالوا له : يا محمد أما تعلم مع الله إله غيره ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : « الله لا إله إلّا هو بذلك بعثت وإلى ذلك أدعوا » ، فأنزل الله فيهم وفي قولهم : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّـهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّـهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لَّا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام / 19 ) (19).

24 ـ سؤالهم عن محين الساعة :

تعلّقت مشيئته الحكيمة بكتمان وقت الساعة ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( لقمان / 34 ) ، ومع ذلك جاء جماعة من اليهود قالوا : أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبيّاً ، فنزل قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّـهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) ( الأعراف / 187 ).

ولم يكن هذا السؤال إلّا تعنّتاً وعناداً لأنّهم هم الذين ذكروا لقريش : إسألوا محمداً عن وقت الساعة فإن خوّل علمها إلى الله سبحانه فاعلموا أنّه نبي ... (20).

هذه نماذج من مناظراتهم ومشاغباتهم التي تنم عن مبلغ لجاجهم وعنادهم وممّا يصوّر لك طبيعتهم.

25 ـ تهجّمهم على ذات الله عزّ وجلّ :

أتى رهط من اليهود إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقالوا : يا محمّد هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فغضب رسول الله حتّى انتقع لونه ثمّ ساورهم (21) غضباً لربّه ، فجاءه جبرئيل ( عليه السلام ) فسكّنه فقال : خفّض عليك يا محمد ، وجاءه عن الله بجواب ما سألوه عنه : ( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ * اللَّـهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ).

فلمّا تلاها عليهم ، قالوا : فصف لنا يا محمد كيف خلقة ( الله ) ، كيف ذراعه ، كيف عضده ؟ فغضب رسول الله أشدّ من غضبه الأوّل وساورهم ، فأتى جبرئيل فقال له مثل ما قال له أوّل مرّة ، وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه يقول الله تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الزمر / 67 ).

26 ـ طلبهم كتاباً من السماء :

إنّ اليهود كانت جاهلة بحكمة نزول القرآن تدريجيّاً وقد ورد النص بها في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) ( الفرقان / 32 ).

إنّ في نزول القرآن تدريجيّاً منجّماً حسب الوقائع والأحداث لدلالة واضحة على أنّه وحي إلٰهي ينزل شيئاً فشيئاً حسب الحاجات وليس شيئاً متعلّماً عن ذي قبل من إنس أو جن ، ولكن جهل اليهود بحكمته دعاهم إلى أن يطلبوا عن رسول الله نزول القرآن جملة واحدة من السماء حتّى يروا باُمّ أعينهم أنّه كتاب سماوي اُنزل من عند الله سبحانه وهم يضاهئون في هذا الإقتراح قول المشركين في مكّة (22).

أتى جماعة من اليهود رسول الله ، فقالوا : يا محمد ! إنّ هذا الذي جئت به لحقّ من عند الله ؟ فإنّا لانراه متّسقاً كما تتّسق التوراة ؟ فقال لهم رسول الله : أما والله لأنّكم لتعرفون أنّه من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ولو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به ، فقالوا : يا محمّد أما يعلّمك هذا انس ولاجن ؟ فقال لهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أما والله إنّكم تعلمون أنّه من عند الله وإنّي لرسول الله تجدون ذلك مكتوباً عندكم في التوراة ، فقالوا : يا محمد فإنّ الله يصنع لرسول إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما أراد ، فأنزل علينا كتاباً من السماء نقرأه ونعرفه وإلّا جئناك بمثل ما تأتي به ، فأنزل الله تعالى فيهم وفيما قالوا : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء / 88 ).

27 ـ تحويل القبلة إلى الكعبة :

كان النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يصلّي إلى بيت المقدس في المدينة المنوّرة إلى سبعة عشر شهرا (23) من الهجرة ، وكانت اليهود تعيّر المسلمين على تبعيّة قبلتهم ويتفاخرون بذلك عليهم ، فحزن رسول الله ذلك فخرج في سواد الليل يقلّب وجهه في السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه وكشف همّه ، فنزل الوحي بقبلة جديدة ، فقطع تعييرهم وتفاخرهم ، قال سبحانه : ( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة / 144 ).

وروى الصدوق أنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) صلّى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهراً بالمدينة ثمّ عيّرته اليهود ، فقالوا : إنّك تابع قبلتنا فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً ، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء فلمّا أصبح صلّى الغداة فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له : ( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... ) ثمّ أخذ بيد النبي فحوّل وجهه إلى الكعبة وحوّل من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال ، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، فبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو القبلة ، فكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين (24).

وقد أثار هذا الأمر أسئلة واعتراضات من جانب اليهود بل المؤمنين أنفسهم وجاء الذكر الحكيم مجيباً عنها بما يلي :

1 ـ أتى جماعة من اليهود مثل رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف وغيرهما فقالوا : يا محمد ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنّك على ملّة إبراهيم ودينه أرجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتّبعك ونصدّقك. وإنّما يريدون بذلك فتنته عن دينه ، وهذا هو الاعتراض الذي يتناوله الوحي مشفوعاً بالجواب : ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) وبعبارة اُخرى إنّ التحوّل كان بأمر من الله فكيف يأمر به مع انّه هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ ما شرعه ( واليهود من القائلين بامتناع النسخ ) وإن كان بغير أمر الله فهو انحراف عن الصراط المستقيم.

وأمّا الجواب فهو إنّ جعل بيت من البيوت أو بناء من الأبنية قبلة ليس لاقتضاء ذاتي فيه يستحيل التعدّي عنه ، بل جميع الأجسام والأبنية بل جميع الجهات من الشرق والغرب إليه سبحانه على السواء يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى شاء ، وانّ الإعتراض نابع من قلّة عقلهم أو عدم استقامته في درك حقيقة التشريع.

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه : ( قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( البقرة / 142 ).

2 ـ لمّا كان المقدّر أن تكون الكعبة هي القبلة الأخيرة فما هو السبب في جعل بيت المقدس قبلة اُولى للمسلمين ؟

والجواب : إنّ المصالح كانت تقتضي أن يصلّي المسلمون إلى القبلة الاُولى في مكّة والمدينة في أوائل البعثة وأوائل الهجرة وذلك لأنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في مكّة المكرمة وبعد الهجرة بقليل كان مبتلى بالمشركين الذين لايصلّون لله سبحانه ولايعبدونه وإنّما يعبدون الأوثان والأصنام ، فعندئذٍ أمر النبي بالصلاة إلى بيت المقدس ( الذي كان الموحّدون من اليهود والنصارى يصلّون إليه ) حتّى يتميّز الموحّدون عن المشركين ويكون ذلك سمة التوحيد وعلامته ، فكانت الصلاة إلى بيت المقدس وسيلة لتميّز الموحّدين عن المشركين.

ولمّا كانت العرب شديدة الاُلفة بمكّة وقبلتها فأحبّ الله تعالى أن يمتحن القوم بغير ما ألفوا ليميّز من يتّبع الرسول عمّن ينقلب على عقبيه.

ولأجل هذين الوجهين ( تميّز الموحّدون عن المشركين وامتحان من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه من العرب الآلفة بمكّة وقبلتها ) أمر المسلمون بالصلاة إلى بيت المقدس مؤقّتاً وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ ) ( البقرة / 143 ).

ولعلّ قوله : ( لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) إشارة إلى الوجه الأوّل.

كما أنّ قوله : ( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ ) إشارة إلى الوجه الثاني وهو اختبار من يخالف العادة والاُلفة لأجل إمتثال أمر الرسول ، فإنّ مخالفة العادات والتقاليد كبيرة إلّا على الذين هدى الله.

والحاصل إنّ جعل بيت المقدس قبلة لأجل تمحيص المؤمنين من غيرهم وتميّز المطيعين من العاصين والمنقادين من المتمرّدين.

وأمّا العدول عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد عرفت أنّه ليس لمكان أو بيتٍ شرفٌ ذاتي بل الحكم يدور مدار المصلحة ، فصارت المصالح مقتضية بأن يتميّز المسلمون من اليهود بتفكيك قبلتهم التي كانوا يصلّون إليها عن قبلة اليهود ، ويميّز المنافق المتظاهر بالإسلام من اليهود عن المؤمن المنقاد الواقعي ، ولأجل ذلك حوّلت القبلة إلى الكعبة.

3 ـ ما حكم الصلوات التي كان المسلمون قد أدّوها إلى بيت المقدس ؟

والجواب : إنّ القبلة قبلة ما لم تنسخ وإنّ الله سبحانه إذا نسخ حكماً نسخه من حين النسخ لا من أصله لرأفته ورحمته بالمؤمنين ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 143 ).

وأمّا الاقتراح الذي تقدّمت به اليهود إلى النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من رجوعه إلى القبلة السابقة حتّى يتّبعوه ويصدّقوه فإنّما هو وعد مكذوب لايتّبعون قبلته إلى آخر الدهر ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( البقرة / 145 ).

والمراد من الإيمان في الآية في قوله : ( وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) هو العمل. قال ابن عباس : قالوا كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك ؟ وكان قد مات أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وكانا من النقباء.

وبذلك يعلم أنّ ما ذكره سبحانه قبل هذه الآيات من قصّة إبراهيم وأنواع كرامته وكرامة ابنه إسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكّة وللنبيّ والاُمّة المسلمة وبنائهما البيت والأمر بتطهيره للعبادة ، كل ذلك تمهيد لحادثة تغيير القبلة واتّخاذ الكعبة قبلة ، فإنّ تحويل القبلة من أعظم الحوادث الدينية وأهم التشريعات التي قوبل بها الناس بعد هجرة النبيّ إلى المدينة. فكانت محتاجة إلى ترويض النفوس لقبولها.

28 ـ مباهلة النبيّ نصارى نجران : (25)

لمّا كتب رسول الله إلى ملوك العرب والعجم رسائله التبليغية وبعث رسله إلى الأقوام والقبائل ، أرسل عتبة بن غزوان ، وعبد الله بن أبي اُميّة وصهيب بن سنان إلى نجران ونواحيه وكتب معهم (26) إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى رفض الأقانيم والأنداد والتزام التوحيد وعبادة الله تعالى ، وها نحن نسوق إليك نصّ كتابه :

« بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، من محمّد النبيّ رسول الله إلى أسقف نجران ، فإنّي أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، وإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم آذنتكم بحرب » (27).

ولمّا قرأ الأسقف الكتاب فزع وارتاع وشاور أهل الحجى والرأي منهم ، فقال شرحبيل ـ وكان ذالبّ ورأي بنجران ـ : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذريّة إسماعيل من النبوّة فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ؟ وليس لي في النبوّة رأي لو كان أمر من اُمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فبعث الأسقف إلى واحد من بعد واحد من أهل نجران فتشاوروا فكثر اللغط وطال الحوار ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً يأتي رسول الله فيرجع بخبره.

فأوفدوا إليه ستّين راكباً وفيهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوو الرأي والحجى منهم وثلاثة يتولّون أمرهم : العاقب إسمه عبد المسيح ، أمير الوفد الذي لايصدرون إلّا عن رأيه ، والسيّد وإسمه الأيهم وهو ثمالهم وصاحب رحلهم ، وأبوحارثة بن علقمة أسقفهم الأوّل وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وهو الأسقف الأعظم (28).

فجاءوا إلى النبي حتّى دخلوا على رسول الله وقت العصر ، فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرات (29) وأردية الحرير مختّمين بخواتيم الذهب وأظهروا الصليب وأتوا رسول الله فسلّموا عليه ، فلم يرد عليهم السلام ولم يكلّمهم ، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف وكان لهما معرفة بهم فوجدوهما في مجلس من المهاجرين ، فقالوا : إنّ نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه وسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا ولم يكلّمنا. فما الرأي ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ قال : أرى أن يضعوا حللهم هذه ، وخواتيمهم ثمّ يعودون إليه ، ففعلوا ذلك ، فسلّموا فردّ عليهم سلامهم ، ثمّ قال : والذي بعثني بالحق لقد آتيتموني المرّة الاُولى وإنّ إبليس لمعكم (30).

وكانوا قد أتوا معهم بهديّة وهي بُسَط إلى النبيّ فيها تماثيل ومسوح ، فصار الناس ينظرون للتماثيل ، فقال : أمّا هذه البسط فلاحاجة لي فيها ، وأمّا هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها ، فقالوا : نعم نعطيكها ، ولمّا رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزيّ الحسن ، تشوّقت نفوسهم ، فنزل قوله سبحانه :

( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ( آل عمران / 15 ).

ثمّ أرادوا أن يصلّوا بالمسجد بعد أن حانت وقت صلاتهم ، وذلك بعد العصر فأراد الناس منهم ، فقال النبي : دعوهم ، فاستقبلوا المشرق فصلّوا صلاتهم فلمّا قضوا صلاتهم ناظروه.

 فقالوا لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : إلى ما تدعو ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وإنّي رسول الله وإنّ عيسى عبد مخلوق ، يأكل ويشرب ، ويُحدث ، فقالوا : فمن أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول الله ، فقال : قل لهم : « ما تقولون في آدم أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدث وينكح ؟ فسألهم النبيّ ، فقالوا : نعم ، فقل : فمن أبوه ؟ فبهتوا ، فأنزل الله : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ  فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ( آل عمران / 59 ـ 61 ).

الدعوة إلى المباهلة

فلأجل ذلك قال لهم رسول الله : فباهلوني فإن كنت صادقاً اُنزلت اللّعنة عليكم وإن كنت كاذباً اُنزلت عليّ ، فقالوا : « أنصفت » ، فتواعدوا للمباهلة ، فلمّا رجعوا إلى منازلهم ، قال لهم رؤساؤهم ـ السيّد والعاقب والأيهم ـ : إن باهلنا بقومه باهلناه فإنّه ليس نبيّاً ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة لم نباهله فإنّه لايقدّم أهل بيته إلّا وهو صادق ، فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول الله ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين ، فقال النصارى : من هؤلاء ؟ فقيل لهم : هذا ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب وهذه ابنته فاطمة وهذان ابناه الحسن والحسين ، ففزعوا ، فقالوا لرسول الله : نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة ، فصالحهم رسول الله على الجزية وانصرف (31).

وروى الطبرسي : ولمّا كان الغد جاء النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) آخذ بيد علي بن أبي طالب والحسن والحسين ( عليهم السلام ) بين يديه يمشيان وفاطمة ( عليها السلام ) تمشي خلفه ، وخرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم فلمّا رأى النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد أقبل بمن معه ، سأل عنهم ، فقيل له : هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحبّ الخلق إليه وهذان ابنا بنته من علي ( عليه السلام ) وهذه الجارية بنته فاطمة ، أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه ، وتقدّم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فجثا على ركبتيه.

قال أبو الحارثة الأسقف : جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة ، فسكع ولم يقدم على المباهلة ، فقال السيّد : ادن يا أبا حارثة للمباهلة ، فقال : لا ، إنّي لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقاً ولئن كان صادقاً لم يحل والله علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء ، فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنّا لانباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به ، فصالحهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على ألفي حلّة من حلل الأواقي قيمة كل حلّة أربعون درهماً فما زاد ونقص فعلى حساب ذلك ، وعلى عارية ثلاثين درعاً ، وثلاثين رمحاً ، وثلاثين فرساً إن كان باليمن كيد ، ورسول الله ضامن حتّى يؤديها وكتب لهم بذلك كتاباً.

وروي أنّ الأسقف قال لهم : إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولايبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، وقال النبيّ : والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم الوادي عليهم ناراً ، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلّهم ، قالوا : فلمّا رجع وفد نجران ، لم يلبث السيّد والعاقب إلّا يسيراً ، حتّى رجعا إلى النبيّ ، وأهدى العاقب له حلّة وعصا وقدحاً ونعلين وأسلما (32).

وهناك كلمة قيّمة للزمخشري يقول فيها :

فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلّا لتبيّن الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختصّ به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟

قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث تجرّأ على تعريض أعزّته وأفلاذ كبده وأحبّ الناس إليه لذلك ، لم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتّى يهلك خصمه مع أحبّته وأعزّته هلاك الإستئصال إن تمّت المباهلة. وخصّ الأبناء والنساء لأنّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربّما فداهم الرجل بنفسه ، وحارب دونهم حتّى يقتل ، ومن ثمّ كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم : « حماة الحقائق » وقدّمهم في الذكر على الأنفس ( في الآية ) لينبّه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم وليؤذن بأنّهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها ، وفيه دليل لاشيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء ( عليهم السلام ) وفيه برهان واضح على صحّة نبوّة النبيّ لأنّه لم يرو أحد من موافق ولامخالف أنّهم أجابوا إلى ذلك (33).

ومن أمعن فيما ورد من سبب النزول وشرحه في كتب الحديث والتفسير يقف على مكرمة وفضيلة عظيمة لأهل البيت ( عليهم السلام ) في تلك الحادثة ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء » للسيّد شرف الدين ( ص 197 ـ 203 ).

وهناك نكتة اُخرى نقلها الرازي عن بعض معاصريه من الشيعة ولم يناقش في كلامه مع غرامه بنقض المحكمات وهيامه في التشكيكات والشبهات ، قال :

كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي وكان معلّم الإثنى عشرية وكان يزعم أنّ عليّاً ـ رضي الله عنه ـ أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) واستدلّ على ذلك بقوله تعالى : ( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) إذ ليس المراد بقوله ( وَأَنفُسَنَا ) نفس محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لأنّ الإنسان لايدعو نفسه بل المراد غيرها ، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان علي بن أبي طالب (رض) فدلّت الآية على أنّ « نفس علي » هي محمد ، ولايمكن أن يكون المراد إنّ هذه النفس هي عين تلك ، فالمراد إنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي المساواة في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوّة وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أنّ محمداً عليه الصلاة والسلام كان نبيّاً وما كان علي كذلك ولإنعقاد الإجماع على أنّ محمداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان أفضل من علي (رض) فبقى فيما وراءه معمولاً به ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان أفضل من سائر الأنبياء ( عليهم السلام ) فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء (34).

29 ـ الخلفيّة التشريعيّة لحرمة الأشهر الحرم :

ربّما نقرأ في بعض الصحف والكتب أنّ عرب الجاهلية هم الذين حرّموا الحرب في الأشهر الحرم وأضفوا عليها مسحة قدسية خاصة ، وذلك لأنّهم كانوا متوغّلين في الحروب والغارات وكان تمادي الظاهرة القبليّة الشاذّة موجباً لفكّ عرى الحياة ، ولأجل ذلك استثنوا هذه الأشهر لتقويم أودهم وضمان أمن طرق التجارة وتيسير أمر زيارة الكعبة.

ولكنّها فكرة خاطئة تخالف ما نستلهمه من القرآن الكريم ، فإنّ الظاهر منه أنّ حرمة الأشهر لها جذور دينية وأنّها جزء من صميم الدين القيّم الذي جاء به إبراهيم ( عليه السلام ) إلى اُمّته ، قال سبحانه : ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّـهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّـهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ... ) ( التوبة / 36 ).

فإنّ قوله : ( ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ربّما يشير إلى أنّ اتّصاف الأربعة بالحرم جزء من الدين القيّم وتشريعاته.

وعلى ذلك الأساس فالنبيّ الأكرم أولى بأن يحافظ على حرمتها ويراعي قدسيّتها ، وبذلك يسهل لك القضاء في الحادثة الدموية التي وقعت في مستهلّ شهر رجب بيد المسلمين وهي التي استغلّتها قريش للتعيير بالنبيّ والإزدراء به ، وأنّه هدم قدسيّة تلك الأشهر وإراقة الدم فيها ، وإليك نصّ القصة :

بعث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفلة من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب لهم كتاباً وأمره أن لاينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه ، فيمضي بما أمره به ولايستكره من أصحابه أحداً.

فلمّا سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة والطائف ، فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم.

فلمّا نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : سمعاً وطاعة ، ثمّ قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتّى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع ، فأمّا أنا فماض لأمر رسول الله ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلّف منهم أحد.

وسلك إلى الحجاز حتّى إذا كان بمعد فوق « الفرع » يقال له « بحران » أضلّ سعد ابن أبي وقّاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما ، كانا يتعاقبانه ، فتخلّفا عليه في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقيّة أصحابه حتّى نزل بنخلة ، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارة قريش ، فيها عمرو بن الحضرمي ، فلمّا رآهم القوم (35) هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم ، فأشرف لهم عكاشة ابن محصن وكان قد حلق رأسه فلمّا رأوه أمنوا وقالوا : عمّار لابأس عليكم منهم ، وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : (36) والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ منكم به (37) ولئن قتلتموهم لنقتلنّهم في الشهر الحرام ، فتردّد القوم (38) وهابوا الإقدام عليهم ثمّ شجّعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم فرمى واقد بن عبد الله التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت القوم (39) نوفل ابن عبد الله فأعجزهم وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين حتّى قدموا على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

فلمّا قدموا على رسول الله المدينة ، قال : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فوقّف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً ، فلمّا قال ذلك رسول الله ، سقط في أيدي القوم وظنّوا أنّهم قد هلكوا وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا ، وقالت قريش : قد استحلّ محمّد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال.

وقد توقّع اليهود لأجل هذه الحادثة بالمسلمين الشر ، فلمّا أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّـهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 217 و 218 ).

والآية الثانية تحكي عن نزول المغفرة لعبد الله بن جحش وأصحابه وذلك لأجل أنّهم كانوا ذوو سابقة حسنة وبلاء محمود كما يشير إليه قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّـهِ ).

قال ابن هشام : لمّا تجلّى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ( الآية الاُولى ) طمعوا في الأجر ، فقالوا : يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطي فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ... ).

فلمّا نزل القرآن بهذا وفرّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله العير والأسيرين. وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ( الأسيرين ) ، فقال رسول الله : لانفديكموهما حتّى يقدم صاحبانا ـ يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان ـ فإنّا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما ، نقتل صاحبيكم ، فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) منهم.

فأمّا الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه وأقام عند رسول الله حتّى قتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأمّا عثمان بن عبد الله فلحق بمكّة حتّى مات بها كافراً.

هذا كلّه راجع إلى حكاية القصّة بجزئيّاتها ، وأمّا تحليل الحادثة وتوضيح الجواب الذي جاءت به الآية الاُولى فهو بالشكل التالي :

لاشك أنّ عمل عبد الله بن جحش لم يكن خاضعاً للضوابط العسكرية ، فإنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لم يأمره بالقتال بل أمر بإستطلاع أخبار القوم ونقل أخبارهم إليه ، فقتاله كان عصياناً لأوامر قائده أوّلاً وهتكاً لقداسة الشهر ثانياً ، ولأجل ذلك لمّا جاء إلى النبيّ لم يقبل منه العير والأسيرين وانتظر الوحي الإلهي حتّى وافاه ، وليس من الصحيح أن يؤاخذ الأمير ورئيس القوم بإجرام واحد من قادة عسكره.

وإليه يشير قوله سبحانه : ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي إنّ القتال فيه وإن كان صغيراً في نفسه : أمر كبير مستنكر لعظيم حرمته ، ولكن الذي ينبغي إلفات النظر إليه هو أنّ الناقدين أعني قريشاً قد ارتكبوا جريمة أكبر ممّا ارتكبه ذلك القائد العسكري وذلك :

1 ـ إنّهم صدّوا الناس عن سبيل الله ومنعوهم عن الطريق الموصل إلى الله تعالى وهو الإسلام ، حيث كان المشركون يضطهدون المسلمين ويقتلون من يسلم أو يؤذونه في نفسه وأهله وماله فيمنعونه من الهجرة إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

2 ـ إنّهم كفروا بالله سبحانه.

3 ـ إنّهم صدّوا عن المسجد الحرام ومنعوا المؤمنين من الحج والإعتمار.

4 ـ إنّهم أخرجوا النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) والمهاجرين.

وكلّ هذه أكبر عند الله من قتال المسلمين المشركين في الشهر الحرام.

5 ـ والفتنة أكبر من القتل أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم كما فعلوا بعمّار بن ياسر وبلال وخبّاب بن الأرت وغيرهم ، أكبر من قتل المشركين.

والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام لو لم يحفّ بها غيرها من الآثار ، كيف وقد قارنها الصدّ عن سبيل الله ، والكفر به ، والصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه ، فمن وقف على فتنة المشركين لضعفاء المسلمين طيلة ثلاث عشرة سنة واستمرارها بعد هجرته في حقّ المستضعفين القاطنين في مكّة ، يقف على أنّ قتل مشرك وأسر نفرين منهم أهون بكثير ممّا ارتكبوه طوال هذه السنين.

وإلى هذا يشير قوله سبحانه :

( وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّـهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ).

الهوامش

1. مجمع البيان : ج 1 ص 286 ( طبع بيروت ).

2. السيرة النبويّة : ج 1 ص 543. مجمع البيان : ج 2 ص 324 ( طبع بيروت ).

3. السيرة النبوية : ج 1 ص 540. مجمع البيان : ج 2 ص 336 ( طبع بيروت ).

4. السيرة النبويّة : ج 1 ص 544 ـ 545.

5. مجمع البيان : ج 1 ص 327.

6. السيرة النبوية : ج 1 ص 549.

7. السيرة النبوية : ج 1 ص 549 ، ومجمع البيان : ج 1 ص 359.

8. الميزان : ج 1 ص 248.

9. السيرة النبوية : ج 1 ص 551.

10. بيت المدارس : هو بيت اليهود يتدارسون فيه كتابهم.

11. السيرة النبوية : ج 1 ص 553.

12. السيرة النبوية : ج 1 ص 554 ، الميزان : ج 3 ص 276.

13. السيرة النبوية : ج 1 ص 556.

14. السيرة النبوية : ج 1 ص 562 ، حياة محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لهيكل : ص 328 ـ 329.

15. السيرة النبوية : ج 1 ص 563 ـ 564.

16. الجَلِد بحبل من ليف مطلي بقار ثمّ تسوّد وجوههما ، ثمّ يحملان على حمارين وتجعل وجوهها من قبل ادبار الحمارين.

17. السيرة النبوية : ج 1 ص 566.

18. السيرة الحلبية : ج 1 ص 567 ، مجمع البيان : ج 3 ص 329 ( طبع بيروت ).

19. السيرة النبويّة : ج 1 ص 568.

20. قد ذكرنا تفصيل القصّة في ص 217 ـ 220.

21. ساورهم : واثبهم وباطشهم.

22. الإسراء / 93 ، وقد مضى تفسيرها.

23. وفي رواية الفقية كما سيوافيك تسعة عشر شهراً.

24. من لايحضره الفقيه ج 1 ص 178 ح 3.

25. نجران في مخاليف اليمن من ناحية مكة ، وبها كان خبر الأخدود وإليها تنسب كعبة نجران ، وكانت بيعة ، بها أساقفة مقيمون منهم السيّد والعاقب اللّذان جاءا إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في أصحابها ودعاهم إلى المباهلة وبقوا بها حتّى أجلاهم عمر. وقال زيني دحلان : نجران بلدة كبيرة واسعة على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن تشتمل على ثلاث وسبعين قرية.

مراصد الإطلاع في معرفة الأمكنة والبقاع ، مادة ( نجران ).

26. وكان بخط الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) راجع : صبح الاعشى ج 1 ص 65 ( طبع بيروت ).

27. تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 65 ، دلائل النبوّة ج 5 ص 385 ، البداية والنهاية ج 5 ص 53.

28. دلائل النبوّة ج 5 ص 386 ، الدر المنثور ج 2 ص 38 ، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 66.

29. ثوب من ثياب اليمن.

30. السيرة الحلبية ج 3 ص 239.

31. تفسير القمي ج 1 ص 104.

32. مجمع البيان : ج 2 ص 762 و 763 ( طبع بيروت ).

33. الكشاف : ج 1 ص 327.

34. تفسير الرّازي ج 8 ص 81 ( طبع بيروت ).

35. المقصود عير قريش.

36. المقصود المسلمون.

37. أي يتحصّنون بالحرم.

38. المقصود هم المسلمون.

39. أي فر من بين أيديهم فلم يتمكنّوا من اللحاق به والقبض عليه.

مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 7 / الصفحة : 255 ـ 288