التقدير هو الراسم للحياة عند المشركين

طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 164 ـ 166

 


(164)

 

التقدير هو الراسم للحياة عند المشركين

تنص الآيات القرآنية على أنَّ المشركين كانوا معتقدين بالتقدير أوّلاً ،
وفي الوقت نفسه يرونه مساوقاً للجبر ، وراسماً للحياة ، ومعيناً للمصير . ولعل ما
لهج به بعض الصحابة من تفسير التقدير بالجبر وسلب الإِختيار كان من آثار
العهد الجاهلي الّتي بقيت في أذهانهم . وسيوافيك كلامهم في هذا المجال .
وإليك فيما يلي نقل ما ذكره القرآن في عقيدة المشركين:
1 ـ قوله تعالى: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ
آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ }(1).
ترى أنَّ المشركين يسندون شركهم إلى إرادة الله ومشيئته ، وأنَّ المشيئة
الإلهية هي الّتي دفعتهم إلى الدخول في حبائل الشرك ، ولولاها لما أشركوا ، ولما
سوّوا أصنامهم بخالقهم ، كما يحكي عنهم سبحانه قولهم : { إِذْ نُسَوِّيكُمْ
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }(2).
ولكن الذكر الحكيم يرد عليهم تلك المزعمة بقوله :

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنعام: الآية 148 .
(2) سورة الشعراء: الآية 98 .
________________________________________


(165)

{ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ
عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ}(1).
2 ـ ويقول تعالى في آية أُخرى حاكياً كلام المشركين في تعليل
ارتكابهم الفحشاء بأمر الله وإرادته:{ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا
آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ}(2).
3 ـ ويقول تعالى:  { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}(3).
فهذه الآيات وما يضاهيها من الآيات الأُخر تبين لنا موقف المشركين
من التقدير ، وتحليلهم لهذا الأصل ، ولأجل ذلك يجب أن يكون تفسير التقدير
على وجه لا يتفق مع زعم المشركين فيه . والعجب أنَّ هذا الاستنتاج الباطل
قد بقي بحاله في بعض الأذهان حتى بعد بزوغ فجر الإسلام ، وقد سجّل
التاريخ بعض المحادثات في هذا المجال نشير إليها:
1 ـ روى عبد الله بن عمر أنَّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال: « أرأيت
الزنا بقدر؟ قال : نعم ، قال : فإنَّ الله قَدّرَني عليه ، ثمّ يعذبني؟ قال:  نعم يا
ابن اللّخناء . أمّا لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك» (4).
فإنَّ السائل أدرك في ضميره أنَّ التقدير والمجازاة على العمل لا
يجتمعان مع عدله سبحانه وقسطه ، فلابدّ من قبول أحد الأصلين ورفض
الآخر ، ولمّا لم يجد الخليفة جواباً صالحاً لسؤاله ، قام بتهديده ، كما سمعت في
الخبر ، وهذا يوضح أنَّ التقدير في بعض الأذهان كان مساوقاً للجبر وسلب
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنعام: الآية 148 .
(2) سورة الأعراف: الآية 28 .
(3) سورة الزخرف: الآية 20 .
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي : 95 .
________________________________________


(166)

الاختيار ، ولولا تلك المساوقة لما كان للسؤال موقع ، ولا لتهديده وجه.
2 ـ نقل الواقدي في مغازيه عندما تعرض لغزوة حنين ، وهزيمة
المسلمين أنّ أم الحارث الأنصارية رأت عمر بن الخطاب في حال الهزيمة
والفرار من أرض المعركة . فقالت له ما هذا؟ فقال عمر: أمر الله!  (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المغازي للواقدي: ج 3، ص 904 .